موسوعة التفسير

سورةُ الفُرقانِ
الآيات (7-10)

ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ

غريب الكلمات:

كَنْزٌ: أي: مالٌ عظيمٌ، وهو في الأصلِ: المالُ المَدْفونُ تحتَ الأرضِ، والكَنْزُ: جعْلُ المالِ بعضِه على بعضٍ، وحِفظُه، وأصلُ (كنز): يدُلُّ على تجَمُّعٍ في الشَّيءِ .
جَنَّةٌ: أي: بُستانٌ، وكُلُّ بُستانٍ ذي شَجَرٍ يستُرُ بأشجارِه الأرضَ يقالُ له: جنَّةٌ. وأصلُ (جنن): يدُلُّ على السَّترِ .
الْأَمْثَالَ: أي: الأشباهَ، وأصلُ (مثل): يدُلُّ على مُناظرةِ الشَّيءِ للشَّيءِ .

المعنى الإجمالي:

يَذكرُ الله تعالى شبهةً ثالثةً مِن شُبَهِ المشركينَ، فيقولُ تعالى: وقال كُفَّارُ قُرَيشٍ: ما لمحمَّدٍ يأكُلُ الطَّعامَ ويمشي في الأسواقِ للتكسُّبِ -معَ أنَّه رَسولٌ-؟! هلَّا أنزَلَ اللهُ إليه مَلَكًا مِن السَّماءِ يَشهَدُ له بالصِّدقِ، ويُنذِرُ معه النَّاسَ إن كان صادِقًا، أو يُلقَى إليه كَنزٌ مِن المالِ يُنفِقُ منه، ويُكفى به طلَبَ الرِّزقِ، أو يكونُ له بُستانٌ يأكُلُ مِن ثمارِه! وقال هؤلاء المُشرِكون: ما تتَّبِعون إلَّا رجلًا به سِحرٌ، وليس هو برَسولٍ.
ثمَّ يقولُ تعالى مهوِّنًا مِن شأنِهم، ومسلِّيًا لرسولِه: انظرْ -يا محمَّدُ- كيف جعَل هؤلاء المُشرِكون لك الأوصافَ الكاذِبةَ الباطِلةَ، فضَلُّوا بذلك عن الصَّوابِ، فلا يَستطيعون إلى ذلك طَريقًا!
 تعاظَمَ اللهُ، وكَمَلَت أوصافُه، وكثُرتْ خَيراتُه، ودامتْ بركاتُه؛ فهو الذي إن شاء جعَلَ لك -يا محمَّدُ- خيرًا ممَّا يقولُ المُشرِكون؛ بساتينَ تجري مِن تحتِ أشجارِها الأنهارُ، ويجعَلْ لك بُيوتًا عظيمةً في الدُّنيا.

تفسير الآيات:

وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا فَرَغ سُبحانَه مِن ذِكرِ ما طَعَنوا به على القُرآنِ؛ ذَكَر ما طَعَنوا به على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال تعالى :
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ.
أي: وقال كُفَّارُ قُرَيشٍ: ما لمحمَّدٍ -الذي يزعُمُ أنَّه رَسولٌ مِن اللهِ- يأكُلُ الطَّعامَ كما نأكُلُ، ويمشي في الأسواقِ للتكسُّبِ والتجارةِ كما نمشي ؟!
لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا.
أي: هلَّا أنزَلَ اللهُ إلى محمَّدٍ مَلَكًا مِن الملائكةِ، يَشهَدُ له بالصِّدقِ، ويُعينُه على إنذارِ النَّاسِ وتبليغِ رسالتِه، إن كان صادِقًا في دعواه أنَّه رَسولٌ مِن عندِ اللهِ !
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا.
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ.
أي: أو يُلقَى إلى محمَّدٍ كَنزٌ مِن المالِ يُنفِقُ منه فيُغنيه عن طَلَبِ المعاشِ .
كما قال تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ [هود: 12] .
وقال تعالى حكايةً لِقَولِ فِرعَونَ عن موسى عليه السَّلامُ: فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف: 53] .
أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ نَأْكُلُ بالنونِ، أي: أو تكونُ له جَنَّةٌ يُطعِمُنا منها، فنتيقَّنُ أنَّ ثَمَرَها حقيقةٌ لا سِحرٌ .
2- قراءةُ يَأْكُلُ بالياءِ، أي: يختَصُّ الرَّسولُ بالأكلِ مِن الجنَّةِ، فيَبينُ فَضلُه على غيرِه في مأكَلِه .
أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا.
أي: أو يكونُ لمحمَّدٍ بُستانٌ يأكُلُ مِن ثمارِه، فيستغني بذلك عن طَلبِ الرِّزقِ .
كما قال تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا [الإسراء: 90، 91].
وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا.
أي: وقال المُشرِكون: ما تتَّبِعون إلَّا رجُلًا مِن البَشَرِ به سِحرٌ، وليس رسولًا مِن عندِ اللهِ كما يزعُمُ، فهو رجلٌ مَخدوعٌ مَغلوبٌ على أمرِه، ومختَلُّ العَقلِ بالسِّحرِ .
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا.
أي: انظُرْ -يا محمَّدُ- إلى هؤلاء المُشرِكين كيف يجعَلونَ لك هذه الأوصافَ، ويقولون فيك هذه الأقوالَ الباطلةَ المُتناقِضةَ، فأخطَؤوا بذلك الحَقَّ والصوابَ، فلا يَستطيعون إليه طَريقًا !
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
ابتُدِئت السورةُ بتعظيمِ اللهِ وثَنائِه على أنْ أنزَل الفُرقانَ على رسولِه، وأعقَبَ ذلك بما تلقَّى به المشرِكون هذه المزيَّةَ مِن الجُحودِ والإنكارِ النَّاشئِ عن تمسُّكِهم بما اتَّخَذوه مِن آلهةٍ مِن صِفاتِهم ما يُنافي الإلهيَّةَ، ثمَّ طعنوا في القُرآنِ والذي جاء به بما هو كُفرانٌ للنِّعمةِ ومَن جاء بها، فلَمَّا أُريدَ الإعراضُ عن باطلِهم، والإقبالُ على خِطابِ الرَّسولِ بتَثبيتِه وتثبيتِ المؤمنين؛ أُعِيدَ اللَّفظُ الذي ابتُدِئتْ به السورةُ على طريقةِ وصْلِ الكَلامِ، بقَولِه تعالى :
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: تعاظَمَ الله وكَمَلَت أوصافه وكثُرتْ خيراته ودامتْ وثبتتْ بَرَكاتُه؛ فهو الَّذي إن شاء جعَلَ لك -يا محمَّدُ- خيرًا مِمَّا اقتَرَحه المشركونَ؛ بساتينَ عديدةً في الدُّنيا
تجري مِن تحتِ أشجارِها الأنهارُ .
وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءة وَيَجْعَلُ بالرفعِ على الاستِئنافِ، وفيه معنى الحَتمِ، أي: وسيجعَلُ اللهُ لك -يا محمَّدُ- قُصورًا في الجنَّةِ .
2- قراءة وَيَجْعَلْ بالجَزمِ؛ عَطفًا على موضِعِ جَعَلَ أي: إن يَشَأِ اللهُ يجعَلْ لك -يا محمَّدُ- جَناتٍ، ويجعَلْ لك قُصورًا في الدُّنيا .
وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا.
أي: وإن شاء اللهُ جعَلَ لك -يا محمَّدُ- بيوتًا مُشَيَّدةً عَظيمةً واسِعةً في الدُّنيا .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ إباحةُ دخولِ الأسواقِ للعُلماءِ وأهلِ الدِّينِ والصَّلاحِ، خلافًا لِمَن كرِهَها لهم .
2- قال تعالى حِكايةً عن المُشرِكينَ: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ، ومُرادُهم فاسِدٌ مِن وَجهَينِ:
أحَدُهما: أنَّه ليس يُوجِبُ اختِصاصُه بالمَنزِلةِ نَقْلَه عن مَوضِعِ الخِلْقةِ؛ لأمرَينِ: أحَدُهما: أنَّ كُلَّ جِنسٍ قد يَتفاضَلُ أهلُه في المَنزِلةِ، ولا يَقتَضي تمييزَهم في الخِلْقةِ، كذلك حالُ مَن فُضِّلَ في الرِّسالةِ. الثَّاني: أنَّه لو نُقِلَ عن مَوضوعِ الخِلْقةِ بتَمييزِه بالرِّسالةِ لصار مِن غَيرِ جِنسِهم، ولَمَا كان رسولًا منهم، وذلك مِمَّا تَنفِرُ منه النُّفوسُ.
وأمَّا الوَجهُ الثَّاني: فهو أنَّ الرِّسالةَ لا تَقتَضي مَنْعَه مِنَ المَشْيِ في الأسواقِ؛ لأمرَينِ:
أحَدُهما: أنَّ هذا مِن أفعالِ الجَبابِرةِ، وقد صان اللهُ رَسولَه عن التجَبُّرِ.
الثَّاني: لحاجتِه لدُعاءِ أهلِ الأسواقِ إلى نبُوَّتِه، ومُشاهدةِ ما هم عليه مِن مُنكَرٍ يَمنَعُ منه، ومَعروفٍ يُقِرُّ عليه .
3- قال تعالى حِكايةً عن المُشرِكينَ قَولَهم: أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ العَجَبُ لجَهلِهم حين أرادوا أن يُلقَى إليه كَنزٌ، أو تكونَ له جَنَّةٌ، ولو فَهِموا عَلِموا أنَّ كُلَّ الكُنوزِ له، وجَميعَ الدُّنيا مِلكُه! أَوَليس قد قَهَر أربابَ الكُنوزِ، وحَكَم في جميعِ المُلوكِ؟! وكان مِن تمامِ مُعجزتِه أنَّ الأموالَ لم تُفتَحْ عليه في زَمَنِه؛ لئَلَّا يَقولَ قائِلٌ: قد جَرَت العادةُ بأنَّ إقامةَ الدُّوَلِ وقَهْرَ الأعداءِ بكَثرةِ الأموالِ! فتَمَّت المُعجِزةُ بالغَلَبةِ والقَهرِ مِن غَيرِ مالٍ، ولا كَثرةِ أعوانٍ، ثمَّ فُتِحَت الدُّنيا على أصحابِه، ففَرَّقوا ما جَمَعه الملوكُ بالشَّرَهِ، فأخرَجوه فيما خُلِقَ له، ولم يُمسِكوه إمساكَ الكافِرينَ؛ لِيُعَلِّموا النَّاسَ بإخراجِ ذلك المالِ: أنَّ لنا دارًا سِوى هذه، ومَقَرًّا غَيرَ هذا !
4- في قَولِه تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا دَليلٌ على أنَّ الإنسانَ إذا أوردَ الشُّبُهاتِ على نفْسِه أو على مَن أتَى بالحقِّ؛ فإنه يكونُ سببًا لضَلالِه، إذا لم يَقبَلِ الإنسانُ الحقَّ، ويدَعْ ما يَرِدُ على خاطرِه مِن الشُّبُهاتِ حوْلَ ذلك الحقِّ؛ فإنه يكونُ سببًا لضَلالِه؛ ولهذا قال: فَضَلُّوا، الفاءُ عاطفةٌ، وتُفيدُ السَّببيَّةَ .
5- قال تعالى: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا نَفيُ الاستِطاعةِ المذكورةِ هنا كقَولِه تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود: 20] ، وقَولِه تعالى: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا [الكهف: 101] ، وهذه الاستِطاعةُ نَفْيُها إنَّما هو بحَسَبِ مَشيئةِ اللهِ مِن مُعاقَبةِ الإنسانِ على ذنْبٍ مِن ذُنوبهِ، وقد دَلَّتْ آياتٌ كثيرةٌ أنَّ اللهَ جلَّ وعلا يُسَبِّبُ للإنسانِ الضَّلالةَ بِسَبَبِ ارتكابِ الذُّنوبِ، كما يُسَبِّبُ له الهُدى بسَبَبِ الطَّاعاتِ؛ فالعَبدُ إذا سارَعَ إلى الكُفرِ، وتكذيبِ الرُّسُلِ، وإلى ما يُسْخِطُ اللهَ؛ عاقَبَه اللهُ بأنْ زادَه ضَلالًا فَوقَ ضَلالِه، وظَلامًا على ظَلامِه، وجاءه الطَّبعُ والخَتمُ على قَلْبِه، والغِشاوةُ على عَينِه؛ بسَبَبِ كُفرِه وبَغْيِه وتمَرُّدِه على اللهِ، ومِن هنالك يُعلَمُ أنَّ اللهَ يَجعَلُ الحَسَناتِ وطاعةَ اللهِ سَببًا لهُدى عَبْدِه، كما أنَّ السَّيِّئاتِ والمُبادرةَ إلى ما لا يُرضيه تكونُ سَبَبًا للرَّينِ على القُلوبِ والطَّبعِ عليها، كما قال تعالى: بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14] ، وقال في الهُدى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى [محمد: 17] ، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69] ، وأمثالِ ذلك مِنَ الآياتِ .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا هذا انتِقالٌ مِن حِكايةِ مَطاعنِهم في القُرآنِ، وبَيانِ إبطالِها، إلى حِكايةِ مَطاعنِهم في الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والضَّميرُ في وَقَالُوا عائدٌ إلى الَّذين كَفَروا؛ فمدلولُ الصِّفةِ مُراعًى كما تقدَّمَ .
- قَولُه: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ ... (ما) استِفهاميَّةٌ بمعنى إنكارِ الوُقوعِ ونفْيِه، وهذا الاستِفهامُ استِفهامٌ تَعجُّبيٌّ مُستعمَلٌ في لازمِه، وهو بُطلانُ كَونِه رَسولًا؛ بِناءً على أنَّ التَّعجُّبَ مِن الدَّعوى يَقْتضي استحالتَها أو بُطلانَها. وتركيبُ مَالِ هَذَا ونحوِه يُفِيدُ الاستِفهامَ عن أمْرٍ ثابتٍ له؛ فمَثارُ الاستِفهامِ في هذِه الآيةِ هو ثُبوتُ حالِ أكْلِ الطَّعامِ والمشْيِ في الأسواقِ للَّذي يَدَّعي الرِّسالةَ مِن اللهِ. وفي قولِهم: (هذا) تَصغيرٌ لشأْنِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وتَسميَتُهم له صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رسولًا بطريقِ الاستهزاءِ به صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو أجْرَوا عليه وصْفَ الرِّسالةِ؛ مُجاراةً منهم لقولِه، وهم لا يُؤمِنون به ، ولكنَّهم بنَوا عليه؛ لِيتأتَّى لهم التَّعجُّبُ، والمُرادُ منه الإحالةُ والإبطالُ .
- قَولُه: يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ كَنَوْا بأكْلِ الطَّعامِ والمشْيِ في الأسواقِ عن مُماثَلةِ أحوالِه لأحوالِ النَّاسِ؛ تذَرُّعًا منهم إلى إبطالِ كَونِه رسولًا؛ لِزَعْمِهم أنَّ الرَّسولَ عن اللهِ تكونُ أحوالُه غيرَ مُماثِلةٍ لأحوالِ النَّاسِ، وخَصُّوا أكْلَ الطَّعامِ والمشْيَ في الأسواقِ؛ لأنَّهما مِن الأحوالِ المُشاهَدةِ المُتكرِّرةِ . وفي قولِه: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ كِنايةٌ عن الحدَثِ؛ لأنَّه مُلازِمٌ أكْلَ الطَّعامِ. وفي وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ كِنايةٌ عن طلَبِ المعاشِ .
- و(لولا) في قولِهم: لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ حَرفُ تَحضيضٍ مُستعمَلٌ في التَّعجُّبِ .
- وفي قولِهم: فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا خصُّوا مِن أحوالِ الرَّسولِ حالَ النِّذارةِ؛ لأنَّها هي الَّتي أنبتَتْ حِقْدَهم عليه .
2- قَولُه تعالى: أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا
- عبَّر بالإلقاءِ -وهو الرميُ- عن الإعطاءِ مِن عندِ اللهِ .
- قَولُه: وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا فيه وَضْعُ الظَّاهرِ الظَّالِمُونَ مَوضِعَ المُضْمَرِ؛ لِيُسجِّلَ عليهم بالظُّلمِ، وتجاوُزِ الحدِّ فيما قالوهُ؛ لكونِه إضلالًا خارجًا عن حدِّ الضَّلالِ، مع ما فيه مِن نِسبَتِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المَسْحُوريَّةِ ؛ فـ الظَّالِمُونَ هم المُشرِكون، فغيَّرَ عُنوانَهم الأوَّلَ إلى عنوانِ الظُّلمِ وهمْ همْ؛ تَنبيهًا على أنَّ في هذا القولِ اعتداءً على الرَّسولِ، بنَبْزِه بما هو بريءٌ منه، وهم يَعلمون أنَّه ليس كذلك؛ فظُلْمُهم له أشدُّ ظُلْمٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ . وأفاد الإظهارُ في مقامِ الإضمارِ هنا أيضًا: أنَّ هذا القَولُ ظُلْمٌ مِن أيِّ إنسانٍ وقَع؛ لأنَّه للتعليل، فهذا القولُ يعتبَرُ مِن الظلْمِ؛ فيكونُ الأمرُ شامِلًا، يعني: أنَّ كُلَّ مَن قال فهو ظالِمٌ. وأفاد أيضًا تنبيهَ المخاطَبِ؛ لأنَّ اختلافَ الكَلامِ أو اختِلافَ النَّسَقِ في الكلامِ يوجِبُ الانتباهَ .
- وأسنَد القَولَ إلى جميعِ الظَّالِمين؛ لأنَّهم تلقَّفوه ولَهِجوا به .
- وذكَرَ رَجُلًا في قولِهم: رَجُلًا مَسْحُورًا لتَمهيدِ استِحالةِ كونِه رسولًا؛ لأنَّه رجُلٌ مِن النَّاسِ .
3- قَولُه تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا
- قَولُه: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ ... إلى قولِه: وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا يجوزُ أنْ يكونَ اعتراضًا بيْن المعطوفِ والمعطوفِ عليه؛ مُؤكِّدًا لمعنى مَضمونِ الكلامِ، ومَسْلاةً لقلْبِه صلواتُ اللهِ عليه. ويجوزُ أنْ يكونَ كالجوابِ عن قولِهم: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ إلى آخِرِه، على سبيلِ التَّعريضِ التَّوبيخيِّ، ويكونَ قولُه: بَلْ كَذَّبُوا إضْرابًا عن قولِه: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ .
- قَولُه: فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فُرِّعَ على هذا التَّعجُّبِ كَيْفَ ضَرَبُوا إخبارٌ عنهم بأنَّهم ضَلُّوا في تَلْفيقِ المطاعِنِ في رِسالةِ الرَّسولِ، فسَلَكوا طَرائقَ لا تصِلُ بهم إلى دَليلٍ مُقنِعٍ على مُرادِهم، وهو هنا تعجُّبٌ مِن خطَلِهم، وإعراضٌ عن مُجاوبَتِهم .
4- قَولُه تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا استِئنافٌ واقِعٌ مَوقِعَ الجَوابِ عن قولِهم: أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ ... [الفرقان: 8] ، أي: إنْ شاءَ جعَلَ لك أفضَلَ مِن الَّذي اقتَرحوهُ، أي: إنْ شاء عَجَّلَه لك في الدُّنيا؛ فالإشارةُ إلى المذكورِ مِن قولِهم . وعدَمُ التَّعرُّضِ لجَوابِ الاقتراحَينِ الأوَّلَينِ -لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ-؛ للتَّنبيهِ على خُروجِهما عن دائرةِ العقْلِ، واستغنائِهما عن الجوابِ؛ لظُهورِ بُطلانِهما ومُنافاتِهما للحِكمةِ التَّشريعيَّةِ .