موسوعة التفسير

سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (106 - 108)

ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ

غريب الكلمات:

شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ: الشَّهادةُ قولٌ صادرٌ عن عِلمٍ حَصَل بمشاهدةِ بصيرةٍ أو بَصرٍ، وأَصْلٌ (شهد): يَدُلُّ على حُضورٍ وعِلْمٍ وإعلامٍ .
الْوَصِيَّةِ: الوصيةُ هي: التقدُّمُ إلى الغيرِ بما يَعملُ به مُقترنًا بوعظٍ؛ من قولهم: أرضٌ واصِيَة: مُتَّصلِةُ النباتِ قد امتلأتْ منه، ووصيتُ الشيءَ: وصلتُه، وأصل (وصي) يدلُّ على وصلِ شيءٍ بشيء .
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ: أي: ذهبتُم فيها؛ للتجارِة وغيرِها من السَّفَر، وأصلُ الضَّربِ معروفٌ، وتُستعارُ منه مَعانٍ كثيرةٌ .
تَحْبِسُونَهُمَا: تُوقفونهما، وأصلُ الحبس: المنعُ مِن الانبعاثِ .
عُثِرَ: أي: ظَهَر، واطُّلِع منهما، وأصل (عثر): الوقوعُ على الشيءِ والسُّقوط عليه، ثم يُستعمَلُ ذلك في كلِّ واقعٍ على شَيءٍ كان عنه خَفيَّا، ويُتجوَّز به فيمَن يَطَّلِع على أمْرٍ مِن غيرِ طَلبِه، وإنَّما قِيل (عُثِرَ) مِن الاطِّلاعِ على الشَّيءِ؛ لأنَّ كلَّ عاثرٍ فلا بدَّ أن يَنظُرَ إلى موضِعِ عَثْرتِه .
اسْتَحَقَّا إِثْمًا أي: استوجبَا جنايةً باليمينِ الكاذبةِ التي أقدَمَا عليها وحَلفَا بها؛ يُقال: استحقَّ فلانٌ الأمرَ: استوْجَبَه، وحقَّ الشيءُ إذا وجَب وثبَت .
أَدْنَى: أي: أقربُ، والدُّنُو: القُربُ بالذَّات أو بالحُكم، ويُستعمَلُ في المكانِ والزَّمان والمنزِلة .

مشكل الإعراب:

1- قَوْلُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ .
شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ.
شهادةُ مرفوعةٌ على الابتِداءِ. وخَبَرُها اثْنَانِ على نِيَّةِ حَذفِ مُضافٍ، والتَّقديرُ: شهادةُ اثنينِ؛ لأنَّ الشَّهادةَ لا تكونُ هي الـ اثنانِ. وقيل: شَهَادَةُ مبتدأٌ أيضًا، ولَكِنْ خبَرها مَحذوفٌ يَدُلُّ عليه سياقُ الكَلامِ، والتَّقديرُ: فيما فُرِضَ عليكم أن يَشهَدَ اثنانِ، و اثْنَانِ على هذا فاعِلُ المَصدَرِ الذي هو شَهَادَةُ. وبَيْنِكُمْ مضافٌ إليه مجرور مِن بابِ الاتِّساعِ في الظُّروفِ.
وإِذَا على هَذَينِ الوَجهينِ ظرفٌ لـ شَهَادَةُ أي: ليَشْهَدْ وقتَ حُضورِ أماراتِ الموتِ. و حِينَ بدلٌ من إِذَا، أو ظَرْفٌ لـ حَضَرَ، أي: حينَ حضَر أماراتُ الموتِ. وذَوَا صفةٌ لـ اثْنَانِ، أي: صاحِبَا عَدلٍ، وكذلك مِنْكُمْ صِفةٌ ثانِيةٌ. آخَرَانِ مرفوعٌ عطفًا على اثنانِ على تقديرِ حذْفِ مضافٍ أيضًا، تقديرُه: أو شهادَةُ آخرَينِ، ومِنْ غَيْرِكُمْ صِفةٌ لـآخَرَانِ.
إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ: إِنْشرطيَّةٌ. أَنْتُمْ: فاعلٌ لفِعلٍ محذوفٍ يُفَسِّرُه المذكورُ. وضَرَبْتُمْ تفسيرٌ للفِعلِ المحذوفِ؛ فلا محلَّ له مِنَ الإعرابِ، وجوابُ الشَّرطِ محذوفٌ يدلُّ عليه قولُه تعالى: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ، والتَّقديرُ: إنْ ضَرَبْتُم في الأرْضِ فلْيَشهَدِ اثنانِ منكم أو مِنْ غيركم، أو التَّقديرُ: فأَشْهِدُوا آخَرَينِ مِن غيرِكم.تَحْبِسُونَهُمَا: جملةُ استئنافيَّةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، وهو أَوْلى مِنَ القَولِ بكَونِها صِفَةً لـآخَرَانِ؛ لِمَا يتَرَتَّبُ عليه مِنَ الفَصلِ بكلامٍ طَويلٍ بينَ الصِّفةِ ومَوصوفِها. فَيُقْسِمَانِ: الفاءُ عاطِفةٌ، والجملةُ معطوفةٌ على تَحْبِسُونَهُمَا، فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا: شرطٌ، وجوابُه محذوفٌ تقديرُه: إنِ ارْتَبْتُم فيهما فحَلِّفوهما، وهذا الشَّرطُ وجوابُه المقدَّرُ مُعتَرِضٌ بين القَسَمِ فَيُقْسِمَانِ لأنَّه يقومُ مقامَ اليَمينِ، وجوابِه: لَا نَشْتَرِي، وليسَتْ هذه الآيةُ مِمَّا اجتمَعَ فيه شَرْطٌ وقَسَمٌ فأُجيبَ سابقُهما. والهاء في بِهِ تعودُ على تَحريفِ الشَّهادةِ، أو القَسَم. وثَمَنًا مفعولُ نَشْتَرِي، ولا حَذْفَ فيه؛ لأنَّ الثَّمنَ يُشترَى كما يُشترَى به، وقيل: التَّقديرُ: ذا ثمنٍ، فحُذِفَ المُضافُ وأُقيمَ المُضافُ إليه مَقامَه.
وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى جملةٌ امتناعِيَّةٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، واسمُ كان مُضَمرٌ فيها يعودُ على المَشهودِ له: أي: لا نَشْتري به ثمنًا في كُلِّ حالٍ، ولو كانَ الحالُ كونَ المشهودِ له ذا قرابةٍ. وَلَا نَكْتُمُ معطوفٌ على جوابِ القَسَمِ لَا نَشْتَرِي؛ فلا مَحَلَّ له مِنَ الإعرابِ. إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ جملةٌ استئنافيةٌ لا محلَّ لها من الإعراب. وقيل غيرُ ذلك في توجيهِ هذه الآيةِ .
2- قَوْلُه تعالى: فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ.
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا: عُثِرَ: فِعلٌ مبنيٌّ لِمَا لم يُسمَّ فاعلُه. وعَلَى أَنَّهُمَا: في محلِّ رفْعٍ نائِبُ الفاعِلِ، أي: فإنِ اطُّلِعَ على استحقاقِهما الإِثمَ.
فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ : فآخَرَانِ مرفوعٌ على أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٌ، أي: فالشَّاهِدانِ آخَرانِ، والفاءُ رابطةٌ في جوابِ الشَّرطِ، دخلَتْ على الجُملةِ الاسميَّة، ويَقُومَانِ و مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ كِلاهما في محلِّ رفعٍ صفةٌ لـ آخَرَانِ.الْأَوْلَيَانِ فاعِلُ اسْتَحَقَّ مرفوعٌ، والمفعولُ محذوفٌ، أي: وصيَّتَهما. وقيلَ غيرُ ذلك .
- وقُرِئ (اسْتُحِقَّ) بالبناءِ للمفعولِ، والْأَوْلَيَانِ نائب فاعِل على تقديرِ حذْفِ مضافٍ، تقديرُه: مِن الَّذين استُحِقَّ عليهم إثْمُ الأَوْلَيينِ، أو انتدابُ الأَوْلَيينِ. وقيل: مرفوع (استُحِقَّ) ضميرُ الإيصاءِ أو المالِ أو الإثمِ، والْأَوْلَيَانِ بدلٌ مِنَ الضَّميرِ في يَقُومَانِ والتَّقديرُ: فيقومُ الأَوْلَيانِ، أو خَبَرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: (هما الأوليان)؛ لأنَّه لَمَّا قال: فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا فكأنَّه قيل: ومَنْ هُما؟ فقيل: الأَوْلَيَانِ.
وقُرِئَ: (اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوَّلِينَ)، ومرفوعُ (استُحِقَّ) ضميرُ الإيصاءِ أو المالِ أو الإثمِ، كما تقدَّمَ في القِراءةِ السَّابقةِ، و (الْأَوَّلِينَ) مجرورٌ نعتٌ لـ (الَّذينَ استُحِقَّ عَلَيهم) أو بدلٌ مِنَ الضَّميرِ في عليهم، أو منصوبٌ على المَدحِ .
3- ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا: أَنْ يَأْتُوا مَصدرٌ مُؤوَّلٌ في محلِّ نصْبٍ على نَزْعِ الخافِضِ، أي: إلى أنْ يأتوا .

المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ تعالى المؤمنين أنَّه إذا حضرتْ مُقدِّماتُ الموتِ أحدًا منهم، فليكتُبْ وصيَّتَه ولْيَشهَدْ عليها اثنانِ من المؤمنينَ العدولِ، وفي حالِ كان على سَفرٍ وحضَرَه أجَلُه، فلْيَشهدْ آخرانِ مِن غيرِ مِلَّة الإسلامِ إذا لم يُوجدِ العَدْلانِ من المؤمنينَ، فيُوقِفُ المسلمون الشاهدَينِ اللَّذينِ من غيرِ مِلَّتهم بعدَ صلاةِ العَصْرِ، ويَجعلانِهما يَحلِفان باللهِ- إنْ شكُّوا في شَهادتِهما، وظهرتْ لهم منهما رِيبةٌ- أنَّهما لا يَبغيانِ بحَلِفهما عرَضًا من الدُّنيا حتى يَكذِبَا فيها، وأنَّهما لا يُحابيانِ أحدًا ولو كان مِن قَرابتِهما، وأنَّهما لا يَكتُمانِ شهادةَ الله عندهما، وأنَّهما إنْ فَعَلَا شيئًا من ذلك فإنَّهما يكونان بذلك مِن المذنِبين العاصِين.
فإنْ ظهَر أنَّهما كاذبانِ بأنْ خانَا في أداءِ أمانةِ الميِّت، أو بدَّلَا في وصيَّته، فاستوجَبَا بأيمانِهما الكاذبةِ الإثمَ، فعندها يقومُ مَقامَهما اثنانِ من أولياءِ الميِّت المستحقِّينَ للتَّرِكة، ويكونانِ من أَوْلى مَن يَرِثُ الميِّتَ، فيحلفانِ بالله أنَّ شهادتهما أحقُّ مِن الشَّهادة التي شهِدها اللذَّانِ من غيرِ المسلمين، التي كذَبَا فيها وخانَا، وأنَّها أصحُّ منها وأثبتُ، وأنَّهما ما تَعَدَّيَا الحقَّ في الشهادةِ والإخبارِ عن خِيانةِ هذينِ الشاهدَينِ، وأنَّهما إنْ كذَبا عليهما فإنَّهما إذَنْ من الظَّالمينَ.
ثم يُخبرُ تعالى أنَّ ذلك التحليفَ للشَّاهدَينِ إذا استُريب في أمرِهما، أقربُ لإتيانهما بالشهادةِ على وجهِها الصَّحيحِ بلا كَذِبٍ ولا خيانةٍ، وأمَر اللهُ سبحانه العبادَ بأنْ يتَّقوه، ويَسمعوا ما يُؤمَرون به، فيَعمَلوا على وَفْقِه، وأخبَرَ أنَّه تعالى لا يُوفِّق الفاسقين للحقِّ.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا قال الله تعالى في آخِر الآية السابقةِ: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فذكَر أنَّ مرجِعَنا إليه بعدَ الموتِ، وأنَّه يُحاسِبُنا ويُجازينا، ناسَب أنْ يُرشِدَنا في أَثَرِ ذلك إلى الوصيَّةِ قبلَ الموت، وإلى العنايةِ بالإشهادِ عليها؛ لئلَّا تضيعَ .
وأيضًا لَمَّا قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ كان في ذلك تنفيرٌ عن الضُّلَّالِ، واستبعادٌ عن أنْ يُنتفعَ بهم في شيءٍ من أمور المؤمنينَ من شهادةٍ أو غيرِها، فأخبَرَ تعالى بمشروعيَّة شهادتِهم أو الإيصاءِ إليهم في السَّفَر .
سَببُ النُّزول:
عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: ((خرَج رجلٌ من بَني سَهْمٍ مع تَمِيمٍ الدَّاريِّ وعَدِيِّ بنِ بَدَّاءٍ، فماتَ السَّهْميُّ بأرضٍ ليس بها مسلمٌ، فلمَّا قدِمَا بتَرِكتِه فقَدُوا جَامًا مِن فِضَّةٍ مُخَوَّصًا من ذَهبٍ ، فأَحْلَفهما رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثم وُجِد الجامُ بمكَّةَ، فقالوا: ابْتعْناهُ من تميمٍ وعديٍّ، فقام رجلانِ من أوليائه، فحلَفَا: لَشهادتُنا أحقُّ من شهادتِهما، وإنَّ الجامَ لِصَاحبِهم، قال: وفيهم نزلتْ هذه الآيةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ)) .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ.
أي: يا أيُّها المؤمنونَ، إذا حضَر أحدَكم مُقدِّماتُ الموتِ وعلاماتُه، فكتَب وصيَّتَه، فلْيَشهدْ عليها اثنانِ من المؤمنين، مِن ذَوي الاستقامةِ والمروءة .
أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ.
أي: أو ليَشهدْ على الوصيةِ آخَرانِ من غيرِ أهل مِلَّتكم- أيُّها المؤمنون- سواءٌ من اليهود أو النَّصارى أو غيرِهم، إنْ لم يوجدْ ذَوَا عدلٍ منكم، وفي حالِ سَفَرِكم، وإيقانِكم بحضورِ أجلِكم .
تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى.
أي: فتُوقفونَ الشاهدَينِ اللَّذيْنِ من غيرِكم بعدَ صلاةِ العَصْرِ، وتَجْعلونَهما يحلفانِ بالله تعالى، إنْ شكَكتُم في شهادتِهما، وظهرتْ لكم منهما رِيبةٌ في أنهَّما قد خانَا، فيحلفانِ حينئذٍ باللهِ تعالى أنَّا لا نَبغِي بحَلِفنا هذا عَرَضًا من الدُّنيا فنكذبَ في شَهادتِنا، ولا نُحابي أحدًا، ولو كان المشهودُ عليه من أقربائِنا .
عن الشَّعبيِّ: ((أنَّ رجلًا حضرتْه الوفاةُ بدَقُوقَاءَ ، فلم يجِدْ أحدًا من المسلمين يُشْهِدُهُ على وصيَّته، فأَشْهَد رجُلينِ من أهل الكِتاب، فقدِما بتركتِه إلى أبي موسى الأشعريِّ، فأخبراه، فقال الأشعريُّ: هذا أمرٌ لم يكُنْ بعد الذي كان في عهدِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأحْلَفهما بعدَ صلاةِ العَصْرِ باللهِ ما خانَا، ولا كَذَبَا، ولا بدَّلَا، وإنَّها لتَرِكَتُه، ثم أجاز شهادتَهما )) .
وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ.
أي: ولا نُخفي عنكم الشَّهادةَ التي حمَّلَنا اللهُ تعالى إيَّاها على الوصيَّة، بتحريفِها أو تبديلِها، أو كِتمانِها بالكلِّيةِ؛ فإنَّا إنْ فعَلْنا شيئًا من ذلك وقَعْنا في الإثمِ مع الواقعينَ فيه .
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107).
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا.
أي: فإنْ ظهَر أنَّهما كاذبانِ، فوُجِدَ أنَّهما قد خانَا مِن مالِ الميِّت شيئًا، أو بدَّلَا وصيَّتَه، فاستوجبَا بأيمانِهما الكاذبةِ إثمًا .
فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ ثلاثُ قِراءات:
1- اسْتَحَقَّ بِفَتْح التَّاء والحاء، والْأَوْلَيَانِ مُثنَّى (أَوْلى)، رُفع بـاسْتَحَقَّ على أنَّه فاعِلٌ .
2- اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوَّلِينَ، ومرفوع اسْتُحِقَّ ضميرُ الإيصاءِ أو الوَصِيَّةِ أو المالِ، أو الإثْمِ. والْأَوَّلِينَ جمْع (أوَّل)، أي: المتقدِّم ذِكرُهم، أي: مِن الأوَّلِين الذين استُحِقَّ عليهم الإيصاءُ أو الإثمُ .
3- اسْتُحِقَّ بِضَمِّ التَّاء وكَسْرِ الحاءِ على البِناءِ للمَفعولِ، والْأَوْلَيَانِ مرفوعٌ بـ استُحِقَّ على أنَّه نائِبٌ عَنِ الفاعِلِ .
فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ.
أي: فحينئذٍ يقومُ مقامَهما اثنانِ مِن أولياءِ الميِّتِ المستحقِّينَ للتركةِ، ولْيَكونا مِن أَوْلى مَن يَرِثُ هذا الميِّتَ الذي شُهِدَ على وصيَّتِه .
فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ.
أي: فيَحلفانِ بأنَّ شهادتَنا أحقُّ مِن شهادتهما التي كذَبَا فيها وخانَا، وهي أصحُّ وأثبَتُ، وما تجاوَزْنا الحقَّ في شهادتِنا، وإخبارِنا عن خيانتِهما؛ فإنَّا إنْ كذَبْنا عليهما نكونُ في عدادِ الظَّالمين، ونقتطعُ بذلك أموالَ النَّاس بغيرِ حقٍّ .
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108).
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا.
أي: هذا الفِعلُ- مِن تحليفِ الشاهدَينِ إذا استُريب بهما- أقربُ لأن يَصْدُقوا في شهادتِهم، ويُقيموها على الوجهِ الصَّحيح، فلا يَكذِبوا ولا يَخونوا .
أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ.
أي: أو يَخافَ هؤلاءِ الشهودُ ألَّا تُقبلَ أيمانُهم إنْ ظهَرَ كذِبُهم وخيانتُهم، فتُرَدَّ الأيمانُ إلى الورثةِ، فيَحلِفونَ ويستحقُّون ما يَدَّعون، ويُفتضَح أمرُ شهودِ الوصيةِ بين النَّاس .
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا.
أي: واتَّقوا اللهَ تعالى في جميعِ أُمورِكم، ومن ذلك: ترْكُ الحلِفِ بالله تعالى كذبًا، واجتنابُ خيانةِ الأمانةِ وغير ذلك، واسمَعوا ما يُقال لكم فاعْمَلوا به .
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
أي: واللهُ تعالى لا يُوفِّق للحقِّ الخارِجينَ عن طاعتِه، واتِّباعِ شريعتِه .

الفوائد التربوية:

1- في قوله تعالى: وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ تعظيمُ أمْرِ الشَّهادةِ؛ حيث أضافَها تعالى إلى نفْسِه، وأنَّه يجبُ الاعتناءُ بها، والقيامُ بها بالقِسطِ .
2- أنَّ الأصلَ في النَّاس أنْ يكونوا أُمَناءَ، وفي المُؤتمَنِ أن يكون أمينًا، وأنْ يكونَ ما يقولُه في أمْر الأمانةِ مقبولًا؛ ولذلك قال: فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فأفادتْ أداةُ الشرط (إِنْ) أنَّ الأصل في هذا ألَّا يقع، وأنَّه إنْ وقَع كان شاذًّا، وأفاد فِعلُ عُثِرَ المبنيُّ للمفعولِ أنَّ هذا الشذوذَ إنْ وقَع فشأنُه أنْ يُطَلَّعَ عليه بالمصادفةِ والاتِّفاقِ، لا بالبحثِ وتتبُّع العَثَراتِ .
3- أنَّ المدَّعَى عليه لا يجزمُ ببطلانِ شهادةِ الشاهدِ التي تَبيَّن أنَّ فيها شيئًا من الخَلَلِ؛ لِقَوْلِه: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا بهذا اللَّفظِ، ولم يقل: (باطلةٌ)، لكنَّ قوله: أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا يستلزمُ أن تكونَ مردودةً، وأنَّ القولَ قولُ المدَّعَى عليه .
4- الختمُ بقولِه تعالى: وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ فيه دلالةٌ على استقباحِ الظُّلْم والتبرُّؤِ منه .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ مشروعيَّةُ الوصيَّة والحثُّ عليها، وتأكيدُ أَمْرِها، وعدمُ التَّهاوُن فيها بشواغلِ السَّفَر وإن قُصِرَت فيه الصلاةُ، وأُبيحَ فيه الإفطارُ في رمضانَ، وأنَّه يَنبغي لِمَن حضَرَه الموتُ وعندهُ ما يُوصِي به أنْ يُوصِيَ .
2- أنَّ الوصيَّة مُعتبَرَةٌ، ولو كان الإنسانُ قد وصَل إلى مُقدِّماتِ الموتِ وعلاماتِه، ما دامَ عَقْلُه ثابتًا؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ .
3- أنَّه يَنبغي الإشهادُ على الوصيَّةِ؛ لِقَوْلِه: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ، وظاهرُ الآية الكريمة: أنَّه لا بدَّ من رجُلينِ؛ لِقَوْلِه: اثْنَانِ واثنان عددٌ للمُذكَّر، لكن هذه الآية تُقيَّدُ بآية البقرة، وهي قوله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة: 282] .
4- أنَّه يُشترطُ في الإشهادِ أنْ يكونَ الشاهدانِ ذَوَيْ عدْلٍ؛ لِقَوْلِه: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ، ولكن إذا لم يُوجد عدلٌ ووُجِد فاسقٌ مأمونٌ؛ فهل يقوم مقامَ العَدْلِ؟ اختار بعضُ أهل العِلمِ أنَّه يقوم مقامَ العَدْلِ، وأنَّ اشتراط العدالةِ إنَّما هو عند التحمُّلِ، بمعنى: أنَّك إذا أردتَ أن تُشهِدَ فلا تُشهِد إلَّا عدلينِ، أمَّا عند أداءِ الشَّهادَةِ فالضروراتُ لها أحكامٌ، فإذا لم نجِدْ مَن يَشهد إلَّا هذينِ الفاسقَينِ، لكنَّهما في الأمانة موثوقانِ، فإنَّنا نَقبل شهادتَهما، وهذا هو الصَّواب؛ أنَّ العدالةَ شَرْطٌ مع الإمكانِ، وأمَّا إذا لم يُمكن فإنَّه تُقْبَل شهادةُ الفاسقِ بشَرْط أن يكون ثقةً، وكم مِن إنسانٍ يكونُ فاسقًا في عِبادتِه لكنَّه أمينٌ في شهادته! ونعلم أنَّنا لو اتَّبَعْنا اشتراطَ العدالة في أداء الشَّهادة، مُعتبرِينَ الشُّروط التي ذَكرَها الفقهاءُ في العدالة، أنَّ كثيرًا من الحقوق سوف تضيعُ؛ لأنَّ كثيرًا من الناس ليسُوا على الاستقامةِ التي ذَكرَها الفقهاءُ رحِمَهم الله .
5- جوازُ شهادةِ الكافر إذا عُدِمَ المسلمُ، سواء كان يهوديًّا أو نصرانيًّا أو بوذيًّا أو شيوعيًّا، أيًّا كان؛ لِقَوْلِه: مِنْ غَيْرِكُمْ ، والضروراتُ قد تُبيح المحظوراتِ؛ لأنَّ المسلمَ إذا قَرُب أجلُه في الغُربة، ولم يجدْ مسلمًا يُشهِده على نفْسِه، ولم تكن شهادةُ الكفَّار مقبولةً، فإنَّه يَضيع أكثرُ مهمَّاته؛ فإنَّه ربَّما وجبتْ عليه زَكَواتٌ وكفَّارات، وما أدَّاها .
6- في قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ بيانُ أنَّ جوازَ الاستشهاد بآخَرينَ من غيرِ المسلِمين مشروطٌ بما إذا كان المستشهِدُ مسافرًا ضاربًا في الأَرْض، وحضرتْ علاماتُ نُزولِ الموتِ به .
7- جوازُ سفرِ المسلمِ مع الكافرِ إذا لم يكُن محذورٌ؛ لقوله تعالى: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ .
8- قَوْلُه تعالى: مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةٍ إشارةٌ إلى تحليفِ الشَّاهدينِ في جمْعٍ من النَّاسِ .
9- شرعيَّة اختيارِ الأوقاتِ التي تُؤثِّر في قلوبِ الشُّهود ومُقْسِمي الأيمانِ، ويُرجى أن يَصدُقوا ويَبَرُّوا فيها؛ لِقَوْلِه: تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ .
10- الغرضُ من التحليفِ بعدَ إقامة الصَّلاةِ في قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ هو أن الصَّلاة مُعظَّمة، والإنسانُ يخاف أنْ يَشهدَ بباطلٍ بعد هذه الصَّلاةِ التي ذَكَرها اللهُ عزَّ وجلَّ، إضافة إلى أنَّ الصلاةَ تَنهى عن الفحشاءِ والمنكَر؛ فكان احترازُ الحالفِ عن الكذبِ في ذلك الوقت أتمَّ وأكملَ، والله أعلم .
11- التغليظُ على الحالِفِ بصيغةِ اليمينِ، بأنْ يقول فيه ما يُرجَى أنْ يكون رادعًا للحالفِ عن الكَذِبِ كالألفاظِ التي وردَتْ في قَوْلِه: فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ، وأشدُّ منها ما ورَدَ في شهادةِ اللِّعانِ .
12- أنَّه لا يُحلَف بغيرِ الله؛ لِقَوْلِه: فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ، فلو أُقسِم بغيرِ الله حتى بمَن يُعَظَّم عندَهم كالمسيح مثلًا، فإنَّها لا تُقبَل ولا يُعتدُّ بها .
13- أنَّ إقسامَ الشاهدَينِ لا يلزم إلَّا عند الارتيابِ في شهادتِهما؛ لِقَوْلِه: إِنِ ارْتَبْتُمْ. وأنَّ للقاضي أن يُحلِّفَ الشاهدَينِ عند الارتياب في شهادتِهما؛ فالحُكم يدور مع عِلَّته؛ لأنَّنا لم نُحَلِّفْهما بالله إلَّا عند الارتياب، لا لكونهما من الكفَّارِ .
14- أن يكونَ صفةُ الإقسامِ على هذا: لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ، والصواب أنَّه يَكفي المعنى؛ لأنَّ هذا اللفظ لا يُتعبَّد به؛ حتى نقولَ: لا يمكن أن يُغيَّر، بل عبَّر الله عزَّ وجلَّ عن المعنى بهذا اللَّفْظِ، إذنْ: فالمرجعُ إلى المعنى .
15- الإشارةُ إلى أنَّ للقرابةِ تأثيرًا في المَيلِ والعاطفة؛ لقولهما: وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وهذا شيءٌ فِطْريٌّ معروف، وقد أشارَ الله تبارك وتعالى إلى هذا في قوله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى [التوبة: 113] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [النساء: 135] .
16- إضافةُ الشَّهادة إلى (الله) في قوله: وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ؛ لأنَّه هو الآمرُ بها وبحِفظها، وألَّا تُكتَم، ولا تُضَيَّع، كذلك أضافَها إلى الله تشريفًا لها، وتعظيمًا لأمرِها .
17- الإشارةُ إلى أنَّ الإِرْثَ يكون للأَوْلى فالأَوْلى؛ لِقَوْلِه: الأَوْلَيَانِ وقد جاء الحديثُ مقرِّرًا ذلك؛ فعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ألْحِقوا الفرائضَ بأهلِها، فما بقِيَ فلِأَوْلى رجُلٍ ذَكرٍ )) .
18- أنَّه إذا احتِيجَ في الشَّهادةِ أو في القَسَم إلى إثباتٍ ونفيٍ، فلا بدَّ مِن ذِكرِ الإثبات والنَّفي، فقولهما- يعني الأَوليَينِ-: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا هذا إثباتٌ، وَمَا اعْتَدَيْنَا هذا نفيٌ، فإذا احتِيجَ إلى ذلك فلا بدَّ مِن ذِكر النفيِ والإثبات؛ حتى تكونَ الشهادةُ خالصةً .
19- أنَّ ردَّ الأَوْليَينِ لشهادَةِ الشَّاهدَينِ على سبيلِ الاعتداء أعظمُ اعتداءً مِن تغييرِ الشهادة من الشاهدَينِ؛ وجهُ ذلك أنَّه في تغييرِ الشَّهادةِ من الشَّاهدَينِ، قال: إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ، وهنا قال: إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ .
20- أنَّه كلَّما كان الشيءُ أقربَ إلى استنتاجِ الصوابِ والحقِّ في الشهادة فهو أَوْلى أن يُتَّبَع، لِقَوْلِه: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا؛ لأنَّ الإنسانَ إذا فَهِم أنَّ مِن ورائِه أناسًا سيقومون بردِّ شهادتِه والإقسامِ على بُطلانها، فلا بدَّ أن يتحرَّى الصدقَ فيما يشهدُ به .
21- أنَّ اللهَ سبحانه أخْبَر بأنَّه لا يَهدي القومَ الفاسقينَ، أي: الخارجينَ عن طاعتِه، وخَبَر الله صِدقٌ، لكنْ يُشكِل على هذا أنَّ الواقِعَ أنَّ الله قد يَهدي الفاسقينَ، وقد يَهدي الكافرينَ؛ فكيف نجمع بين الواقِعِ وهذا الخبرِ الصادِق؟ الجَمْع أن نقول: إنَّ قولَه: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، أي: الذين كتَب اللهُ عليهم الفِسقَ، وأمَّا مَن كتَب عليه أن يؤمِنَ فيُؤمن ولا بدَّ، ولكنَّ الفائدة مِن هذا- أي: مِن إطلاقِ قولِه: لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ- الإشارةُ إلى أنَّ عدمَ هِدايةِ الله للقَوْمِ الفاسقين؛ لأنَّهم اختاروا الفِسقَ، كما قال الله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] .

بلاغة الآيات:

1- قَوْلُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ الأحكامِ المتعلِّقة بأمور دُنياهم إثرَ بيانِ الأحوالِ المتعلِّقة بأمورِ دِينهم، وتصديرُه بحرفَيِ النِّداءِ والتنبيهِ يَا أَيُّهَا؛ لإظهارِ كمالِ العنايةِ بمضمونِه .
2- قَوْلُه: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فيه: التفاتٌ من الغَيبة إلى الخِطاب، ولو جرَى على لفظ: إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ لكان التركيب: (إنْ هو ضرَبَ في الأرض فأصابتْه مصيبةُ الموت)، وإنما جاءَ الالتفات جمعًا؛ لأنَّ قوله: أَحَدَكُم معناه: إذا حضرَ كلَّ واحد منكم الموتُ ، وقيل: بل ليس فيه التفاتٌ؛ لأنَّ الخطابَ جارٍ على أسلوبِ الخِطاب الأوَّل مِنْ قَوْلِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ... إلى آخِره .
3- قَوْلُه: إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى
- قوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ اعتراضٌ يفيد اختصاص القَسَم بحال الارتياب .
- وقَوْلُه: لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا فيه كنايةٌ عن استبدال عَرَضٍ من الدُّنيا، وهو على حَذْف مضاف، أي: لا نَشْتَري ذا ثَمَن؛ لأنَّ الثَّمنَ لا يُشترى، ولا يَصِحُّ أن يكونَ لَا نَشْتَرِي هنا بمعنى لا نبيع، وإنْ كان ذلك صحيحًا في اللُّغة .
- وقَوْلُه: وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى فيه حذْفُ جوابِ لَوْ؛ ثقةً بدَلالةِ ما سبَق عليه، أي: ولو كانَ ذا قربى لا نَشتري به ثمنًا .
- وخصَّ اللهُ (ذا القُربى) بالذِّكر؛ لأنَّ الميلَ إليهم أتمُّ، والمداهنةَ بسببهم أعظمُ .
- وأيضًا في قولِه: وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى تأكيدُ تَبَرُّئِهما من الحَلِف كذبًا، ومبالغةٌ في التنزُّه عنه، كأنَّهما قالا: لا نأخُذُ لأنفسِنا بدلًا مِن حُرمةِ اسمِه تعالى مالًا، ولو انضمَّ إليه رعايةُ جانب الأقرباء؛ فكيف إذا لم يكُنْ كذلك ؟!
4- في قوله تعالى: فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ.... إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ ناسبَ ختْمُ ما أقْسم عليه شاهدَا الزُّورِ بقولِه: لَمِنَ الآثِمِينَ؛ لأنَّ عدَمَ مطابقة يمينهما للواقِع وكَتْمَهما الشهادةَ يجرَّانِ إليهما الإثمَ، وفي قوله: وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ناسَب ذِكْرُ الظلمِ هنا قولَهما: وَمَا اعْتَدَيْنَا؛ لأنَّ الاعتداءَ والظُّلم متقارِبان .
5- ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ: إنَّما جمَع الضَّمائرَ هنا في يَأْتُوا وما بعدَه، وإن كان السابق مثنًّى، فلم يُثنِّها كما سَبَق؛ لأنَّه حُكمٌ يعمُّ الشُّهودَ كلَّهم؛ فإنَّه لا يعودُ إلى الشَّاهِدَينِ بخُصوصيَّتهما، بل إلى النَّاسِ الشُّهودِ، والتقدير: ذلك أدْنَى أنْ يحذرَ الناسُ الخيانةَ فيَشْهَدوا بالحقِّ خوفَ الفضيحةِ في ردِّ اليمينِ على المدَّعِي. وقيل: هو عائدٌ على الشَّاهِدَينِ باعتبارِ الصِّنفِ والنَّوعِ .