موسوعة التفسير

سورةُ الأنْبياءِ
الآيات (6-10)

ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ

المعنى الإجمالي:

يَقولُ اللهُ تعالى: ما آمَنَ قبلَ كُفَّارِ مكَّةَ مِن أهلِ قَريةٍ اقتَرَحوا على رسُلِهم الآياتِ، ثمَّ كذَّبوا بها لَما جاءتهم، فأهلَكْناهم، أفيُؤمِنُ كُفَّارُ مكَّةَ إذا تحقَّقَت المُعجِزاتُ التي طَلَبوها؟
ثمَّ أجابَ اللهُ عن استِنكارِهم أن يكونَ الرَّسولُ بَشَرًا مِثلَهم، بأنَّ هذا هو العَهدُ دائِمًا مع الرُّسُلِ السَّابِقينَ، فقال: وما أرسَلْنا قَبلَك -يا محمَّدُ- إلَّا رِجالًا مِن البشَرِ لا مِن الملائكةِ، نُوحي إليهم. فاسألوا -يا كُفَّارَ مكَّةَ- أهلَ العِلمِ بالكُتُبِ المنَزَّلةِ السَّابِقةِ، إنْ كنتُم لا تعلَمونَ ذلك.
ثمَّ أكَّد الله تعالى حقيقةَ كونِ الرُّسلِ مِن البشرِ، فقال: وما جعَلْنا أولئك المُرسَلينَ قَبلَك أجسادًا لا يأكُلونَ الطَّعامَ، وما كانوا خالدينَ لا يموتونَ! ثمَّ صَدَقْنا الأنبياءَ وأتباعَهم ما وعَدْناهم به مِن النَّصرِ والنَّجاةِ، وإهلاكِ أعدائِهم المُسرِفينَ على أنفُسِهم بالكفرِ بالله وتكذيبِ رسلِه.
ثم بيَّن الله سبحانه أنَّ ما أنزَله على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم هو خيرُ الآياتِ، فقال: لقد أنزَلْنا إليكم هذا القُرآنَ فيه تذكيرٌ لكم بما فيه صلاحُكم، وفيه عزُّكم وشَرَفُكم في الدُّنيا والآخرةِ إنْ عَمِلتُم بما فيه، أفلا تَعقِلونَ أنَّ في القُرآنِ هدايتَكم لِما فيه صلاحُكم، وأنَّ فيه شَرَفَكم وعِزَّكم فتُؤمِنوا به وتتدبَّروه؟

تفسير الآيات:

مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى أجاب عن قَولِ الكافرينَ: فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ بِقَولِه [78] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/410). :
مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6).
أي: ما آمنَ قَبلَ كفَّارِ قُرَيشٍ أهلُ القُرى مِن الأُمَمِ الماضيةِ الذين اقتَرَحوا على رسُلِهم الآياتِ ثمَّ كذَّبوا بها لَمَّا جاءتْهم، فأهلَكْنا تلك القُرى وجميعَ أهلِها، أفيُؤمِنُ كفَّارُ قُرَيشٍ إذا أتَتْهم مُعجِزةٌ ممَّا يَقتَرِحونَ [79] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/227)، ((تفسير ابن كثير)) (5/332، 333)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/388، 389)، ((تفسير السعدي)). ((ص: 519)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/17، 18). ؟!
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96، 97].
وقال سُبحانَه: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء: 59].
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى أجاب عن سؤالِ الكافرينَ الأوَّلِ، وهو قولهُم: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الأنبياء: ٣]، بقَولِه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ، فبيَّنَ أن هذه عادةُ الله تعالى في الرسُلِ مِن قَبلِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يمنَعْ ذلك من كونِهم رسلًا؛ للآياتِ التي أتَوْا بها، فإذا صَحَّ ذلك فيهم، فقد أتَى محمَّدٌ بمثلِ آياتِهم، فلا مقالَ عليه في كونِه بَشَرًا [80] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/122). .
وأيضًا لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أوَّلًا أنَّ الآياتِ تكونُ سَبَبًا للهلاكِ، فلا فائدةَ في الإجابةِ إلى ما اقتَرَحه الكافِرونَ منها بعد بُطلانِ ما قَدَحوا به في القُرآنِ؛ بيَّن ثانيًا بُطلانَ ما قَدَحوا به في الرَّسولِ بكَونِه بَشَرًا، بأنَّ الرُّسُلَ الذين كانوا مِن قَبلِه كانوا -بإقرارِهم- مِن جِنسِه، فما لهم أن يُنكِروا رِسالَتَه وهو مِثلُهم؟! بل عليهم أن يَعتَرِفوا له عندما أظهَرَ مِن المُعجِزِ كما اعتَرَفوا لأولئك [81] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/389). .
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ.
أي: وما أرسَلْنا قبلك -يا محمَّدُ- من الأنبياءِ لأُمَّةٍ مِن الأُمَمِ إلَّا رِجالًا مِن البَشَرِ مِثلَهم، لا مِن الملائكةِ، فنُوحي إليهم ما نريدُ، فلماذا أنكَروا إرسالَنا لك إليهم، وأنت رجلٌ كسائِرِ الرسُلِ الذين أُرسِلوا قَبْلَك إلى أُمَمِهم [82] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/228)، ((البسيط)) للواحدي (15/21)، ((تفسير ابن عطية)) (4/75)، ((تفسير ابن كثير)) (5/333، 334)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/389،390). ؟!
كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف: 109].
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
أي: فاسألوا أهلَ العِلمِ بالكُتُبِ المنزَّلةِ مِن قبْلُ إنْ كنتُم لا تعلمونَ أنَّ كلَّ الأنبياءِ مِنَ البَشَرِ؛ لِيُخبِروكم بما يَعلَمونَه مِن كَونِ جَميعِ الأنبياءِ بَشَرًا لا ملائكةً [83] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/228)، ((تفسير ابن عطية)) (4/75)، ((تفسير القرطبي)) (11/272)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (19/11)، ((الرد على المنطقيين)) لابن تيمية (ص: 369)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/50)، ((تفسير ابن كثير)) (5/334)، ((تفسير السعدي)) (ص: 519)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/18). قال القرطبي: (وسماهم أهلَ الذكرِ؛ لأنهم كانوا يذكُرونَ خبَرَ الأنبياء ممَّا لم تعرِفْه العرب، وكان كفَّارُ قُريش يراجِعونَ أهلَ الكتابِ في أمرِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير القرطبي)) (11/272). .
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم على سُنَّةِ مَن مضَى مِنَ الرُّسُلِ في كَونِه رَجُلًا؛ بيَّن أنَّه على سُنَّتِهم في جميعِ الأوصافِ التي حكَمَ بها على البَشَرِ مِنَ العَيشِ والمَوتِ، فقال [84]  يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/390، 391). :
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ.
أي: وما جعَلْنا الأنبياءَ أجسادًا لا يأكُلونَ الطَّعامَ، بل كانوا بشرًا مِثلَك يأكلونَ الطَّعامَ [85] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/229)، ((تفسير القرطبي)) (11/272)، ((تفسير ابن كثير)) (5/334). وقال ابن عاشور: (الجسدُ: الجسمُ الذي لا حياةَ فيه، وهو يُرادفُ الجثةَ... وهذا ردٌّ لما يقولونَه: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ [الفرقان: 7] مع قولِهم هنا: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الأنبياء: 3] ). ((تفسير ابن عاشور)) (17/19). .
كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان: 20] .
وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ.
أي: وما كان الأنبياءُ السَّابقونَ خالدينَ في الدُّنيا لا يموتونَ، بل كانوا بشرًا عاشُوا ثمَّ ماتوا، وإنَّما تميَّزوا عن النَّاس بما يأتيهم عن الله سُبحانَه مِن الوحيِ [86] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/230)، ((تفسير القرطبي)) (11/272)، ((تفسير ابن كثير)) (5/334)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/391). .
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9).
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ.
أي: ثمَّ صدَقْنَا رسُلَنا ما وعَدْناهم من إهلاكِ أعدائِهم الكافرينَ المكَذِّبينَ، ونَصْرِهم عليهم، فأنجَينا أولئك الرسُلَ وأتباعَهم الذين آمَنوا بهم مِن أممِهم [87] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/273)، ((تفسير ابن كثير)) (5/334)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/20)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/137). .
كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف: 110] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 171-173] .
وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ.
أي: وأهلَكْنا جميعَ الذين أسرَفوا على أنفُسِهم بالكُفرِ باللهِ، والإصرارِ على تكذيبِ رُسُلِ الله، فأبَدْناهم، ومحَوْنا ذِكْرَهم [88] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/231)، ((تفسير ابن كثير)) (5/334)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/392، 393)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/21)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/137). قال ابن عطية: (المُسرِفونَ: الكُفَّارُ المُفرِطونَ في غَيِّهم وكُفرِهم، وكُلُّ مَن ترك الإيمانَ: مُفْرِطٌ مُسرِفٌ). ((تفسير ابن عطية)) (4/75). .
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
بعدَ أن حَقَّق اللهُ رسالتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ببَيانِ أنَّه كسائِرِ الرُّسُلِ الكِرامِ، شَرَع يحَقِّقُ فَضلَ القُرآنِ الكريمِ ويُبَيِّنُ نَفْعَه للنَّاسِ، بعد أن ذَكَر فى صَدرِ السُّورةِ إعراضَ النَّاسِ عمَّا يأتيهم مِن آياتِه، واضطرابَهم فى شأنِه [89] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (17/11). .
وأيضًا لَمَّا تَوَعَّدَهم في الآيةِ السابقةِ؛ أعقبَ ذلك بوعدِه بنعمتِه عليهم، فقالَ [90]  يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/411). :
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ.
أي: لقد أنزَلْنا إليكم قرآنًا فيه تذكيرٌ لكم بما فيه صلاحُكم، وفيه شَرَفُكم وعِزُّكم [91] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/232)، ((تفسير السمرقندي)) (2/421)، ((تفسير القرطبي)) (11/273)، ((تفسير السعدي)) (ص: 519)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/22، 23). وممن اختار أنَّ الذِّكرَ هنا بمعنى الشَّرَف: ابنُ جرير، والسمرقندي، والقرطبي، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. وممن اختاره أيضًا: مقاتل بن سليمان، ويحيى بن سلام، والفراء، وابن قتيبة، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، وابن جزي، والخازن، والثعالبي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/72)، ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/301)، ((معاني القرآن)) للفراء (2/200)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 234)، ((الوسيط)) للواحدي (3/231)، ((تفسير السمعاني)) (4/423)، ((تفسير البغوي)) (3/284)، ((تفسير ابن جزي)) (2/19)، ((تفسير الخازن)) (3/221)، ((تفسير الثعالبي)) (4/82)، ((تفسير الشوكاني)) (3/472). ونسَبه الرسعني للأكثرينَ. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (4/596). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (8/2446)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/186). قال السعدي: (فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي: شرفُكم وفخرُكم وارتفاعُكم، إن تذكَّرْتُم به ما فيه مِن الأخبارِ الصادقةِ فاعتقدتموها، وامتثَلْتُم ما فيه مِن الأوامرِ، واجتَنَبْتُم ما فيه مِن النواهي، ارتفَع قدرُكم، وعظُم أمرُكم). ((تفسير السعدي)) (ص: 519). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/232). وقال ابن عاشور: (ومجيئُه بِلُغَتِهم، وفي قومِهم، وبواسِطةِ واحِدٍ منهم، سُمْعَةٌ عظيمةٌ لهم). ((تفسير ابن عاشور)) (17/22). وقيل: المرادُ: فيه تذْكِرةٌ لكم بما تلقونَه مِن رحمةٍ أو عذابٍ. قاله الزجَّاجُ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/385). قال أبو السعود بعد أن ذكَر القولَ بأنَّ ذِكْرُكُمْ معناه: موعظتُكم: (وهو الأنسبُ بسباقِ النظمِ الكريمِ وسياقِه؛ فإنَّ قولَه تعالى: أَفَلَا تَعْقِلُونَ إنكارٌ توبيخيٌّ فيه بعثٌ لهم على التدبرِ في أمرِ الكتابِ، والتأمُّلِ فيما في تضاعيفِه مِن فنونِ المواعظِ والزواجرِ التي مِن جملتِها القوارعُ السابقةُ واللاحقةُ). ((تفسير أبي السعود)) (6/58). وذكَر ابنُ عاشورٍ أنَّ الذِّكرَ يُطلَقُ على التَّذكيرِ بما فيه الصَّلاحُ، ويُطلقُ على السُّمعةِ والصِّيتِ. وأنَّه يصِحُّ هنا قَصدُ هذين المَعنيَينِ معًا. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/22، 23). وقال العُليمي: (فِيهِ ذِكْرُكُمْ: شرفُكم وما تحتاجونَ إليه مِن مصالحِ دينِكم ودنياكم). ((تفسير العليمي)) (4/344). وقال البقاعي: (فِيهِ ذِكْرُكُمْ طَوالَ الدَّهرِ بالخَيرِ إن أطعتُمْ، والشَّرِّ إن عصَيتُم، وبه شَرَفُكم على سائِرِ الأُمَمِ بشَرَفِ ما فيه مِن مكارِمِ الأخلاقِ التي كنتم تتفاخَرونَ بها، وبشَرَفِ نبيِّكم الذي تقولونَ عليه الأباطيلَ، وتُكثِرونَ فيه القالَ والقِيل). ((نظم الدرر)) (12/393). وقال الرازي: (فِيهِ ذِكْرُكُمْ فيه ثلاثةُ أوجُهٍ: أحدُها: ذِكْرُكُمْ شَرَفُكم وصِيتُكم... وثانيها: المرادُ: فيه تذكرةٌ لكم؛ لتَحْذَروا ما لا يَحِلُّ، وتَرغبوا فيما يجبُ، ويكونُ المرادُ بالذِّكرِ الوعدَ والوعيدَ... وثالثُها: المرادُ: ذكرُ دينِكم، ما يلزمُ وما لا يلزمُ؛ لتَفوزوا بالجنَّةِ إذا تَمَسَّكْتُم به. وكلُّ ذلك مُحتملٌ). ((تفسير الرازي)) (22/123). ويُنظر: ((البسيط)) للواحدي (15/25)، ((تفسير الماوردي)) (3/439). قال القرطبي: (المرادُ بالذِّكرِ هنا: الشَّرَفُ، أَي: فِيهِ شرفُكم؛ مثل: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] ... وقالَ مجاهدٌ: فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي: حديثُكم. وقِيل: مكارِمُ أخلاقِكم، ومحاسِنُ أعمالِكم. وقال سهلُ بنُ عبدِ اللهِ: العملُ بما فيه حياتُكم. قُلْتُ: وهذه الأقوالُ بمعنًى، والأوَّلُ يَعُمُّها؛ إذْ هي شَرَفٌ كلُّها، والكتابُ شرفٌ لنبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه معجزتُه، وهو شَرَفٌ لنا إنْ عمِلْنا بما فيه). ((تفسير القرطبي)) (11/273). .
كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف: 44] .
أَفَلَا تَعْقِلُونَ.
أي: أفلا تَعقِلونَ أنَّ في القُرآنِ شَرَفَكم، وهدايتَكم إلى ما فيه صلاحُكم، فتُؤمِنوا به، وتتدبَّروه وتَعمَلوا بما فيه [92] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/421)، ((تفسير البيضاوي)) (4/47)، ((تفسير أبي السعود)) (6/58)، ((تفسير السعدي)) (ص: 519)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/23). ؟

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ عامٌّ في كلِّ مَسألةٍ مِن مَسائِلِ الدِّينِ -أصولِه وفُروعِه- إذا لم يكُنْ عندَ الإنسانِ عِلمٌ منها أن يسألَ مَن يَعلَمُها؛ ففيه الأمرُ بالتعَلُّمِ والسؤالِ لأهلِ العِلمِ، ولم يؤمَرْ بسُؤالِهم إلَّا لأنَّه يجِبُ عليهم التعليمُ والإجابةُ عمَّا عَلِموه [93] يُنظر: ((تفسر السعدي)) (ص: 519). .
2- قَولُ الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ في تخصيصِ السُّؤالِ بأهلِ الذِّكرِ والعِلمِ نَهيٌ عن سؤالِ المعروفِ بالجَهلِ وعَدَمِ العلمِ، ونهيٌ له أن يتصَدَّى لذلك [94] يُنظر: ((تفسر السعدي)) (ص: 519). .
3- قَولُ الله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هذه الآيةُ مِصداقُها ما وقع للمُؤمِنينَ بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فالذين تذَكَّروا بالقُرآنِ مِن الصَّحابةِ فمَن بَعدَهم حصل لهم مِن الرِّفعةِ والعُلُوِّ الباهِرِ، والصِّيتِ العَظيمِ، والشَّرَفِ على الملوكِ- ما هو أمرٌ معلومٌ لكلِّ أحَدٍ، كما أنَّه معلومٌ ما حصل لِمَن لم يرفَعْ بهذا القرآنِ رأسًا، ولم يهتدِ به ويتزَكَّ به، مِن المقتِ والضَّعَةِ، والتَّدسِيةِ والشَّقاوة؛ فلا سبيلَ إلى سَعادةِ الدُّنيا والآخرةِ إلَّا بالتذَكُّرِ بهذا الكِتابِ [95] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 519). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ إنَّما أمسَك اللهُ الآياتِ الخوارِقَ عن مُشرِكي مكَّةَ؛ لأنَّه أراد استبقاءَهم؛ ليكونَ منهم مؤمِنونَ، وتكونَ ذرِّيَّاتُهم حملةَ هذا الدِّينِ في العالَمِ، ولو أُرسِلَت عليهم الآياتُ البَيِّنةُ لكانت سُنَّةُ الله أن يَعقُبَها عذابُ الاستئصالِ للَّذينَ لا يُؤمِنونَ بها [96] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/17). ويُنظر أيضًا: ((تفسير البيضاوي)) (4/46). .
2- قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا في هذه الآيةِ دَليلٌ على أنَّ النِّساءَ ليس منهنَّ نبيَّةٌ، لا مريمَ ولا غيرَها؛ لِقَولِه تعالى: إِلَّا رِجَالًا [97] يُنظر: ((تفسر السعدي)) (ص:519). .
3- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ حجَّةٌ في تثبيتِ خَبَرِ الواحدِ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مِن المسؤولينَ مُخْبِرٌ عن ذلك على الانفرادِ، والحجَّةُ لازمةٌ على المُخْبَرِ بقَولِه [98] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/306). .
4- ما يُطلَبُ فيه الجَزمُ يُكتَفَى فيه بالجَزمِ، سواءٌ عن طريقِ الدَّليلِ أو عن طريقِ التَّقليدِ؛ فالإيمانُ باللهِ ومَلائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليَومِ الآخِرِ، هذا ممَّا يجِبُ فيه الجَزمُ، ولكِنَّ العامِّيَّ لا يُدرِكُ ذلك بدَليلِه، ومع ذلك نُصَحِّحُ إيمانَه، ونقولُ: إنَّه مُؤمِنٌ، وإن كان لا يُدرِكُ ذلك بدَليلِه، والدَّليلُ قَولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ؛ فإنَّ اللهَ تعالى أحال على سُؤالِ أهلِ العِلْمِ في مسألةٍ مِن مسائِلِ الدِّينِ التي يجبُ فيها الجَزمُ، وواضِحٌ أنَّنا نسألُهم لنأخُذَ بقَولِهم، ومعلومٌ أنَّ الإيمانَ بأنَّ الرسُلَ رِجالٌ هو مِن العَقيدةِ، ومعَ ذلك أحالَنا اللهُ فيه إلى أهلِ العِلْمِ [99] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/310). ، ولأنَّ العامِّيَّ لا يتمَكَّنُ مِن مَعرفةِ الحَقِّ بأدلَّتِه، فإذا تعذَّرَ عليه مَعرِفةُ الحَقِّ بنَفْسِه، لم يبقَ إلَّا التقليدُ؛ لِقَولِه تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [100]  يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/83). [التغابن: 16] .
5- قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ فأُمِروا أن يَسْألوا أهلَ الكتابِ؛ إمَّا للإلْزامِ؛ فإنَّ المُشرِكينَ كانوا يُشاوِرونَهم في أمْرِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ويَثِقونَ بقولِهم، أو لأنَّ إخبارَ الجَمِّ الغفيرِ يُوجِبُ العِلْمَ، وإنْ كانوا كُفَّارًا؛ ففيه مِنَ الدَّلالةِ على كَمالِ وُضوحِ الأمْرِ، وقُوَّةِ شأْنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما لا يَخْفَى [101] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/104)، ((تفسير البيضاوي)) (4/46)، ((تفسير أبي حيان)) (7/411)، ((تفسير أبي السعود)) (6/57). .
6- لله تعالى حِكَمٌ في إبقاءِ أهلِ الكِتابَينِ بينَ أظهُرِنا؛ فإنَّهم مع كُفرِهم شاهِدونَ بأصلِ النبُوَّاتِ، والتوحيدِ، واليومِ الآخِرِ، والجنَّةِ والنَّارِ، وفي كُتُبِهم من البِشاراتِ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وذِكرِ نُعوتِه وصفاتِه وصفاتِ أُمَّتِه- ما هو مِن آياتِ نبُوَّتِه وبراهينِ رِسالتِه، وما يشهَدُ بصِدقِ الأوَّلِ والآخِرِ، وهذه الحِكمةُ تختَصُّ بأهلِ الكِتابِ دونَ عَبَدةِ الأوثانِ؛ فبقاؤُهم مِن أقوَى الحُجَجِ على مُنكِرِ النبُوَّاتِ والمعادِ والتوحيدِ، وقد قال تعالى لمنكري ذلك: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، ذكَرَ هذا عَقِبَ قَولِه: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، يعني: سلُوا أهلَ الكِتابِ: هل أرسَلْنا قبل محمَّدٍ رِجالًا يُوحَى إليهم، أمْ كان محمَّدٌ بِدْعًا من الرسُلِ لم يتقَدَّمْه رسولٌ، حتى يكون إرسالُه أمرًا مُنكَرًا لم يَطرُقِ العالَمَ رَسولٌ قبلَه [102] يُنظر: ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (1/96). ؟!
7- في قَولِه تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ هذه الآيةُ ترشِدُنا إلى أن نَرجِعَ في كلِّ شَيءٍ إلى أهلِه الذين هم أهلُ الذِّكْرِ به [103] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (7/53). .
8- التقليدُ لا يُذَمُّ مُطلقًا، بل إنَّ التقليدَ في مَوضِعِه هو الواجبُ؛ لِقَولِه تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [104] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/257). .
9- الاجتهادُ واجبٌ على مَن كان قادرًا عليه؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يقولُ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، والقادِرُ على الاجتهادِ يُمكِنُه مَعرِفةُ الحَقِّ بنَفسِه [105] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (26/426). .
10- قَولُ الله تعالى: ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ هذه سيرتُه تعالى مع أنبيائِه، فكذلك يَصدُقُ نَبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه ما وعَدَهم به من النَّصرِ وظُهورِ الكَلِمةِ؛ فهذه عِدَةٌ للمُؤمِنينَ، ووعيدٌ للكافرينَ [106] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/411). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ
       - قولُه: مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ كَلامٌ مُستأنفٌ مَسوقٌ لتَكذيبِهم فيما تُنْبِئُ عنه خاتِمةُ مقالِهم مِن الوعْدِ الضِّمنيِّ بالإيمانِ، وبَيانِ أنَّهم في اقتِراحِ تلك الآياتِ كالباحثِ عن حَتْفِه بظِلْفِه [107] أي: السَّاعي إلى مَوتِه بقَدَمِه. وهو مَثَلٌ يُضرَبُ في طَلَبِ الشَّيءِ يُؤدِّي صاحِبَه إلى تَلَفِ نَفْسِه. والظِّلْفُ: للبَقَرةِ والشَّاةِ والظَّبيِ وشِبهِها بمنزلةِ القَدَمِ لنا، وهو مُستعارٌ هنا للإنسان. يُنظر: ((الأمثال)) للهاشمي (1/193)، ((تاج العروس)) للزبيدي (24/115). ، وأنَّ في تَرْكِ الإجابةِ إليه إبقاءً عليهم. ومُتعلَّقُ آَمَنَتْ مَحذوفٌ دَلَّ عليه السِّياقُ، أي: ما آمنَتْ بالآياتِ قرْيةٌ. و(مِن) في قولِه: مِنْ قَرْيَةٍ مَزيدةٌ؛ لتأْكيدِ العُمومِ، ولتأْكيدِ النَّفيِ المُستفادِ مِن حرْفِ (ما) في مَا آَمَنَتْ [108] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/55، 56)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/17). .
       - ولفظةُ: أَهْلَكْنَاهَا وردَتْ مُستطردةً؛ للتَّعريضِ بالوعيدِ بأنَّ المُشرِكينَ أيضًا يترقَّبونَ الإهلاكَ [109] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/17). .
       - وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث ذُكِرَتِ القريةُ هنا مُرادًا بها أهْلُها؛ ليُبْنَى عليها الوصْفُ بإهلاكِها؛ لأنَّ الإهلاكَ أصاب أهْلَ القُرى وقُراهم؛ فلذلك قيلَ: أَهْلَكْنَاهَا دون (أهْلَكْناهم) كما في قولِه: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ [110] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/18). [الكهف: 59] .
       - والهمزةُ في قولِه: أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ لإنكارِ الوُقوعِ، والفاءُ للعطْفِ: إمَّا على مُقدَّرٍ دخلَتْه الهمزةُ؛ فأفادَتْ إنكارَ وُقوعِ إيمانِهم ونَفْيَه عَقِيبَ عدَمِ إيمانِ الأوَّلينَ، أي: إنَّه لم تُؤْمِنْ أُمَّةٌ مِن الأُمَمِ المُهلَكةِ عندَ إعطاءِ ما اقتَرَحوهُ مِن الآياتِ؛ أفهؤلاءِ يُؤمِنونَ لو أُجِيبُوا إلى ما سَأَلوا، وأُعْطوا ما اقتَرَحوا، مع كونِهم أعْتى منهم وأطْغَى؟! وإمَّا على مَا آَمَنَتْ على أنَّ الفاءَ مُتقدِّمةٌ على الهمزةِ في الاعتبارِ، مُفيدةٌ لتَرتيبِ إنكارِ وُقوعِ إيمانِهم على عدَمِ إيمانِ الأوَّلينَ [111] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/410)، ((تفسير أبي السعود)) (6/56)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/18). .
2- قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
       - قولُه: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ  ... جَوابٌ لقولِهم: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، مُتضمِّنٌ لرَدِّ ما دَسُّوا تحتَ قولِهم: كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ مِن التَّعرُّضِ بعدَمِ كونِه عليه السَّلامُ مثْلَ أولئك الرُّسلِ صَلواتُ اللهِ تعالَى عليهم أجمعينَ؛ ولذلك قُدِّمَ عليه جَوابُ قولِهم: فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ، ولأنَّهم قالوا ذلك بطَريقِ التَّعجيزِ؛ فلا بُدَّ من المُسارَعةِ إلى رَدِّهِ وإبطالِه، ولأنَّ في هذا الجوابِ نَوعَ بسْطٍ يُخِلُّ تَقديمُه بتَجاوُبِ أطْرافِ النَّظمِ الكريمِ [112] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/46)، ((تفسير أبي حيان)) (7/410)، ((تفسير أبي السعود)) (6/56)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/18). .
       - قولُه: نُوحِي إِلَيْهِمْ استئنافٌ مُبيِّنٌ لكَيفيَّةِ الإرسالِ، وصِيغةُ المُضارِعِ لِحكايةِ الحالِ الماضيةِ المُستمِرَّةِ، وحُذِفَ المفعولُ؛ لعدَمِ القصْدِ إلى خُصوصِه [113] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/56). .
       - قولُه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ جُملةٌ مُعترِضةٌ بينَ الجُمَلِ المُتعاطِفَةِ. وتَوجيهُ الخِطابِ لهم بعْدَ أُسلوبِ الغَيبةِ الْتِفاتٌ، ونُكتَتُه: أنَّ الكلامَ لمَّا كان في بَيانِ الحقائقِ الواقعةِ؛ أعرَضَ عنهم في تَقريرِه، وجُعِلَ مِن الكلامِ المُوجَّهِ إلى كلِّ سامعٍ، وجُعِلوا فيه مُعبَّرًا عنهم بضَمائرِ الغَيبةِ، ولمَّا أُرِيدَ تَجْهيلُهم وإلْجاؤُهم إلى الحُجَّةِ عليهم غُيِّرَ الكلامُ إلى الخِطابِ؛ تَسجيلًا عليهم، وتَقريعًا لهم بتَجهيلِهم [114] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/18، 19). ؛ ففي قولِه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ تلْوينٌ للخِطابِ وتَوجيهٌ له إلى الكَفرةِ؛ لتَبكيتِهم واستِنْزالِهم عن رُتْبةِ الاستبعادِ والنَّكيرِ إثْرَ تَحقيقِ الحقِّ على طَريقةِ الخِطابِ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه الحَقيقُ بالخطابِ في أمْثالِ تلك الحقائقِ الأنيقةِ، والفاءُ في فَاسْأَلُوا لتَرتيبِ ما بعْدَها على ما قبْلَها [115] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/57). .
       - قولُه: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ جَوابُ الشَّرطِ مَحذوفٌ؛ ثِقَةً بدَلالةِ المذكورِ عليهِ، أي: إنْ كُنْتُم لا تَعْلَمونَ ما ذُكِرَ، فاسْأَلوا -أيُّها الجَهلةُ- أهلَ الكتابِ الواقفينَ على أحوالِ الرُّسلِ السَّالفةِ عليهم الصَّلواتُ؛ لِتَزولَ شُبْهتُكم [116] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/57). .
       - وأمْرُهم أنْ يَسْألوا أهْلَ الذِّكْرِ فيه تَعريضٌ بجَهْلِهم، وفضْحُ خَطَئِهم [117] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/18). .
3- قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ
       - في قولِه: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا وحَّدَ الجسَدَ؛ لإرادةِ الجنْسِ. وقيل: بتَقديرِ المُضافِ، أي: ذَوِي جسَدٍ [118] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/104)، ((تفسير البيضاوي)) (4/46)، ((تفسير أبي حيان)) (7/411)، ((تفسير أبي السعود)) (6/57). ، وذِكْرُه يُفِيدُ التَّهكُّمَ بالمُشرِكينَ؛ لأنَّهم لمَّا قالوا: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ [الفرقان: 7] ، وسَأَلوا أنْ يأتِيَ بما أُرْسِلَ به الأوَّلونَ، كان مُقْتضَى أقوالِهم أنَّ الرُّسلَ الأوَّلينَ كانوا في صُوَرِ الآدميِّينَ، لكنَّهم لا يأْكُلون الطَّعامَ -وأكْلُ الطَّعامِ مِن لَوازمِ الحياةِ- فلَزِمَهم لمَّا قالوا: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ أنْ يَكونوا قائلينَ بأنَّ شأْنَ الرُّسلِ أنْ يكونوا أجسادًا بلا أرواحٍ، وهذا من السَّخافةِ بمَكانةٍ [119] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور))، (17/19). .
       - قولُه: وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ تأكيدٌ وتَقريرٌ لِمَا قبْلَه؛ فإنَّ التَّعيُّشَ بالطَّعامِ مِن تَوابِعِ التَّحليلِ المُؤدِّي إلى الفَناءِ [120] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/46)، ((تفسير أبي السعود)) (6/57). ، وهو زِيادةُ استدلالٍ لتَحقيقِ بشَرِيَّتِهم؛ استدلالًا بما هو واقِعٌ مِن عدَمِ كَفاءةِ أولئك الرُّسلِ كما هو معلومٌ بالمُشاهَدةِ لقطْعِ مَعاذيرِ الضَّالِّينَ، فإنْ زَعَموا أنْ قد كان الرُّسلُ الأوَّلونَ مُخالِفينَ للبشَرِ؛ فماذا يَصْنعون في لَحَاقِ الفَناءِ إيَّاهم؟ فهذا وجْهُ زِيادةِ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ [121] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/19، 20). .
       - وأُتِيَ في نفْيِ الخُلودِ عنهم بصِيغَةِ (ما كانوا)؛ تَحقيقًا لِتَمكُّنِ عدَمِ الخُلودِ منهم [122] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/19، 20). . وفي إيثارِ( مَا كَانُوا) على (ما جَعَلْناهم) تَنبيهٌ على أنَّ عدَمَ الخُلودِ مُقْتضى جِبِلَّتِهم الَّتي أُشِيرَ إليها بقولِه تعالى: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ ...، لا بالجَعْلِ المُستأنَفِ [123] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/57). .
4- قولُه تعالى: ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ الكلامُ مَسوقٌ مَساقَ التَّنويهِ بالرُّسلِ الأوَّلينَ، وهو تَعريضٌ بوَعيدِ الَّذين قالوا: فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ، وفي هذا تَقريعٌ للمُشرِكينَ، أي: إنْ كان أعجَبَكم ما أتَى به الأوَّلونَ، فسألْتُم مِن رَسولِكم مثْلَه، فإنَّ حالَكم كحالِ الَّذين أُرْسِلوا إليهم، فترَقَّبوا مثْلَ ما نزَلَ بهم، ويترقَّبُ رسولُكم مثْلَ ما لقِيَ سلَفُه [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/20). .
       - وقولُه: ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ ... عطْفٌ على ما يُفْهَمُ من حِكايةِ وَحْيِه تعالى إليهم على الاستمرارِ التَّجدُّديِّ؛ كأنَّه قيل: أوحَيْنا إليهم ما أوحَيْنا، ثمَّ صَدَقْناهم في الوعْدِ الَّذي وعَدْناهم في تَضاعيفِ الوحْيِ بإهلاكِ أعدائِهم [125] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/57). . أو مَعطوفةٌ على الجُمَلِ السَّابقةِ، و(ثُمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ، والمعنى: وأهَمُّ ممَّا ذُكِرَ أنَّا صَدَقْناهم الوعْدَ، فأنْجَيناهم وأهلَكْنا الَّذين كذَّبُوهم. ومَضمونُ هذا أهَمُّ في الغرضينِ: التَّبشيرِ والإنذارِ؛ فالتَّبشيرُ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمنينَ بأنَّ اللهَ صادِقُه وعْدَه من النَّصرِ، والإنذارُ لمَن ماثَلَ أقوامَ الرُّسلِ الأوَّلينَ [126] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/20). . وقيل: أشارَ بأداةِ التَّراخِي (ثُمَّ) إلى أنَّهم طالَ بلاؤُهم بهم، وصبرُهم عليهم، ثم أحلَّ بهم سطوتَه، وأراهم عظَمتَه [127] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/498). .
       - والإتيانُ بصِيغةِ المُستقبَلِ في قولِه: نَشَاءُ احتباكٌ [128] الاحْتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمع الحذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ، والتَّقديرُ: فأنْجَيْناهم ومَن شِئْنَا، ونُنَجِّي رَسولَنا ومَن نشاءُ منكم، وهو تأْميلٌ لهم أنْ يُؤْمِنوا؛ لأنَّ مِن المُكذِّبينَ يومَ نُزولِ هذه الآيةِ مَن آمَنوا فيما بعْدُ إلى يومِ فتْحِ مكَّةَ. وهذا من لُطْفِ اللهِ بعِبادِه في تَرغيبِهم في الإيمانِ، ولم يَقُلْ: (ونُهْلِكُ المُسرِفينَ)، بل عاد إلى صِيغَةِ المُضِيِّ الَّذي هو حِكايةٌ لِما حَلَّ بالأُمَمِ السَّالفةِ، وبقِيَ المقصودُ مِن ذِكْرِ الَّذين أُهْلِكوا، وهو التَّعريضُ بالتَّهديدِ والتَّحذيرِ أنْ يُصِيبَهم مثْلُ ما أصابَ أولئك مع عدَمِ التَّصريحِ بالوعيدِ [129] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/21). .
5- قولُه تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لتَحقيقِ حَقِّيَّةِ القُرآنِ العظيمِ، وبَيانِ عُلوِّ رُتْبتِه، إثْرَ تَحقيقِ رِسالتِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقد صُدِّرَ بالتَّوكيدِ القسَميِّ؛ إظهارًا لمَزيدِ الاعتناءِ بمَضمونِه، وإيذانًا بكونِ المُخاطَبينَ في أقْصَى مَراتبِ النَّكيرِ [130] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/58). . وقيل: استئنافُ جَوابٍ عن قولِهم: فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ، بإيقاظِهم إلى أنَّ الآيةَ الَّتي جاءتْهم هي أعْظَمُ مِن الآياتِ الَّتي أُرْسِلَ بها الأوَّلونَ، وتجْهيلًا لألْبابِهم، ولقصْدِ هذا الإيقاظِ صُدِّرتِ الجُملةُ بما يُفِيدُ التَّحقيقَ من لامِ القسَمِ وحرْفِ التَّحقيقِ لَقَدْ، وجَعْلِ إنزالِ الكتابِ إليهم، كما اقتضَتْه تَعْديةُ فِعْلِ أَنْزَلْنَا بحرْفِ (إلى) شأْنَ تَعديةِ فِعْلِ الإنزالِ أنْ يكونَ المجرورُ بـ (إلى) هو المُنزَّلُ إليه؛ فجَعْلُ الإنزالِ إليهم؛ لكونِهم بمَنزلةِ مَن أُنْزِلَ إليه؛ نظَرًا إلى أنَّ الإنزالَ كان لأجْلِهم ودَعوتِهم، وذلك أبلَغُ مِن أنْ يُقالَ: (لقد أنزَلْنا لكم) [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/21، 22). .
       - وقولُه: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ فيه تَحريضٌ، ثمَّ أكَّدَ التَّحريضَ بقولِه: أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وحرَّكَهم بذلك إلى النَّظرِ [132] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/412). .
       - ونَكَّرَ كِتَابًا للتَّعظيمِ؛ إيماءً إلى أنَّه جمَعَ خَصلتينِ عَظيمتينِ: كونَه كِتابَ هُدًى، وكونَه آيةً ومُعجزةً للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لا يَستطيعُ أحَدٌ أنْ يأتِيَ بمثْلِه أو مُدانِيه [133] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/22). .
       - وجُملةُ: فِيهِ ذِكْرُكُمْ صِفَةٌ لـ كِتَابًا مُؤكِّدةٌ لِما أفادَهُ التَّنكيرُ التَّفخيميُّ من كونِه جليلَ المِقدارِ، بأنَّه جَميلُ الآثارِ، مُستجلِبٌ لهم منافعَ جليلةً، أي: فيه شرَفُكم وَصِيتُكم [134] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/58). .
       - وقولُه: فِيهِ ذِكْرُكُمْ الذِّكْرُ يُطْلَقُ على التَّذكيرِ بما فيه الصَّلاحُ، ويُطْلَقُ على السُّمعةِ والصِّيتِ. وقد أُوثِرَ هذا المصدَرُ هنا، وجُعِلَ مُعرَّفًا بالإضافةِ إلى ضَميرِ المُخاطَبينَ؛ ليكونَ كَلامًا مُوجَّهًا، فيَصِحَّ قصْدُ المَعنيينِ معًا من كَلمةِ (الذِّكْرِ) بأنَّ مَجِيءَ القُرآنِ مُشتمِلًا على أعظَمِ الهُدى؛ هو تَذكيرٌ لهم بما به نِهايةُ إصلاحِهم، ومَجيئُه بلُغَتِهم، وفي قومِهم، وبواسطةِ واحدٍ منهم؛ سُمْعةٌ عظيمةٌ لهم، وعلى المعنيينِ يكونُ لتَفريعِ قولِه تعالى: أَفَلَا تَعْقِلُونَ أحسَنُ مَوقعٍ؛ لأنَّ الاستفهامَ الإنكاريَّ لنفْيِ عَقْلِهم مُتَّجِهٌ على كِلا المعنيينِ؛ فإنَّ مَن جاءهُ ما به هدْيُه، فلم يَهتَدِ، يُنْكَرُ عليه سُوءُ عقْلِه، ومَن جاءهُ ما به مَجْدُه وسُمْعَتُه، فلم يَعبَأْ به، يُنْكَرُ عليه سُوءُ قَدْرِه للأمورِ حَقَّ قدْرِها، كما يكونُ الفضْلُ في مثْلِه مُضاعَفًا. وأيضًا فهو مُتفرِّعٌ على الإقناعِ بإنزالِ القُرآنِ آيةً تفوقُ الآياتِ الَّتي سَأَلوا مثْلَها، وهو المُفادُ من الاستئنافِ، ومِن تأْكيدِ الجُملةِ بالقسَمِ وحرْفِ التحقيقِ (قد) [135] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/22). .