بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ استئنافٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه، وإخبارٌ بأنَّ جميعَ العالَمِ ملْكُه
، أو عطْفٌ على جُملةِ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا [الأنبياء: 17] ، مُبيِّنةٌ أنَّ كلَّ مَن في السَّمواتِ والأرضِ عِبادٌ للهِ تعالى، مَخلوقونَ لقَبولِ تَكليفِه، والقيامِ بما خُلِقوا لأجْلِه
.
- وتَقديمُ المجرورِ في وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ للاختصاصِ، أي: له مَن في السَّمواتِ والأرضِ لا لِغَيرِه، وهو قَصْرُ إفرادٍ
؛ رَدًّا على المُشرِكينَ الَّذين جَعَلوا للهِ شُركاءَ في الإلهيَّةِ. ومَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَعُمُّ العُقلاءَ وغيرَهم، وغلَّبَ اسمَ الموصولِ الغالبَ في العُقلاءِ؛ لأنَّهم المقصودُ الأوَّلُ
.
- وجمَعَ السَّماءَ هنا؛ لاقتضاءِ تَعميمِ المُلْكِ ذلك
.
- قولُه: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يعني: الملائكةَ، وخَصَّهم بالذِّكْرِ؛ لامتيازِهم بفضيلةِ القُرْبِ منه
، وهو مَعطوفٌ على مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ فيكونُ مِن عطْفِ الخاصِّ على العامِّ للاهتمامِ به. أو المُرادُ به نوعٌ مِن الملائكةِ مُتعالٍ عن التَّبوُّؤِ في السَّماءِ والأرضِ، أو لأنَّه أعَمُّ منه من وَجْهٍ، أو مُبتدأٌ خبَرُه لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ
.
- وفيه تَعريضٌ بالَّذينَ يَستكبِرونَ عن عِبادةِ اللهِ، ويَعْبُدونَ الأصنامَ، وهم المُشرِكونَ
.
- قولُه: وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ فيه قُوَّةُ اللَّفظِ لقُوَّةِ المعنى، وهو نقْلُ اللَّفظِ من وزْنٍ إلى وزْنٍ آخرَ أكثَرَ منه؛ لِيَتضمَّنَ من المعنى الدَّالِّ عليه أكثَرَ ممَّا تضمَّنَه أوَّلًا، وهذا الضَّرْبُ مِن الزِّيادةِ في الألفاظِ لا يُستعمَلُ إلَّا في مَقامِ المُبالَغةِ، وهو هنا في قولِه: وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ؛ فقد عدَلَ عن الثُّلاثيِّ وهو (حَسَرَ) إلى السُّداسيِّ وهو (اسْتحسَرَ)، وقد كان ظاهِرُ الكلامِ أنْ يُقالَ: (يَحْسِرون)، أي: يَكِلُّون ويَتْعبونَ؛ لأنَّ أقلَّ مَلَلٍ منهم أو كَلالٍ إزاءَ الملائكةِ وإزاءَ عِبادَتِهم للهِ سُبحانه لا يُتصوَّرُ منهم، ولكنَّه عدَلَ عن ذلك؛ للتنبيهِ على أنَّ عباداتِهم بثِقَلِها ودوامِها حقيقةٌ بأن يُستَحسَرَ منها، ومعَ ذلك لا يَستحسرونَ
.
2- قوله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ
- قولُه:
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ استئنافٌ وقَعَ جوابًا لسُؤالٍ نشَأَ ممَّا قبْلَه؛ كأنَّه قِيلَ: ماذا يَصْنعونَ في عِباداتِهم أو كيف يَعْبُدون؟ فقيل:
يُسَبِّحُونَ ... إلخ
. أو هو بَيانٌ لجُملةِ
وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ؛ لأنَّ مَن لا يتعَبُ مِن عمَلٍ لا يَترُكُه، فهو يُواظِبُ عليه ولا يَعْيا منه
.
3- قولُه تعالى:
أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ - قولُه:
أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً حِكايةٌ لجِنايةٍ أُخْرى من جِناياتِهم بطَريقِ الإضرابِ والانتقالِ مِن فَنٍّ إلى فنٍّ آخَرَ من التَّوبيخِ، ومعنى الهمزةِ في (أَمْ) المُنقطعةِ إنكارُ الواقعِ
، وهذا الانتقالُ وقَعَ اعتراضًا بين جُملةِ
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وجُملةِ
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ
.
- وضَميرُ
اتَّخَذُوا عائدٌ إلى المُشرِكينَ المُتبادرينَ مِن المقامِ في مثْلِ هذه الضَّمائرِ، ويجوزُ جَعْلُه الْتِفاتًا عن ضَميرِ
وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء: 18]، ويجوزُ أنْ يكونَ مُتناسِقًا مع ضَمائرِ
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ [الأنبياء: 5] وما بعْدَه
.
- وفيه بابٌ من التَّهكُّمِ بهم والتَّوبيخِ والتَّجهيلِ، وإشعارٌ بأنَّ ما استَبْعدوهُ من اللهِ لا يصِحُّ استبعادُه؛ لأنَّ الإلهيَّةَ لمَّا صحَّتْ صَحَّ معها الاقتِدارُ على الإبداءِ والإعادةِ
.
- والمُرادُ بقولِه:
مِنَ الْأَرْضِ هو التَّحقيرُ لا التَّخصيصُ، ووَصْفُ الآلهةِ بأنَّها مِن الأرضِ فيه تَهكُّمٌ بالمُشرِكينَ، وإظهارٌ لضَعْفِ رأْيِهم، أي: جَعَلوا لأنفُسِهم آلِهةً مِن عالَمِ الأرضِ، أو مأْخوذةً مِن أجزاءِ الأرضِ؛ تَعريضًا بأنَّ ما كان مثْلَ ذلك لا يَستحِقُّ أنْ يكونَ مَعبودًا
.
- وقولُه أيضًا:
مِنَ الْأَرْضِ فيه مُقابَلةٌ لقولِه تعالى:
وَمَنْ عِنْدَهُ؛ لأنَّ المُرادَ أهْلُ السَّماءِ
.
- قولُه:
هُمْ يُنْشِرُونَ النُّكتةُ في ذِكْرِ الضَّميرِ (هم): إفادةُ معنى الخُصوصيَّةِ، وهو الَّذي يَدورُ عليه الإنكارُ والتَّجهيلُ والتَّشنيعُ، ومعنى التَّخصيصِ في تَقديمِ الضَّميرِ: التَّنبيهُ على كَمالِ مُبايَنةِ حالِهم للإنشارِ المُوجبةِ لمَزيدِ الإنكارِ. ويجوزُ أنْ يُجعَلَ ذلك مِن مُسْتتبعاتِ ادِّعائِهم الباطلَ؛ لأنَّ الأُلوهيَّةَ مُقْتضيةٌ للاستقلالِ بالإبداءِ والإعادةِ، فحيث ادَّعَوا للأصنامِ الإلهيَّةَ، فكأنَّهم ادَّعَوا لها الاستقلالَ بالإنشارِ
. وقيل:
هُمْ في قولِه تعالى:
هُمْ يُنْشِرُونَ للدَّلالةِ على قُوَّةِ أمْرِهم فيما أُسْنِدَ إليهم، لا على الاختصاصِ
. وقيل: فائدةُ قولِه:
هُمْ الإيذانُ بأنَّهم لم يَدَّعُوا لها الإنشارَ، وأنَّ قولَه:
هُمْ يُنْشِرُونَ استئنافُ إلْزامٍ لهم، وكأنَّه قال: اتَّخَذوا آلهةً مع اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فهمْ إذنْ يُحْيونَ الموتى ضَرورةَ كونِهم آلِهةً
.
4- قولُه تعالى:
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ جُملةٌ مُبيِّنةٌ للإنكارِ الَّذي في قولِه تعالى:
أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً؛ ولذلك فُصِلَتْ ولم تُعْطَفْ. وهذه الآيةُ استدلالٌ على استحالةِ وُجودِ آلهةٍ غيرِ اللهِ بعْدَ خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، فهي مَسوقةٌ لإثباتِ الوَحدانيَّةِ لا لإثباتِ وُجودِ الخالقِ؛ إذ لا نِزاعَ فيه عندَ المُخاطَبينَ، ولا لإثباتِ انفرادِه بالخلْقِ؛ إذ لا نِزاعَ فيه كذلك، ولكنَّها مُنتظِمةٌ على ما يُناسِبُ اعتقادَهم الباطِلَ؛ لكَشْفِ خطَئِهم، وإعلانِ باطِلِهم
.
- والضَّميرُ في قولِه:
فِيهِمَا عائدٌ على السَّماءِ والأرضِ، وهما كِنايةٌ عن العالَمِ
.
- قولُه:
فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لتَرتيبِ ما بعْدَها على ما قبْلَها مِن ثُبوتِ الوَحدانيَّةِ بالبُرهانِ، وإيرادُ لفْظِ الجَلالةِ في مَوضِعِ الإضمارِ؛ للإشعارِ بعِلَّةِ الحُكْمِ؛ فإنَّ الأُلوهيَّةَ مَناطٌ لجميعِ صِفاتِ كَمالِه الَّتي من جُملتِها تَنزُّهُه تعالى عمَّا لا يَلِيقُ به، ولِتَربيةِ المَهابةِ وإدخالِ الرَّوعةِ. وقولُه:
رَبِّ الْعَرْشِ صِفةٌ للاسمِ الجليلِ مُؤكِّدةٌ لتَنزُّهِه عزَّ وجلَّ، وللتَّذكيرِ بأنَّه انفرَدَ بخلْقِ السَّمواتِ، وهو شَيءٌ لا يُنازِعونَ فيه، بلْ هو خالِقُ ما هو أعظَمُ من السَّمواتِ وحاوِيها، وهو العرْشُ؛ تَعريضًا بهم بإلْزامِهم لازِمَ قَولِهم بانفرادِهِ بالخلْقِ أنْ يَلزَمَ انتفاءُ الشُّركاءِ له فيما دونَ ذلك
.
5- قولُه تعالى:
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ استئنافٌ ببَيانِ أنَّه تعالى لقُوَّةِ عَظمتِه وعِزَّةِ سُلطانِه القاهرِ، بحيث ليس لأحدٍ من مَخلوقاتِه أنْ يُناقِشَه ويَسأَلَه عمَّا يَفعَلُ مِن أفعالِه، إثْرَ بَيانِ أنْ ليس له شَريكٌ في الإلهيَّةِ
. وفيه إبطالٌ لإلهيَّةِ المُقرَّبينَ الَّتي زعَمَها المُشرِكونَ الَّذين عَبَدوا الملائكةَ وزَعَموهم بَناتِ اللهِ تعالى، بطريقةِ انتفاءِ خاصيَّةِ الإلهِ الحقِّ عنهم؛ إذ هم يُسْألونَ عمَّا يَفْعلون، وشأْنُ الإلهِ ألَّا يُسألَ
.
- وجُملةُ:
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ تَمهيدٌ لجُملةِ
وَهُمْ يُسْأَلُونَ، على أنَّ تَقديمَه على جُملةِ
وَهُمْ يُسْأَلُونَ اقتضَتْهُ مُناسبةُ الحديثِ عن تَنزيهِه تعالى على الشُّركاءِ؛ فكان انتقالًا بَديعًا بالرُّجوعِ إلى بَقيَّةِ أحوالِ المُقرَّبينَ. وأيضًا في قولِه:
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ كِنايةٌ عن جَريانِ أفعالِ اللهِ تعالى على مُقْتضى الحِكْمةِ، بحيث إنَّها لا مَجالَ فيها لانتقادِ مُنتقِدٍ
.
- وجاء في قولِه:
عَمَّا يَفْعَلُ بالتَّعبيرِ بـ
يَفْعَلُ؛ إذ الفِعلُ جامِعٌ لصِفاتِ الأفعالِ، مُندرِجٌ تحتَهُ كلُّ ما يَصدُرُ عنه مِن خَلْقٍ ورَزْقٍ، ونَفْعٍ وضَرٍّ، وغيرِ ذلك
.
- قولُه:
وَهُمْ يُسْأَلُونَ وَعيدٌ للكَفرةِ
، وفيه: كِنايةٌ عن العُبوديَّةِ
.