موسوعة التفسير

سورةُ الفُرقانِ
الآيات (25-29)

ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ

غريب الكلمات:

بِالْغَمَامِ: أي: السَّحابِ؛ سُمِّيَ بذلك لأنَّه يَغُمُّ السَّماءَ، أي: يَستُرُها ويُغطِّيها، وكُلُّ شَيءٍ غطَّيتَه فقدْ غَمَمتَه، وأصلُ (غمم): يدُلُّ على تغطيةٍ وإطباقٍ [376] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 49، 312)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/377)، ((المفردات)) للراغب (ص: 613)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 86). .
خَلِيلًا: الخَليلُ: الصَّديقُ، مِنَ الخُلَّةِ، أي: الصَّداقةِ والموَدَّةِ؛ سُمِّيَت بذلك لأنَّها تتخَلَّلُ النَّفْسَ، أي: تتوسَّطُها [377] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/155)، ((المفردات)) للراغب (ص: 291)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 144)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 39، 398). .
خَذُولًا: أي: كثيرَ الخِذلانِ، والخِذلانُ: تَركُ المَعونةِ، وأصلُ (خذل): يدُلُّ على تَركِ الشَّيءِ والقُعودِ عنه [378] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/165)، ((المفردات)) للراغب (ص: 277)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 437). .

المعنى الإجمالي:

يصِفُ الله تعالى بعضَ أهوالِ يومِ القيامةِ، فيقولُ: واذكُرْ -أيُّها الرسولُ- حين تتشَقَّقُ السَّماءُ عن سَحابٍ رَقيقٍ أبيضَ يومَ القيامةِ، وتُنزَّلُ الملائِكةُ إلى أرضِ المحشَرِ تنزيلًا. في ذلك اليَومِ يكونُ السُّلطانُ الثَّابِتُ الحَقُّ لله وحْدَه دونَ غيرِه مِن مُلوكِ الأرضِ، وكان ذلك اليَومُ يَومًا شَديدًا على الكافرينَ.
 ثمَّ يذكُرُ تعالى ما يكونُ عليه الكافرونَ يومَ القيامةِ مِن حسرةٍ وندامةٍ، فيقولُ: واذكُرْ حين يَعَضُّ الظَّالمُ المحادُّ للهِ ورَسولِه على يَدَيه؛ تحسُّرًا وأسَفًا، يقولُ: يا ليتني سلَكْتُ طَريقَ الحَقِّ الذي جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واتبَعْتُه فيما جاء به مِن عندِ رَبِّه.
وأنَّه يقولُ في هذا اليومِ: يا هَلاكي! ليتَني لم أتَّخِذْ مَن أضَلَّني وأغواني في الدُّنيا صديقًا لي وحبيبًا، لقد صرَفَني هذا الصَّديقُ المشؤومُ عن القُرآنِ والهُدى بعد أن بلَغَني. ثمَّ قال الله تعالى: وكان الشَّيطانُ كثيرَ الخِذلانِ للإنسانِ الذي يتَّبِعُه، تارِكًا لإعانتِه ونصرِه وَقتَ استِنصارِه به.

تفسير الآيات:

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
هذا الكلامُ مَبنيٌّ على ما استَدعَوه مِن إنزالِ الملائكةِ؛ فبَيَّنَ سُبحانَه أنَّه يحصُلُ ذلك في يومٍ له صِفاتٌ ذكَرَها في هذه الآياتِ [379] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/452). .
وأيضًا لَمَّا كان للكَفَرةِ في هذه الدَّارِ مِن العِزِّ والقوَّةِ والضَّخامةِ ما يتعجَّبونَ معه مِن مَصيرِ حالِهم إلى ما ذُكِرَ؛ بَيَّنَ أنَّ الأمرَ في ذلك اليومِ على غَيرِ ما نَعهَدُه، فقال عاطِفًا على يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [380] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/372). [الفرقان: 22] :
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ.
أي: واذكُرْ أيُّها الرسولُ [381] قال محمد رشيد رضا: (وجمهورُ الْمفسِّرينَ يجعلونَ كلمةَ «يومٍ» في أمثالِ هذه الآياتِ مفعولًا لِفعلٍ محذوفٍ تقديرُه «واذْكُرْ»، وهو خطابٌ لِلرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، أي: واذكُرْ لهم فيما تَتْلوه عليهم يومَ يَكونُ كَذا وكَذا). ((تفسير المنار)) (8/55). يومَ القيامةِ حين تتشَقَّقُ السَّماءُ عن سَحابٍ أبيَضَ رَقيقٍ [382] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/436)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 777)، ((تفسير القرطبي)) (13/23)، ((تفسير السعدي)) (ص: 581)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/44). وقال ابن كثير: (يخبِرُ تعالى عن هَولِ يومِ القيامةِ، وما يكونُ فيه مِن الأمورِ العظيمةِ؛ فمنها انشِقاقُ السَّماءِ وتفطُّرُها، وانفراجُها بالغَمامِ، وهو ظُلَلُ النورِ العظيمِ الذي يُبهِرُ الأبصارَ). ((تفسير ابن كثير)) (6/105). .
وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا.
أي: وتُنَزَّلُ الملائِكةُ يومَ القيامةِ مِن السَّمواتِ إلى أرضِ المحشَرِ تنزيلًا [383] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/439)، ((تفسير ابن كثير)) (6/105)، ((تفسير السعدي)) (ص: 581). .
كما قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ [النحل: 33] .
وقال سُبحانَه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] .
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان ذلك اليومُ سببًا لانكِشافِ الأمورِ، ومَعرفةِ أنَّه لا مُلْكَ لِسواه سُبحانَه؛ لأنَّه لا يَقضي فيه غَيرُه، قال [384] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/373). :
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ.
أي: السُّلطانُ -يَومَ القيامةِ- المؤكَّدُ الثَّابِتُ الذي لا يَزولُ: للرَّحمنِ وَحْدَه دُونَ غَيرِه مِن مُلوكِ الأرضِ [385] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/439)، ((تفسير الزمخشري)) (3/275)، ((تفسير السعدي)) (ص: 581)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 87). .
كما قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَقبِضُ اللهُ الأرضَ يومَ القيامةِ، ويَطوي السَّماءَ بيَمينِه، ثمَّ يقولُ: أنا المَلِكُ، أين ملوكُ الأرضِ؟)) [386] رواه البخاري (7382) واللفظ له، ومسلم (2787). .
وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا.
أي: وكان يومُ القيامةِ يَومًا صَعبًا شَديدًا على الكافرينَ [387] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/439)، ((تفسير القرطبي)) (13/24)، ((تفسير ابن كثير)) (6/107)، ((تفسير السعدي)) (ص: 581). قال القرطبي: (وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا أي: لِما يَنالُهم مِن الأهوالِ، ويَلحَقُهم مِن الخِزيِ والهوانِ، وهو على المؤمِنينَ أخَفُّ مِن صَلاةٍ مكتوبةٍ...، وهذه الآيةُ دالَّةٌ عليه؛ لأنَّه إذا كان على الكافرين عَسيرًا، فهو على المؤمنين يَسيرٌ). ((تفسير القرطبي)) (13/24). وقال ابن كثير: (قوله: وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا أي: شديدًا صَعبًا؛ لأنَّه يومُ عَدلٍ، وقَضاءٍ فَصلٍ). ((تفسير ابن كثير)) (6/107). .
كما قال تعالى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر: 8 - 10] .
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان حاصِلُ حالِ الكافرينَ أنَّهم جانَبوا أشرفَ الخلْقِ، الهاديَ لهم إلى كلِّ خَيرٍ، وصاحَبوا غيرَه ممَّن يقودُهم إلى كُلِّ شرٍّ؛ بَيَّنَ عُسْرَ ذلك اليومِ -الذي إنَّما أوجبَ جُرأتَهم تَكذيبُهم به- بتناهِي نَدَمِهم على فِعلِهم هذا، فقال [388] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/374). :
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ.
أي: واذكُرْ يَومَ القيامةِ حينَ يَعَضُّ الظَّالِمُ المخالِفُ لطَريقِ الرَّسولِ على يَدَيه؛ نَدَمًا وحَسرةً وأسَفًا [389] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/439)، ((الهداية)) لمكي (8/5207)، ((تفسير ابن كثير)) (6/108)، ((تفسير السعدي)) (ص: 582). قال الشوكاني: (الظَّاهِرُ أنَّ العَضَّ هنا حقيقةٌ، ولا مانِعَ من ذلك، ولا مُوجبَ لتأويلِه. وقيل: هو كنايةٌ عن الغَيظِ والحَسرةِ، والمرادُ بالظالم: كلُّ ظالمٍ يَرِدُ ذلك المكانَ). ((تفسير الشوكاني)) (4/84). وقال الشنقيطي: (مِن المشهورِ عندَ علماءِ التفسيرِ أنَّ الظَّالمَ الذي نزَلَت فيه هذه الآيةُ: هو عُقبةُ ابنُ أبي مُعَيطٍ، وأنَّ فلانًا الذي أضلَّه عن الذِّكرِ: أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ أو أخوه أُبَيُّ بنُ خلَفٍ... وعلى كلِّ حالٍ فالعِبرةُ بعُمومِ الألفاظِ، لا بخصوصِ الأسبابِ؛ فكُلُّ ظالمٍ أطاع خليلَه في الكُفرِ حتى مات على ذلك يجري له مِثلُ ما جرى لابنِ أبي مُعَيطٍ). ((أضواء البيان)) (6/45). .
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا.
أي: يَقولُ هذا الظَّالِمُ: يا ليتني اتَّبَعتُ في الدُّنيا طريقَ رَسولِ اللهِ، فآمنتُ به ولم أخالِفْه؛ لأنجوَ مِن عذابِ اللهِ، وأصِلَ إلى جنَّاتِه [390] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/440)، ((تفسير القرطبي)) (13/26)، ((تفسير السعدي)) (ص: 582). .
كما قال تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: 66، 67].
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا.
أي: يقولُ الظَّالِمُ: يا هلاكي! ليتَني لم أجعَلْ مَن أغواني في الدُّنيا صديقًا وحبيبًا لي [391] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/26)، ((تفسير ابن كثير)) (6/108)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/375). .
عن أبي موسى الأشعريِّ رضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّما مَثَلُ الجَليسِ الصَّالحِ والجَليسِ السُّوءِ، كحامِلِ المِسكِ ونافِخِ الكِيرِ [392] الكِير: هو شيءٌ يَنفُخُ فيه الحدَّادُ؛ لتشتَعِلَ النَّارُ. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (5/231). ويُنظر أيضًا: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/324). ؛ فحامِلُ المسكِ: إمَّا أن يُحْذيَك [393] يُحذيَك؛ أي: يُعطيَك. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (16/178)، ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (5/231). ، وإمَّا أنْ تَبتاعَ منه، وإمَّا أن تجِدَ منه ريحًا طيِّبةً، ونافِخُ الكِير: إمَّا أن يُحرِقَ ثيابَك، وإمَّا أن تجِدَ ريحًا خَبيثةً )) [394] رواه البخاري (2101)، ومسلم (2628) واللفظ له. .
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا.
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي.
أي: لقد صَرَفني مَن اتَّخَذْتُه في الدُّنيا خليلًا عن القُرآنِ بعد بُلوغِه إليَّ، وصَدَّني عنه [395] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/442)، ((تفسير القرطبي)) (13/26)، ((تفسير ابن كثير)) (6/108)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/15، 16)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/47). قال السعدي: (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي حيثُ زيَّن له ما هو عليه مِن الضَّلالِ بخُدَعِه وتسويلِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 582). وقال ابن عاشور: (أي: نهاني عن التدبُّرِ فيه والاستماعِ له بعْدَ أن قاربْتُ فَهْمَه). ((تفسير ابن عاشور)) (19/16). .
وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا.
أي: قال الله: وإنَّ مِن عادةِ الشَّيطانِ وصِفَتِه المجبولِ عليها: أن يَخذُلَ الإنسانَ الذي يتَّبِعُه، وَيترُكَ إعانَتَه ونَصْرَه [396] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/442)، ((تفسير القرطبي)) (13/26)، ((تفسير ابن كثير)) (6/108)، ((تفسير السعدي)) (ص: 582)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/16)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/46)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 102-104). قال ابن عطية: (وقوله: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا يحتمِلُ أن يكونَ مِن قولِ الظَّالمِ، ويحتمِلُ أن يكونَ ابتِداءَ إخبارٍ مِن الله تعالى على جهةِ الدَّلالةِ على وجهِ ضلالتِهم، والتحذيرِ مِن الشيطانِ الذي بلَّغهم ذلك المبلغَ). ((تفسير ابن عطية)) (4/209). وقال القرطبي: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا قيل: هذا مِن قَولِ الله لا مِن قَولِ الظالم. وتمامُ الكلامِ على هذا عندَ قولِه: بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي). ((تفسير القرطبي)) (13/26). وممَّن قال بذلك: ابنُ أبي زمنين، والواحديُّ، وابن الجوزي، وابن كثير، وجلال الدين المحلي، وابن عاشور. واستظهره الشنقيطيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/259)، ((الوسيط)) للواحدي (3/339)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/319)، ((تفسير ابن كثير)) (6/108)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 474)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/16)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/46). قال السعدي: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا يزيِّنُ له الباطِلَ، ويقَبِّحُ له الحَقَّ، ويَعِدُه الأمانيَّ، ثم يتخلَّى عنه، ويتبرَّأُ منه، كما قال لجميعِ أتْباعِه حين قُضيَ الأمرُ، وفَرَغ اللهُ مِن حسابِ الخَلقِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 582). وقال ابن عثيمين: (فالظَّاهِرُ أنَّ المرادَ بالإنسانِ هنا الجنسُ، يعني: المؤمِنَ أو الكافِرَ، وإنَّما قُلْنا: إنَّ ذلك هو الظَّاهِرُ؛ لأنَّه كما يُغْوي الكافرين بالكُفرِ، كذلك يُغوي المؤمنينَ بالفِسقِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 102). .
كما قال تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم: 22].
وقال سُبحانَه: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ [الحشر: 16] .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا فيه التَّحذيرُ مِن هذا اليومِ، وأنَّه يَنبغي الاستِعدادُ له، فيومُ القيامةِ لا يمكنُ أن يَفِرَّ الناسُ منه ومِن أهوالِه وأحكامِه [397] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 85). .
2- في قَولِه تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ تخويفٌ وتحذيرٌ مِن تَسَلُّطِ الملوكِ؛ فإنَّهم يجبُ أنْ يَذكُروا هذا اليومَ الذي تَزولُ فيه مِلكيَّتُهم، ولا يبقَى إلَّا مُلكُ اللهِ سُبحانَه وتعالى [398] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 91). .
3- في قَولِه تعالى: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا أنَّه كما علينا أن نَتَّبِعَ سبيلَ الرَّسولِ -عليه وآلِه الصلاةُ والسَّلامُ- الَّتي جاء بها مِن عندِ اللهِ تعالى، وهي الإسلامُ؛ كذلك علينا أن نَتَّبِعَ سبيلَه في القيامِ بشرائعِ الإسلامِ عِلمًا وعملًا؛ في أبوابِ العباداتِ، وأحكامِ المعامَلاتِ، وفي تطبيقِ أصولِ الإسلامِ وفروعِه على الحياةِ العامَّةِ والخاصَّةِ، وهذه هي سُنَّتُه التي كان عليها، وكان عليها أصحابُه، وأهلُ القرنِ الثَّاني مِن التابعينَ، وأهلُ القرنِ الثالثِ مِن أتبَاعِ التابعينَ؛ تلك القرونُ المشهودُ لها بالخيريَّةِ على غيرِها بلسانِ المعصومِ، كما أنَّ مَن عدَلَ عنِ الإسلامِ ولم يَسلُكْ سبيلَه وَقَعَ في ضلالِ الكُفرِ؛ كذلك مَن عدَلَ عنِ السُّنَّةِ ولم يَسلُكْ سبيلَها وَقَعَ في ضلالِ الابتِداعِ، وكما أنَّ مَن لم يَتخِذْ مع الرَّسولِ سبيلَ الإسلامِ يَندَمُ أشدَّ الندمِ، ويَتَحَسَّرُ أعظَمَ الحَسرةِ على ما كان مِن تَفريطِه؛ كذلك مَن لم يَتَّخِذْ مع الرَّسولِ سبيلَ السُّنَّةِ؛ إذْ كلٌّ منهما قد ظَلَمَ نفْسَه، وفَرَّطَ في سبيلِ نجاتِه؛ فالآيةُ وإنْ كانت في الكافرِ والمشرِكِ، فهي تتناوَلُ بطريقِ الاعتِبارِ لكلِّ الأهواءِ والبدعِ، وبهذا كانتِ الآيةُ متناوِلةً بوَعْظِها وترهيبِها جميعَ الخلْقِ ممَّن لم يَدخُلْ في الإسلامِ، أو دخَلَ فيه ولم يلزَمْ سُنَّةَ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم [399] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 170). .
4- قَولُه تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا فيه التَّحذيرُ مِن قُرَناءِ السوءِ؛ لقولِه: لَقَدْ أَضَلَّنِي [400] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 104). . وأنَّه يجِبُ على المرءِ أن يختارَ لنفْسِه الأصحابَ: أهلَ العِلمِ والدِّينِ [401] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 97). . فلْينظُرِ العبدُ لنفْسِه وَقتَ الإمكانِ، ولْيَتدارَكِ المُمكنَ قبْلَ ألَّا يُمكنَ، ولْيُوالِ مَن وَلايتُه فيها سَعادتُه، ولْيُعادِ مَن تنفَعُه عداوتُه وتضُرُّه صداقتُه [402] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 582). ، ولْيَختَرْ مَنْ يُخالِلُ؛ فلا يخالَّ إلَّا مَن حَسُنَتْ سريرتُه، واستقامتْ سيرتُه، وغَلَب الصوابُ على أقوالِه وأعمالِه؛ ليكونَ دليلَه إلى الخَيرِ، وسائقَه إليه [403] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 171). .
5- قال الله تعالى: يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا عندَما تتخَلَّلُ محبَّةُ شَخصٍ مِن الناسِ قلْبَك، وتُمزَجُ برُوحِك، ويَستولي بسُلطانِ موَدَّتِه عليك؛ تصيرُ أقوالُه وأفعالُه كُلُّها عندَك مَرْضيَّةً، وعيوبُه ونقائصُه عنك محجوبةً، فتُمْسي طَوعَ بَنانِه، ورَهْنَ إشارتِه، يوجِّهُك حيث شاء، ويَصرِفُك عمَّا أراد. وهذه حالةٌ مِن أخطرِ الأحوالِ عليك؛ لأنَّك فيها قد سُلِبت تمييزَك، وخَسِرتَ إرادتَك، وصِرتَ آلةً في يدِ غَيرِك؛ فقد ترى الخيرَ وتُدْعى إليه فيَصرِفُك عنه، وقد ترى الشرَّ وتَحذَرَ منه فيُوقِعُك فيه!
وهَبْ هذا الخليلَ كان مخلِصًا لك، وحَدِبًا عليك؛ فإنَّه غيرُ معصومٍ مِن الخطأِ والضَّلالِ، أمَّا إذا كان شرِّيرًا مفسِدًا فهنالِكَ الهلاكُ المحقَّقُ، والوَبالُ الشَّديدُ، وقد ذكَرَ لنا اللهُ تعالى في هذه الآيةِ ما كان مِن سوءِ مثالِ الظالمِ بسببِ انقيادِه لخليلِه، واتِّباعِه له مِن غيرِ رويَّةٍ وصِدقِ تمييزٍ؛ تحذيرٌ مِن سلطانِ الخُلَّةِ الذي يُهمَلُ معه شأنُ الإرادةِ والتمييزِ، وتعليمٌ أنَّ علينا أنْ نحافظَ على إرادتِنا وتمييزِنا ونظرِنا لأنْفُسِنا مع الصَّديقِ والعدوِّ، ومع الخليلِ وغيرِ الخليلِ، بل نحافظُ عليها مع الخليلِ أكثرَ؛ لأنَّه مظِنَّةُ الخَوفِ بما له مِن المكانةِ في القلبِ، والسُّلطانِ على النَّفْسِ [404] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 171). .
6- قال الله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا فكلُّ مَن خرَجَ عن اتِّباعِ الرَّسولِ فهو ظالمٌ بحَسَبِ ذلك، والمُبتدِعُ ظالمٌ بقَدْرِ ما خالف مِن سُنَّتِه [405] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/129). .
7- التقليدُ المُحَرَّمُ بالنصِّ والإجماعِ: هو أنْ يُعارِضَ قولَ اللهِ ورسولِه بما يُخالِفُ ذلك، كائِنًا مَن كان المخالِفُ لذلك؛ قال الله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا * وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا [406] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (19/262). .
8- قال الله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لا ريبَ أنَّ هذا يتناوَلُ الكافِرَ الذي لم يؤمِنْ بالرَّسولِ؛ فإنَّ «الظلمَ المُطلَقَ» يتناوَلُ ذلك ويتناوَلُ ما دونَه بحسَبِه. فمَن خالَّ مخلوقًا في خِلافِ أمرِ اللهِ ورسولِه، كان له مِن هذا الوعيدِ نَصيبٌ، كما قال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [407] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/73). [الزخرف: 67] .
9- قال الله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي فكلُّ مَنِ اتَّخَذَ غيرَ الرَّسولِ، يَتركُ لأقوالِه وآرائِه ما جاء به الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فإنَّه قائلٌ هذه المقالةَ لا محالةَ؛ فهذا حالُ الخَليلينِ المتخالَّينِ على خِلافِ طاعةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومآلُ تلك الخُلَّةِ إلى العَداوةِ واللَّعنةِ، كما قال الله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] ، وقد ذُكِرَ حالُ هؤلاء الأتْباعِ وحالُ مَن تَبِعوهم في غيرِ مَوضِعٍ مِن كتابِه؛ كقَولِه تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب: 66 - 68] . تمنَّى القَومُ طاعةَ اللهِ ورَسولِه حين لا ينفَعُهم ذلك، واعتَذَروا بأنَّهم أطاعوا كُبراءَهم ورُؤساءَهم، واعتَرَفوا بأنَّهم لا عُذرَ لهم في ذلك، وأنَّهم أطاعوا السَّاداتِ والكُبَراءَ، وعَصَوُا الرَّسولَ، وآلت تلك الطَّاعةُ والموالاةُ إلى قَولِهم: رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب: 68] ، وفي بَعضِ هذا عِبرةٌ للعاقِلِ ومَوعِظةٌ شافيةٌ [408] يُنظر: ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 45). .
10- التَّحذيرُ مِن الظُّلْمِ الذي يُصَدُّ به الإنسانُ عن دينِ اللهِ، أو التَّحذيرُ مِن الظُّلمِ الذي يُوقِعُ الإنسانَ في مُخالَفةِ الرُّسُلِ؛ لقَولِه عزَّ وجلَّ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ؛ لأنَّ الغرضَ مِن ذلك التَّحذيرِ ليس مجرَّدَ القِصَّةِ، بلِ الغرضُ أن يَحذَرَ الإنسانُ مِن هذا الأمرِ الذي يكونُ مآلُ صاحبِه إلى هذا الحالِ [409] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 97). .
11- في قَولِه تعالى: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا إيماءٌ إلى أنَّ شأنَ الخُلَّةِ الثِّقةُ بالخَليلِ، وحملُ مَشورتِه على النُّصحِ؛ فلا ينبغي أن يَضَعَ المرءُ خُلَّتَه إلَّا حيثُ يُوقِنُ بالسَّلامةِ مِن إشاراتِ السُّوءِ؛ قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا [410] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/14). [آل عمران: 118] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا دَليلٌ على مجيءِ اللهِ تعالى يومَ القيامةِ -مع أنَّه ليس في الآيةِ ذِكرُ المجيءِ-؛ وذلك لأنَّ تشَقُّقَ السَّماءِ بالغَمامِ وتنزيلَ الملائكةِ إنَّما يكونانِ عندَ مجيءِ اللهِ للقَضاءِ بيْن عبادِه، فيكونُ مِن بابِ الاستِدلالِ بأحَدِ الأمْرَينِ على الآخَرِ؛ لِمَا بيْنَهما مِن التلازُمِ [411] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (4/273). .
2- قَولُه تعالى: وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا فيه أنَّ الملائكةَ في السَّماءِ [412] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 85). .
3- قَولُه تعالى: لِلرَّحْمَنِ لم يقُلْ: «للهِ»؛ إشارةً إلى كثرةِ رحمةِ اللهِ في ذلك اليومِ [413] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 87). .
4- قال الله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ فلا يبقى لأحدٍ مِن المخلوقين مُلكٌ ولا صورةُ مُلكٍ، كما كانوا في الدُّنيا، بل قد تساوت الملوكُ ورعاياهم، والأحرارُ والعبيدُ، والأشرافُ وغَيرُهم. وممَّا يرتاحُ له القَلبُ، وتطمئِنُّ به النَّفْسُ، ويَنشرِحُ له الصدرُ: أنْ أضاف المُلْكَ في يومِ القيامةِ لاسمِه «الرَّحمن» الذي وَسِعتْ رحمتُه كلَّ شيءٍ، وعَمَّتْ كلَّ حيٍّ، وملأتِ الكائناتِ، وعمَرتْ بها الدُّنيا والآخرةُ، وتمَّ بها كلُّ ناقِصٍ، وزال بها كلُّ نَقصٍ، وغلبتِ الأسماءُ الدالَّةُ عليه الأسماءَ الدالَّةَ على الغَضَبِ، وسبقتْ رحمتُه غضَبَه وغلَبَتْه، فلها السَّبْقُ والغَلَبةُ، وخَلَقَ هذا الآدميَّ الضعيفَ وشَرَّفَه وكَرَّمَه؛ لِيُتِمَّ عليه نِعمَتَه، ولِيتغمَّدَه برَحمتِه، وقد حضروا في موقِفِ الذُّلِّ والخُضوعِ والاستِكانةِ بيْنَ يدَيه ينتَظِرونَ ما يَحكُمُ فيهم، وما يجري عليهم، وهو أرحَمُ بهم مِن أنفُسِهم ووالِدِيهم، فما ظنُّك بما يُعامِلُهم به؟! ولا يَهلِكُ على اللهِ إلَّا هالِكٌ، ولا يَخرُجُ مِن رحمتِه إلَّا مَن غلَبَتْ عليه الشَّقاوةُ، وحَقَّتْ عليه كلمةُ العذابِ [414] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 581). !
5- في قَولِه تعالى: وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا دليلٌ على أنَّه على المؤمنين يَسيرٌ، وهي بِشارةٌ لهم؛ إذ مُحالٌ أن يَخُصَّ الكفَّارَ بصِفةِ عقوبةٍ لهم إلَّا والمؤمِنونَ بضِدِّ تلكَ الصِّفةِ [415] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/507). .
6- في قَولِه تعالى: وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا دَليلٌ على اختِلافِ النَّاسِ في ذلك الموقِفِ؛ وأنَّ يُسْرَ ذلك اليومِ وعُسرَه بحسَبِ حالِ الإنسانِ؛ فكلَّما كان الإنسانُ أشَدَّ إيمانًا وأشدَّ تقوى للهِ عزَّ وجلَّ، كان ذلك اليومُ أيسَرَ له، وكلَّما كان الإنسانُ أعتى وأكفَرَ كان أشَدَّ وأعظَمَ، والقاعدةُ: أنَّه إذا عُلِّق الحُكمُ على وصفٍ، كان أثَرُ ذلك الحُكمِ بحسَبِ ذلك الوَصفِ، يعني: أنَّ تأثيرَ الوَصفِ في الحُكمِ بحَسَبِ الوصفِ، فإذا كان العُسرُ معلَّقًا بالكُفرِ، فكُلَّما كان الكفرُ أشَدَّ كان العُسرُ أشَدَّ، وإذا عُلِّق اليُسرُ بالإيمانِ، صار كلَّما كان الإيمانُ أقوى كان اليُسرُ أقوى [416] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 88). .
7- في قَولِه تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي أنَّ عمومَ الظَّالمِين في يومِ القيامةِ يُؤمِنونَ بالحقِّ؛ لِقَولِه: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي، فأقَرَّ بأنَّ الذِّكرَ قد جاءه، وأقَرَّ بأنَّ ما جاءه ذِكرٌ يَتذكَّرُ به المرءُ [417] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 104). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا عَطْفٌ على جُملةِ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ [الفرقان: 22] ، والمقصودُ: تأْيِيسُهم مِنَ الانتِفاعِ بأعمالِهم وبآلهتِهم، وتأكيدُ وعيدِهم. وأَدمَج في ذلك وَصْفَ بَعضِ شُؤونِ ذلك اليَومِ، وأنَّه يَومُ تَنزيلِ الملائكةِ بمَرْأى مِنَ النَّاسِ [418] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/9). .
- قَولُه: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ فيه إعادةُ لَفظِ (يوم) على طريقةِ الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ وإنْ كان ذلك يَومًا واحدًا؛ لِبُعْدِ ما بيْن المُعادِ ومكانِ الضَّميرِ [419] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/9). .
- قَولُه: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ لَمَّا كان انشِقاقُ السَّماءِ بسَببِ طُلوعِ الغَمامِ منها، جعَلَ الغَمامَ كأنَّه الَّذي تَشقَّقَ به السَّماءُ، ونظيرُه قولُه تعالى: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل: 18] . وقيل: الباءُ باءُ الحالِ، أي: مُتغيِّمةً [420] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/275)، ((تفسير أبي السعود)) (8/100). .
- قَولُه: وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا فيه تأكيدُ الفِعلِ (نُزِّلَ) بالمفعولِ المطْلَقِ تَنْزِيلًا؛ لإفادةِ أنَّه نزولٌ بالذَّاتِ [421] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/10). ، وفيه دَلالةٌ على أنَّ الملائكةَ يَنزِلونَ شَيئًا فشَيئًا، لا يَنزِلون جُملةً [422] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 80). .
2- قَولُه تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا
- قَولُه: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ هو صَدْرُ الجُملةِ المعطوفةِ؛ فيَتعلَّقُ به وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ، وإنَّما قُدِّم عليه للاهتِمامِ به؛ لإثارةِ الطَّمعِ، وللتَّشويقِ إلى تَعيينِ إبَّانِه حتَّى إذا وردَ ما فيه خَيبةُ طَمَعِهم كان له وقْعُ الكآبةِ على نفوسِهم حينما يَسمَعونه. وتَكريرُ يَوْمَئِذٍ للتَّأكيدِ والتَّهويلِ [423] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/10). .
- وفائدةُ التَّقييدِ بـ يَوْمَئِذٍ في قولِه: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ: أنَّ ثبوتَ المُلكِ المذكورِ له تعالى خاصَّةً يَومَئذٍ، وأمَّا فيما عَداهُ مِن أيَّامِ الدُّنيا فيكونُ لِغَيرِه أيضًا تصرُّفٌ صُوريٌّ في الجُملةِ [424] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/213). ، ففي ذلك اليومِ لا مالكَ سِواهُ -لا في الصورةِ ولا في المعنى- فتخضَعُ له الملوكُ، وتَعْنُو له الوجوهُ، وتَذِلُّ له الجبابرةُ، بخلافِ سائرِ الأيَّامِ [425] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/453). . وإيرادُه تعالى بعُنوانِ الرَّحمانيَّةِ؛ للإيذانِ بأنَّ اتِّصافَه تعالى بغايةِ الرَّحمةِ لا يُهوِّنُ الخَطْبَ على الكَفَرةِ؛ لعَدمِ استِحقاقِهم للرَّحمةِ [426] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/213). .
- قَولُه: وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا اعتِراضٌ تَذْيِيليٌّ مُقرِّرٌ لِما قَبْلَه. وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عَلَى الْكَافِرِينَ؛ لمراعاةِ الفَواصلِ [427] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/213). . وقيل: تقديمُ عَلَى الْكَافِرِينَ للحَصْرِ والقَصرِ، وهو قصْرٌ إضافيٌّ، أي: دُونَ المؤمنينَ [428] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/11). .
3- قَولُه تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا
- قَولُه: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ عَضُّ اليدَينِ والأنامِلِ كِنايةٌ عنِ الغَيظِ والحَسرةِ؛ لأنَّها مِن رَوادِفِها، فيَذكُرُ الرَّادفةَ ويدُلُّ بها على المَردوفِ، فيَرتفِعُ الكلامُ به في طَبقةِ الفَصاحةِ، ويَجِدُ السَّامعُ عِندَه في نفْسِه مِنَ الرَّوعةِ والاستِحسانِ ما لا يَجِدُه عِندَ لفظِ المُكنَى عنه؛ فشأنُ مَن وقَع في غَيظٍ وحَسرةٍ ونَدامةٍ أنْ يَعَضَّ يَديهِ، ويأكُلَ بَنانَه كأنَّه لَمَّا لم يجِدْ شيئًا يُطفئُ فيه غيظَه، رَجَع على نفْسِه بذلك؛ فلذا يُكنَى به عنها؛ مِن إطلاقِ اللازمِ وإرادةِ الملزومِ، وذلك لا يَمنَعُ مِن وجودِ العَضِّ منه حقيقةً، بل وقوعُ ذلك هو الشأنُ الغالبُ [429] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/276)، ((تفسير أبي حيان)) (8/101، 102)، ((تفسير أبي السعود)) (6/213)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/12)، ((تفسير ابن باديس)) (ص: 169). .
- والعَضُّ: الشَّدُّ بالأسنانِ على الشَّيءِ؛ لِيُؤْلِمَه أو ليُمْسِكَه، وحقُّه التَّعديةُ بنفْسِه -فيُقال: عَضَّ يَديهِ-، إلَّا أنَّه كثُرَتْ تَعديتُه بـ (على)؛ لإفادةِ التَّمكُّنِ مِنَ المَعضوضِ إذا قصَدوا عضًّا شديدًا، كما في هذه الآيةِ [430] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/12). .
- واللَّامُ في الظَّالِمُ يَجوزُ أن تكونَ للعهدِ، ويَجوزُ أن تكونَ للجِنسِ [431] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/276)، ((تفسير أبي حيان)) (8/101)، ((تفسير أبي السعود)) (6/213، 214). .
- قَولُه: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا لَيْتَنِي نداءٌ للكلامِ الدَّالِّ على التَّمنِّي، وهذا النِّداءُ يَزيدُ المُتمنَّى استِبعادًا [432] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/13). ؛ نادَى ويْلَتَه -أي: هلَكَتَه- لِتَحضُرَ في ذلك الوقتِ؛ لأنَّه وقْتُها، وليس نِداؤُها رَغبةً في حُضورِها؛ فالهلاكُ لا يُرغَبُ فيه، وإنَّما نادى الهلاكَ لِيَحضُرَ؛ لِمَا حصَلَ له مِن اليأْسِ والقنوطِ مِن أسبابِ النَّجاةِ، فلمْ يَبْقَ له إلَّا الهلاكُ [433] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 170). .
- وجملةُ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا حاليَّةٌ؛ فهو يعَضُّ حالةَ كونِه قائلًا: يا لَيْتني، فبيَّنَتْ هذه الجُملةُ ما يقولُ، كما بيَّنَت الَّتي قبْلَها ما يَعمَلُ، فصَوَّرتاهُ في حالِه الشَّنيعِ الفظيعِ [434] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 170). .
- وإنَّما عَدَلَ عنِ الإتيانِ بفِعلِ الاتِّباعِ ونَحوِه بأنْ يُقالَ: (يا لَيْتَني اتَّبعْتُ الرَّسولَ)، إلى هذا التَّركيبِ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا الذي فيه إطْنابٌ؛ لأنَّ في هذا التَّركيبِ تَمثيلَ هَيئةِ الاقتِداءِ بهَيئةِ مُسايرةِ الدَّليلِ تمثيلًا مُحتويًا على تَشبيهِ دَعوةِ الرَّسولِ بالسَّبيلِ، ومُتضمِّنًا تَشبيهَ ما يَحصُلُ عن سُلوكِ ذلك السَّبيلِ مِنَ النَّجاةِ ببُلوغِ السَّائرِ إلى المَوضعِ المقصودِ؛ فكان حُصولُ هذه المعاني صائرًا بالإطنابِ إلى إيجازٍ، وأمَّا لفْظُ المتابعةِ فقد شاع إطلاقُه على الاقتِداءِ، فهو غيرُ مُشعِرٍ بهذا التَّمثيلِ [435] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/13). .
- والتَّنكيرُ في قولِه: سَبِيلًا للإفرادِ، أي: سبيلًا واحدًا لا تعدُّدَ فيه، بخِلافِ ما كان عليه الظَّالمُ مِن سُبُلِ أهوائِه المُتعدِّدةِ المُتشعِّبةِ [436] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 170). .
4- قَولُه تعالى: يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا
- قَولُه: يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا تَحسُّرٌ بطريقِ نِداءِ الوَيلِ، والألِفُ عِوَضٌ عن ياءِ المتكلِّمِ، وهو تَعويضٌ مشهورٌ في نِداءِ المضافِ إلى ياءِ المُتكلِّمِ [437] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/13). . وهذا التَّمنِّي منه وإنْ كان مَسوقًا لإبرازِ النَّدمِ والحَسرةِ، لكنَّه مُتضمِّنٌ لنَوعِ تَعلُّلٍ واعتِذارٍ بإسنادِ جِنايتِه إلى الغَيرِ [438] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/214). .
- وكلمةُ (فُلان) كِنايةٌ عن الأَعلامِ؛ فإنْ أُريدَ بـ الظَّالِمُ عُقْبةُ -أي: ابنُ أبي مُعَيطٍ-؛ فمعنى قولِه: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا: لَيْتَني لمْ أتَّخِذْ أُبَيًّا -أي: ابنَ خَلَفٍ- خَليلًا؛ فكَنَى عنِ اسمِه. وإنْ أُريدَ به الجِنسُ، فكلُّ مَنِ اتَّخَذ مِنَ المُضلِّينَ خليلًا كان لخَليلِه اسمٌ عَلَمٌ لا مَحالةَ، فجَعَله كِنايةً عنه؛ فعلى هذا الجملةُ مُعترِضةٌ مُذيِّلةٌ، وعلى التَّعيينِ يَجوزُ أن يكونَ حالًا [439] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/276، 277)، ((تفسير البيضاوي)) (4/123)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/223)، ((تفسير أبي السعود)) (6/214)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/8). . وقيل: (فُلانٌ) كِنايةٌ عنِ الشَّيطانِ [440] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/101، 102). . والدَّاعي إلى الكِنايةِ بـ (فُلانٍ) إمَّا قصْدُ إخفاءِ اسمِه خِيفةً عليه، أو خِيفةً مِن أهْلِهم، أو للجَهلِ به، أو لعدَمِ الفائدةِ لذِكْرِه، أو لقصْدِ نَوعِ مَن له اسمٌ عَلَمٌ. وهذانِ الأَخيرانِ هُمَا اللَّذانِ يَجْريانِ في هذه الآيةِ إنْ حُمِلَتْ على إرادةِ خُصوصِ عُقْبةَ وأُبَيٍّ، أو حُمِلَتْ على إرادةِ كلِّ مُشرِكٍ له خَليلٌ صَدَّه عنِ اتِّباعِ الإسلامِ. وإنَّما تَمنَّى ألَّا يكونَ اتَّخذَه خليلًا دُونَ تَمنِّي أن يكونَ عَصاهُ فيما سَوَّلَ له؛ قصْدًا للاشمِئْزازِ مِن خُلَّتِه مِن أصْلِها، إذْ كان الإضلالُ مِن أحوالِها [441] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/14). .
- وقيل: كَنَى (بفلانٍ)؛ لأنَّ لكلِّ ظالمٍ خليلًا له اسْمُه الخاصُّ؛ فلا يُمكِنُ التَّصريحُ بأسماءِ الجميعِ، فما بقِيَ إلَّا الكِنايةُ عنها بفُلانٍ [442] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 170). .
5- قَولُه تعالى: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا تعليلٌ لتَمنِّيه ألَّا يكونَ اتَّخَذ فُلانًا خَليلًا بأنَّه قد صَدَر عن خُلَّتِه أَعظَمُ خُسرانٍ لخليلِه؛ إذْ أَضَلَّه عنِ الحقِّ بعْدَ أن كاد يَتمكَّنُ منه [443] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/15)، ((تفسير أبي السعود)) (6/214). ، وتَصديرُه باللَّامِ القسَميَّةِ؛ للمُبالَغةِ في بيانِ خَطئِه، وإظهارِ ندَمهِ وحَسْرتِه [444] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/214). .
- وجملةُ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي بيانٌ لسببِ تَمنِّيه السابِقِ [445] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 170). .
- وقولُه: بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي إِذْ ظرْفٌ للزَّمنِ الماضي، أي: بعْدَ وقْتٍ جاءَني فيه الذِّكرُ، والإتيانُ بالظَّرفِ هنا دُونَ أن يُقالَ: (بعدَ ما جاءَني)، أو (بعدَ أنْ جاءَني)؛ للإشارةِ إلى شدَّةِ التَّمكُّنِ مِنَ الذِّكرِ؛ لأنَّه قد استَقرَّ في زمنٍ وتحقَّقَ، ومنه قولُه تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ [التوبة: 115] ، أي: تَمَكَّنَ هَدْيُه منهم [446] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/16). .
- قَولُه: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا اعتِراضٌ مقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَه؛ إمَّا مِن جهتِه تعالى، أو مِن تمامِ كلامِ الظَّالمِ، على أنَّه سَمَّى خليلَه شيطانًا بعْدَ وصْفِه بالإضلالِ الَّذي هو أخَصُّ الأوصافِ الشَّيطانيَّةِ؛ لأنَّه أضَلَّه كما يُضِلُّ الشَّيطانُ، ثمَّ خَذَله ولمْ يَنفَعْه في العاقبةِ، أو على أنَّه أرادَ بالشَّيطانِ إبليسَ؛ لأنَّه الَّذي حمَلَه على مُخالَّةِ المُضلِّينَ، ومُخالَفةِ الرَّسولِ الهادي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بوَسوَستِه وإغوائِه، ثمَّ خذَلَه. أو أرادَ الجِنسَ، وكلَّ مَن تَشَيْطَنَ مِنَ الجنِّ والإنسِ. لكنْ وصْفُه بالخِذلانِ يُشعِرُ بأنَّه كان يَعِدُه في الدُّنيا ويُمَنِّيه بأنْ يَنفَعَه في الآخِرةِ، وهو أَوْفَقُ بحالِ إبليسَ [447] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/277)، ((تفسير البيضاوي)) (4/123)، ((تفسير أبي حيان)) (8/102)، ((تفسير أبي السعود)) (6/214). .
- وقيل: هو تَذْييلٌ مِن كلامِ اللهِ تعالى لا مِن كلامِ الظَّالمِ؛ تَنبيهًا للنَّاسِ على أنَّ كلَّ هذا الإضلالِ مِن عمَلِ الشَّيطانِ، فهو الَّذي يُسَوِّلُ لخَليلِ الظَّالمِ إضلالَ خَليلِه؛ لأنَّ الشَّيطانَ خَذولُ الإنسانِ، أي: مَجْبولٌ على شدَّةِ خَذْلِه... والخَذْلُ: ترْكُ نصْرِ المُستنجِدِ مع القدرةِ على نصْرِه، فإذا أَعانَ على الهزيمةِ فهو أشدُّ الخَذْلِ، وهو المقصودُ مِن صيغةِ المُبالَغةِ في وصْفِ الشَّيطانِ بخَذْلِ الإنسانِ؛ لأنَّ الشَّيطانَ يَكيدُ الإنسانَ فيُورِّطُه في الضُّرِّ، فهو خَذولٌ [448] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/16، 17). .
- وقيل: (أل) في (الشَّيْطَان) و(الإنْسَانِ) للجِنسِ؛ فيَدخُلُ في جِنسِ الشَّيطانِ خليلُ الظَّالمِ الَّذي صدَّه عن الذِّكرِ، وقرينُ خَليلِه مِن الجنِّ الَّذي سوَّل له ذلك وأعانَه، وقرينُه هو الَّذي زيَّنَه له ودعاهُ إليه [449] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 170). .