موسوعة التفسير

سورةُ الفُرقانِ
الآيات (7-10)

ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ

غريب الكلمات:

كَنْزٌ: أي: مالٌ عظيمٌ، وهو في الأصلِ: المالُ المَدْفونُ تحتَ الأرضِ، والكَنْزُ: جعْلُ المالِ بعضِه على بعضٍ، وحِفظُه، وأصلُ (كنز): يدُلُّ على تجَمُّعٍ في الشَّيءِ [142] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/141)، ((المفردات)) للراغب (ص: 727)، ((النهاية)) لابن الأثير (4/203). .
جَنَّةٌ: أي: بُستانٌ، وكُلُّ بُستانٍ ذي شَجَرٍ يستُرُ بأشجارِه الأرضَ يقالُ له: جنَّةٌ. وأصلُ (جنن): يدُلُّ على السَّترِ [143] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/421)، ((البسيط)) للواحدي (16/412)، ((المفردات)) للراغب (ص: 204). .
الْأَمْثَالَ: أي: الأشباهَ، وأصلُ (مثل): يدُلُّ على مُناظرةِ الشَّيءِ للشَّيءِ [144] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/404)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/296)، ((الوجيز)) للواحدي (ص 637)، ((تفسير الخازن)) (3/132). .

المعنى الإجمالي:

يَذكرُ الله تعالى شبهةً ثالثةً مِن شُبَهِ المشركينَ، فيقولُ تعالى: وقال كُفَّارُ قُرَيشٍ: ما لمحمَّدٍ يأكُلُ الطَّعامَ ويمشي في الأسواقِ للتكسُّبِ -معَ أنَّه رَسولٌ-؟! هلَّا أنزَلَ اللهُ إليه مَلَكًا مِن السَّماءِ يَشهَدُ له بالصِّدقِ، ويُنذِرُ معه النَّاسَ إن كان صادِقًا، أو يُلقَى إليه كَنزٌ مِن المالِ يُنفِقُ منه، ويُكفى به طلَبَ الرِّزقِ، أو يكونُ له بُستانٌ يأكُلُ مِن ثمارِه! وقال هؤلاء المُشرِكون: ما تتَّبِعون إلَّا رجلًا به سِحرٌ، وليس هو برَسولٍ.
ثمَّ يقولُ تعالى مهوِّنًا مِن شأنِهم، ومسلِّيًا لرسولِه: انظرْ -يا محمَّدُ- كيف جعَل هؤلاء المُشرِكون لك الأوصافَ الكاذِبةَ الباطِلةَ، فضَلُّوا بذلك عن الصَّوابِ، فلا يَستطيعون إلى ذلك طَريقًا!
 تعاظَمَ اللهُ، وكَمَلَت أوصافُه، وكثُرتْ خَيراتُه، ودامتْ بركاتُه؛ فهو الذي إن شاء جعَلَ لك -يا محمَّدُ- خيرًا ممَّا يقولُ المُشرِكون؛ بساتينَ تجري مِن تحتِ أشجارِها الأنهارُ، ويجعَلْ لك بُيوتًا عظيمةً في الدُّنيا.

تفسير الآيات:

وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا فَرَغ سُبحانَه مِن ذِكرِ ما طَعَنوا به على القُرآنِ؛ ذَكَر ما طَعَنوا به على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال تعالى [145] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/73). :
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ.
أي: وقال كُفَّارُ قُرَيشٍ: ما لمحمَّدٍ -الذي يزعُمُ أنَّه رَسولٌ مِن اللهِ- يأكُلُ الطَّعامَ كما نأكُلُ، ويمشي في الأسواقِ للتكسُّبِ والتجارةِ كما نمشي [146] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/403)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (3/897)، ((تفسير ابن كثير)) (6/95)، ((تفسير السعدي)) (ص: 578)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/327)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/17). قال العليمي: (وكُتِبت اللامُ في المصحفِ مفرَدةً مِن قولِه: ﮓ ﮔ، واتِّباعُه سُنَّةٌ). ((تفسير العليمي)) (5/8). ؟!
لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا.
أي: هلَّا أنزَلَ اللهُ إلى محمَّدٍ مَلَكًا مِن الملائكةِ، يَشهَدُ له بالصِّدقِ، ويُعينُه على إنذارِ النَّاسِ وتبليغِ رسالتِه، إن كان صادِقًا في دعواه أنَّه رَسولٌ مِن عندِ اللهِ [147] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/403)، ((تفسير ابن كثير)) (6/95)، ((تفسير السعدي)) (ص: 578)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/19، 20). !
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا.
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ.
أي: أو يُلقَى إلى محمَّدٍ كَنزٌ مِن المالِ يُنفِقُ منه فيُغنيه عن طَلَبِ المعاشِ [148] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/403)، ((تفسير الزمخشري)) (3/265)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (3/897)، ((تفسير السعدي)) (ص: 578)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/20). .
كما قال تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ [هود: 12] .
وقال تعالى حكايةً لِقَولِ فِرعَونَ عن موسى عليه السَّلامُ: فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف: 53] .
أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ نَأْكُلُ بالنونِ، أي: أو تكونُ له جَنَّةٌ يُطعِمُنا منها، فنتيقَّنُ أنَّ ثَمَرَها حقيقةٌ لا سِحرٌ [149] قرأ بها حمزة، والكسائي، وخلف. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/333). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/213)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/328). قال البقاعي: (وعلى قراءةِ حمزةَ والكسائيِّ بالنونِ يكونُ المعنى: أنَّا إذا أمكنَّا منها، كان ذلك أجلَبَ لنا إلى اتِّباعِه). ((نظم الدرر)) (13/345). وقال ابنُ عاشورٍ: (قرأ حمزةُ والكسائيُّ وخلَفٌ: (نأكُلُ منها) بنونِ الجماعةِ. والمعنى: ليتيقَّنوا أنَّ ثمرَها حقيقةٌ لا سِحرٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (18/328). .
2- قراءةُ يَأْكُلُ بالياءِ، أي: يختَصُّ الرَّسولُ بالأكلِ مِن الجنَّةِ، فيَبينُ فَضلُه على غيرِه في مأكَلِه [150] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/333). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/213)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (5/335). .
أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا.
أي: أو يكونُ لمحمَّدٍ بُستانٌ يأكُلُ مِن ثمارِه، فيستغني بذلك عن طَلبِ الرِّزقِ [151] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/403)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (3/313)، ((تفسير السعدي)) (ص: 578)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/20). قال الزمخشري: (يَعْنُونَ أنَّه كان يجِبُ أن يكونَ مَلَكًا مستغنيًا عن الأكلِ والتعَيُّشِ، ثمَّ نزَلوا عن اقتراحِهم أن يكونَ مَلَكًا إلى اقتراحِ أن يكونَ إنسانًا معه ملَكٌ؛ حتى يَتسانَدَا في الإنذارِ والتَّخويفِ، ثمَّ نزَلوا أيضًا فقالوا: وإن لم يكُنْ مَرْفودًا بملَكٍ فلْيَكُنْ مَرفودًا بكَنزٍ يُلقى إليه من السَّماءِ يَستظهِرُ به، ولا يحتاجُ إلى تحصيلِ المعاشِ، ثمَّ نزلوا فاقتنعوا بأن يكونَ رجُلًا له بستانٌ يأكُلُ منه ويرتَزِقُ كما الدَّهاقينِ والمياسيرِ، أو يأكلون هُم مِن ذلك البُستانِ فينتَفِعون به في دنياهم ومعاشِهم). ((تفسير الزمخشري)) (3/265). .
كما قال تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا [الإسراء: 90، 91].
وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا.
أي: وقال المُشرِكون: ما تتَّبِعون [152] قيل: الخطابُ هنا للمؤمنينَ. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، وابن أبي زمنين، والواحدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/404)، ((تفسير السمرقندي)) (2/530)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/24)، ((الوسيط)) للواحدي (3/335). قال ابنُ جرير: (وقال المشركون للمؤمنينَ بالله ورسولِه: إِنْ تَتَّبِعُونَ أيُّها القومُ، باتِّباعِكم محمَّدًا). ((تفسير ابن جرير)) (17/404). وقيل: الخطابُ لِقَومِهم المشركين، فقال ذلك بعضُهم لبعضٍ. ومِمَّن قال بذلك في الجملةِ: مكِّيٌّ، والبِقَاعيُّ. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5179)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/346). إلَّا رجُلًا مِن البَشَرِ به سِحرٌ، وليس رسولًا مِن عندِ اللهِ كما يزعُمُ، فهو رجلٌ مَخدوعٌ مَغلوبٌ على أمرِه، ومختَلُّ العَقلِ بالسِّحرِ [153] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/404)، ((تفسير السعدي)) (ص: 578)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/329)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/21)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 50). .
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا.
أي: انظُرْ -يا محمَّدُ- إلى هؤلاء المُشرِكين كيف يجعَلونَ لك هذه الأوصافَ، ويقولون فيك هذه الأقوالَ الباطلةَ المُتناقِضةَ، فأخطَؤوا بذلك الحَقَّ والصوابَ، فلا يَستطيعون إليه طَريقًا [154] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/404)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/226)، ((تفسير ابن كثير)) (6/95)، ((تفسير السعدي)) (ص: 579)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/22)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 53، 54). قال البِقاعي: (فَضَلُّوا أي: عن جميعِ طرُقِ العَدلِ، وسائِرِ أنحاءِ البيانِ بسبَبِ ذلك، فلم يجِدوا قولًا يستقِرُّون عليه، وأبعدوا جِدًّا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ في الحالِ ولا في المآلِ؛ بسببِ هذا الضَّلالِ سَبِيلًا أي: سُلوكَ سَبيلٍ مِن السُّبُلِ الموصِلةِ إلى ما يستحِقُّ أن يُقصَدَ، بل هم في مجاهِلَ مُوحِشةٍ، وفيافيَ مُهلِكةٍ). ((نظم الدرر)) (13/347). وقال الشنقيطي: (وقَولُه تعالى: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فيه أقوالٌ كثيرةٌ مُتقارِبةٌ، وأظهَرُها أنَّ معنى فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا، أي: طريقًا إلى الحَقِّ والصَّوابِ). ((أضواء البيان)) (6/22). !
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
ابتُدِئت السورةُ بتعظيمِ اللهِ وثَنائِه على أنْ أنزَل الفُرقانَ على رسولِه، وأعقَبَ ذلك بما تلقَّى به المشرِكون هذه المزيَّةَ مِن الجُحودِ والإنكارِ النَّاشئِ عن تمسُّكِهم بما اتَّخَذوه مِن آلهةٍ مِن صِفاتِهم ما يُنافي الإلهيَّةَ، ثمَّ طعنوا في القُرآنِ والذي جاء به بما هو كُفرانٌ للنِّعمةِ ومَن جاء بها، فلَمَّا أُريدَ الإعراضُ عن باطلِهم، والإقبالُ على خِطابِ الرَّسولِ بتَثبيتِه وتثبيتِ المؤمنين؛ أُعِيدَ اللَّفظُ الذي ابتُدِئتْ به السورةُ على طريقةِ وصْلِ الكَلامِ، بقَولِه تعالى [155] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/330). :
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: تعاظَمَ الله وكَمَلَت أوصافه وكثُرتْ خيراته ودامتْ وثبتتْ بَرَكاتُه؛ فهو الَّذي إن شاء جعَلَ لك -يا محمَّدُ- خيرًا مِمَّا اقتَرَحه المشركونَ؛ بساتينَ عديدةً في الدُّنيا [156] وممَّن نصَّ على أنَّ المرادَ وُقوعُ ذلك في الدُّنيا: الواحديُّ، وابنُ كثير، والبقاعي، والعليمي، والشوكاني، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (16/416)، ((تفسير ابن كثير)) (6/95)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/348)، ((تفسير العليمي)) (5/9)، ((تفسير الشوكاني)) (4/74)، ((تفسير السعدي)) (ص: 579)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 58). ونسَبه ابنُ عاشورٍ للجمهورِ، ثمَّ قال: (وعلى هذا التأويلِ تكونُ «إن» الشَّرطيةُ واقعةً موقعَ «لو»، أي: إنَّه لم يَشَأْ، ولو شاءه لفعَلَه، ولكِنَّ الحكمةَ اقتضت عدَمَ البَسطِ للرَّسولِ في هذه الدُّنيا، ولكنَّ المشركين لا يدركون المطالِبَ العاليةَ. وقال ابنُ عطيةَ: يحتمِلُ أن يكونَ المرادُ بالجنَّاتِ والقصورِ ليست التي في الدُّنيا، أي: هي جناتُ الخُلدِ وقصورُ الجنَّةِ؛ فيكونَ وعدًا مِن الله لرسولِه). ((تفسير ابن عاشور)) (18/330، 331). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/201). ومِمَّن اختار أنَّها في الآخرةِ: السمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/530).
تجري مِن تحتِ أشجارِها الأنهارُ [157] يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/471)، ((تفسير ابن جرير)) (17/405 - 407)، ((تفسير السمعاني)) (4/8)، ((تفسير الشوكاني)) (4/74)، ((تفسير السعدي)) (ص: 579). قال السمعانيُّ: (بساتينَ تجري مِن تحتِ أشجارِها الأنهارُ). ((تفسير السمعاني)) (4/8). وقال البقاعي: (جَنَّاتٍ فضلًا عن جَنَّةٍ واحدةٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أي: تكونُ أرضُها عُيونًا نابعةً، أيُّ موضعٍ أُريدَ منه إجراءُ نهرٍ جرى، فهي لا تزال رَيَّا تُغْني صاحِبَها عن كلِّ حاجةٍ، ولا تُحوِجُه في استِثمارِها إلى سقيٍ). ((نظم الدرر)) (13/347). .
وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءة وَيَجْعَلُ بالرفعِ على الاستِئنافِ، وفيه معنى الحَتمِ، أي: وسيجعَلُ اللهُ لك -يا محمَّدُ- قُصورًا في الجنَّةِ [158] قرأ بها ابنُ كثير، وابنُ عامر، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/333). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القرآن)) للزجاج (4/59)، ((الكشف)) لمكي (2/144). .
2- قراءة وَيَجْعَلْ بالجَزمِ؛ عَطفًا على موضِعِ جَعَلَ أي: إن يَشَأِ اللهُ يجعَلْ لك -يا محمَّدُ- جَناتٍ، ويجعَلْ لك قُصورًا في الدُّنيا [159] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/333). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القرآن)) للزجاج (4/59)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 508). .
وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا.
أي: وإن شاء اللهُ جعَلَ لك -يا محمَّدُ- بيوتًا مُشَيَّدةً عَظيمةً واسِعةً في الدُّنيا [160] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/407)، ((الوسيط)) للواحدي (3/335)، ((تفسير ابن كثير)) (6/95)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/348)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/331). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ إباحةُ دخولِ الأسواقِ للعُلماءِ وأهلِ الدِّينِ والصَّلاحِ، خلافًا لِمَن كرِهَها لهم [161] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 197). .
2- قال تعالى حِكايةً عن المُشرِكينَ: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ، ومُرادُهم فاسِدٌ مِن وَجهَينِ:
أحَدُهما: أنَّه ليس يُوجِبُ اختِصاصُه بالمَنزِلةِ نَقْلَه عن مَوضِعِ الخِلْقةِ؛ لأمرَينِ: أحَدُهما: أنَّ كُلَّ جِنسٍ قد يَتفاضَلُ أهلُه في المَنزِلةِ، ولا يَقتَضي تمييزَهم في الخِلْقةِ، كذلك حالُ مَن فُضِّلَ في الرِّسالةِ. الثَّاني: أنَّه لو نُقِلَ عن مَوضوعِ الخِلْقةِ بتَمييزِه بالرِّسالةِ لصار مِن غَيرِ جِنسِهم، ولَمَا كان رسولًا منهم، وذلك مِمَّا تَنفِرُ منه النُّفوسُ.
وأمَّا الوَجهُ الثَّاني: فهو أنَّ الرِّسالةَ لا تَقتَضي مَنْعَه مِنَ المَشْيِ في الأسواقِ؛ لأمرَينِ:
أحَدُهما: أنَّ هذا مِن أفعالِ الجَبابِرةِ، وقد صان اللهُ رَسولَه عن التجَبُّرِ.
الثَّاني: لحاجتِه لدُعاءِ أهلِ الأسواقِ إلى نبُوَّتِه، ومُشاهدةِ ما هم عليه مِن مُنكَرٍ يَمنَعُ منه، ومَعروفٍ يُقِرُّ عليه [162] يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (4/133). .
3- قال تعالى حِكايةً عن المُشرِكينَ قَولَهم: أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ العَجَبُ لجَهلِهم حين أرادوا أن يُلقَى إليه كَنزٌ، أو تكونَ له جَنَّةٌ، ولو فَهِموا عَلِموا أنَّ كُلَّ الكُنوزِ له، وجَميعَ الدُّنيا مِلكُه! أَوَليس قد قَهَر أربابَ الكُنوزِ، وحَكَم في جميعِ المُلوكِ؟! وكان مِن تمامِ مُعجزتِه أنَّ الأموالَ لم تُفتَحْ عليه في زَمَنِه؛ لئَلَّا يَقولَ قائِلٌ: قد جَرَت العادةُ بأنَّ إقامةَ الدُّوَلِ وقَهْرَ الأعداءِ بكَثرةِ الأموالِ! فتَمَّت المُعجِزةُ بالغَلَبةِ والقَهرِ مِن غَيرِ مالٍ، ولا كَثرةِ أعوانٍ، ثمَّ فُتِحَت الدُّنيا على أصحابِه، ففَرَّقوا ما جَمَعه الملوكُ بالشَّرَهِ، فأخرَجوه فيما خُلِقَ له، ولم يُمسِكوه إمساكَ الكافِرينَ؛ لِيُعَلِّموا النَّاسَ بإخراجِ ذلك المالِ: أنَّ لنا دارًا سِوى هذه، ومَقَرًّا غَيرَ هذا [163] الفائِدةُ لابنِ هُبَيرةَ، نقَلها عنه ابنُ الجوزي في ((المقتبس)). يُنظر: ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (2/146). !
4- في قَولِه تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا دَليلٌ على أنَّ الإنسانَ إذا أوردَ الشُّبُهاتِ على نفْسِه أو على مَن أتَى بالحقِّ؛ فإنه يكونُ سببًا لضَلالِه، إذا لم يَقبَلِ الإنسانُ الحقَّ، ويدَعْ ما يَرِدُ على خاطرِه مِن الشُّبُهاتِ حوْلَ ذلك الحقِّ؛ فإنه يكونُ سببًا لضَلالِه؛ ولهذا قال: فَضَلُّوا، الفاءُ عاطفةٌ، وتُفيدُ السَّببيَّةَ [164] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 54). .
5- قال تعالى: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا نَفيُ الاستِطاعةِ المذكورةِ هنا كقَولِه تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود: 20] ، وقَولِه تعالى: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا [الكهف: 101] [165] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/22) و (2/175). ، وهذه الاستِطاعةُ نَفْيُها إنَّما هو بحَسَبِ مَشيئةِ اللهِ مِن مُعاقَبةِ الإنسانِ على ذنْبٍ مِن ذُنوبهِ، وقد دَلَّتْ آياتٌ كثيرةٌ أنَّ اللهَ جلَّ وعلا يُسَبِّبُ للإنسانِ الضَّلالةَ بِسَبَبِ ارتكابِ الذُّنوبِ، كما يُسَبِّبُ له الهُدى بسَبَبِ الطَّاعاتِ؛ فالعَبدُ إذا سارَعَ إلى الكُفرِ، وتكذيبِ الرُّسُلِ، وإلى ما يُسْخِطُ اللهَ؛ عاقَبَه اللهُ بأنْ زادَه ضَلالًا فَوقَ ضَلالِه، وظَلامًا على ظَلامِه، وجاءه الطَّبعُ والخَتمُ على قَلْبِه، والغِشاوةُ على عَينِه؛ بسَبَبِ كُفرِه وبَغْيِه وتمَرُّدِه على اللهِ، ومِن هنالك يُعلَمُ أنَّ اللهَ يَجعَلُ الحَسَناتِ وطاعةَ اللهِ سَببًا لهُدى عَبْدِه، كما أنَّ السَّيِّئاتِ والمُبادرةَ إلى ما لا يُرضيه تكونُ سَبَبًا للرَّينِ على القُلوبِ والطَّبعِ عليها، كما قال تعالى: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14] ، وقال في الهُدى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى [محمد: 17] ، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69] ، وأمثالِ ذلك مِنَ الآياتِ [166] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/38). قال ابنُ تيميَّةَ: (الاستِطاعةُ نوعانِ: مُتقَدِّمةٌ صالِحةٌ للضِّدَّينِ، ومُقارِنةٌ لا تكونُ إلَّا مع الفِعلِ؛ فتلك هي المُصَحِّحةُ للفِعلِ المجَوِّزةُ له، وهذه هي المُوجِبةُ للفِعلِ المحَقِّقةُ له، قال الله تعالى في الأُولى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] ، ولو كانت هذه الاسِتطاعةُ لا تكونُ إلَّا مع الفِعلِ لَما وَجَب الحَجُّ إلَّا على مَن حَجَّ، ولَمَا عَصى أحَدٌ بتَركِ الحَجِّ، ولا كان الحَجُّ واجِبًا على أحدٍ قبْلَ الإحرامِ به، بل قبْلَ فَراغِه! وقال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] ، فأمَرَ بالتَّقوى بمِقدارِ الاستِطاعةِ، ولو أراد الاستِطاعةَ المُقارِنةَ لَمَا وَجَب على أحدٍ مِن التَّقوى إلَّا ما فَعَل فقط؛ إذ هو الذي قارنَتْه تلك الاستِطاعةُ... ونظائِرُ هذا مُتعَدِّدةٌ؛ فإنَّ كُلَّ أمرٍ عُلِّقَ في الكتابِ والسُّنَّةِ وُجوبُه بالاستطاعةِ، وعَدَمُه بعَدَمِها- لم يُرَدْ به المقارَنةُ، وإلَّا لَمَا كان اللهُ قد أوجَبَ الواجباتِ إلَّا على مَن فعَلَها، وقد أسقَطَها عمَّن لم يفعَلْها، فلا يأثَمُ أحدٌ بتَركِ الواجِبِ المذكورِ. وأمَّا «الاستِطاعةُ المُقارِنةُ المُوجِبةُ» فمِثلُ قَولِه تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود: 20]، وقَولِه: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا [الكهف: 101] ، فهذه الاستِطاعةُ هي المُقارِنةُ المُوجِبةُ؛ إذ الأُخرى لا بدَّ منها في التَّكليفِ؛ فالأُولى: هي الشَّرعيَّةُ التي هي مَناطُ الأمرِ والنَّهيِ، والثَّوابِ والعِقابِ، وعليها يَتكَلَّمُ الفُقَهاءُ، وهي الغالِبةُ في عُرفِ النَّاسِ. والثَّانيةُ: هي الكونيَّةُ التي هي مَناطُ القَضاءِ والقَدَرِ، وبها يتحَقَّقُ وُجودُ الفِعلِ؛ فالأُولى للكَلِماتِ الأَمْرِيَّاتِ الشَّرعيَّاتِ، والثَّانيةُ للكَلِماتِ الخَلْقِيَّاتِ الكَونيَّاتِ). ((مجموع الفتاوى)) (8/372). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا هذا انتِقالٌ مِن حِكايةِ مَطاعنِهم في القُرآنِ، وبَيانِ إبطالِها، إلى حِكايةِ مَطاعنِهم في الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والضَّميرُ في وَقَالُوا عائدٌ إلى الَّذين كَفَروا؛ فمدلولُ الصِّفةِ مُراعًى كما تقدَّمَ [167] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/203، 204)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/326). .
- قَولُه: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ ... (ما) استِفهاميَّةٌ بمعنى إنكارِ الوُقوعِ ونفْيِه، وهذا الاستِفهامُ استِفهامٌ تَعجُّبيٌّ مُستعمَلٌ في لازمِه، وهو بُطلانُ كَونِه رَسولًا؛ بِناءً على أنَّ التَّعجُّبَ مِن الدَّعوى يَقْتضي استحالتَها أو بُطلانَها. وتركيبُ مَالِ هَذَا ونحوِه يُفِيدُ الاستِفهامَ عن أمْرٍ ثابتٍ له؛ فمَثارُ الاستِفهامِ في هذِه الآيةِ هو ثُبوتُ حالِ أكْلِ الطَّعامِ والمشْيِ في الأسواقِ للَّذي يَدَّعي الرِّسالةَ مِن اللهِ. وفي قولِهم: (هذا) تَصغيرٌ لشأْنِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وتَسميَتُهم له صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رسولًا بطريقِ الاستهزاءِ به صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو أجْرَوا عليه وصْفَ الرِّسالةِ؛ مُجاراةً منهم لقولِه، وهم لا يُؤمِنون به [168] والقاعِدةُ: أنَّه قد يَرِدُ الخِطابُ بالشَّيءِ في القُرآنِ على اعتِقادِ المُخاطَبِ دُونَ ما في نفْسِ الأمرِ، وهو يَقَعُ في القُرآنِ على أنواعٍ مُتعَدِّدةٍ؛ منها: نوعٌ يَخرُجُ على اعتقادِ المُخاطَبِ سواءٌ وافَقَ الواقِعَ أم لا، إلَّا أنَّ المتكَلِّمَ لا يَعتَقِدُه. يُنظر: ((قواعد التفسير)) للسبت (1/284، 285). ، ولكنَّهم بنَوا عليه؛ لِيتأتَّى لهم التَّعجُّبُ، والمُرادُ منه الإحالةُ والإبطالُ [169] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/265)، ((تفسير البيضاوي)) (4/118)، ((تفسير أبي حيان)) (8/84)، ((تفسير أبي السعود)) (6/204)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/327). .
- قَولُه: يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ كَنَوْا بأكْلِ الطَّعامِ والمشْيِ في الأسواقِ عن مُماثَلةِ أحوالِه لأحوالِ النَّاسِ؛ تذَرُّعًا منهم إلى إبطالِ كَونِه رسولًا؛ لِزَعْمِهم أنَّ الرَّسولَ عن اللهِ تكونُ أحوالُه غيرَ مُماثِلةٍ لأحوالِ النَّاسِ، وخَصُّوا أكْلَ الطَّعامِ والمشْيَ في الأسواقِ؛ لأنَّهما مِن الأحوالِ المُشاهَدةِ المُتكرِّرةِ [170] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/327). . وفي قولِه: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ كِنايةٌ عن الحدَثِ؛ لأنَّه مُلازِمٌ أكْلَ الطَّعامِ. وفي وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ كِنايةٌ عن طلَبِ المعاشِ [171] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/265)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/672). .
- و(لولا) في قولِهم: لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ حَرفُ تَحضيضٍ مُستعمَلٌ في التَّعجُّبِ [172] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/327). .
- وفي قولِهم: فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا خصُّوا مِن أحوالِ الرَّسولِ حالَ النِّذارةِ؛ لأنَّها هي الَّتي أنبتَتْ حِقْدَهم عليه [173] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/327). .
2- قَولُه تعالى: أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا
- عبَّر بالإلقاءِ -وهو الرميُ- عن الإعطاءِ مِن عندِ اللهِ [174] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/328). .
- قَولُه: وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا فيه وَضْعُ الظَّاهرِ الظَّالِمُونَ مَوضِعَ المُضْمَرِ؛ لِيُسجِّلَ عليهم بالظُّلمِ، وتجاوُزِ الحدِّ فيما قالوهُ؛ لكونِه إضلالًا خارجًا عن حدِّ الضَّلالِ، مع ما فيه مِن نِسبَتِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المَسْحُوريَّةِ [175] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/265)، ((تفسير البيضاوي)) (4/118)، ((تفسير أبي حيان)) (8/84)، ((تفسير أبي السعود)) (6/204)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/672). ؛ فـ الظَّالِمُونَ هم المُشرِكون، فغيَّرَ عُنوانَهم الأوَّلَ إلى عنوانِ الظُّلمِ وهمْ همْ؛ تَنبيهًا على أنَّ في هذا القولِ اعتداءً على الرَّسولِ، بنَبْزِه بما هو بريءٌ منه، وهم يَعلمون أنَّه ليس كذلك؛ فظُلْمُهم له أشدُّ ظُلْمٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [176] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/329). . وأفاد الإظهارُ في مقامِ الإضمارِ هنا أيضًا: أنَّ هذا القَولُ ظُلْمٌ مِن أيِّ إنسانٍ وقَع؛ لأنَّه للتعليل، فهذا القولُ يعتبَرُ مِن الظلْمِ؛ فيكونُ الأمرُ شامِلًا، يعني: أنَّ كُلَّ مَن قال فهو ظالِمٌ. وأفاد أيضًا تنبيهَ المخاطَبِ؛ لأنَّ اختلافَ الكَلامِ أو اختِلافَ النَّسَقِ في الكلامِ يوجِبُ الانتباهَ [177] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 50) .
- وأسنَد القَولَ إلى جميعِ الظَّالِمين؛ لأنَّهم تلقَّفوه ولَهِجوا به [178] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/329). .
- وذكَرَ رَجُلًا في قولِهم: رَجُلًا مَسْحُورًا لتَمهيدِ استِحالةِ كونِه رسولًا؛ لأنَّه رجُلٌ مِن النَّاسِ [179] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/329). .
3- قَولُه تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا
- قَولُه: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ ... إلى قولِه: وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا يجوزُ أنْ يكونَ اعتراضًا بيْن المعطوفِ والمعطوفِ عليه؛ مُؤكِّدًا لمعنى مَضمونِ الكلامِ، ومَسْلاةً لقلْبِه صلواتُ اللهِ عليه. ويجوزُ أنْ يكونَ كالجوابِ عن قولِهم: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ إلى آخِرِه، على سبيلِ التَّعريضِ التَّوبيخيِّ، ويكونَ قولُه: بَلْ كَذَّبُوا إضْرابًا عن قولِه: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [180] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/184). .
- قَولُه: فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فُرِّعَ على هذا التَّعجُّبِ كَيْفَ ضَرَبُوا إخبارٌ عنهم بأنَّهم ضَلُّوا في تَلْفيقِ المطاعِنِ في رِسالةِ الرَّسولِ، فسَلَكوا طَرائقَ لا تصِلُ بهم إلى دَليلٍ مُقنِعٍ على مُرادِهم، وهو هنا تعجُّبٌ مِن خطَلِهم، وإعراضٌ عن مُجاوبَتِهم [181] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/330). .
4- قَولُه تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا استِئنافٌ واقِعٌ مَوقِعَ الجَوابِ عن قولِهم: أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ ... [الفرقان: 8] ، أي: إنْ شاءَ جعَلَ لك أفضَلَ مِن الَّذي اقتَرحوهُ، أي: إنْ شاء عَجَّلَه لك في الدُّنيا؛ فالإشارةُ إلى المذكورِ مِن قولِهم [182] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/330). . وعدَمُ التَّعرُّضِ لجَوابِ الاقتراحَينِ الأوَّلَينِ -لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ-؛ للتَّنبيهِ على خُروجِهما عن دائرةِ العقْلِ، واستغنائِهما عن الجوابِ؛ لظُهورِ بُطلانِهما ومُنافاتِهما للحِكمةِ التَّشريعيَّةِ [183] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/205). .