موسوعة التفسير

سُورةُ يُوسُفَ
الآيات (108- 111)

ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ

غريب الكلمات:

بَصِيرَةٍ: أي: يقينٍ، والبصيرةُ كذلك: الحُجَّةُ والبَيانُ، وأصْلُ (بصر): وُضُوحُ الشَّيءِ [1198] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 223)، ((تفسير ابن جرير)) (10/657)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 123)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/253)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 249). قال الشنقيطي: (والبصيرةُ أشهرُ معانِيها في لغةِ العربِ أنَّها تُطلقُ إطلاقينِ، يرجعُ إليهما غالبُ استعمالِ البصيرةِ في القرآنِ: أحدُهما: أنَّ البصيرةَ هي الحُجَّةُ والدليلُ القاطعُ، وإنما قيل للدليلِ القاطعِ والحجةِ والبرهانِ: «بصيرةٌ»؛ لأنه يُنَوِّرُ البصيرةَ التي هي نورُ العقلِ، يُنَوِّرُها حتَّى ترَى الحقَّ حقًّا، والباطلَ باطلًا، والنافعَ نافعًا، والضارَّ ضارًّا، والحَسَنَ حَسَنًا، والقبيحَ قَبيحًا، ومِن إطلاقِ البصيرةِ على الدليلِ القاطعِ: قولُه جل وعلا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف: 108] ، أي: على عِلْمٍ ودليلٍ واضحٍ وبرهانٍ قاطعٍ لاَ يَتْرُكُ فِي الحقِّ لَبْسًا. المعنَى الثاني للبصيرةِ: وهو الاستبصارُ، والعلمُ بالقلبِ بحقائقِ الأشياءِ). ((العذب النمير)) (2/61) بتصرف. .
بَأْسُنَا: أي: عذابُنا، وأصْلُ (بأس): الشِّدَّةُ وما ضاهاها [1199] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 70)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/328)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 108)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 252). .
عِبْرَةٌ: أي: اعتِبارٌ وموعظةٌ، والاعْتبارُ والعِبرةُ: الحالةُ التي يتوصَّلُ بها مِن معرفةِ المشاهَدِ إلى ما ليسَ بمشاهَدٍ، وأصلُ (العَبْرِ): تجاوزٌ مِن حالٍ إلى حالٍ [1200] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 344)، ((المفردات)) للراغب (ص: 543)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 200). .
يُفْتَرَى: أي: يُكْذَبُ ويُخْتَلَقُ، والافتِراءُ: الاختِلاقُ، أو العظيمُ مِن الكذِبِ، وأصْلُه مِن (الفَرْيِ): وهو قطْعُ الشيء [1201] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 31، 280)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 102)، ((المفردات)) للراغب (ص: 634)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 154). .

المعنى الإجمالي :

يقولُ الله تعالَى: قلْ- يا محمَّدُ-: هذه طريقَتي؛ أدْعو إلى تَوحيدِ اللَّهِ تعالى على عِلْمٍ ويقينٍ منِّي بصحَّةِ ذلك، أنا ومَن اتَّبعَني، وأُنَزِّه اللَّهَ تعالى عن كلِّ نقْصٍ، وما أنا مِن المُشرِكين.
ثمَّ يُبَيِّنُ اللَّهُ تعالى لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الرُّسلَ الَّذين أرسَلَهم مِن قبْلِه ما كانوا إلَّا رجالًا يُوحِي إليهم، وهم مِن أهلِ المُدُنِ، وليسوا مِن أهلِ البَوادي. أفلَمْ يَسِرْ هؤلاء المُشرِكون في الأرضِ، فيَرَوا كيف كان إهلاكُ اللَّهِ للأُمَمِ الَّذين كذَّبوا الرُّسلَ مِن قبْلِهم، فيعتَبِروا؟! ولَدارُ الآخِرةِ خيرٌ مِن دارِ الدُّنيا للَّذين اتَّقَوا.
حتَّى إذا يَئِس الرسلُ، وظنوا أنهم أُخلِفوا فيما وعَدَهم اللَّهُ به مِن النَّصرِ، جاءَهم نصرُ اللَّهِ فجأَةً، فنجَّاهم وأتْباعَهم المُؤمنينَ، ولا يَستطيعُ أحدٌ أنْ يرُدَّ عذابَه عزَّ وجلَّ عنِ القومِ المُجرِمين.
لقد كان في قَصَصِ يوسُفَ مع إخوتِه وقَصَصِ المُرسَلينَ مع أُمَمِهم عِظَةٌ لأهلِ العُقولِ السَّليمةِ، ما كان القُرآنُ وما فيه مِن القَصصِ حديثًا يُكذَبُ ويُختلَقُ، ولكنْ يُصدِّقُ ما سبَقَه مِن الكتُبِ المُنزَّلَةِ على أنبياءِ اللَّهِ، وهو تفصيلٌ لكلِّ ما يَحتاجُ العِبادُ إلى بَيانِه، وهدًى ورحمةٌ لقومٍ يُؤمِنون.

تفسير الآيات :

قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّه لَمَّا وصَفَ اللَّهُ سبحانه لرَسولِه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ أكثَرَ النَّاسِ بما وصَفَ، مِن سُوءِ الطَّريقةِ للتَّقليدِ الَّذي منْشؤُه الإعراضُ عنِ الأدلَّةِ الموجِبةِ للعِلْمِ؛ أمَرَ أنْ يَذكُرَ طريقَ الخُلَّصِ، فقال [1202] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/241). :
قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي.
أي: قلْ- يا مُحمَّدُ- للنَّاسِ: هذه طريقَتي؛ أدْعو إلى تَوحيدِ اللَّهِ على بيِّنةٍ وعِلْمٍ، ويَقينٍ منِّي بصحَّةِ ذلك مِن غيرِ شكٍّ، أنا وكلُّ مَن اتَّبعَني كذلك ندْعو إلى عِبادةِ اللَّهِ وحْدَه على بيِّنةٍ وعلْمٍ [1203] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/378)، ((تفسير القرطبي)) (9/274)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (27/427)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/154)، ((تفسير ابن كثير)) (4/422)، ((تفسير السعدي)) (ص: 406). قال ابنُ القيِّمِ: (قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وسواءٌ كان المعنى: أنا ومَن اتَّبعني يَدعو إلى اللَّهِ على بصيرةٍ، أو كان الوقفُ عند قولِه: أَدْعُو إِلَى اللَّهِ، ثمَّ يبتدئُ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي؛ فالقولانِ مُتلازمانِ؛ فإنَّه أمَرَه سبحانه أنْ يخبِرَ أنَّ سبيلَه الدَّعوةُ إلى اللَّهِ، فمَن دعا إلى اللَّهِ تعالى فهو على سَبيلِ رسولِه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وهو على بَصيرةٍ، وهو مِن أتباعِه، ومَن دعا إلى غيرِ ذلك فليس على سبيلِه، ولا هو على بصيرةٍ، ولا هو مِن أتباعِه؛ فالدَّعوةُ إلى اللَّهِ تعالى هي وظيفةُ المُرسَلينَ وأتْباعِهم، وهم خُلفاءُ الرُّسلِ في أُمَمِهم، والنَّاسُ تبَعٌ لهم). ((جلاء الأفهام)) (ص: 415). .
وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
أي: وقلْ- يا محمَّدُ- تَعظيمًا للَّهِ: أُنَزِّه اللَّهَ عن جَميعِ النقائصِ؛ كأنْ يكونَ له شريكٌ في المُلْكِ أو العِبادةِ، أو يكونَ له مثيلٌ أو ولَدٌ أو صاحبةٌ أو مُعِينٌ، وأتبرَّأُ مِن الَّذين يَعبُدون غيرَه، ولا أعبُدُ إلَّا اللَّهَ وحْدَه [1204] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/378، 379)، ((تفسير القرطبي)) (9/274)، ((تفسير ابن كثير)) (4/422)، ((تفسير السعدي)) (ص: 406)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/66). .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109).
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى.
أي: وما أرسَلْنا الأنبياءَ مِن قبْلِك- يا مُحمَّدُ- إلَّا رجالًا- لا مَلائكةً ولا نِساءً- نُوحِي إليهم أنْ يأْمُروا النَّاسَ بتوحيدي، وإفرادِ العِبادةِ لي، ويَدْعُوهم إلى طاعتِي، وهم مِن أهلِ المُدُنِ لا مِن أهلِ البَوادي [1205] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/380)، ((تفسير القرطبي)) (9/274)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 416)، ((تفسير ابن كثير)) (4/422، 423)، ((تفسير السعدي)) (ص: 406). قال ابنُ تيميةَ: (حَكَى الإجماعَ على أنَّه لم يكُنْ في النِّساءِ نبيَّةٌ غيرُ واحدٍ؛ كالقاضي أبي بكرِ بنِ الطيبِ، والقاضي أبي يَعلَى، وأبي المعالي الجُوينيِّ، وخِلافُ ابنِ حزمٍ شاذٌّ مَسبوقٌ بالإجماعِ؛ فإنَّ دعواه أنَّ أمَّ موسى كانتْ نبيَّةً هي ومريمُ قولٌ لا يُعْرَفُ عن أحدٍ مِن السَّلفِ والأئمةِ). ((الصفدية)) (1/198). وقال ابنُ كثيرٍ: (يخبِرُ تعالى أنَّه إنَّما أرسَلَ رُسلَه مِن الرِّجالِ لا مِن النِّساءِ. وهذا قولُ جُمهورِ العلماءِ، كما دلَّ عليه سِياقُ هذه الآيةِ الكريمةِ: أنَّ اللَّهَ تعالى لم يُوحِ إلى امرأةٍ مِن بناتِ بني آدمَ وَحْيَ تشريعٍ). ((تفسير ابن كثير)) (4/422). .
أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ.
أي: أفلم يَسِرْ هؤلاء المُشرِكون المُكذِّبون لك- يا محمَّدُ- في الأرضِ، فينْظُروا كيف أهلَكَ اللَّهُ الأُمَمَ الَّذين كذَّبوا رسلَهم مِن قبلِهم، فيَعتَبِروا [1206] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/380)، ((تفسير القرطبي)) (9/275)، ((تفسير ابن كثير)) (4/424)، ((تفسير السعدي)) (ص: 407). ؟!
وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ.
أي: وكما أنْجَينا المُتَّقين في الدُّنيا عندَ نزولِ العُقوبةِ بالمُشرِكين والعُصاةِ، كذلك كتَبْنا لهم النَّجاةَ في الدَّارِ الآخِرةِ أيضًا، والجنَّةُ خَيرٌ لهم مِن الدُّنيا وأحسَنُ [1207] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/381)، ((تفسير ابن عطية)) (3/287)، ((تفسير القرطبي)) (9/275)، ((تفسير ابن كثير)) (4/424)، ((تفسير السعدي)) (ص: 407). قال ابن جرير: وقولُه: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ يقولُ تعالَى ذِكرُه: هذا فِعْلُنا في الدُّنيا بأهلِ ولايَتِنا وطاعَتِنا، إنَّ عقوبَتَنا إِذا نَزلَتْ بأهلِ معاصينا والشِّرْكِ بنا أنْجَيْناهم منها، وما في الدَّارِ الآخرةِ لهم خيرٌ، وتَرَك ذكرَ ما ذَكَرْنا اكتِفاءً بدلالةِ قولِه: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عليه). ((تفسير ابن جرير)) (13/381). .
أَفَلاَ تَعْقِلُونَ.
أي: أفلا تعقِلون حَقيقةَ ما أخبَرْناكم به في القُرآنِ مِن سُوءِ عاقِبةِ الكُفْرِ، وخيريَّةِ الدَّارِ الآخرةِ، فتُؤمِنوا باللَّهِ، وتتَّقوا الإشراكَ به [1208] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/382)، ((الوسيط)) للواحدي (2/638)، ((تفسير البغوي)) (2/518)، ((تفسير البيضاوي)) (3/179)، ((تفسير أبي السعود)) (4/310). ؟!
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110).
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء.
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:
في قولِه تعالى: كُذِبُوا قِراءتانِ:
1- قِراءةُ كُذِبُوا بتَخفيفِ الذَّالِ، على جعلِ الضمير في قوله تعالى: وَظَنُّوا للرسلِ، فالمعنى: ظنَّ الرسلُ أنَّهم قد أُخْلِفوا، والمرادُ ما يَرِدُ على القلبِ، ويهْجِسُ فيه مِن حديثِ النفسِ، وعوارضِ الوساوس، الذي لا يسلمُ منه أحدٌ مِن البشرِ، وَقِيلَ: المعنَى: وظنَّ الرُّسلُ أَنَّها قَدْ كَذَبَتْهم أنفسُهم حينَ حَدَّثَتْهم بأَنَّهم يُنْصَرُونَ عليهم، أو: كَذَبَهم رَجاؤُهم لِلنَّصْرِ.
وعلى جعلِ الضميرِ في قوله تعالى: وَظَنُّوا للمرسَلِ إليهم، لما في ذكرِ الرسل مِن دلالةٍ عليهم، فالمعنى: وظنَّ المرسلُ إليهم أنَّ الرُّسلَ قد كُذِبوا فيما وُعِدوا به مِن النَّصرِ. وقيل: ظنَّ المرسلُ إليهم أنَّ الرُّسلَ قد كَذَبَوهم فيما أخبَرُوهم به مِن نُزولِ العذابِ بهم إنْ لم يؤْمِنوا؛ لِمَا شاهَدوا مِن إمهالِ اللَّهِ لهم [1209] قرأ بها عاصمٌ، وحمزةُ، والكِسائيُّ، وأبو جعفرٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/296). ويُنظر لمعنى هذه القِراءةِ: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 199)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/52)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (4/442، 443)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 366، 367)، ((الكشف)) لمكي (2/16)، ((تفسير القرطبي)) (9/276)، ((تفسير الشوكاني)) (3/73)، ((تفسير السعدي)) (ص: 407). .
2- قِراءةُ كُذِّبُوا بتَشْديدِ الذَّالِ، بجَعْلِ الظَّنِّ للأنبياءِ بمعنى العِلْمِ، والمعنى: ولَمَّا أيقَنَ الأنبياءُ أنَّ قومَهم قد كَذَّبوهم فلن يُصدِّقوهم، جاء الرُّسلَ نصْرُنا. وقيل: ظنَّ الأنبياءُ أنَّ المُؤمنينَ بهم يُكذِّبونهم، وخافوا أنْ يدخُلَ قُلوبَ أتباعِهم شكٌّ [1210] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/296). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 199)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/52)، ((تفسير القرطبي)) (9/275). .
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء.
أي: حتَّى [1211] قال ابن حجر: (واختُلِفَ فيما تعَلَّقَت به الغايةُ مِن قَولِه: حَتَّى فاتَّفقوا على أنَّه محذوفٌ، فقيل التقدير: وما أرسَلْنا من قبلك إلَّا رِجالًا يُوحَى إليهم، فتراخى النَّصرُ عنهم حتى إذا... وقيل: التقديرُ: فلم تُعاقَبْ أمَمُهم حتى إذا... وقيل: فدَعَوا قَومَهم فكَذَّبوهم فطال ذلك حتى إذا...). ((فتح الباري)) (8/ 367). إذا يئِس رُسلُ اللَّهِ [1212] قال ابن الجوزي: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ، وفيه قولانِ: أحدُهما: اسْتَيْأسوا مِن تصديقِ قومِهم، قاله ابنُ عباسٍ. والثاني: مِن أن نعذِّبَ قومَهم، قاله مجاهدٌ).  ((تفسير ابن الجوزي)) (2/ 477). ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/72). قال ابنُ القيِّم: (قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فلمَّا ذكَرَ أنَّ الرُّسُلَ هم الذين استيأسُوا، كان فيه دليلٌ على أنَّهم دخل قلوبَهم يأسٌ مِن غيرِ يَقينٍ استيقَنوه؛ لأنَّ اليقينَ في ذلك إنَّما يأتيهم مِن عندِ الله). ((زاد المعاد)) (5/ 586). ، وخطَر بقلوبِهم، وحدَّثتْهم أنفسُهم أنَّهم قد أُخلِفوا فيما وعَدَهم اللَّهُ به مِن النَّصرِ؛ لطولِ البلاءِ عليهم، وإبطاءِ النصرِ- أتاهم نصْرُنا فجأَةً، فنَجَّيْناهم وأتْباعَهم [1213]  قال الرسعني: (والمرادُ بـ مَنْ نَشَاءُ: المؤمنونَ؛ لأنَّهم أهلُ النجاةِ، ويدلُّ عليه قولُه: وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). ((تفسير الرسعني)) (3/431). المُؤمنينَ [1214] يُنظر: (( تفسير الرسعني)) (3/ 429)، ((تفسير السعدي)) (ص: 407)، ((القواعد الحسان لتفسير القرآن)) للسعدي (ص: 155). قال الرسعني بعد أن ذكَرَ قَولَ ابنِ عبَّاسٍ: (كانوا بَشرًا، فضَعُفوا ويَئِسوا، وظَنُّوا أنَّهم أُخْلِفوا)، قال: (وهذا التأويلُ مَزلَّة الأقدامِ، ومَدحَضةُ الأفهام، وفيه سِرٌّ لا يفهَمُه إلا غوَّاصٌ على المعاني، بحَّاثٌ عنها؛ فإنه لا يجوزُ أن يُظَنَّ بابنِ عبَّاسٍ أنَّه أراد بتأويلِه تطريقَ الشَّكِّ الذي هو تغليبُ أحد الجانبَينِ على الآخرِ، أو تساويَهما على رُسُلِ اللهِ المعصومينَ عن مثلِ ذلك! بل أراد ما يَرِدُ على القَلبِ، ويهْجِسُ فيه من حديثِ النَّفسِ، وعوارِضِ الوَساوسِ، الذي لا يَسلَمُ منه أحَدٌ مِن البشَرِ، فتفَهَّمْ ذلك). (( تفسير الرسعني)) (3/ 429). قال السَّعدي تحتَ قاعدةِ: (الأمورُ العارِضةُ التي لا قرارَ لها بسَبَبِ المُزعِجاتِ أو الشُّبُهاتِ، قد تَرِدُ على الحَقِّ وعلى الأمورِ اليقينيَّةِ، ولكِنْ سُرعانَ ما تضمَحِلُّ وتزولُ)- قال: (الرُّسُلُ- صَلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم- أكمَلُ الخَلقِ إيمانًا ويَقينًا، وتصديقًا بوَعدِ اللهِ ووَعيدِه، وهذا أمرٌ يجِبُ على الأُمَمِ: أن يعتَقِدوا في الرُّسُلِ من أنَّهم قد بَلَغوا الذِّروةَ فيه، وأنَّهم معصومونَ مِن ضِدِّه، ولكِنْ ذَكَر اللهُ في بعض الآياتِ أنَّه قد يَعرِضُ لهم بعضُ الأمورِ المُزعِجةِ المُنافيةِ حِسًّا لِما عُلِمَ يَقينًا، ما يوجِبُ لهؤلاء الكُمَّلِ أن يَستبطِئوا معه النَّصرَ، ويقولون: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة: 214] ، وقد يَخطُرُ في هذه الحالةِ على القُلوبِ شَيءٌ مِن عوارِضِ اليأسِ بحَسَبِ قُوَّةِ الوارداتِ، وتأثيرِها في القلوبِ، ثمَّ في أسرعِ وَقتٍ تنجلي هذه الحالُ، وتنفَرِجُ الأزمةُ، ويأتي النَّصرُ مِن قَريبٍ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214]، فعندئذٍ يصيرُ لِنَصرِ اللهِ وصِدقِ مَوعودِه مِن الوقعِ والبِشارةِ والآثارِ العَجيبةِ أمرٌ كبيرٌ، لا يَحصُلُ بدونِ هذه الحالةِ؛ ولهذا قال: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا؛ فلهذا الواردِ الذي لا قرارَ له، وعندما حقَّت الحقائِقُ اضمحَلَّ وتلاشى، لا يُنكَرُ ويُطلَب للآياتِ تأويلاتٌ مخالِفةٌ لظاهِرِها). ((القواعد الحسان لتفسير القرآن)) (ص: 155). وقال ابنُ تيميَّةَ: (لا يمتَنِعُ على الأنبياءِ أن يظُنُّوا شيئًا فيكون الأمرُ بخلافِ ما ظنُّوه؛ فقد يظنُّون فيما وُعِدوه تعيينًا وصفاتٍ، ولا يكونُ كما ظَنُّوه، فييأسون مِمَّا ظنوه في الوعدِ، لا مِن تعيينِ الوعدِ). ((مجموع الفتاوى)) (15/ 186). وقال الخطَّابي: (يحتَمِلُ أن يقال: إنَّهم عند تطاوُلِ مُدَّةِ البلاء عليهم وإبطاءِ نجزِ العِدَةِ عنهم وشِدَّةِ مُطالبةِ القَومِ إيَّاهم بما كانوا يَعِدونَهم من النُّصرة؛ دخَلَتْهم الرِّيبةُ حتى توهَّموا أن الذي جاءهم من الوحيِ لعلَّه كان حُسبانًا منهم ووَهمًا، فارتابوا بأنفُسِهم وظنُّوا عليها الغلَطَ في تلقِّي ما ورد عليهم من القَولِ، فيكون معنى الكَذِب في هذا متأوَّلًا على الغَلَطِ... ومَرجِعُ الأمر في هذا الباب: أن الذي عَرَض من الريبةِ إنَّما ينصرف إلى الوسائِطِ التي هي مُقَدِّمات الوحيِ، لا إلى نفسِ الوحي وأصلِه بعد حصولِ العلم به، والله أعلم). ((أعلام الحديث)) (3/ 1813)، وينظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/368، 369). وأما ما رواه البخاري (4525) بسنده عن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ، قال: قال ابنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللَّهُ عنهما: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا خفيفةً، ذهَبَ بها هناك، وتلا: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214] ، فلقِيتُ عُروةَ ابنَ الزُّبيرِ فذكَرْتُ له ذلك، فقال: قالت عائشةُ: مَعاذَ اللَّهِ! واللَّهِ ما وعَدَ اللَّهُ رسولَه مِن شيءٍ قطُّ إلَّا علِمَ أنَّه كائنٌ قبلَ أنْ يموتَ، ولكنْ لم يَزَلِ البَلاءُ بالرُّسلِ، حتَّى خافوا أنْ يكونَ مَن معهم يُكذِّبونهم، فكانت تقرَؤُها: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا مُثقَّلةً). وكذلك ما رواه البخاري أيضًا (4695) بسندِه عن عُروةَ بنِ الزُّبيرِ، عن عائشةَ رضِيَ اللَّهُ عنها، (قالتْ له وهو يسأَلُها عن قولِ اللَّهِ تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ قال: قلْتُ: أ كُذِبُوا أم كُذِّبُوا؟ قالت عائشةُ: كُذِّبُوا. قلت: فقدِ استيقَنوا أنَّ قومَهم كذَّبوهم؛ فما هو بالظَّنِّ؟ قالت: أجلْ! لَعَمْري لقد استيْقَنوا بذلك. فقلتُ لها: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قالت: مَعاذَ اللَّهِ! لم تكُنِ الرُّسلُ تظُنُّ ذلك بربِّها. قلْتُ: فما هذه الآيةُ؟ قالت: هم أتْباعُ الرُّسلِ الَّذين آمَنوا بربِّهم وصدَّقوهم، فطالَ عليهم البلاءُ واستأْخَرَ عنهم النَّصرُ، حتَّى إذا استيئَسَ الرُّسلُ ممَّن كذَّبَهم مِن قَومِهم، وظنَّتِ الرُّسلُ أنَّ أتْباعَهم قد كذَّبوهم؛ جاءَهم نصْرُ اللَّهِ عند ذلك). فقد قال ابنُ حجرٍ: (قال الخطَّابيُّ: لا شكَّ أنَّ ابنَ عبَّاسٍ لا يُجيزُ على الرُّسلِ أنَّها تُكذِّبُ بالوحيِ، ولا يشكُّ في صدْقِ المُخْبِرِ،... والمُرادُ بالكذِبِ الغَلطُ لا حقيقةُ الكذِبِ، كما يقول القائلُ: كذَبَتْك نفْسُك، قلتُ: ويؤيِّدُه قِراءةُ مُجاهدٍ: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا) بفتحِ أوَّلِه مع التَّخفيفِ، أي: غَلِطوا، ويكونُ فاعلُ وَظَنُّوا الرُّسلَ، ويَحتمِلُ أنْ يكون أتباعَهم، ويُؤيِّدُه ما رواه الطَّبريُّ بأسانيدَ مُتنوِّعةٍ مِن طريقِ عمرانَ بنِ الحارثِ وسعيدِ بنِ جُبيرٍ وأبي الضُّحى وعليِّ بنِ أبي طلحةَ والعوفيِّ، كلُّهم عنِ ابنِ عبَّاسٍ في هذه الآيةِ، قال: أيِسَ الرُّسلُ مِن إيمانِ قَومِهم، وظنَّ قومُهم أنَّ الرُّسلَ كذَبوا، وقال الزَّمخشريُّ: إنْ صحَّ هذا عنِ ابنِ عبَّاسٍ فقد أراد بالظَّنِّ ما يَخطِرُ بالبالِ، ويهجِسُ في النَّفْسِ مِن الوسوسةِ وحديثِ النَّفْسِ على ما عليه البشريَّةُ، وأمَّا الظَّنُّ- وهو ترجيحُ أحدِ الطَّرفينِ- فلا يُظَنُّ بالمُسلمِ فضلًا عنِ الرَّسولِ. وقال أبو نصرٍ القُشَيريُّ: ولا يبعُدُ أنَّ المُرادَ: خطَرَ بقلْبِ الرُّسلِ، فصرَفوه عن أنفُسِهم، أو المعنى: قَرُبوا مِن الظَّنِّ، كما يُقال: بلغْتُ المنزِلَ؛ إذا قَرُبْتَ منه. وقال التِّرمذيُّ الحكيمُ: وجْهُه: أنَّ الرُّسلَ كانت تخافُ بعد أنْ وعَدَهم اللَّهُ النَّصرَ أنْ يتخلَّفَ النَّصرُ لا مِن تُهمةٍ بوعْدِ اللَّهِ، بل لتُهْمةِ النُّفوسِ أنْ تكونَ قد أحدثتْ حدَثًا ينقُضُ ذلك الشَّرطَ، فكان الأمْرُ إذا طال واشتدَّ البلاءُ عليهم، دخَلَهم الظَّنُّ مِن هذه الجهةِ، .. الضَّميرُ في وَظَنُّوا عائدٌ على المُرسَلِ إليهم، وفي كُذِبُوا عائدٌ على الرُّسلِ، أي: وظنَّ المُرسَلُ إليهم أنَّ الرُّسلَ كذَبوا. أو الضَّمائرُ للرُّسلِ، والمعنى: يئِسَ الرُّسلُ مِن النَّصرِ، وتوهَّموا أنَّ أنفُسَهم كذَبَتْهم حين حدَّثَتْهم بقُربِ النَّصرِ، أو كذَبَهم رَجاؤهم. أو الضَّمائرُ كلُّها للمُرسَلِ إليهم، أي: يئِسَ الرُّسلُ مِن إيمانِ مَن أُرسلوا إليه، وظنَّ المُرسَلُ إليهم أنَّ الرُّسلَ كذَبوهم في جَميعِ ما ادَّعوه مِن النُّبوَّةِ، والوعْدِ بالنَّصرِ لمَن أطاعهم، والوعيدِ بالعذابِ لِمَن لم يُجِبْهم). ((فتح الباري)) (8/368، 369). وقال ابنُ تيميةَ: (فعائشةُ جعَلَت اسْتِيآسَ الرُّسُلِ مِن الكُفَّارِ المُكذِّبين، وظنَّهم التَّكذيبَ مِن المؤمنين بهم، ولكنِ القراءةُ الأخرى ثابتةٌ لا يُمكِنُ إنكارُها، وقد تأوَّلَها ابنُ عبَّاسٍ، وظاهِرُ الكلامِ معه، والآيةُ الَّتي تَليها إنَّما فيها استبطاءُ النَّصرِ، وهو قولُهم: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة: 214] ؛ فإنَّ هذه كَلِمةُ تَبطِيءٍ لطَلبِ التَّعجيلِ. وقولُه: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قد يكونُ مثلَ قولَه: إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ [الحج: 52] ، والظَّنُّ لا يُرادُ به في الكتابِ والسُّنَّةِ الاعتقادُ الرَّاجِحُ، كما هو في اصطلاحِ طائفةٍ من أهلِ الكلامِ في العِلْمِ، ويُسمُّون الاعتقادَ المرجوحَ وهمًا، بل قد قال النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: «إيَّاكم والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكذَبُ الحديثِ»، وقد قال تعالى: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم: 28] ... وأيضًا فقولُه: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قد يكونون ظنُّوا في الموعودِ به ما ليس هو فيه بطريقِ الاجتهادِ منهم، فتبيَّنَ الأمْرُ بخِلافِه؛ فهذا جائزٌ عليهم، فإذا ظنَّ بالموعودِ به ما ليس هو فيه، ثمَّ تبيَّنَ الأمْرُ بخلافِه؛ ظنَّ أنَّ ذلك كذِبٌ، وكان كذِبًا مِن جهةِ ظنٍّ في الخبَرِ ما لا يجِبُ أنْ يكون فيه، فأمَّا الشَّكُّ فيما يَعلَمُ أنَّه أخبَرَ به؛ فهذا لا يكونُ). ((مجموع الفتاوى)) (15/176، 180). .
كما قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ البقرة: 214.
وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ.
أي: ولا يقدِرُ أحدٌ أنْ يرُدَّ عذابَنا عنِ القومِ المُشرِكينَ المُكذِّبينَ للرُّسلِ [1215] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/354)، ((تفسير ابن جرير)) (13/401)، ((تفسير القرطبي)) (9/277)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/70). .
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111).
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ.
أي: لقد كان في قَصَصِ يوسُفَ وإخوتِه وقَصَصِ المُرسَلين مع أُمَمِهم، وكيف نجَّى اللَّهُ المؤمنِينَ وأهلَكَ الكافرين؛ عِظَةٌ لأهْلِ العُقولِ السَّليمةِ يعتَبِرون بها [1216] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/401)، ((تفسير ابن عطية)) (3/289)، ((تفسير القرطبي)) (9/277)، ((تفسير ابن كثير)) (4/427)، ((تفسير السعدي)) (ص: 407)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/220). قال ابنُ جريرٍ: (قال جلَّ ثناؤه للمُشرِكين مِن قُريشٍ مِن قومِ نبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: لقد كان لكم- أيُّها القومُ- في قَصصِهم عِبرةٌ لو اعتبَرْتم به؛ أنَّ الَّذي فعَلَ ذلك بيُوسفَ وإخوتِه لا يَتعذَّرُ عليه أنْ يفعَلَ مثلَه بمحمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فيُخْرِجَه مِن بين أظهُرِكم، ثم يُظْهِرَه عليكم، ويُمَكِّنَ له في البِلادِ، ويُؤَيِّدَه بالجُنْدِ والرِّجالِ مِن الأتباعِ والأصحابِ، وإنْ مرَّتْ به شدائدُ، وأتَتْ دونَه الأيَّامُ واللَّيالي، والدُّهورُ والأزمانُ). ((تفسير ابن جرير)) (13/401- 402). .
مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى.
أي: ما كان القُرآنُ وما فيه مِن الأخبارِ والقَصصِ حديثًا يُكذَبُ ويُختلَقُ [1217] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/403)، ((تفسير القرطبي)) (9/277)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/425)، ((تفسير ابن كثير)) (4/427)، ((تفسير السعدي)) (ص: 407). .
وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.
أي: ولكنِ القُرآنُ يُصدِّقُ الكُتُبَ الَّتي أنزَلَها اللَّهُ مِن قَبْلُ على الأنبياءِ، ويَشهَدُ لِما فيها مِن الصَّحيحِ الَّذي لم يُحَرَّفْ أنَّه حَقٌّ مِن عند اللَّهِ [1218] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/403)، ((تفسير ابن عطية)) (3/289)، ((تفسير القرطبي)) (9/277)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/282)، ((تفسير ابن كثير)) (4/427)، ((تفسير السعدي)) (ص: 407). .
وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ.
أي: والقُرآنُ يُبيِّنُ كلَّ ما يَحتاجُ العِبادُ إلى بَيانِه مِن العَقائدِ، والشَّرائعِ والأحكامِ، والأخبارِ [1219] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/404)، ((تفسير ابن عطية)) (3/289)، ((تفسير القرطبي)) (9/277)، ((تفسير ابن كثير)) (4/427)، ((تفسير السعدي)) (ص: 407)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/72). .
وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
أي: والقُرآنُ هدًى مِن كلِّ ضلالةٍ لِمَنِ اتَّبعَه، ورحمةٌ في الدُّنيا والآخِرةِ للمُصدِّقينَ به، العامِلينَ بما فيه [1220] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/404)، ((تفسير ابن كثير)) (4/427)، ((تفسير السعدي)) (ص: 407). قال ابنُ عاشورٍ: (الهُدى الَّذي في القَصصِ: العِبرُ الباعِثةُ على الإيمانِ والتَّقوى، بمُشاهدةِ ما جاء مِن الأدلَّةِ في أثناءِ القَصصِ على أنَّ المُتَصرِّفَ هو اللَّهُ تعالى، وعلى أنَّ التَّقوى هي أساسُ الخيرِ في الدُّنيا والآخرةِ، وكذلك الرَّحمة؛ فإنَّ في قَصصِ أهلِ الفضلِ دَلالةً على رحمةِ اللَّهِ لهم وعنايتِه بهم، وذلك رحمةٌ للمؤمنينَ؛ لأنَّهم باعتبارِهم بها يأتونَ ويذَرونَ، فتصلُحُ أحوالُهم، ويكونونَ في اطْمئنانِ بالٍ، وذلك رحمةٌ مِن اللَّهِ بهم في حياتِهم، وسببٌ لرحمتِه إيَّاهم في الآخرةِ، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] ). ((تفسير ابن عاشور)) (13/72، 73). .

الفوائد التربوية :

1- قولُ اللَّهِ تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ فيه التنبيهُ على الإخلاصِ؛ لأنَّ كثيرًا لو دعا إلى الحقِّ فهو يَدْعو إلى نفسِه [1221] يُنظر: ((كتاب التوحيد)) لمحمد بن عبد الوهاب (ص: 23).
2- قولُ اللَّهِ تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فيه دَلالةٌ على أنَّ أصحابَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ والمُؤمنينَ الَّذين آمَنوا به مأْمورونَ بأنْ يَدْعوا إلى الإيمانِ بما يَستطيعونَ [1222] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/65). ، وأنَّ الدعوةَ إلى الله طريقُ مَن اتَّبَع النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم [1223]  يُنظر: ((كتاب التوحيد)) لمحمد بن عبد الوهاب (ص: 23). .
3- قولُه تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي دلَّتِ الآيةُ على أنَّ مَن لَمْ يكُنْ على بَصيرةٍ فليس مِن أتْبَاعِ الرَّسولِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّ أتْباعَه هم أولو البَصائرِ [1224] يُنظر: ((رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه)) (ص: 23). .
4- قولُ اللَّهِ تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ يدلُّ على أنَّ الدُّعاءَ إلى اللَّهِ تعالى إنَّما يحسُنُ ويجوزُ مع هذا الشَّرطِ؛ وهو أنْ يكونَ على بصيرةٍ ممَّا يقولُ، وعلى هدًى ويقينٍ، فإنْ لم يكُنْ كذلك فهو محْضُ الغُرورِ [1225] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/520). .
5- قولُ اللَّهِ تعالى: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ فيه حَضٌّ على العمَلِ لِدارِ الآخِرةِ والاستعدادِ لها، واتِّقاءِ المُهلِكاتِ [1227] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/334). .
6- قال اللَّهُ تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَن تأَمَّلَ قِصَّةَ يوسُفَ ظهَرَ أنَّ في غرائبِها، وامتحانِ اللَّهِ فيها لقومٍ في مواضِعَ، ولُطْفِه لقومٍ في مواضِعَ، وإحسانِه لقومٍ في مواضِعَ: مُعتَبَرًا لِمَن له لُبٌّ وأجادَ النَّظرَ؛ حتَّى يعلَمَ أنَّ كلَّ أمْرٍ مِن عند اللَّهِ وإليه [1229] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/289). .
7- قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وقد قَصَّ اللَّهُ علينا في القرآنِ أخبارَ الأنبياءِ وما أصابَهم وما أصابَ أتباعَهم المؤمنينَ مِن الأذَى في اللَّه، ثُمَّ إنَّه تعالَى نَصَرهم، وجَعَل العاقبةَ لهم؛ لنعتبِرَ، ولِيتيقَّنَ المُرتابُ، ويتوبَ المُذْنِبُ، ويَقْوى إيمانُ المُؤمنينَ [1230] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/178)، (35/ 376). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ فيه أنَّ البصيرةَ مِن الفرائضِ، ووجهُ ذلك أنَّه لا بدَّ للداعيةِ مِن العلمِ بما يَدْعو إليه، والدعوةُ فريضةُ؛ فيكونُ العلمُ بذلك فريضةً [1231] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (ص: 139). .
2- يُشتَرَطُ في الآمِرِ بالمعروفِ أنْ يكونَ له عِلْمٌ يَعلَمُ به أنَّ ما يأْمُرُ به معروفٌ، وأنَّ ما يُنْهى عنه مُنْكَرٌ؛ لأنَّه إذا كان جاهلًا بذلك فقد يأْمُرُ بمُنْكَرٍ ويَنْهى عن معروفٍ؛ قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [1232] يُنظر: ((الحسبة)) لابن تيمية (ص: 91). .
3- في قولِه تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي بيانُ أنَّ مقصودَ الدَّعوةِ النَّبويَّةِ، بل المقصودَ بخَلْقِ الخَلْقِ، وإنزالِ الكُتُبِ، وإرسالِ الرُّسلِ: أنْ يكونَ الدِّينُ كلُّه للَّهِ، وهو دعوةُ الخلائقِ إلى خالقِهم [1233] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (2/464). .
4- قولُ اللَّهِ تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الآيةُ تدلُّ على أنَّ اللَّهَ ما بعَثَ رسولًا إلى الحقِّ مِن النِّسوانِ، وأيضًا لم يبعَثْ رسولًا مِن أهلِ الباديةِ [1234] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/521). .
5- قولُ اللَّهِ تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أي: الأماكنِ المَبْنِيَّةِ بالمَدَرِ والحجَرِ ونحوِه؛ لأنَّها مُتهيِّئةٌ للإقامةِ والاجتِماعِ، وانتيابِ أهلِ الفضائلِ، وذلك أجدَرُ بغَزارَةِ العقْلِ، وأصالةِ الرأْيِ، وحِدَّةِ الذِّهنِ، وتوليدِ المعارِفِ مِن البَوادي [1235] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/247). ، فالله تعالى لم يبعَثْ نبيًّا مِن أهلِ الباديةِ؛ لغَلَبَةِ الجَفاءِ والقَسوةِ على أهلِ البَدْوِ، ولأنَّ أهلَ الأمصارِ أعقَلُ وأحلَمُ وأفضَلُ وأعلَمُ [1236] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/509)، ((تفسير القرطبي)) (9/274). .
6- قولُ اللهِ تعالى: أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فيه التَّذكيرُ باستواءِ أحوالِ الرُّسلِ عليهمُ السَّلامُ وما لَقَوه مِن أقوامِهم؛ فهو وعيدٌ باستواءِ العاقِبةِ للفريقينِ [1237] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/67). .
7- ذكَرَ اللَّهُ تعالى في أوَّلِ السُّورةِ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، ثمَّ ذكَرَ في آخِرِها: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ؛ تَنبيهًا على أنَّ حُسْنَ هذه القِصَّةِ إنَّما كان بسبَبِ أنَّه يحصُلُ منها العِبرةُ، ومعرِفةُ الحِكمةِ والقُدرةِ [1238] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/522). .
8- ذكَرَ اللَّهُ سُبحانَه فِي غيرِ مَوضِعٍ مِن كِتابِه أنَّ الرَّحمةَ تَحصُلُ بالقُرآنِ، ومِن ذلك قولُه تعالى: وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [1239] يُنظر: ((الاستقامة)) لابن تيمية (1/396). .

بلاغة الآيات :

1- قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
- قولُه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ استِئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للانتقالِ مِن الاعتبارِ بدَلالةِ نُزولِ هذه القِصَّةِ للنَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم الأُمِّيِّ على صِدْقِ نُبوَّتِه وصِدْقِه فيما جاءَ به مِن التَّوحيدِ، إلى الاعتبارِ بجَميعِ ما جاء به مِن هذِه الشَّريعةِ عنِ اللَّهِ تعالى، وهو المُعَبَّرُ عنه بالسَّبيلِ [1240] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/64، 65). .
- قولُه: هَذِهِ سَبِيلِي فيه الإشارةُ إلى الشَّريعةِ بتَنْزيلِ المعقولِ مَنْزلةَ المحسوسِ؛ لبُلوغِه مِن الوضوحِ للعُقولِ حدًّا لا يَخفَى فيه إلَّا عمَّن لا يُعَدُّ مُدْرِكًا [1241] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/65). .
- قولُه: أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي الضَّميرُ الظَّاهِرُ أَنَا تأْكيدٌ للضَّميرِ المُستَتِرِ في أَدْعُو [1242] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/508). .
- وجُملةُ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بمنزِلةِ التَّذييلِ لِمَا قبلَها؛ لأنَّها تعُمُّ ما تضمَّنتْه [1243] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/66). .
2- قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ
- قولُه: أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الاستفهامُ إنكاريٌّ للتَّوبيخِ والتَّقْريعِ؛ فإنَّ مَجْموعَ المُتَحَدَّثِ عنهم سارُوا في الأرضِ فرَأَوْا عاقِبةَ المُكَذِّبينَ، كعادٍ وثمودَ [1244] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/334)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/68). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنَةٌ، حيث قال هنا في سُورةِ (يوسُفَ): أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وكذلك في سُورةِ (الحجِّ)، وفي آخِرِ سُورةِ (غافرٍ)، وسُورةِ (مُحمَّد) بالفاءِ أَفَلَمْ، بَينَما قال في (الرُّومِ): أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الروم: 9، وكذلك في سُورةِ (فاطرٍ)، وأوَّلِ (غافرٍ) بالواوِ أَوَلَمْ؛ فتَكرَّرَ هذا في عِدَّةِ مواضِعَ؛ منها ما ورَدَ فيه بعدَ همزةِ التَّقريرِ وفاءِ التَّعقيبِ، ومنها ما ورَدَ بواوِ العطفِ؛ فأمَّا تقْديمُ الهمزةِ قَبلها فلأنَّ لها الصَّدارةَ في الكلامِ، ولَمَّا جَرَتْ في هذه الآياتِ مِن تَخْصيصِ بَعضِ هذه المواضعِ بالفاءِ المُقْتَضيةِ مع التَّشريكِ التَّرتيبَ والتَّعقيبَ، وبعضِها بالواوِ المُقْتَضيةِ مُجَرَّدَ التَّشريكِ والجَمْعِ؛ فخُصِّصَ كلُّ واحدٍ مِن هذه المواضِعِ بما اخْتُصَّ به في عَطْفِه على ما قبله؛ فمِن الوارِدِ بالفاءِ آيةُ (يوسُفَ) المَذْكورةُ آنفًا، وفي سورةِ (الحجِّ): أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا الحج: 46، وفي آخِرِ سورةِ (غافرٍ): أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ غافر: 82، وفي سورةِ (محمَّدٍ): أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا محمد: 10؛ فهذه أربعُ آياتٍ ممَّا ورَدَ بالفاءِ. ومِن الوارِدِ بالواوِ قولُه في سورةِ (الرُّومِ): أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا الروم: 9، وفي سورةِ (فاطرٍ): أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً فاطر: 44، وفي سورةِ (غافرٍ): أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ غافر: 21، فهذه ثلاثُ آياتٍ، ووجْهُ ذلك:
 أنَّ ما في الثَّلاثةِ الأُوَلِ تقدَّمَه التَّعبيرُ في الإنكارِ بالفاءِ في قولِه هنا: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ يوسف: 107، وفي الحجِّ: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا الحج: 45، وفي آخِرِ (غافر)ٍ: فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ غافر: 81. وأمَّا في الثَّلاثةِ الأخيرةِ؛ تَقدَّمَه التَّعبيرُ بالواوِ في قولِه في (الرُّومِ): أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ الروم: 8، وفي (فاطرٍ): أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ فاطر: 37، وفي أوَّلِ (غافرٍ): وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ غافر: 18، وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ غافر: 19، وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ [1245] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 284، 285). غافر: 20، وقيل غير ذلك [1246] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 150)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/269، 271). .
- وجُملةُ: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ تعريضٌ بسلامَةِ عاقِبةِ المُتَّقينَ في الدَّنيا، وتعريضٌ أيضًا بأنَّ دارَ الآخرةِ أشدُّ أيضًا على الَّذين مِن قَبلِهم مِن العاقِبةِ الَّتي كانتْ في الدُّنيا؛ فحصَلَ إيجازٌ بحذْفِ جُملتينِ [1247] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/68). .
- وأيضًا في قولِه تعالى: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ مُناسَبةٌ حَسَنَةٌ، حيثُ قال تعالى في سورةِ (الأعرافِ): وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ الأعراف: 169، فقال في سورةِ (الأعرافِ): وَالدَّارُ الْآخِرَةُ فوصَفَ الدَّارَ بالآخِرةِ، وفي الآيةِ الَّتي في سُورةِ (يوسُفَ) أضافَ الدَّارَ إلى الآخِرةِ؛ ووجه ذلك: أنْ قَبلَه في سُورةِ (الأعرافِ): فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى الأعراف: 169، فقولُه: هَذَا الْأَدْنَى إنَّما يعني هذا المَنْزِلَ الأَدْنى، وهو والدَّارُ الدُّنيا بمعنًى واحدٍ؛ فلَمَّا جعَلَ الأَدْنى وصْفًا للمَنْزِلِ ذكَرَ الدَّارَ الآخِرةَ بعدَه، فجعَلَ الدَّارَ مَوصوفَةً والآخِرةَ صِفَةً لها، وكلٌّ يُؤَدِّي معنًى واحدًا، إلَّا أنَّه يَختصُّ ببَعضِ اللَّفظِ دون بعضٍ؛ لمُشاكَلَةِ ما قَبْلَه ومُوافَقَتِه له. وأمَّا قولُه: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ في (يوسُفَ) فإنَّ قبلَه: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً يوسف: 107، والسَّاعةُ هي السَّاعةُ الآخِرةُ، وهي القيامةُ؛ فلَمَّا ذُكِرَت الدَّارُ أُضيفَتْ إليها، فكأنَّه قال: ولَدارُ السَّاعةِ الآخِرةِ خيرٌ؛ فتقدَّمَ كُلَّ آيةٍ ما كان المَذْكورُ بعدَه ألْيقَ به [1248] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/808، 809)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 150). .
- وأيضًا من المُناسَبةِ الحَسَنةِ قولُه هنا في سُورةِ (يُوسُفَ): خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا بَينما قال في (الأعرافِ): خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الأعراف: 169؛ ووجهُ هذا الاختلافِ: أنَّه في سُورةِ (يوسف) دُعِيَ القومُ إلى الاعتبارِ بأحوالِ الأُمَمِ الَّذين أُهْلِكوا في أزْمِنةِ أنبيائِهم بالنَّظَرِ إلى مَنازِلِهم وهي خاويةٌ على عُروشِها؛ ليعْلَموا أنَّ الدَّارَ الآخِرةَ خيرٌ لِمَن اتَّقى منهم. وأمَّا قولُه في سورةِ (الأعرافِ) فهو تَرْهيبٌ لليهودِ الَّذين في عَصْرِ النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم، وارتشائهم على كِتْمانِ أمْرِه، وتَرغيبٌ لهم فيما عِندَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ إذا صدَّقوا ما في كتابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، والتَّرغيبُ والتَّرهيبُ لا يَتعلَّقانِ إلَّا بالآنِفِ المُستقبَلِ؛ فلذلك قال: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [1249] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/810). الأعراف: 169.
- ومِن المُناسَبةِ الحَسَنةِ كذلك: إدخالُ اللَّامِ على (دار الآخِرةِ) في سورةِ (يُوسفَ)، وإخلاؤها منها في سُورةِ (الأعرافِ) في قولِه: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ الأعراف: 169؛ ووجهُ ذلك: أنَّ قولَه: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ يوسف: 109 جاء بعد قولِه: فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يوسف: 109، ومعناه: فيَعْلَموا كيف كان حالُ مَن قَبلَهم، وأنَّ الدَّارَ الآخرةَ خيرٌ لهم؛ فاللَّامُ هي الَّتي تَدخُلُ على المُبتدَأِ فتُعَلِّقُ الفِعْلَ، والفِعْلُ هو: فيَعْلَموا الدَّارُ خيرٌ، كما تقول: علِمْتُ لَزَيدٌ أفضلُ مِن عمرٍو. وأمَّا قولُه: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ الأعراف: 169 في سورةِ (الأعرافِ) فلم يَتقدَّمْه اللَّامُ، بل قولُه: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ الأعراف: 169 مِن غيرِ أنْ يَتقدَّمَه ما يَجْري مَجْرى التَّوكيدِ والقَسَمِ الَّذي يُتَلَقَّى باللَّامِ [1250] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/810، 811). .
3- قوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ حَتَّى مُتَعَلِّقةٌ بمَحذوفٍ دلَّ عليه الكلامُ؛ لأنَّ (حتَّى) غايةٌ لِما قبلَها، وليس في اللَّفظِ ما يكونُ له غايةٌ؛ فاحْتِيجَ إلى تَقْديرٍ؛ فكأنَّه قيل: (وما أرسَلْنا مِن قَبلِك إلَّا رجالًا، فتَراخى نصْرُهم، حتَّى استَيْئَسوا عنِ النَّصْرِ وظنُّوا أنَّهم قد كُذبوا)؛ فآذَنَ حرْفُ الغايةِ (حتَّى) بمعنًى مَحذوفٍ دلَّ عليه جُملةُ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا بما قُصِدَ بها مِن معنى قَصْدِ الأُسوةِ بسَلَفِه مِن الرُّسلِ عليهم السَّلامُ، أي: فدامَ تكْذيبُهم وإعراضُهم، وتأخَّرَ تَحقيقُ ما أنْذَروهم به مِن العذابِ، حتَّى اطمأنوا بالسَّلامةِ وسَخِروا بالرُّسلِ، وأَيِسَ الرُّسلُ عليهم السَّلامُ مِن إيمانِ قومِهم. والمعنى: أنَّ مُدَّةَ التَّكذيبِ والعَداوةِ مِن الكفَّارِ، وانتِظارِ النَّصرِ مِن اللَّهِ، وتأْميلِه قد تطاوَلَتْ عليهم وتمادَتْ، حتَّى استَشْعَروا القُنوطَ، وتَوهَّموا أنْ لا نَصْرَ لهم في الدُّنيا، فجاءَهم نصْرُنا فجأَةً مِن غيرِ احتِسابٍ [1251] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/510)، ((تفسير البيضاوي)) (3/179)، ((تفسير أبي حيان)) (6/334)، ((تفسير أبي السعود)) (4/310)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/69). .
- قولُه: اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ اسْتَيْئَسَ مُبالغةٌ في (يَئِسَ)، والتَّعريفُ في الرُّسُلُ عليهم السَّلامُ تَعريفُ العَهْدِ الذِّكْريِّ، وهو مِن الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ؛ لإعطاءِ الكَلامِ استقلالًا بالدَّلالةِ؛ اهتمامًا بالجُملةِ [1252] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/69). .
- قولُه: فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ الجَمْعُ بين الماضي (نُجِّيَ) والمُضارِعِ (نَشَاءُ) احتِباكٌ، تقديرُه: فنُجِّيَ مَن شِئْنا ممَّن نَجَا في القُرونِ السَّالفةِ، ونُنَجِّي مَن نَشاءُ في المُستقبَلِ [1253] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/70). .
4- قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيه مِن مَحاسِنِ البَلاغةِ: ردُّ العَجُزِ على الصَّدْرِ؛ فهذه الآيةُ مُرتبِطةٌ بجُملةِ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ يوسف: 102، وهي تتنزَّلُ منها مَنْزِلةَ البَيانِ لِما تَضمَّنَه معنى الإشارةِ في قولِه: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ مِن التَّعجُّبِ، وما تَضمَّنَه معنى: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ مِن الاستِدلالِ على أنَّه وَحيٌ مِن اللَّهِ مع دَلالةِ الأُمِّيَّةِ، وهي أيضًا تَتنزَّلُ مَنزِلةِ التَّذييلِ للجُمَلِ المُسْتَطْرَدِ بها؛ لقصْدِ الاعتِبارِ بالقِصَّةِ ابتداءً مِن قولِه: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ يوسف: 103؛ فلها مواقعُ ثلاثةٌ عَجيبةٌ مِن النَّظْمِ المُعْجِزِ [1254] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/71). .
- وقولُه: لَقَدْ كَانَ... فيه تأكيدُ الجُملةِ بـ (قد) واللَّامِ؛ للتَّحقيقِ [1255] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/71). .
- قولُه: عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ فيه تَخصيصُ أُولي الألبابِ بالذِّكْرِ؛ لأنَّهم هم الَّذين ينتَفِعون بالعِبَرِ، وكذلك في قولِه: وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خُصَّ المُؤمنون بذلك؛ لأنَّهم هم الَّذين ينتَفِعون بذلك [1256] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/337، 338). .
- وقولُه: عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ فيه ما يُعرَفُ باختِلافِ صيغةِ اللَّفظةِ؛ وهو نقلُها مِن هيئةٍ إلى هيئةٍ- كنقْلِها مِن وزْنٍ إلى وزْنٍ آخَرَ، أو نقْلِها مِن صِيغةِ الاسمِ إلى صيغةِ الفِعْلِ، أو بالعكس، أو كنقْلِها مِن الماضي إلى المُستقبَلِ، أو بالعكس، أو مِن الواحدِ إلى التَّثْنيةِ أو الجَمْعِ، إلى غير ذلك- وقولُه تعالى: لِأُولِي الْأَلْبَابِ مثالٌ للنَّقْلِ مِن الإفرادِ إلى التَّثْنيةِ والجَمْعِ؛ وذلك أنَّ لفظةَ (اللُّبِّ) الَّذي هو العَقْلُ لا لفظةُ (اللُّبِّ) الَّذي تَحتَ القِشْرِ؛ فإنَّها لا تَحْسُنُ في الاستِعمالِ إلَّا مجموعةً (الألْباب)، وكذلك ورَدَتْ هنا وفي أكثرِ مِن مَوضعٍ مِن القُرآنِ الكريمِ [1257] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/73). .
- وفي سُورةِ (يوسُفَ) نَفْحَةٌ مِنَ القَصصِ الرَّائعِ الَّذي استَوْفى شَرائطَ القِصَّةِ، وقدِ امتازَتْ هذه القِصَّةُ- على تَسَلْسُلِ حَوادِثِها، وكثرةِ فُنونِها، وتَنَوُّعِ فُصولِها- بالإيجازِ؛ الطَّويلِ منه والقَصيرِ، كما جاءتْ قَصَصُ القُرآنِ كلُّها، وأحسنُ ما جاء منها في هذا البابِ قِصَّةُ يوسُفَ عليه السَّلام؛ فإنَّها جاءتْ على الطَّريقَتَينِ في سُورةٍ واحدةٍ مِن قولِه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ إلى قوله: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا، وجاءتْ على الطَّريقَةِ المُخْتصرَةِ في قولِه على لِسانِ يوسُفَ: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي؛ فذكَرَ تعالى القِصَّةَ أوَّلًا على طَريقِ البَسْطِ مُفصَّلةً لِمَن لم يُشارِكْ في طَريقِ عِلْمِها، وذكَرَها تعالى أخيرًا مُخْتصَرةً؛ لِيعْلَمَها مُفَصَّلَةً مَن لَم يكُنْ يَعْلَمُها، حتَّى إذا جاءتْ مُجْمَلَةً عَلِمَ الإشاراتِ فيها، وابتدَأَها بقولِه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، ثم أنْهاها بقولِه: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ؛ ووجْهُ الاعتبارِ بقَصَصِهم هو: أنَّ هذه القَصَصَ إنَّما سُجِّلَتْ لِحُصولِ العِبْرةِ منها، ومَعْرفةِ الحِكْمةِ والمَغْزى [1258] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/70، 71). .