موسوعة التفسير

سورةُ الفُرقانِ
الآيات (20-24)

ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ

غريب الكلمات:

وَعَتَوْا: أي: تكبَّروا وتجبَّروا، والعاتي: هو المبالِغُ في رُكوبِ المعاصي المتمَرِّدُ، والعُتُوُّ: تجاوُزُ الحَدِّ في الظُّلمِ، وأصلُ (عتو): يدُلُّ على استِكبارٍ [294] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 332)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/225)، ((الغريبين)) للهروي (4/1227)، ((المفردات)) للراغب (ص: 546)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/6). .
حِجْرًا مَحْجُورًا: أي: حَرَامًا محرَّمًا، وأصلُ (حجر): يدُلُّ على مَنعٍ [295] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 312)، ((تفسير ابن جرير)) (17/427)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 203)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/138)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 263)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 412). .
هَبَاءً مَنْثُورًا: أي: ضائِعًا باطِلًا، والهباءُ المنثورُ: ما يدخُلُ البَيتَ مِن الكُوَّةِ (النافذة) مِثلَ الغُبارِ إذا طلَعَت فيها الشَّمسُ. وأصلُ الهباءِ: يدُلُّ على غَبرةٍ ورِقَّةٍ، وأصلُ (نثر): يَدُلُّ على إلقاءِ شيءٍ مُتَفَرِّقٍ [296] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 312)، ((تفسير ابن جرير)) (17/431)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 493)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/389)، (6/31). .
مَقِيلًا: أي: مَنزِلًا وقرارًا وقتَ القائلةِ، والقَيلولةُ عند العَرَبِ: الاستراحةُ نِصفَ النَّهارِ إذا اشتَدَّ الحَرُّ [297] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/434)، ((الغريبين)) للهروي (5/1602)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (16/464)، ((المفردات)) للراغب (ص: 690). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا
قَولُه: يَوْمَ العامِلُ فيه النَّصبَ محذوفٌ تقديرُه (يُمنَعون) أي: يُمنَعون البِشارةَ يومَ يَرَون الملائكةَ، ولا يجوزُ أن يعمَلَ فيه نفْسُ البُشرى؛ لوجهينِ:
أحدُهما: أنَّها مصدرٌ، والمصدرُ لا يعمَلُ فيما قبْلَه.
والثاني: أنَّها منفيَّةٌ بـ (لا)، وما بعْدَها لا يعمَلُ فيما قبْلَها.
وقيل: إنَّ (يومَ) منصوبٌ بـ (اذكُرْ) محذوفًا؛ فيكونُ مفعولًا به، والتقديرُ: اذكُرْ يومَ يَرَونَ الملائكةَ. وجملةُ لَا بُشْرَى في محلِّ نَصبٍ، مَقولُ قَولٍ مُضمَرٍ، أي: يومَ يَرَونَ الملائكةَ يقولونَ: لا بُشرى، وجملةُ (يقولون) المقَدَّرةُ في محلِّ نصبٍ حالٌ مِن الْمَلَائِكَةُ.
قَولُه: حِجْرًا منصوبٌ على المَصدريَّةِ بفِعلٍ مَحذوفٍ وُجوبًا، وهي مِنْ (حَجَره): إذا مَنَعَه؛ لأنَّ المستعيذَ طالِبٌ مِن اللهِ أن يمنعَ المكروهَ لا يَلحَقُه، وكأنَّ المعنى: أسألُ اللهَ أن يمنَعَه مَنعًا، ويَحجُرَه حَجرًا، ومَحْجُورًا صِفةٌ مُؤكِّدةٌ للمَعنى [298] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/522)، ((تفسير الزمخشري)) (1/1743)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/984)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (8/470-473)، ((تفسير الألوسي)) (10/6). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: وما أرسَلْنا قَبْلَك -يا مُحمَّدُ- أحدًا مِن المُرسَلينَ إلَّا مِن البشَرِ الذين يأكُلونَ الطَّعامَ، ويَمشونَ في الأسواقِ؛ فليس للمُشرِكين حُجَّةٌ في تكذيبِك. وابتَلَيْنا بعضَكم ببَعضٍ -أيُّها النَّاسُ- فهلْ تَصبِرون على هذا البَلاءِ؟ وكان ربُّك -يا محمَّدُ- بَصيرًا بمن يَصبِرُ مِن عِبادِه ومَن لا يصبِرُ، ويعلَمُ أحوالَهم وأعمالَهم، وسيُجازي كُلًّا بعَمَلِه، ويعلَمُ مَن يصلُحُ لرسالتِه فيَصْطَفيه.
وقال الكفَّارُ الذين يُنكِرون البعثَ ولا يُقِرُّون بلقاءِ الله ولا يخافونَه: هلَّا أنزَل اللهُ الملائِكةَ علينا؛ ليُخبِرونا بصِدقِك، أو نرى اللهَ جَهرةً بأعيُنِنا فنؤمِنَ لك! لقد أضمر هؤلاء الكُفَّارُ في أنفُسِهم كِبْرًا عن الحَقِّ، وتجاوَزوا الحَدَّ في الظُّلمِ والطُّغيانِ والاستِكبارِ. يومَ يرى هؤلاء الكُفَّارُ ملائِكةَ العذابِ فلا بُشرى لهم يَومَها بالخَيرِ، بل بالخَيبةِ والخُسرانِ، ويقولُ الملائِكةُ لهم: حَرامٌ محَرَّمٌ عليكم أن تكونَ لكم اليومَ بُشرى.
 وقصَدْنا إلى ما عَمِلَه هؤلاء الكُفَّارُ في الدُّنيا مِن وُجوهِ الخَيرِ، وأعمالِ البِرِّ، فجعَلْناه ضائِعًا باطِلًا لا وَزنَ له، كالهباءِ الذي تفَرَّق وتبَدَّد؛ لحقارتِه، أمَّا أهلُ الجنَّةِ فهم خَيرٌ مكانًا ومَنزِلًا في الجنةِ، وهم أحسَنُ موضعَ قائلةٍ!

تفسير الآيات:

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا تقدمَ الطعنُ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأكلِ الطَّعامِ، والمشيِ في الأسواقِ؛ أخبَرَ تعالى أنَّها عادةٌ مُستمِرَّةٌ في كلِّ رِسالةٍ [299] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/94). .
وأيضًا لَمَّا فرَغَ مِن تهديدِهم ووعيدِهم؛ شرَع في تسليةِ رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بما ناله مِن قَولِهم: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ [الفرقان: 7] مِن الحُزنِ وضِيقِ الصَّدرِ [300] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/202). .
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ.
أي: وما أرسَلْنا قبْلَك -يا محمَّدُ- أحدًا مِن المرسَلينَ إلَّا والحالُ أنَّهم بَشَرٌ يأكلون الطَّعامَ ويَمشونَ في الأسواقِ؛ فليس للمُشرِكين حُجَّةٌ في تكذيبِك؛ لكَونِك تأكُلُ الطَّعامَ وتَمشي في الأسواقِ [301] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/423)، ((تفسير ابن كثير)) (6/100)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/365)، ((تفسير القاسمي)) (7/423)، ((تفسير السعدي)) (ص: 580)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/343). .
كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ [الأنبياء: 7، 8].
وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
أفاد ما تَقَدَّمَ مِن الآيةِ أنَّ الرُّسُلَ يأكُلونَ الطَّعامَ فيحتاجونَ للغِذاءِ وتحصيلِه، وأنَّهم يَمشونَ في الأسواقِ للسَّعيِ والتكسُّبِ؛ وأفاد آخِرُ الآيةِ الحِكمةَ الربَّانيَّةَ في ذلك، وهي أنْ يكونَ بذلك فتنةٌ واختبارٌ للعِبادِ، وتلك سُنَّةُ اللهِ تعالى في خلْقِه؛ فقد جَعَل بعضَهم لبعضٍ فتنةً [302] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 165). .
وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ.
أي: وامتحَنَّا -أيُّها النَّاسُ- بعضَكم ببَعضٍ؛ لِيَظهَرَ ما نعلَمُه منكم في عالَمِ الغَيبِ مِن الطَّاعةِ والمعصيةِ في عالَمِ الشَّهادةِ، فهلْ تَصبِرونَ على البَلاءِ أو لا تَصبِرونَ [303] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/424)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/62، 63)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 244)، ((تفسير ابن كثير)) (6/100)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/365)، ((تفسير السعدي)) (ص: 580). قال ابن القيم: (قال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الأنعام: 53] ، وقال تعالى: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ، فهو سبحانه جعَل أولياءَه فتنةً لأعدائِه، وأعداءَه فِتنةً لأوليائِه، والملوكَ فِتنةً للرعيَّةِ، والرعيَّةَ فتنةً لهم، والرِّجالَ فِتنةً للنِّساءِ، وهنَّ فِتنة لهم، والأغنياءَ فِتنةً للفقراءِ، والفُقراءَ فِتنةً لهم، وابتلى كلَّ أحدٍ بضِدٍّ جَعَلَه مُتقابِلًا؛ فما استقرَّت أقدامُ الأبَوَينِ على الأرضِ إلَّا وضِدُّهما مقابِلهما، واستمَرَّ الأمرُ في الذُّرِّيَّةِ كذلك إلى أن يطويَ اللهُ الدُّنيا ومَن عليها، وكم له سبحانَه في مِثلِ هذا الابتِلاءِ والامتحانِ مِن حِكمةٍ بالغةٍ، ونِعمةٍ سابِغةٍ، وحُكمٍ نافذٍ، وأمرٍ ونهيٍ، وتصريفٍ دالٍّ على ربوبيَّتِه وإلهيَّتِه، ومُلكِه وحَمدِه!). ((شفاء العليل)) (ص: 244). ويُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/162). ومِمَّن اختار هذا المعنى بعمومِه في الجملةِ: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، وابن رجب، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/424)، ((تفسير القرطبي)) (13/18)، ((اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى)) لابن رجب (ص: 122، 123)، ((تفسير السعدي)) (ص: 580). قال ابن عاشور: (وحالُ الفتنةِ في كِلا البعضينِ مختلِفٌ؛ فبعضُها فِتنةٌ في العقيدةِ، وبعضُها فِتنةٌ في الأمنِ، وبعضُها فِتنةٌ في الأبدانِ، وشمِلَ أحدُ البعضينِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمنينَ معه، والبعضُ الآخَرُ المشركينَ، فكان حالُ الرَّسولِ فتنةً للمُشرِكين؛ إذْ زعَموا أنَّ حالَه مُنافٍ للرسالةِ فلم يؤمنوا به، وكان حالُ المؤمنينَ في ضَعفِهم فتنةً للمُشرِكين؛ إذ ترفَّعوا عن الإيمانِ الذي يُسَوِّيهم بهم). ((تفسير ابن عاشور)) (18/344). ؟
قال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام: 53] .
وعن عِياضِ بنِ حِمارٍ المُجاشِعيِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال فيما يرويه عن اللهِ: ((قال: إنَّما بعثتُك لأبتلِيَك وأبتليَ بك )) [304] رواه مسلم (2865). .
 وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
موقعُ هذه الجملةِ بعْدَ الجملةِ الأُولى لبيانِ أنَّ فِتنةَ اللهِ لهم هي عن عِلمٍ وبَصَرٍ بصَوابِ ذلك وحكمتِه، وأنه مُطَّلِعٌ على حقيقةِ ما يكونُ منهم عندَ الاختيارِ لِيجازيَهم عليه، وفي هذا وعدٌ ووعيدٌ للمُمتحَنينَ [305] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 166). .
وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا.
أي: وكان ربُّك -يا محمَّدُ- بَصيرًا بمن يَصبِرُ مِن عبادِه ومَن لا يصبِرُ على ما امتُحِنَ به، ويعلَمُ أحوالَكم وأعمالَكم، وسيُجازي كُلًّا بعَمَلِه، ويعلَمُ مَن يصلُحُ لرسالتِه فيَصْطَفيه، ويختَصُّه بتفضيلِه [306] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/425)، ((تفسير القرطبي)) (13/19)، ((تفسير الشوكاني)) (4/80)، ((تفسير السعدي)) (ص: 580، 581). مِمَّن اختار أنَّ معنى وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا أي: بمَن يصبِرُ وبمَن يجزعُ: ابنُ جرير، ومكي، والواحدي، والبغوي، وابن الجوزي، والرازي، والخازن، وجلال الدين المحلي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/425)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5197)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 776)، ((تفسير البغوي)) (3/440)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/316)، ((تفسير الرازي)) (24/447)، ((تفسير الخازن)) (3/311)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 472)، ((تفسير الشوكاني)) (4/80). ومِمَّن قال بنحوِ هذا القولِ من السلفِ: ابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/426). وقيل: المعنى: إنَّ اللهَ بصيرٌ بمن يَستحِقُّ أن يُوحى إليه ومَن يستحِقُّ أن يهديَه اللهُ لِما أرسَلَهم به، ومَن لا يستَحِقُّ ذلك. وممَّن قال بذلك: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/100). وقال الثعلبيُّ: (وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا بمَن يَصبرُ ويَجزعُ، وبمن يؤمنُ وبمن لا يؤمنُ). ((تفسير الثعلبي)) (7/128). وقال القرطبي: (قوله تعالى: وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا أي: بكلِّ امرئٍ، وبمن يصبرُ أو يجزعُ، ومَن يؤمنُ ومَن لا يؤمنُ، وبمن أدَّى ما عليه مِن الحقِّ ومَن لا يؤدِّي). ((تفسير القرطبي)) (13/19). وقال السعدي: (وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا يعلَمُ أحوالكم، ويصطَفي مَن يعلَمُه يصلُحُ لرسالتِه ويختَصُّه بتفضيلِه، ويعلَمُ أعمالَكم فيُجازيكم عليها: إنْ خَيرًا فخيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ). ((تفسير السعدي)) (ص: 580، 581). .
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا.
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا.
أي: وقال الكفَّارُ الذين لا يَطمَعونَ في لقائِنا، فلا يرجونَ ثوابَنا ولا يخافونَ عِقابَنا؛ لإنكارِهم البَعثَ: هلَّا أنزَل اللهُ علينا الملائِكةَ، أو نرى اللهَ بأعيُنِنا فنُؤمِنَ [307] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/426)، ((الوسيط)) للواحدي (3/338)، ((تفسير ابن جزي)) (2/81)، ((تفسير ابن كثير)) (6/101)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/368)، ((تفسير السعدي)) (ص: 581)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/37). قيل: المعنى: هلَّا أنزل اللهُ علينا ملائكةً، فتُخبِرَنا أنَّ محمَّدًا محِقٌّ فيما يقولُ، وأنَّ ما جاءنا به صِدقٌ، أو نرى ربَّنا فيُخبِرَنا بذلك! وممَّن قال بذلك في الجملة: ابنُ جرير، والسمرقندي، وابن أبي زمنين، والثعلبي، ومكِّي، والبغوي، والزمخشري، والقرطبي، والخازن، والألوسي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/426)، ((تفسير السمرقندي)) (2/534)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/257)، ((تفسير الثعلبي)) (7/129)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5197)، ((تفسير البغوي)) (3/440)، ((تفسير الزمخشري)) (3/272)، ((تفسير القرطبي)) (13/19)، ((تفسير الخازن)) (3/311)، ((تفسير الألوسي)) (10/4). وممَّن قال بنحوِ هذا القَولِ مِن السَّلَفِ: ابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/426). وقيل: معنى: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أي: بالرسالةِ كما أتت الأنبياءَ والرسُلَ، كما أخبَرَ عنهم تعالَى في الآيةِ الأخرى: قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الْأَنْعَامِ: 124]. ومِمَّن قال بذلك: ابنُ كثير، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/101)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/492). وقيل: المعنى: هلَّا أُنْزِل علينا الملائِكةُ فكانوا رُسُلًا إلينا! وممَّن اختاره: مقاتلُ بنُ سليمانَ، والواحديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/230)، ((البسيط)) للواحدي (16/449)، ((الوسيط)) للواحدي (3/338). وقال السعدي: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا أي: هلَّا نُزِّلَت الملائِكةُ تَشهَدُ لك بالرِّسالةِ وتؤيِّدُك عليها، أو تُنزلُ رُسُلًا مُستقِلِّينَ، أو نرى رَبَّنا فيُكَلِّمَنا ويقولَ: هذا رَسولي فاتَّبِعوه؟!). ((تفسير السعدي)) (ص: 581). ؟!
كما قال تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 90 - 93] .
لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ.
أي: لقد تكبَّرَ الكُفَّارُ الذين تجرَّؤوا على اقتراحِ نُزولِ الملائِكةِ عليهم، أو رُؤيةِ اللهِ في الدُّنيا، وتعظَّموا في أنفُسِهم [308] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/426)، ((تفسير السمعاني)) (4/14)، ((تفسير السعدي)) (ص: 581)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/37). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر: 56] .
وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا.
أي: وتجاوَزَ أولئك الكُفَّارُ الحَدَّ في الكِبْرِ والظُّلمِ والطُّغيانِ، باقتراحِهم ذلك [309] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/426)، ((الوسيط)) للواحدي (3/338)، ((تفسير الشوكاني)) (4/81)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/37، 38). .
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
هذه الآيةُ جَوابٌ لقَولِهم: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ، فبَيَّنَ تعالى أنَّ الذي سألوه سيُوجَدُ، ولكِنَّهم يَلقونَ منه ما يَكرَهونَ [310] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/449). .
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ.
أي: يومَ يرى الكُفَّارُ مَلائكةَ الموتِ حينَ تَنزِلُ لقَبضِ أرواحِهم، ويَرَون ملائِكةَ العذابِ في البَرزخِ ويومَ القيامةِ؛ فلا تُبَشِّرُ الملائكةُ المُجرِمين يومَ يَرَونَها بالخَيرِ، بل بالخَيبةِ والخُسرانِ [311] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/427)، ((تفسير القرطبي)) (13/20)، ((تفسير ابن كثير)) (6/101، 102)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/369)، ((تفسير السعدي)) (ص: 581)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/37، 38). .
كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: 93] .
وقال سُبحانَه: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال: 50] .
وقال تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [النحل: 28، 29].
وعن البَراءِ بنِ عازبٍ رَضيَ الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ العبدَ الكافِرَ إذا كان في انقِطاعٍ مِن الدُّنيا وإقبالٍ مِن الآخرةِ، نزل إليه مِن السَّماءِ مَلائِكةٌ سُودُ الوجوهِ، معهم المُسُوحُ [312] المُسُوحُ، جَمعُ المِسْحِ، وهو اللِّباسُ الخَشِنُ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (3/1179). ، فيَجلِسون منه مَدَّ البصَرِ [313] مَد البصَر: عبارةٌ عمَّا ينتهي إليه بصَرُ الإنسانِ. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (5/496). ، ثمَّ يجيءُ مَلَكُ الموتِ حتى يجلِسَ عند رأسِه، فيَقولُ: أيَّتُها النَّفْسُ الخبيثةُ، اخرُجي إلى سَخَطٍ مِن اللهِ وغَضَبٍ، فتَفَرَّقُ في جَسَدِه، فينتَزِعُها كما يُنتَزَعُ السَّفُّودُ [314] السَّفُّودُ: أي: الحديدةُ التي يُشوى بها اللَّحمُ. يُنظر: ((شرح المشكاة للطيبي)) (4/1381). مِن الصُّوفِ المبلولِ، فيأخُذُها، فإذا أخَذها لم يَدَعوها في يَدِه طَرْفةَ عَينٍ حتَّى يَجعَلوها في تلك المُسُوحِ، ويخرُجُ منها كأنتَنِ ريحِ جيفةٍ وُجِدَت على وجهِ الأرضِ، فيَصعَدونَ بها، فلا يمُرُّون بها على ملأٍ مِن الملائِكةِ إلَّا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الخبيثُ؟ فيقولون: فُلانُ بنُ فلانٍ، بأقبَحِ أسمائِه التي كان يُسمَّى بها في الدُّنيا، حتى يُنتهى به إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيُستفتَحُ له فلا يُفتَحُ له، ثمَّ قرأ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف: 40]، فيقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ: اكتُبوا كتابَه في سِجِّينٍ [315] سِجِّينٍ: قِيلَ: هو موضِعٌ فيه كتابُ الفُجَّارِ مِن قعرِ النَّارِ. وقيل: هو كتابٌ جامِعٌ لأعمال الشياطينِ والكَفَرةِ. وقيل: هو مكانٌ في أسفلِ الأرضِ السَّابعةِ، وهو محلُّ إبليسَ وجنودِه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (3/1180)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (5/329). في الأرضِ السُّفلى، فتُطرَحُ رُوحُه طَرحًا، ثمَّ قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31] ، فتُعادُ رُوحُه في جسَدِه، ويأتيه مَلَكانِ فيُجلِسانِه، فيقولان له: مَن ربُّك؟ فيقول: هاهْ هاهْ، لا أدري، فيقولانِ له: ما دِينُك؟ فيقولُ: هاهْ هاهْ، لا أدري، فيقولانِ له: ما هذا الرجُلُ الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هاهْ هاهْ، لا أدري، فيُنادي مُنادٍ مِن السَّماءِ أن كذَبَ، فافرِشُوا له مِن النَّارِ، وافتَحوا له بابًا إلى النَّارِ، فيأتيه مِن حَرِّها، وسَمومِها، ويُضَيَّقُ عليه قبرُه حتَّى تختَلِفَ فيه أضلاعُه، ويأتيه رجُلٌ قَبيحُ الوجهِ، قَبيحُ الثِّيابِ، مُنتِنُ الرِّيحِ، فيقولُ: أبشِرْ بالذي يَسوؤُك، هذا يومُك الذي كنتَ تُوعَدُ. فيقولُ: مَن أنت؟ فوجهُك الوجهُ يجيءُ بالشَّرِّ. فيقولُ: أنا عمَلُك الخبيثُ. فيقولُ: ربِّ، لا تُقِمِ السَّاعةَ)) [316] أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (12059)، وأحمد (18534)، والحاكم في ((المستدرك)) (107) بألفاظٍ متقاربة. صحَّح إسنادَه ابنُ جريرٍ في ((مسند ابن عمر)) (2/494)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1/300)، وحسَّن الحديثَ المنذريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (4/280)، وصحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب)) (3558). .
وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا.
أي: ويقولُ الملائِكةُ للكُفَّارِ: حَرامٌ محَرَّمٌ عليكم الفَلاحُ اليومَ [317] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/429)، ((تفسير ابن كثير)) (6/102). وممَّن ذهب إلى أنَّ القائلينَ بذلك هم الملائكةُ: ابنُ جريرٍ، وابنُ كثيرٍ، ونسَبه إلى الجمهورِ. يُنظر: المصدران السابقان. ومِمَّن ذهب إلى ذلك أيضًا: السمرقنديُّ، والثعلبي، ومكِّي، والنسفي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/534)، ((تفسير الثعلبي)) (7/129)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5198)، ((تفسير النسفي)) (2/532). ومِمَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السلفِ: أبو سعيدٍ الخُدْريُّ، والضحَّاكُ، ومجاهدٌ في روايةٍ عنه، وقتادةُ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/428)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (8/2677)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/245). ومِمَّن اختار أنَّ القائلينَ بذلك هم المجرمون الكفَّارُ: الزمخشريُّ، والبيضاويُّ، وأبو حيَّان، والشوكاني، والقاسمي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/274)، ((تفسير البيضاوي)) (4/122)، ((تفسير أبي حيان)) (8/97)، ((تفسير الشوكاني)) (4/81)، ((تفسير القاسمي)) (7/424)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/39). ومِمَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ جُرَيجٍ، ومجاهدٌ في رواية عنه، وقتادةُ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/429)، ((تفسير الماوردي)) (4/141)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/317). قال ابنُ جُزي: (إن كان الضميرُ للمجرمينَ فالمعنى أنَّهم يقولونَ: حجرًا، بمعنى عوذًا؛ لأنَّ العربَ كانت تتعوَّذُ بهذه الكلمةِ ممَّا تَكرهُ، وانتِصابُه بفعلٍ متروكٍ إظهارُه، نحو: معاذَ الله). ((التسهيل لعلوم التنزيل)) (ص: 1266). وقال الشنقيطي: (الكفَّار الَّذينَ اقْتَرَحوا إنزالَ الملائكةِ إذا رَأَوُا الملائكةَ تَوَقَّعوا العذابَ مِن قِبَلِهم، فيقولونَ حينئذٍ للملائكةِ: حِجْرًا مَحْجُورًا: أي: حرامًا مُحَرَّمًا عليكم أنْ تَمَسُّونا بسوءٍ؛ أي: لأنَّنا لم نرتكِبْ ذنبًا نَستوجِبُ به العذابَ). ((أضواء البيان)) (6/39). وقال الواحدي: (قولُه: حِجْرًا مَحْجُورًا أي: حرامًا مُحَرَّمًا. قاله ابنُ عباسٍ وجميعُ المفسِّرينَ. وأصلُ الحَجرِ في اللغة: المنعُ). ((البسيط)) (16/454). .
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا.
أي: وعَمَدْنا يومَ القيامةِ إلى ما عَمِل هؤلاء المُجرِمونَ في الدُّنيا مِن العباداتِ وأعمالِ البِرِّ والخَيرِ، فأحبَطْناها وأبْطَلْناها، حتَّى صارَتْ كالهباءِ [318] قال ابنُ جرير: (والهَباءُ: هو الذي يُرى كهيئةِ الغُبارِ إذا دخل ضَوءُ الشَّمسِ مِن كَوَّةٍ، يحسَبُه الناظِرُ غُبارًا، وليس بشَيءٍ، تَقبِضُ عليه الأيدي ولا تمَسُّه، ولا يُرى ذلك في الظِّلِّ). ((تفسير ابن جرير)) (17/431). وقال البقاعي: (باطلًا لا نفعَ فيه، وهو معنى هَبَاءً، وهو ما يُرى في شُعاعِ الشَّمسِ الدَّاخِلِ مِن الكُوَّةِ ممَّا يُشبِهُ الغُبارَ، فهو أشبَهُ شَيءٍ بالعدَمِ؛ لأنَّه لا نفعَ له أصلًا). ((نظم الدرر)) (13/371). المتفرِّقِ المتبدِّدِ، فلا ينتفِعُ منها صاحبُها بشَيءٍ أصلًا [319] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/430، 431)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 777)، ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 52)، ((تفسير ابن كثير)) (6/103)، ((تفسير الشوكاني)) (4/82)، ((تفسير السعدي)) (ص: 581)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/8). قال ابن القيم: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا وهي الأعمالُ التي كانت لغَيرِ الله، وعلى غيرِ أمْرِه وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((مدارج السالكين)) (1/514). وقال ابن عاشور: (كانوا في الجاهليَّةِ يَعُدُّون الأعمالَ الصالحةَ مَجلبةً لخَيرِ الدُّنيا؛ لأنَّها تُرضي الله تعالى فيُجازيهم بنِعَمٍ في الدنيا؛ إذ كانوا لا يؤمِنون بالبَعثِ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/8). .
كما قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ [إبراهيم: 18] .
وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور: 39] .
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بَيَّنَ سُبحانَه وتعالى حالَ الكُفَّارِ في الخَسارِ الكُلِّيِّ والخَيبةِ التامَّةِ؛ شرَحَ وصْفَ أهلِ الجنَّةِ؛ تنبيهًا على أنَّ الحظَّ كلَّ الحَظِّ في طاعةِ اللهِ تعالى [320] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/451). .
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا.
أي: أهلُ الجنَّةِ بسَبَبِ ما عَمِلوه من الأعمالِ المتقَبَّلةِ أفضَلُ [321] قال ابن جُزي: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا جاء هنا التفضيلُ بيْنَ الجنةِ والنارِ؛ لأنَّ هذا مستقَرٌّ وهذا مستقَرٌّ). ((تفسير ابن جزي)) (2/81). وقال السعدي: (هذا من بابِ استِعمالِ أفعَلِ التفضيلِ فيما ليس في الطَّرَفِ الآخَرِ منه شَيءٌ؛ لأنَّه لا خيرَ في مَقيلِ أهلِ النَّارِ ومُستقَرِّهم، كقَولِه: آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل: 59] ). ((تفسير السعدي)) (ص: 581). ويُنظر: ((قواعد التفسير)) للسبت (1/258). منزِلًا في الجنَّةِ، وأحسَنُ مَوضِعَ قائِلَةٍ [322] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 777)، ((تفسير الرسعني)) (5/313)، ((تفسير الخازن)) (3/312)، ((تفسير الشوكاني)) (4/82). قال البقاعي: (وَأَحْسَنُ مَقِيلًا أي: مكانًا يمكنُ فيه الاستراحةُ في مثلِ وقت القَيلولةِ للاسترواحِ بأزواجِهم، والتمتع بما يكونُ في الخَلواتِ). ((نظم الدرر)) (13/372). وقال ابن عاشور: (والمَقيلُ: المكانُ الذي يُؤوَى إليه في القَيلولةِ، والاستراحةُ في ذلك الوقتِ مِن عادةِ المترَفينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/9). وقال الشنقيطي: (اعلمْ أنَّ المشهورَ في كلامِ العرب أنَّ المَقيلَ: القيلولةُ أو مكانُها، وهي الاستراحةُ نصفَ النهارِ زمنَ الحرِّ مثلًا، وإن لم يكن معها نومٌ). ((أضواء البيان)) (6/43). .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ قَرنَ سُبحانَه الفِتنةَ بالصَّبرِ هاهنا، وفى قَولِه: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا [النحل: 110] ، فليس لِمَن قد فُتِنَ بفتنةٍ دواءٌ مِثلُ الصَّبرِ، فإنْ صبَرَ كانتِ الفتنةُ مُمحِّصةً له ومُخَلِّصةً مِن الذُّنوبِ، كما يُخَلِّصُ الكِيرُ خَبَثَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، فالفتنةُ كِيرُ القلوبِ، ومحَكُّ الإيمانِ، وبها يتبيَّنُ الصَّادِقُ مِن الكاذِبِ، قال تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 3] ، فالفِتنةُ قَسَّمت النَّاسَ إلى صادقٍ وكاذبٍ، ومؤمنٍ ومُنافقٍ، وطيِّبٍ وخَبيثٍ، فمَن صبَرَ عليها كانت رحمةً فى حَقِّه، ونجا بصبرِه مِن فِتنةٍ أعظَمَ منها، ومَن لم يصبِرْ عليها وقعَ فى فتنةٍ أشَدَّ منها [323] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/162). .
2- قال تعالى: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا بكُلِّ شَيءٍ؛ فهو عالِمٌ بالإنسانِ قبْلَ الامتِحانِ، لم يُفِدْه ذلك عِلمًا لم يكُنْ، وهو سُبحانَه يضَعُ الأمورَ في حاقِّ مواضِعِها وإن رُئِيَ غيرُ ذلك، فينبغي على كلِّ أحدٍ التَّسليمُ له في جَميعِ الأمورِ؛ فإنَّه يَجُرُّ إلى خَيرٍ كبيرٍ، والتدبُّرُ لأقوالِه وأفعالِه بحُسْنِ الانقيادِ والتلقِّي؛ فإنَّه يُوصِلُ إلى علمٍ غزيرٍ، وما أراد بابتلائِك بهم وابتلائِهم بك في هذا الأذى الكبيرِ إلَّا إعلاءَ شأنِك، وإسفالَ أمرِهم، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [324] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/367). [ص: 88] .
3- قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً الرَّسولُ فِتنةٌ للمُرسَلِ إليهم، واختبارٌ للمُطيعينَ مِن العاصين، والرسُلُ فتَنَّاهم بدَعوةِ الخَلقِ، والغنيُّ فتنةٌ للفقيرِ، والفقيرُ فِتنةٌ للغنيِّ، وهكذا سائِرُ أصنافِ الخَلقِ في هذه الدَّارِ دارِ الفِتَنِ والابتلاءِ والاختبارِ، والقصدُ مِن تلك الفِتنةِ أَتَصْبِرُونَ فتقومون بما هو وظيفتُكم اللَّازمةُ الرَّاتبةُ، فيُثيبكم مولاكم، أمْ لا تَصبِرون فتَستَحِقُّون المعاقَبةَ [325] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 580). ؟ فكُلُّ مَنِ اتَّصل بك، مِن أهلك وبَنيك، وأبيك وأمِّك، وأصحابِك وعشيرتِك، وقَومِك وكُلِّ مَن ترتبِطُ به برباطٍ مِن أبناءِ جنسِك: هو فِتنةٌ وامتِحانٌ لك: هل تقومُ بواجبِك نحوَه مِن جلْبِ خَيرٍ له، أو دفعِ شَرٍّ عنه، أو جلْبِ خيرٍ منه لِغَيرِه، أو دفعِ شَرِّه عن غيرِه، وهل تكُفُّ يدَك عن شَيْئِه، وتكُفُّ بصَرَك عمَّا مُتِّع به، وتسألُ اللهَ مِمَّا عندَه مِن فَضلِه؟ وإنَّما تقوم بواجِبِك نحوَه ممَّا تقدَّم، وتكُفُّ يدَك وعينَك عنه، وتسألُ اللهَ ممَّا عندَه راضيًا بما قَسَم لك، معتقدًا الخيرَ كُلَّ الخير في قَسمِه؛ إذا تدرَّعتَ بالصَّبرِ على إتيانِه وإن كان عليك ثقيلًا، والكفِّ عمَّا يُطلَبُ منك الانكفافُ عنه وإن كان منك قريبًا، وفي طبعِك لذيذًا. وإنَّما يكونُ لك هذا الصبرُ إذا كنتَ دائمَ اليقينِ بعِلمِ الله بك، واطِّلاعِه عليك، وأنَّه كان بك بصيرًا. هذه الحقائِقُ كُلُّها هَدَتْنا هذه الآيةُ الكريمةُ إليها؛ هدَتْنا إلى أنَّا امتُحِنَّا ببعضِنا، وأنَّ الذي يُخلِّصُنا في هذا الامتحانِ، ويخرِجُنا سالمينَ هو الصَّبرُ [326] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 168). .
4- قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ عَلِمْنا مِن هذه الآيةِ أنَّ اللهَ تعالى يَمتحِنُ عبادَه ويَختبِرُهم لِيُظهرَ حقائقَهم؛ فعلينا أن نبنيَ أمورَنا على الامتحانِ والاختبارِ، فلا نُقَرِّرَ علمًا ولا نُصدِرَ حُكمًا إلَّا بعْدَ ذلك، وخُصوصًا في معرفةِ النَّاسِ والحُكْمِ عليهم، فالظَّواهرُ كثيرًا ما تُخالِفُ البواطنَ، والتصنُّعُ والتكلُّفُ قلَّما يَسلَمُ منهما أحَدٌ، ولا يَعصِمُ مِن الخطأِ مع هذه المغالطاتِ كلِّها إلَّا الامتحانُ والاختبارُ، فاعتَصِمْ بهما [327] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 168). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُه تعالى: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً فيه دَليلٌ على القضاءِ والقدَرِ [328] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/121). .
2- في قَولِه تعالى: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ سؤالٌ: اللهُ تعالى عالِمٌ بما يَكونُ مِن عبادِه بعْدَ امتحانِهم قبْلَ أن يَمتحِنَهم، فما حِكمةُ الامتحانِ؟
الجوابُ: أنَّ اللهَ تعالى إنما يُحَاسِبُ عبادَه على ما عَمِلوه وكَسَبوه واكتسَبوه بما عندهم مِن التمكُّنِ مِن الفِعلِ والتَّركِ، وما عندَهم مِن الاختيارِ، لا على عِلْمِه منهم قبْلَ أن يَعملوه؛ فلهذا يُمتحَنون؛ لتظهرَ حقائقُهم، ويَقَعَ جزاؤُهم على ما كسبتْ أيديهم باختيارِهم، ولا حُجَّةَ لهم في تَقَدُّمِ عِلمِه تعالى بما يكونُ منهم؛ لأنَّ تَقدُّمَ العِلمِ لم يكن مُلجِئًا لهم على أعمالِهم، ففي هذا الامتحانِ قيامُ حُجَّةِ اللهِ على العامِلِينَ أمامَ أنفُسِهم وأمامَ الناسِ، كما فيه إظهارٌ لحقيقتِهم لأنفُسِهم ولغيرِهم [329] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 167). .
3- قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ كما يُفتَنُ الفَردُ بالفردِ، كذلك تُفتَنُ الأمَّةُ بالأمَّةِ: مِن ذلك أنَّنا -معشرَ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ- قد فُتِنَّا بغَيرِنا مِن أمَمِ الغربِ، وفُتِنوا هم أيضًا بنا؛ فنحن نَدينُ بالإسلامِ، وهو دينُ السعادةِ الدُّنيويَّةِ والأُخرويَّةِ، ولكِنْ حيثما كنَّا -إلَّا قليلًا- لسْنا سعداءَ لا في مظاهِرِ تديُّنِنا، ولا في أحوالِ دُنيانا!
ففي الأُولى: نأتي بما يبرَأُ منه الإسلامُ، ونصَرِّحُ بأنَّه مِن صميمِه!
وفي الثَّانيةِ: ترانا في حالٍة مِن الجهلِ والفَقرِ والذُّلِّ والاستعبادِ يَرثي لها الجمادُ.
فلمَّا يَرانا الغربيُّون على هذه الحالةِ يَنفِرونَ مِن الإسلامِ، ويَسخرونَ منه، إلَّا مَن نظَرَ منهم بعَينِ العِلمِ والإنصافِ؛ فإنَّه يعرِفُ أنَّ ما نحن عليه هو ضِدُّ الإسلام، فكنَّا فِتنةً عظيمةً عليهم، وحجابًا كثيفًا لهم عن الإسلامِ. فكنَّا -ويا لَلأسفِ- فتنةً للقَومِ الظالمين.
وهم مِن ناحيتِهم نراهم في عزٍّ وسيادةٍ وتقدُّمٍ عِلميٍّ وعمرانيٍّ، فننظرُ إلى تلك الناحيةِ منهم، فنندفِعُ في تقليدِهم في كلِّ شيءٍ حتى معائِبِهم ومفاسِدِهم، ونَزْدَري كلَّ شيءٍ عندَنا حتى أعزَّ عزيزٍ، إلَّا مَن نظَر بعينِ الِعلمِ، فعرَف أنَّ كلَّ ما عندَهم مِن خيرٍ هو عندَنا في دينِنا وتاريخِنا، وأنَّ ذلك هو الذي تقَدَّموا وسادوا به، وأنَّ ما عِندَهم مِن شَرٍّ هو شَرٌّ على حقيقتِه، وأنَّ ضرَرَه فيهم هو ضَرَرُه، وأنَّه لا يجوز أن يُتابَعوا عليه؛ فكانوا فتنةً لنا حتى ينظُرَ مَن ينظُرُ بعَينِ الحَقِّ للحقائق ممَّن تبهَرُه الظواهِرُ فتَسلُبُه إدراكَه فيَغْدو لا يفرِّقُ بيْن اللُّبِّ والقشورِ [330] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 167). .
4- قَولُه تعالى: لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لا يخافون، وإنَّما جاز «يرجو» في موضِعِ «يخاف»؛ لأنَّ الرَّاجيَ الشَّيءَ قَلِقٌ فيما يرجوه؛ فمرَّةً يَشتدُّ طمَعُه فيصيرُ كالآمِنِ، ومرَّةً يضْعُفُ فيصيرُ كالخائفِ [331] يُنظر: ((باهر البرهان)) للغزنوي (2/1020). .
5- قَولُه تعالى: لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا دلَّ ظاهِرُ الآيةِ على جوازِ الرؤيةِ [332] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (14/506). ، وقد أجمَع أهلُ اللسانِ على أنَّ اللقاءَ متى نُسِب إلى الحيِّ السليمِ مِن العمَى والمانعِ اقتضَى المعايَنةَ والرؤيةَ [333] يُنظر: ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (ص: 288). .
6- في قَولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا إيماءٌ إلى أنَّ النبوَّةَ لا تكونُ بالاكتِسابِ، وإنَّما هي إعدادٌ مِن اللهِ تعالى؛ قال: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [334] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/6). [الأنعام: 124] .
7- يُفهَمُ مِن قولِه تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا الآيةَ: أنَّ أصحابَ النارِ ليسوا كذلك، وأنَّ حسابَهم غيرُ يسيرٍ، وهذا المفهومُ دلَّت عليه آياتٌ أُخَرُ؛ كقولِه تعالى قريبًا مِن هذه الآيةِ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [الفرقان: 26] ، فقولُه: عَلَى الْكَافِرِينَ يدُلُّ على أنَّه على المؤمنينَ غيرُ عسيرٍ، كما قال تعالى: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ الآيةَ [الأنبياء: 103] ، وقوله تعالى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [335] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/41). [القمر: 8].
8- قال الله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا استَنبَط بعضُ العُلماءِ مِن هذه الآيةِ الكريمةِ أنَّ حِسابَ أهلِ الجنَّةِ يسيرٌ، وأنَّه ينتهي في نِصفِ نَهارٍ، ووجْهُ ذلك أنَّ قَولَه: مَقِيلًا، أي: مكانَ قَيلولةٍ، وهي الاستراحةُ في نِصفِ النَّهارِ، قالوا: وهذا الذي فُهِمَ مِن هذه الآيةِ الكريمةِ جاء بيانُه في قَولِه تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [336] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/41)، ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 172). [الانشقاق: 7-9] . وقيل: إنَّ الله تعالى يحاسِبُ الخلائقَ كلَّها في نصفِ يومٍ؛ لقوله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا، والقيلولةُ إنما تكونُ في نصفِ النهارِ، ويلزمُ مِن هذا أنَّ الله يحاسِبُ الخلائقَ كلَّهم في نصفِ يومٍ حتى إنَّ كلَّ واحدٍ منهم يَقيلُ في منزلِه ومستقَرِّه [337] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة آل عمران)) (2/597). .
9- في قَولِه تعالى: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا سؤالٌ، وهو أنَّ الآيةَ دلَّتْ على أنَّ مُستقَرَّهم غيرُ مَقيلِهم، فكيف ذلك؟
والجوابُ مِن وجوهٍ:
منها: أنَّ المستقَرَّ مكانُ الاستِقرارِ، والمقيلَ زمانُ القَيلولةِ، فهذا إشارةٌ إلى أنَّهم مِن المكانِ في أحسَنِ مكانٍ، ومِن الزَّمانِ في أطيَبِ زَمانٍ.
ومنها: أنَّ بعْدَ الفراغِ مِن المحاسَبةِ والذَّهابِ إلى الجنَّةِ يكونُ الوقتُ وقتَ القَيلولةِ [338] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/452). .
10- في قَولِه تعالى: وَأَحْسَنُ مَقِيلًا سُؤالٌ: كيف يصحُّ القَيلولةُ في الجنَّةِ والنَّارِ، وأهلُ الجنَّةِ في الآخرةِ لا ينامون، وأهلُ النَّارِ أبدًا في عَذابٍ يَعرِفونَه، وأهلُ الجنَّةِ في نعيمٍ يَعرِفونَه؟!
والجوابُ: قال اللهُ تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62] ، وليس في الجنَّةِ بُكرةٌ وعَشِيٌّ؛ لِقَولِه تعالى: لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا [الإنسان: 13] ، ولأنَّه إذا لم يكُنْ هناك شَمسٌ لم يكُن هناك نِصفُ النَّهارِ، ولا وقتُ القَيلولةِ، بلِ المرادُ منه بيانُ أنَّ ذلك الموضِعَ أطيبُ المواضِعِ وأحسَنُها، كما أنَّ مَوضِعَ القيلولةِ يكونُ أطيبَ المواضِعِ. واللهُ أعلمُ [339] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/452). . وقيل: المقيلُ: موضعُ الاستراحةِ؛ نام أو لم ينَمْ [340] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/15). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا
- قَولُه: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ رَدٌّ على قولِهم: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان: 7] ، بعْدَ أنْ ردَّ عليهم قولَهم: أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا [الفرقان: 8] بقولِه: تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ ... [الفرقان: 10] ؛ ولكنْ لَمَّا كان قولُهم: أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ حالةً لم تُعطَ للرُّسلِ في الحَياةِ الدُّنيا، كان رَدُّ قولِهم فيها بأنَّ اللهَ أعطاهُ خَيرًا مِن ذلك في الآخرةِ [341] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/343). .
- جُملةُ: إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ في مَوضعِ الحالِ، والتَّوكيدُ بـ (إنَّ) واللَّامِ؛ لتَحقيقِ وُقوعِ الحالِ؛ تَنزيلًا للمُشرِكين في تَناسِيهم أحوالَ الرُّسلِ مَنزلةَ مَن يُنكِرُ أنْ يكونَ الرُّسلُ السَّابقون يأْكُلون الطَّعامَ، ويَمْشون في الأسواقِ [342] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/121)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/343). .
- قَولُه: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً هذا تَصبيرٌ لرَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ما قالوهُ واستَبْدعوهُ؛ مِن أكْلِه الطَّعامَ، ومَشْيِه في الأسواقِ، بعْدَما احتجَّ عليهم بسائرِ الرُّسلِ. وقيل: هو تَسليةٌ له عمَّا عيَّروه به مِن الفَقرِ حينَ قالوا: أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا [343] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/272)، ((تفسير البيضاوي)) (4/121)، ((تفسير أبي حيان)) (8/95)، ((تفسير أبي السعود)) (6/210)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/345). .
- قَولُه: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا تَذييلٌ؛ فضَميرُ الخِطابِ في قولِه: بَعْضَكُمْ يعُمُّ جميعَ النَّاسِ؛ بقرينةِ السِّياقِ [344] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/344). .
- قَولُه: أَتَصْبِرُونَ عِلَّةٌ للجَعْلِ، والمعنى: وجَعَلْنا بَعضَكم لِبعضٍ فِتنةً؛ لنَعلَمَ أيُّكم يَصبِرُ. ونظيرُه قولُه تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] . أو استِفهامٌ مُستعمَلٌ في الحثِّ والأمْرِ على الصَّبرِ على ما افْتُتِنُوا به [345] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/121)، ((تفسير أبي حيان)) (8/95)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/345). .
- قَولُه: أَتَصْبِرُونَ الاقتِصارُ على ذِكْرهِ مِن غيرِ تعرُّضٍ لمُعادِلٍ له -كأنْ يقولَ: (أتصبِرونَ أمْ لا تصبِرون)-؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّ اللَّائقَ بحالِ المفتونينَ والمُتوقَّعَ صُدورُه عنهم هو الصَّبرُ لا غيرُ [346] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/210). .
- قَولُه: وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا خبرٌ فيه مَزيدُ تَشريفٍ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالالْتفاتِ إلى اسمِ الرَّبِّ مُضافًا إلى ضَميرِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [347] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/210). . ومَوقِعُ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا مَوقِعُ الحثِّ على الصَّبرِ المأمورِ به، أي: هو عليمٌ بالصَّابرينَ، وإيذانٌ بأنَّ اللهَ لا يُضِيعُ جَزاءَ الرَّسولِ على ما يُلاقِيه مِن قَومِه، وأنَّه ناصِرُه عليهم. وفي الإسنادِ إلى وصْفِ الرَّبِّ مُضافًا إلى ضَميرِ النَّبيِ إلْماعٌ إلى هذا الوعْدِ؛ فإنَّ الرَّبَّ لا يُضِيعُ أولياءَهُ [348] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/345). .
2- قَولُه تعالى:   وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا حِكايةُ مَقالةٍ أُخرى مِن مَقالاتِ تَكذيبِهمُ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وقد عَنْوَنَ عليهم في هذه المقالةِ بـ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا، وعَنْوَنَ عليهم في المقالاتِ السَّابقةِ بـ الَّذِينَ كَفَرُوا [الفرقان: 4] وبـ الظَّالِمُونَ [الفرقان: 8] ؛ لأنَّ بيْنَ هذا الوصفِ وبيْن مقالَتِهمُ انتِقاضًا؛ فهُم قد كذَّبوا بلِقاءِ الآخِرةِ بما فيه مِن رُؤْيةِ اللهِ والملائكةِ، وطلَبوا رُؤْيةَ اللهِ في الدُّنيا، ونُزولَ الملائكةِ عليهم في الدُّنيا، وأرادُوا تَلَقِّي الدِّينِ مِنَ الملائكةِ أو مِنَ اللهِ مباشرةً؛ فكان في حكايةِ قَولِهم، وذِكْرِ وصْفِهم: تَعجيبٌ مِن تَناقُضِ مَدارِكِهم! وأيضًا فإنَّ أهلَ الشِّركِ أنكروا البعثَ، وتوهَّموا أنَّ شُبهتَهُم في إنكارِه أقوَى حجَّةً لهم في تكذيبِ الرُّسلِ؛ فمِن أجْلِ ذلك أيضًا جَعَل قولَهم ذلك طريقًا لتعريفِهم بالمَوصولِ، كما قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [349] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/5). [يونس: 15] .
- قَولُه: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا شُروعٌ في حِكايةِ بعضٍ آخَرَ مِن أقاويلِهمُ الباطلةِ وبيانِ بُطلانِها، بعْدَ إبطالِ أباطيلِهمُ السَّابقةِ. والجملةُ معطوفةٌ على قولِه تعالى: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ، ووُضِع الموصولُ الَّذِينَ موضعَ الضَّميرِ؛ للتَّنبيهِ بما في حَيِّزِ الصِّلَةِ على أنَّ ما يُحكَى عنهم مِنَ الشَّناعةِ بحيثُ لا يَصدُرُ عمَّن يَعتقدُ المصيرَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ [350] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/210). .
- والقومُ المعانِدون السابِقون في قولِه: وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا هم الذين وصَفَهم اللهُ هنا بقولِه:   وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا، وقد أُقيمَ المُظهَرُ مُقامَ المُضمَرِ؛ وذلك أنَّه تعالى لَمَّا سَلَّى رسولَه صلواتُ اللهِ عليه بقوله: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ... [الفرقان: 20] عاد إلى تقبيحِ نوعٍ آخَرَ مِن أفعالِهم، وهو إنكارُهم لقاءَ اللهِ، وأنَّ لله تعالى دارَ جَزاءٍ [351] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/208). .
- و(لولا) في قولِه: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ حرْفُ تَحضيضٍ مُستعمَلٌ في التَّعجيزِ والاستِحالةِ [352] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/5). .
- قَولُه: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا استِئنافٌ يَتنزَّلُ منزلةَ جوابٍ عن قَولِهم. والتَّأكيدُ بلامِ القَسَمِ لإفادةِ معنَى التَّعجيبِ؛ لأنَّ القسَمَ يُستعمَلُ في التَّعجُّبِ [353] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/5، 6). . والاستِكبارُ: مُبالَغةٌ في التَّكبُّرِ؛ فالسِّينُ والتَّاءُ في قولِه: اسْتَكْبَرُوا للمُبالَغةِ [354] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/5). .
- وأيضًا هذه الجُملةُ في حُسنِ استِئنافِها غايةٌ، وفي فَحْوى هذا الفعلِ دليلٌ على التَّعجُّبِ مِن غَيرِ لفظِ التَّعجُّبِ؛ ألا ترى أنَّ المعنى: ما أشَدَّ استِكبارَهم! وما أَكبرَ عُتُوَّهم [355] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/273)، ((تفسير البيضاوي)) (4/121)، ((تفسير أبي حيان)) (8/96، 97)، ((تفسير أبي السعود)) (6/211). ! فقولُه: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ جملةٌ قَسَميَّةٌ، يَستدعي أنْ يُتلقَّى بها مَن يُبالِغُ في الإنكارِ، كأنَّه لَمَّا قالوا: لولا أُنزِل علينا الملائِكةُ أو نَرى ربَّنا، حُمِل السَّامعُ على أن يقولَ: ما أشدَّ استِكبارَهم! وما أكبرَ عُتُوَّهم! لأنَّها اشتَملَتْ على أمرٍ يَقتضي التَّعجُّبَ منهم، فلا يَتمالَكُ أنْ يَترُكَ ذلك القَولَ، فوُضِع مَوضِعَه: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا؛ لأنَّه أَثبَتُ وأَبلَغُ مِن ذلك [356] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/208). .
- قَولُه: عُتُوًّا كَبِيرًا وصَفَ العُتُوَّ بالكبيرِ؛ مبالَغةً في إفراطِه [357] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/273)، ((تفسير أبي حيان)) (8/96). .
3- قَولُه تعالى: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا
- قَولُه: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ استِئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ ما يَلْقَونه عِندَ مُشاهَدتِهم لِما اقترحُوه مِن نُزولِ الملائكةِ عليهم السَّلامُ، بعْدَ استِعظامِه، وبيانِ كَونِه في غايةِ ما يكونُ مِنَ الشَّناعةِ. وإنَّما قيلَ: يَوْمَ يَرَوْنَ دُونَ أنْ يُقالَ: (يومَ يَنزِلُ الملائكةُ)؛ إيذانًا مِن أوَّلِ الأمرِ بأنَّ رُؤيتَهم لهم ليسَتْ على طريقِ الإجابةِ إلى ما اقتَرحُوه، بل على وجهٍ آخَرَ غيرِ معهودٍ [358] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/211). .
- وفي هذا الاستِئنافِ تَلميحٌ وتَهكُّمٌ بهم؛ لأنَّ ابتِداءَه مُطمِعٌ بالاستِجابةِ، وآخِرَه مؤْيِسٌ بالوعيدِ [359] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/6، 7). .
- والعُدولُ إلى نَفْيِ الجِنسِ في قولِه: لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ؛ للمُبالَغةِ في نَفْيِ البُشرى. وحيثُ كان نَفْيُها كِنايةً عن إثباتِ ضِدِّها -كما أنَّ نفيَ المحبَّةِ في مثلِ قولِه تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 32] كنايةٌ عن البُغض والمَقْتِ- دَلَّ على ثبوتِ النَّذْرِ -أي: الخوف- لهم على أَبلَغِ وجْهٍ وآكَدِه [360] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/97)، ((تفسير أبي السعود)) (6/211)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/7). .
- ويَوْمَئِذٍ تَكريرٌ للتَّأكيدِ والتَّهويلِ، مع ما فيه مِنَ الإيذانِ بأنَّ تقديمَ الظَّرفِ للاهتِمامِ لا لقَصْرِ نَفْيِ البُشرَى على ذلك الوقتِ فقط؛ فإنَّ ذلك مُخِلٌّ بتَفظيعِ حالِهم [361] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/211). . وقيل: قُدِّم الظَّرفُ للاهتِمامِ به؛ لإثارةِ الطَّمعِ، وللتَّشويقِ إلى تَعيينِ إبَّانِه، حتَّى إذا وَرَدَ ما فيه خَيبةُ طَمَعِهم كان له وقْعُ الكآبةِ على نفوسِهم حينما يَسمَعونه [362] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/7). .
- وقوله: لِلْمُجْرِمِينَ إمَّا عامٌّ يَتناوَلُ حُكْمُه حُكْمَهم، ولا يَلزَمُ مِن نَفْيِ البُشرى لعامَّةِ المُجرمينَ حينئذٍ نَفْيُ البُشرى بالعَفْوِ والشَّفاعةِ في وقتٍ آخَرَ، وإمَّا خاصٌّ وُضِعَ مَوضِعَ ضميرِهم؛ تسجيلًا على جُرْمِهم، وإشعارًا بما هو المانعُ للبُشرى، والموجِبُ لِما يُقابِلُها [363] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/273)، ((تفسير البيضاوي)) (4/121، 122)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/210)، ((تفسير أبي حيان)) (8/97)، ((تفسير أبي السعود)) (6/211)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/7). .
- وفي قولِه: حِجْرًا مَحْجُورًا جاءتِ الصِّفةُ مَحْجُورًا؛ لتأكيدِ معنَى الحَجرِ، كما يُقالُ: ذَيْلٌ ذائِلٌ -والذَّيلُ: الهَوانُ-، ومَوتٌ مائِتٌ [364] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/274)، ((تفسير البيضاوي)) (4/122)، ((تفسير أبي السعود)) (6/212)، ((تفسير أبي حيان)) (8/98)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/7). .
4- قَولُه تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا
- في قولِه: فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا شَبَّه عمَلَهم بالهَباءِ في قِلَّتِه وحَقارتِه عِندَه، وأنَّه لا يُنتفَعُ به مع كَونِه مَوجودًا، ثمَّ بالمَنثورِ منه؛ لأنَّك تراه مُنتظِمًا مع الضَّوءِ فإذا حرَّكَتْه الرِّيحُ رأيْتَه قد تَناثَرَ وذَهَب كُلَّ مَذهَبٍ؛ فلمْ يَكتَفِ أنْ شَبَّهَ عملَهم بالهَباءِ حتَّى جعَلَه مُتناثِرًا، ومِثْلُ هذا الإردافِ يُسمَّى في البَديعِ: بالتَّتْميمِ [365] التَّتميم: هو أن يُؤتى في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المراد بفضلةٍ تُفيد نكتةً. أو بعبارةٍ أخرى هو: الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ متمِّمٍ للمقصود؛ لرَفْعِ اللبسِ عنه، وتقريبِه للفَهم، أو لزِيادةٍ حسنة، بحيث إذا طُرِح من الكلام نقَص معناه في ذاتِه، أو في صِفاته. يُنظر: ((تفسير أبي حيَّان)) (1/120)، (2/333)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/252)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/240). والإيغالِ [366] الإيغال: هو استِكمالُ الكلامِ قبْلَ الإتيانِ بمقطعِه، فإذا أُريدَ الإتيانُ بذلك أُتيَ بما يُفيد معنًى زائدًا على معنى ذلك الكلامِ، وهو ضَربانِ: 1- إيغالُ تخييرٍ؛ كقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50] ؛ إذ إنَّ المعنى قد تمَّ بقَولِه: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا، ولَمَّا احتاجَ الكلامُ إلى فاصلةٍ تُناسِبُ ما قبْلَها وما بعْدَها، أتتْ هذه الفاصلةُ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ لتُفيدَ معنًى زائدًا، لولاها لم يَحصُل؛ وذلك أنَّه لا يَعلَمُ أنَّ حُكْمَ الله أحسَنُ مِن كلِّ حُكمٍ إلَّا مَن أَيقنَ أنَّه واحدٌ حكيمٌ عادلٌ. 2- إيغالُ احتياطٍ: وهو استِكمالُ معنَى الكلامِ قبْلَ قَطْعِه، فإذا أُريدَ الإتيانُ بذلك أُتيَ بما يُفيدُ معنىً زائدًا تتمَّةً للمبالَغةِ؛ كقولِه تعالى: وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ [النمل: 80] ، فالكلامُ يحتاجُ إلى فاصلةٍ تماثلُ مقاطعَ ما قبْلَها وما بعْدَها، فأتى بها مفيدةً معنًى زائدًا على معنى الكلامِ، حيث قال: إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل: 80] ، فإنْ قيل: ما معنى مُدبرينَ وقد أغنى عنها ذِكرُ التولِّي؟ قيل: ذلك لا يُغني عنها؛ إذ التولِّي قد يكون بجانبٍ دونَ جانبٍ، كما يكونُ الإعراضُ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 223)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/500، 501). ؛ فقولُه: مَنْثُورًا وصْفٌ كاشِفٌ؛ لأنَّ الهَباءَ لا يَكونُ إلَّا مَنثورًا، فذِكْرُ هذا الوَصفِ للإشارةِ إلى ما في الهَباءِ مِنَ الحَقارةِ ومِنَ التَّفرُّقِ [367] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/274)، ((تفسير البيضاوي)) (4/122)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/214)، ((تفسير أبي حيان)) (8/98)، ((تفسير أبي السعود)) (6/212)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/8)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/686، 687). .
5- قَولُه تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا استِئنافٌ ابتِدائيٌّ؛ جِيءَ به لمُقابَلةِ حالِ المشركينَ في الآخرةِ بضِدِّها مِن حالِ أصحابِ الجنَّةِ [368] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/8، 9). .
- قَولُه: وَأَحْسَنُ مَقِيلًا سَمَّى مكانَ دَعَتِهم واستِرواحِهم إلى الحُورِ مَقِيلًا -مع أنَّه لا نَومَ في الجنَّةِ- على طَريقِ التَّشبيهِ؛ إذِ المكانُ المُتخيَّرُ للقَيلولةِ يكونُ أَطيَبَ المواضعِ. وفي وصْفِه بزِيادةِ الحُسنِ مع حُصولِ الخَيريةِ بعَطفِه على المُستَقَرِّ رمْزٌ إلى أنَّه مُزَيَّنٌ بفُنونِ الزِّيَنِ والزَّخارفِ [369] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/275)، ((تفسير البيضاوي)) (4/122)، ((تفسير أبي حيان)) (8/99)، ((تفسير أبي السعود)) (6/212). . وقيل: وصَفَه بالحُسنِ؛ إرادةً لحُسنِ ساكنِيهِ على طريقِ الكِنايةِ [370] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/216). .
- واسمُ التَّفضيلِ (خَيْرٌ) في قولِه: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا قيل: إنَّه ليس على بابِه مِن استِعمالِه دَلالةً على الأَفضليَّةِ؛ لئلَّا يَلزَمَ مِن ذلك خَيرٌ في مُستَقَرِّ أهلِ النَّارِ. وقيل: يُمكِنُ إبقاؤُه على بابِه، ويكونُ التَّفضيلُ وقَعَ بيْن المُستَقَرَّينِ والمَقِيلَينِ باعتِبارِ الزَّمانِ الواقعِ ذلك فيه [371] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/99)، ويُنظر أيضًا: ((قواعد التفسير)) للسبت (1/258). . وقيل: التَّفضيلُ المُعتبَرُ فيهما إمَّا لإرادةِ الزِّيادةِ على الإطلاقِ، وإمَّا بالإضافةِ إلى ما للكَفرةِ المُتنعِّمينَ في الدُّنيا، أو إلى ما لهم في الآخرةِ بطريقِ التَّهكُّمِ بهم [372] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/122)، ((تفسير أبي السعود)) (6/212)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/9). . وقيل: التفاضُلُ الذي ذُكِرَ بيْن المنزلتينِ إنَّما يَرجعُ إلى المَوضعِ، والموضعُ مِن حيثُ إنَّه مَوضعٌ لا شرَّ فيه. وقيل: هذا التفاضُلُ واقعٌ على هذا التقديرِ، أي: لو كان لهم مستقَرٌّ فيه خَيرٌ لكان مستقَرُّ أهلِ الجنةِ خيرًا منه [373] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/451). . وقيل: هذا يَحْسُنُ في مَعرِضِ التَّقريعِ، كما إذا أعطى السيدُ عبدَه مالًا فتَمَرَّدَ وأبى واستكبَرَ؛ فيَضْرِبُه ضربًا وجيعًا، ويقولُ على سبيلِ التوبيخِ: هذا أطيَبُ أمْ ذاك [374] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/439). ؟!
- وفي قوله: خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا كِنايةٌ في قولِه: مُسْتَقَرًّا ومَقِيلًا؛ فالمُستقَرُّ اسمُ مكانٍ مِنَ الاستِقرارِ، وهو المجلسُ الدَّائمُ لأهلِ الجنَّةِ يَستقِرُّونَ فيه ويَقْضُون مُعظَمَ أوقاتِهم مُتقابِلينَ يَتحادَثونَ ويَتسامَرون، وكَنَى به عن أحاديثِ العَشايا والبُكَرِ الَّتي يَتبادَلُونها، وهي أحاديثُ كانتْ في الدُّنيا تَدورُ بيْن المُترَفينَ وأصحابِ النَّعيمِ واليَسارِ، وكَنَى بالمَقِيلِ -وهو وقتُ استراحةِ نِصفِ النَّهارِ- عن قَضائِهِم وقتَ الاستِجمامِ والاستِراحةِ مع أزواجِهم [375] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/7، 8). .