موسوعة التفسير

سورةُ الفُرقانِ
الآيات (17-19)

ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ

غريب الكلمات:

بُورًا: أي: هَلْكى، مِن: بارَ يَبورُ: إذا هلَك وبطَل، وأصلُ (بور) هنا: يدُلُّ على هَلاكِ الشَّيءِ، وما يُشْبِهُه مِن تَعَطُّلِه وخُلُوِّه .
صَرْفًا: أي: دَفعًا وحِيلةً، وأصلُ (صرف): يدُلُّ على رَجعِ الشَّيءِ .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ الله تعالى حالَ المشركينَ وآلهتِهم الباطلةِ يومَ القيامةِ، فيقولُ: اذكُرْ -أيُّها الرسولُ- يومَ القيامةِ حين يَحشُرُ اللهُ المُشرِكين وما عَبَدوه مِن دونِ اللهِ، فيقولُ اللهُ لهذه الآلهةِ المزعومةِ: أأنتم أضلَلتُم عبادي هؤلاء، أمْ هم الذين ضَلُّوا عن الهُدى؟ فتقولُ: سبحانَك، ما يحِقُّ لنا أن نعبُدَ غَيرَك ولا أن نُشرِكَ بك أحدًا في عبادتِك، ولكِنَّك -يا رَبَّنا- متَّعْتَ هؤلاءِ المُشرِكين وآباءَهم بالنِّعَمِ، حتى تَرَكوا وَحْيَك المنزَّلَ، وفيه ما أمَرْتَهم به مِن توحيدِك وعبادتِك وحْدَك، وكانوا قومًا مُهلَكينَ.
فيقولُ اللهُ تعالى لهؤلاء الكافرين مُبَكِّتًا ومُقَرِّعًا لهم: قد كذَّبَكم مَنْ عبَدْتُموهم وردُّوا قولَكم الباطِلَ، فقد وجَب عليكم العذابُ، فلا تملِكون له ردًّا ولا دَفعًا، ولا نَصرًا مِن جهةِ أنفُسِكم، أو مِن جِهةِ غَيرِكم. ومَن يكفُرْ باللهِ تعالى منكم نعذِّبْه عذابًا كبيرًا.

تفسير الآيات:

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا توَعَّدَهم بالسَّعيرِ وما يُلاقون مِن هَولِها؛ بَيَّنَ لهم حالَ ما قبْلَ ذلك، وهو حالُهم في الحَشرِ مع أصنامِهم .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ لهم حالَهم في السَّاعةِ معه سُبحانَه؛ أتبَعَه ذِكرَ حالِهم مع معبوداتِهم مِن دُونِه، فقال :
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
أي: واذكُرْ -أيُّها الرَّسولُ - يومَ القيامةِ حين يَحشُرُ اللهُ المُشرِكين ومَعبوداتِهم التي عَبَدوها مِن دونِ اللهِ .
فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ.
أي: فيقولُ اللهُ للمَعبوداتِ التي كان يعبُدُها المُشرِكون: أأنتم أضلَلْتُم عبادي هؤلاء عن طَريقِ الهُدى، ودعَوْتُموهم إلى عبادتِكم مِن دوني حتى فَعَلوا ذلك، أمُ هم الذين ضَلُّوا عن طَريقِ الحَقِّ مِن تِلقاءِ أنفُسِهم مِن غيرِ دَعوةٍ وتَضليلٍ منكم ؟
كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ... [المائدة: 116] .
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا.
القراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التفسيرِ:
في قوله تعالى: نَتَّخِذَ قراءتانِ:
1- قراءةُ: نُتَّخَذَ بضمِّ النُّونِ، وفتحِ الخاءِ، على البناءِ للمفعولِ؛ أيْ: ما كان يَنْبَغي لنا أنْ يَتَّخِذَنا المشرِكونَ أولِياءَ مِن دونِكَ .
2- قراءةُ: نَتَّخِذَ بِفتحِ النُّونِ، وكسرِ الخاءِ، والمعنى أنَّ هؤلاءِ المعبودينَ هم الَّذينَ تَبَرَّءوا أنْ يكونَ كانَ لهم وَلِيٌّ غيرُ اللَّهِ تعالَى ذِكْرُه .
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ.
أي: قال المعبودون مِن دونِ اللهِ: ننزِّهُك -يا اللهُ- عن مُشارَكتِك في الألوهيَّةِ، فما يليقُ ولا يحِقُّ لنا أن نَعبُدَ غَيرَك، ونواليَ سِواك، ولا نطلُبَ مِن النَّاسِ أن يكونوا عابدينَ لنا؛ فنحن ما دعَوْناهم إلى ذلك، بل هم فَعَلوه مِن تِلْقاءِ أنفُسِهم مِن غيرِ أمْرِنا ولا رِضانا، ونحن بُرآءُ منهم ومِن عبادتِهم .
كما قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 40، 41].
وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ.
أي: ولكِنْ متَّعْتَ -يا ربَّنا- هؤلاء المُشرِكين وآباءَهم في الدُّنيا بالنِّعَمِ، فانشَغَلوا بالشَّهواتِ حتى تَرَكوا وَحْيَك المنزَّلَ، وفيه الأمرُ بتوحيدِك وعبادتِك وحْدَك لا شَريكَ لك .
وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا.
أي: وكان المُشرِكون قومًا هَلْكى، قد غلَب عليهم الخِذلانُ والشَّقاءُ .
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا.
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ.
أي: فقد كذَّبَكم -أيُّها المُشرِكون- مَن عبَدْتُموهم مِن دُونِ اللهِ، وأنكروا قَولَكم أنَّهم أمَروكم بعبادتِهم، ورَضُوا فِعْلَكم، وأنَّهم شُفَعاءُ لكم عندَ رَبِّكم، وكذَّبوكم في زَعمِكم أنَّهم آلهةٌ !
كما قال تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ [النحل: 86].
وقال عزَّ وجلَّ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81، 82].
وقال تبارك وتعالى: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 6].
فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التفسيرِ:
1- قراءةُ تَسْتَطِيعُونَ بالتاءِ على الخِطابِ للمُشرِكين، أي: فما تَستطيعونَ -يا عَبَدةَ الأوثانِ- صَرفًا لعذابِ اللهِ عنكم، ولا نَصرًا منه لأنفُسِكم .
2- قراءةُ يَسْتَطِيعُونَ بالياءِ على الإخبارِ عن المعبودينَ مِن دونِ الله، أي: فما يستطيعُ الآلهةُ صَرفًا لعذابِ اللهِ عنكم -أيُّها المشركون- ولا نَصرًا لكم .
فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا
أي: فما تَستطيعون -أيُّها المُشرِكونَ- صَرْفَ عذابِ اللهِ عنكم بفِداءٍ أو غيرِه، ولا تستطيعونَ نَصرَ أنفُسِكم؛ لِعَجزِكم .
وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا
أي: ومَن يَظلِمْ نفْسَه منكم بالشِّركِ، نُعَذِّبْه في النَّارِ عذابًا كبيرًا .
كما قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة: 72] .

الفوائد التربوية:

في قولِه تعالى: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ أنَّه لا تجوزُ الوَلايةُ والعَداوةُ إلَّا بإذنِ اللهِ؛ فكلُّ وَلايةٍ مَبنيَّةٍ على مَيلِ النَّفْسِ ونَصيبِ الطَّبعِ، فذاك على خِلافِ الشَّرعِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ. إن قيل: إن كانت الأصنامُ التي تُعبَدُ تُحشَرُ، فكيف تَنطِقُ وهي جمادٌ؟
فالجواب: يُنطِقُها الله تعالى يومَ القيامةِ كما يُنطِقُ الأيديَ والأرجُلَ ، فإسنادُ القَولِ إلى ما يُعبَدون مِن دونِ اللهِ يَقتضي أنَّ اللهَ يجعَلُ في الأصنامِ نُطقًا يَسمَعُه عبَدَتُها، أمَّا غيرُ الأصنامِ مِمَّن عُبِد مِن العُقَلاءِ، فالقَولُ فيهم ظاهِرٌ .
2- قال الله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ قَولُهم: سُبْحَانَكَ تعظيمٌ لله تعالى في مَقامِ الاعترافِ بأنَّهم ينَزِّهون اللهَ عن أن يَدَّعُوا لأنفُسِهم مشاركتَه في الإلهيَّةِ .
3- قَولُه تعالى: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ الإشارةُ إليهم؛ لتَمييزِهم مِن بيْنِ بقيَّةِ العِبادِ، وهذا أصلٌ في أداءِ الشَّهادةِ على عَينِ المشهودِ عليه لدى القاضي .
4- قال تعالى: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ «لا ينبغي» في كَلامِ اللهِ تعالى، ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لِلَّذي هو في غايةِ الامتِناعِ شَرعًا؛ كقَولِه تعالى: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [مريم: 92] ، وقَولِه تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69] ، وقَولِه تعالى: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ [الشعراء: 210، 211].

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ
- قَولُه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ نُصِبَ على أنَّه مَفعولٌ لِمُضمرٍ مُقدَّمٍ مَعطوفٍ على قولِه تعالى: قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ إلخ [الفرقان: 15] ، إنْ كان المُرادُ: قُلْ للمُشرِكين. أو على قولِه: وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [الفرقان: 11] ، على جوازِ أنَّ المُرادَ: قُلْ للمُؤمِنينَ. والتَّقديرُ: واذكُرْ لهم بعْدَ التَّقريعِ والتَّحسيرِ يومَ يَحشُرُهم اللهُ عَزَّ وجلَّ. أو على أنَّه ظرْفٌ لمُضمَرٍ مُؤخَّرٍ؛ قد حُذِفَ للتَّنبيهِ على كَمالِ هَولِه وفَظاعةِ ما فيه، والإيذانِ بقُصورِ العِبارةِ عن بَيانِه .
- وتَعليقُ التَّذكيرِ باليومِ مع أنَّ المقصودَ تَذكيرُ ما وقَعَ فيه مِن الحوادثِ الهائلةِ؛ للمُبالَغةِ في إيجابِ ذِكْرِها؛ لِأنَّ إيجابَ ذِكْرِ الوَقتِ إيجابٌ لذِكْرِ ما وقَعَ فيه، ولأنَّ الوقتَ مُشتمِلٌ عليها؛ فإذا استُحضِرَ كانت حاضرةً بتَفاصيلِها كأنَّها مُشاهَدةٌ عِيانًا .
- واستعمالُ (مَا) في قولِه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ؛ إمَّا لأنَّ وضْعَه أعَمُّ، ولذلك يُطلَقُ لكلِّ شبَحٍ يُرى ولا يُعرَفُ، أو لأنَّه أُرِيدَ به الوصْفُ، كأنَّه قِيلَ: ومَعبودَهم. أو لتَغليبِ الأصنامِ؛ تَحقيرًا وتَنبيهًا على أنَّهم مِثْلُها في السُّقوطِ عن رُتبةِ المَعبوديَّةِ. أو اعتبارًا لغَلبةِ عُبَّادِها. أو يَخُصُّ الملائكةَ وعُزَيرًا والمسيحَ؛ بقَرينةِ السُّؤالِ والجوابِ. أو الأصنامُ يُنطِقُها اللهُ، أو تَتكلَّمُ بلسانِ الحالِ. وقولُه: فَيَقُولُ، أي: للمَعبودينَ، وهو على طَريقةِ تَلوينِ الخِطابِ . وقِيل: أنْ يكونَ عامًّا لهم جميعًا يأْباهُ جوابُ المَعبودينَ، وهو قولُهم: سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا؛ لأنَّهم ملائِكةٌ مَعصومونَ وأنبياءُ مَعصومونَ؛ فلا يدخُلُ فيه الأصنامُ، لكنْ عُدِلَ إلى (ما) إجراءً للمَعبودينَ مُجْرى غيرِ ذَوِي العُقولِ؛ تَحقيرًا لشأنِهم؛ لغايةِ قُصورِهم عن معنَى الرُّبوبيَّةِ، وتَنبيهًا على المُجانَسةِ المُنافيةِ للأُلوهيَّةِ .
- قَولُه: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ استِفهامُ تَقريعٍ وتَبْكيتٍ للعَبَدةِ. وحَذْفُ صِلَةِ (ضَلَّ) مُبالَغةٌ؛ فسُؤالُه تعالى وهو عالِمٌ بالمسؤولِ عنه؛ لِيُجيبوا بما أجابوا به، حتَّى يُبكِّتَ عَبَدتَهم بتَكذيبِهم إيَّاهم، فيُبْهَتوا ويَنْقطِعوا، وتَزِيدَ حَسرتُهم، ويكونَ ذلك نوعًا ممَّا يَلحَقُهم مِن غضَبِ اللهِ وعَذابِه، ويَغتبِطَ المُؤمِنون ويَفْرَحوا بحالِهم ونَجاتِهم مِن فَضيحةِ أولئك، وليكونَ حِكايةُ ذلك في القُرآنِ لُطْفًا للمُكلَّفينَ. وجاء الاستفهامُ مُقدَّمًا فيه الاسمُ على الفِعلِ، ولم يقُلْ: أضلَلْتُم عِبادي هؤلاء أمْ ضلُّوا السَّبيلَ؛ بحذْفِ (أنتُم) و(هم)؛ لأنَّ السُّؤالَ ليس عن الفِعلِ ووُجودِه؛ لأنَّه لولا وُجودُه لَمَا توجَّهَ هذا العِتابُ، وإنَّما هو عن مُتولِّيهِ، فلا بُدَّ مِن ذِكْرِه، وإيلائِه حَرْفَ الاستفهامِ حتَّى يُعلَمَ أنَّه المسؤولُ عنه . وقيل: هو استِفهامٌ تقْريريٌّ للاستِنطاقِ والاستِشهادِ. والمعنى: أأنتُمْ أضْلَلْتُموهم أمْ ضَلُّوا مِن تِلقاءِ أنفُسِهم دونَ تَضليلٍ منكم؛ ففي الكلامِ حَذْفٌ دلَّ عليه المذكورُ .
- وأخبَرَ بفِعلِ: أَضْلَلْتُمْ عن ضَميرِ المُخاطَبينَ المُنفصِلِ، وبفِعلِ ضَلُّوا عن ضَميرِ الغائبينَ المُنفصِلِ؛ لِيُفيدَ تَقديمُ المُسنَدِ إليهما على الخَبرينِ الفِعْلِيَّينِ تَقْويةَ الحُكْمِ المُقرَّرِ به؛ لإشعارِهم بأنَّهم لا مَناصَ لهم مِن الإقرارِ بأحَدِ الأمْرَينِ، وأنَّ أحدَهم مُحقَّقُ الوُقوعِ لا مَحالةَ؛ فالمقصودُ بالتَّقويةِ هو مُعادِلُ هَمزةِ الاستِفهامِ، وهو أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ . وإعادةُ فِعْلِ ضَلُّوا في قولِه: أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ؛ لِيَجْرِيَ على ضَميرِهم مُسنَدٌ فِعليٌّ، فيُفِيدَ التَّقويةَ في نِسبةِ الضَّلالِ إليهم .
- ووصْفُ العِبادِ هنا بقولِه: عِبَادِي هَؤُلَاءِ تَسجيلٌ على المُشرِكين بالعُبوديَّةِ، وتعريضٌ بكُفرانِهم حقَّها .
2- قَولُه تعالى: قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا استِئنافٌ مَبْنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ مِن حكايةِ السُّؤالِ؛ كأنَّه قِيلَ: فماذَا قالوا في الجوابِ؟ فقيل: قالوا... .
- قَولُه: سُبْحَانَكَ إمَّا على إرادةِ مُطلَقِ التَّعجُّبِ ممَّا قِيل لهم مِن قولِه: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي، أو نَطَقوا بكلمةِ التَّسبيحِ كِنايةً عن البَراءةِ عن أنفُسِهم ذلك القولَ، أو أرادوا مَوضوعَها اللُّغويَّ مِن التَّنزيهِ والتَّقديسِ؛ قدَّسوا ساحةَ جَلالِ اللهِ عمَّا لا يَلِيقُ بحَضرتِه مِن النِّدِّ والضِّدِّ .
- ولَمَّا كان السُّؤالُ على التَّعريضِ التَّوبيخيِّ -والمقصودُ تَبْكيتُهم، وإلْزامُ الحُجَّةِ عليهم، وتَفضيحُهم على رُؤوسِ الأشهادِ- أجابوا أوَّلًا بما يدُلُّ على تَبرُّئِهم مِن نِسبةِ الإضلالِ إلى أنفُسِهم بأقْصى ما يُمكِنُ مِن المُبالَغةِ؛ خِذْلانًا لهم، وكان مِن حقِّ الظَّاهرِ: إنَّا ما أضلَلْناهم، فأطْنَبوا بقولِهم: سُبْحَانَكَ إلى آخِرِه؛ تَعجُّبًا، أي: كيف يَصِحُّ منَّا أنْ نصِفَك بما لا يَلِيقُ بجَلالِك، ونحن عالِمون بالتَّقديسِ، وكيف يَستقيمُ لنا أنْ نَحمِلَ غيرَنا أنْ يَتولَّونا دونَك، ونحن العابِدون؟! وثانيًا: بما يدُلُّ على أنَّ الكَفرةَ هم ضلُّوا السَّبيلَ، لكنْ بتَقديرِ اللهِ وإضلالِه، فأطْنَبوا في تَعبيرِهم بقولِه: لَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ إلى آخِرِه .
- قَولُه: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ كِنايةٌ عنِ انتِفاءِ طلَبِهم هذا الاتِّخاذَ انتفاءً شديدًا. والخبَرُ مُستعمَلٌ في لازمِ فائِدتِه، أي: نَعلَمُ أنَّه لا يَنْبغي لنا؛ فكيف نُحاوِلُه ؟!
- وتَنكيرُ أَوْلِيَاءَ مِن حيثُ إنَّهم أولياءُ مَخْصوصون، وهم الجِنُّ والأصنامُ. على القولِ بأنَّ القائلين الملائكةُ والأنبياءُ؛ فتعيَّنَ أنْ يكونَ الباقي الجِنَّ والأصنامَ؛ لأنَّ المعبودينَ مُنحصِرون في هؤلاء. ويجوزُ أنْ يكونَ المعبودونَ عامًّا، والتَّقديرُ: ما يَنبغِي لنا أن نُحسَبَ مِن بعضِ ما يقَعُ عليه اسمُ الولايةِ، فضْلًا مِن الكلِّ؛ فإنَّ الوليَّ قد يكونُ مَعبودًا ومالِكًا ومَخدومًا. أو التَّقديرُ: نتَّخِذَ مَعبودينَ مِن أولياءَ، أي: مِن جِهةِ أولياءَ؛ فحَذْفُ مَفعولِ الاتِّخاذِ مَعهودٌ .
- و(مِن) في قولِه: مِنْ أَوْلِيَاءَ مَزيدةٌ؛ لتأكيدِ عُمومِ النَّفيِ، أي: استِغراقِه؛ لأنَّه نَكِرةٌ في سِياقِ النَّفيِ. وقيل: للتَّبعيضِ، أي: لا نتَّخِذَ بعضَ أولياءَ .
- والاستدراكُ الَّذي أفادَهُ (لكنْ) في قولِه: وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ ناشئٌ عن التَّبرِّي مِن أنْ يكونوا هم المُضِلِّينَ لهم، بتَعقيبِه ببَيانِ سَببِ ضلالِهم؛ لئلَّا يُتوهَّمَ أنَّ تَبرئةَ أنفُسِهم مِن إضلالِهم يرفَعُ تَبِعةَ الضَّلالِ عن الضَّالِّينَ. والمقصودُ بالاستِدراكِ ما بعْدَ (حتَّى)، وهو: نَسُوا الذِّكْرَ، وأمَّا ما قبْلَها؛ فقد أُدمِجَ بيْن حَرفِ الاستِدراكِ ومَدخولِه ما يُسجِّلُ عليهم فَظاعةَ ضَلالِهم؛ بأنَّهم قابَلوا رَحمةَ اللهِ ونِعمتَه عليهم وعلى آبائِهم بالكُفرانِ؛ فالخبَرُ عن اللهِ بأنَّه متَّعَ الضَّالِّين وآباءَهم مُستعمَلٌ في الثَّناءِ على اللهِ بسَعةِ الرَّحمةِ، وفي الإنكارِ على المُشرِكين مُقابَلةَ النِّعمةِ بالكُفرانِ؛ غضَبًا عليهم. وجعَلَ نِسيانَهم الذِّكْرَ غايةً للتَّمتيعِ؛ للإيماءِ إلى أنَّ ذلك التَّمتيعَ أفْضى إلى الكُفرانِ؛ لِخُبثِ نُفوسِهم، قال تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 82] .
- قَولُه: وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ التَّعرُّضُ إلى تَمتيعِ آبائِهم هنا، معَ أنَّ نِسيانَ الذِّكْرِ إنَّما حصَلَ مِن المُشرِكين الَّذين بلَغَتْهم الدَّعوةُ المُحمديَّةُ ونسُوا الذِّكْرَ: هو زِيادةُ تَعظيمِ نِعمةِ التَّمتيعِ عليهم بأنَّها نِعمةٌ مُتأثِّلةٌ تَليدةٌ، مع الإشارةِ إلى أنَّ كُفرانَ النِّعمةِ قد انجَرَّ لهم مِن آبائِهم الَّذين سَنُّوا لهم عِبادةَ الأصنامِ؛ ففيه تَعريضٌ بشَناعةِ الإشراكِ، ولو قبْلَ مَجيءِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
- وجُملةُ: وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا اعتِراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَه .
- وعلى القول بأنَّ بُورًا مَصدرٌ؛ فيكون وُصِفَوا به مُبالَغةً؛ ولذلك يَسْتوي فيه الواحدُ والجمْعُ .
- واجتِلابُ فِعْلِ (كان)، وبِناءُ بُورًا على قَوْمًا دونَ أن يُقالَ: (حتَّى نسُوا الذِّكْرَ وبارُوا)؛ للدَّلالةِ على تَمكُّنِ البَوارِ منهم بما تَقْتضيهِ (كان) مِن تَمكُّنِ معنى الخبَرِ، وما يَقْتضيهِ قَوْمًا مِن كَونِ البَوارِ مِن مُقوِّماتِ قَوميَّتِهم .
3- قَولُه تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا هذه الآيةُ كالخاتمةِ لِمَا يَجْري عليهم مِن الأحوالِ والنَّكالِ مِن لَدُنْ قولِه تعالى: إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [الفرقان: 12] .
- وقولُه: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا في الكَلامِ حذْفُ فِعلِ القولِ يدُلُّ عليه المَقامُ، والتَّقديرُ: إنْ قُلْتم: هؤلاء آلِهَتُنا، فقد كذَّبوكم، على تَقديرِ قولٍ مُرتَّبٍ علَى الجوابِ، أي: فقال اللهُ تعالى عِندَ ذلك: فقد كذَّبوكم. وفي حذْفِ فِعلِ القولِ في هذه الآيةِ استحضارٌ لصُورةِ المَقامِ كأنَّه مُشاهَدٌ غيرُ مَحكِيٍّ، وكأنَّ السَّامعَ آخِرَ الآيةِ قد سمِعَ لهذه المُحاوَرةِ مُباشَرةً دونَ حِكايةٍ، فقرَعَ سمْعَه شَهادةُ الأصنامِ عليهم، ثمَّ قرَعَ سمْعَه توجُّهُ خِطابِ التَّكذيبِ إلى المشهودِ عليهم، وهو تفنُّنٌ بَديعٌ في الحِكايةِ يَعتمِدُ على تَخييلِ المَحكيِّ واقِعًا؛ فجُملةُ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ... مُستأنَفةٌ ابتدائيَّةٌ، وهو الْتِفاتٌ إلى العَبَدةِ بالاحتِجاجِ والإِلزامِ، وإقبالٌ على خِطابِ الحاضِرينَ، وهو ضَربٌ مِن الالتِفاتِ، مِثلُ قولِه تعالى: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ بعْدَ قولِه: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [يوسف: 29] .
- وهذه المفاجأةُ بالاحتِجاجِ والإلزامِ التي في قولِه: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ حَسَنةٌ رائعةٌ، وخاصَّةً إذا انضمَّ إليها الالتِفاتُ؛ فالمفاجأةُ مِن تَعقُّبِ القِصَّةِ بالفاءِ التي تَستدعي ما يَترتَّبُ عليه، كأنَّ السامعَ لم يَنتظِرْ ما بعْدَ الفاءِ بتقديمِ ما يَترتَّبُ عليه ففُوجِئَ به، وهذا أسلوبٌ رائعٌ حسَنٌ، والالتفاتُ مِن قولِه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى قولِه: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ، كأنَّه قيل: أنتُم المخصوصونَ -أيُّها المكذِّبونَ- بأنْ يَفعَلَ بكم ما تَستحقُّونَه مِن الفَضيحةِ والنَّكالِ، ولا يُمهِلَكم فيه. والفاءُ في فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ فَصيحةٌ، أي: إفصاحٌ عن حُجَّةٍ بعْدَ تَهيئةِ ما يَقْتضيها، وهو إفصاحٌ رائعٌ، وزادَهُ الالْتِفاتُ في قولِه: كَذَّبُوكُمْ .
- قَولُه: فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا فُرِّعَ على الإعلانِ بتَكذيبِهم إيَّاهم تأْييسُهم مِن الانتِفاعِ بهم في ذلك الموقِفِ؛ إذ بَيَّنَ لهم أنَّهم لا يَستطيعون صَرْفَ ضُرٍّ عنهم، ولا إلْحاقَ ضُرٍّ بمَن يَغلِبُهم. ووَجْهُ التَّفريعِ ما دَلَّ عليه قولُهم: سُبْحَانَكَ [الفرقان: 18] ، الَّذي يَقْتضي أنَّهم في مَوقفِ العُبوديَّةِ والخُضوعِ؛ ففيه ضَربُ تَهكُّمٍ بهم .
- وعلى القَولِ بأنَّ الخِطابَ للمَعبودِينَ؛ فالتاءُ في تَسْتَطِيعُونَ التِفاتٌ .
- قَولُه: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا تَذييلٌ للكَلامِ يَشمَلُ عُمومُه جميعَ النَّاسِ، ويكونُ خِطابُ مِنْكُمْ لجَميعِ المُكلَّفينَ، ويُفِيدُ ذلك أنَّ المُشرِكين المُتحدَّثَ عنهم مُعَذَّبون عذابًا كبيرًا .