موسوعة التفسير

سُورةُ النِّساءِ
الآيات (144-147)

ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ

غريب الكلمات:

أَوْلِيَاءَ: جمْع وليٍّ، وهو النَّصيرُ، وأصل (وَلِيَ) يدلُّ على القُرْب، سواءٌ من حيث: المكان، أو النِّسبة، أو الدِّين، أو الصَّداقة، أو النُّصرة، أو الاعتقاد، وكلُّ مَن وَلِي أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141)، ((المفردات)) للراغب (ص: 885)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 89). .
سُلْطَانًا: أي: حُجَّة، وأصل السُّلطان: القوَّة والقهر، من التَّسلُّط؛ ولذلك سُمِّي السُّلطانُ سُلطانًا يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/95)، ((المفردات)) للراغب (ص: 247، 420، 724). .
الدَّرْكِ: مَنزِلٌ من منازلِ أهلِ النَّار، فالنَّار دركاتٌ، أي: طبقاتٌ بعضُها دونَ بعضٍ، والدَّرك: أقْصَى قعرِ البحر، وأصل (درك): هو لحوقُ الشَّيءِ بالشَّيءِ ووصولُه إليه يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 218)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/269)، ((المفردات)) للراغب (ص: 311) ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 144). .
وَاعْتَصَمُوا: استمسَكوا وامتنَعوا به، والاعتصام: التَّمسُّك بالشَّيء، وأصل العِصمة: المنعُ، ومنه يُقال: عَصَمَه الطَّعامُ، أي: منَعَه من الجوعِ، والعِصمةُ أيضًا الإمساكُ، والملازَمة يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 108)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/504)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/331)، ((المفردات)) للراغب (ص: 570)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 77)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 127). .

مشكل الإعراب:

قوله: مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ:
مَا: فيها وجهانِ: أحدهما: أنَّها استفهاميَّةٌ، وعليه تكونُ في محلِّ نصبٍ بـ: (يفعل)، وقُدِّم المفعولُ به؛ لكونِه له صدرُ الكلام، والباءُ على هذا سَببيَّةٌ متعلِّقة بـ: يَفْعَلُ، والاستفهامُ هنا معناه النَّفي، والمعنى: أنَّ اللهَ لا يَفعلُ بعذابِكم شيئًا؛ لأنَّه لا يجلبُ لنفسِه بعذابكم نفعًا، ولا يدفَعُ عنها به ضرًّا، فأيُّ حاجةٍ له في عذابِكم؟! والوجه الثَّاني: أنَّ مَا نافية، كأنَّه قيل: لا يُعذِّبُكم اللهُ، وعلى هذا فالباءُ زائدةٌ (صلة)، ولا تَتعلَّق بشيءٍ ينظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/211)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/401-402)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/133)، ((إعراب القرآن الكريم)) للدعاس (1/231). .

المَعنَى الإجماليُّ:

يَنهى اللهُ عبادَه المؤمنين عن اتِّخاذِ الكافرينَ أولياءَ يُناصِرونهم، ويُصادِقونهم، ويثِقُون بهم مِن دون المؤمنين؛ فإنَّ ذلك موجِبٌ لأنْ يجعَلوا لله عليهم حُجَّةً، فيستحقُّوا العقوبةَ على ذلك.
ثمَّ أخبَر تعالى أنَّ مَصيرَ المنافقينَ المكانُ الأسفلُ من جَهنَّم، وخاطَب نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه لن يجِدَ لهؤلاء المنافقين مَن ينصُرُهم مِن عذابِ الله، إلَّا الَّذين تابوا مِن نِفاقِهم، وأصلَحوا أعمالَهم الظَّاهرةَ والباطنة، واعتَصَموا بالله، وأَخلَصوا له دِينَهم، فأولئك مع المؤمنين، وسوف يُعطي اللهُ المؤمنين ثوابًا عظيمًا.
ثمَّ يخبِرُ تعالى أنَّه في غِنًى عن عذابِهم، إنْ شكَروه وآمَنوا وكان اللهُ شاكرًا عليمًا.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر تعالى أنَّ مِن صفاتِ المنافقين اتِّخاذَ الكافرين أولياءَ من دون المؤمنين، المستلزمَ للنَّهيِ عن ذلك الاتِّخاذِ، نهى عبادَه المؤمنين أن يتَّصِفوا بهذه الحالةِ القبيحةِ، وأن يُشابهوا المنافِقين، فقال يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 211). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/250). ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/443). :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أي: لا تَجعَلوا الكفَّارَ أولياءَ لكم من غيرِ أَهلِ دِينكم مِن المؤمنين، فتُؤازِروهم وتُصاحِبوهم وتُسرُّوا إليهم بالمودَّةِ، وتُفشُوا أحوالَ المؤمنين الباطنةَ إليهم، وتَثِقوا بهم، وتَعتمِدوا عليهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/617-618)، ((تفسير ابن كثير)) (2/441)، ((تفسير السعدي)) (ص: 211)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/371-372). .
كما قال تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران: 28] .
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا
أي: هل تُريدون أن تجعَلوا لله تعالى عليكم حُجَّةً واضحةً باتِّخاذِكم الكافرين أولياءَ مِن دون المؤمنين، فتَستوجبوا منه ما استوجَبَه أهلُ النِّفاقِ باستحقاقِ العقوبة يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/618)، ((تفسير ابن كثير)) (2/441)، ((تفسير السعدي)) (ص: 211)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/372). ؟
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نهاهم سبحانه عن فِعلِ المنافقين استأنَف بَيانَ جزائِهم عنده يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/444). ، فقال:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ
أي: إنَّ المُنافِقين في قَعرِ جهنَّمَ وأسفلِ طبقاتِها يومَ القيامة، جَزاءً على كُفرِهم الغليظِ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/619)، ((تفسير ابن كثير)) (2/441)، ((تفسير السعدي)) (ص: 211)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/320)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/373). .
وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا
أي: ولنْ تجِدَ لهؤلاء المنافقين- يا محمَّدُ- ناصرًا يَنصُرُهم مِن الله تعالى، فيُنقِذُهم مِن عذابِه، ويَدفَعُ عنهم أليمَ عقابِه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/621)، ((تفسير ابن كثير)) (2/442)، ((تفسير السعدي)) (ص: 211)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/374). .
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا
أي: إلَّا التَّائبين مِن نِفاقِهم، الَّذين رجَعوا للحقِّ وندِموا على سيِّئاتِهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/621-622)، ((تفسير ابن كثير)) (2/442)، ((تفسير السعدي)) (ص: 211)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/375). .
وَأَصْلَحُوا
أي: وأصلَحوا أعمالَهم الظَّاهرةَ والباطنةَ فعَمِلوا بما أمَرهم اللهُ تعالى به، وانتهَوْا عمَّا نهاهم عنه، وأصلحوا ما أفسدوه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/622)، ((تفسير ابن كثير)) (2/442)، ((تفسير السعدي)) (ص: 211)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/375). .
وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ
أي: واعتصَموا برَبِّهم في جَميعِ أمورِهم، والْتَجَؤوا إليه في جَلْبِ مَنافعِهم ودَفْعِ المضارِّ عنهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/622)، ((تفسير ابن كثير)) (2/442)، ((تفسير السعدي)) (ص: 211)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/375). .
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ
أي: قَصَدوا وجهَ اللهِ تعالى بأعمالهم الظَّاهرةِ والباطنةِ، وسَلِمُوا من الرِّياءِ والنِّفاقِ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/622)، ((تفسير ابن كثير)) (2/442)، ((تفسير السعدي)) (ص: 211)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/375). .
فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ
أي: فهؤلاء المُنافقون بعدَ تَوبتِهم وإصلاحِهم واعتِصامِهم بالله تعالى وإخلاصِهم له مع المؤمنين في الدُّنيا والآخرةِ، يَكونون في زُمرتِهم يومَ القيامة، ويَدخُلونَ معهم الجنَّةَ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/622-623)، ((تفسير ابن كثير)) (2/442)، ((تفسير السعدي)) (ص: 211). .
وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا
أي: وسوفَ يُعطي اللهُ تعالى المؤمنين ثوابًا عظيمًا، لا يعلَمُ كُنْهَهُ إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ؛ ممَّا لا عينٌ رأَتْ، ولا أُذُنٌ سمِعَتْ، ولا خطَرَ على قلبِ بشَرٍ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/622-623)، ((تفسير السعدي)) (ص: 211-212)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/376). .
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان معنى الاستثناءِ في الآيةِ السابقةِ: أنَّه لا يُعذِّبُهم، وأنَّهم يَجِدون الشَّفيعَ بإذنِه- قال مؤكِّدًا لذلك على وجهِ الاستنتاجِ، مُنكِرًا على مَن ظَنَّ أنَّه لا يَقبَلُهم بعد الإغراقِ في المهالِكِ يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/446). :
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ
أي: ما يصنَعُ اللهُ تعالى- أيُّها المنافِقون- بعذابِكم، إن شكَرْتموه على نِعَمِه، فقُمتُم بطاعتِه، وآمنتم حقًّا بما يجبُ عليكم الإيمانُ به؟ فإنَّه لا حاجةَ لله سبحانه في أن يُعذِّبَكم؛ إذ لا يَجتلِبُ إلى نفْسِه بعَذابِكم نفعًا، ولا يدفَعُ عنها ضرًّا يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/623-624)، ((تفسير ابن كثير)) (2/442)، ((تفسير السعدي)) (ص: 212)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/378). .
وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى شاكرٌ لِمَن شكَر له، فيُثيبُهم على ما عمِلوا، أكثرَ ممَّا عمِلوا، عليمٌ بإيمانِ مَن آمَن قلبُه به، وعليمٌ بمن يستحقُّ الشُّكر مِن عبادِه، ويُجازيه على ذلك أوفرَ الجزاء يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/624)، ((تفسير ابن كثير)) (2/442)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/378). .

الفَوائِد التربويَّة:

1- في قوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا: التَّحذيرُ مِن المعاصي؛ فإنَّ فاعلَها يجعَلُ لله عليه سلطانًا مُبِينًا يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 211). .
2- أنَّه لا بدَّ لِمَن أفسَد أن يُصلِحَ مُقابلَ إفسادِه، ولا تَكفي التَّوبةُ المجرَّدةُ، فلا بدَّ مِن إصلاحِ ما أفسَد وَأَصْلَحُوا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/376). .
3- في قولِه تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ أنَّ مَن كان معتصمًا بغيرِ الله، فإنَّ مِن تحقيقِ توبتِه أن يعدِلَ عن الاعتِصامِ بغير الله إلى الاعتصامِ بالله؛ لأنَّ الدَّاءَ يُداوَى بدواءٍ مقابلٍ؛ فالاعتصامُ بغيرِ الله شِركٌ، يُداوَى بالاعتصامِ بالله عزَّ وجلَّ، ولكلِّ داءٍ دواءٌ يُناسِبُه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/377). .
4- أنَّ مِن تمام التَّوبةِ إخلاصَ المشرِكِ؛ لقوله: وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ، والمنافِقون عندهم إشراكٌ؛ لأنَّهم يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/377). .
5- خصَّ اللهُ تعالى الاعتِصامَ والإخلاصَ بالذِّكرِ في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ، مع دخولِهما في قوله: وَأَصْلَحُوا، فهما من جملةِ الإصلاحِ؛ وذلك لشدَّةِ الحاجةِ إليهما، خُصوصًا في هذا المقام الحرِجِ الَّذي يمكِّنُ مِن القلوبِ النِّفاقَ، فلا يُزِيله إلَّا شدَّةُ الاعتصامِ بالله، ودوامُ اللَّجَأِ والافتقارِ إليه في دفعِه، ولكونِ الإخلاصِ منافيًا كلَّ المنافاة للنِّفاق؛ فذَكَرَهما لفضلِهما وتوقُّفِ الأعمالِ الظَّاهرةِ والباطنة عليهما، ولشدَّةِ الحاجةِ في هذا المقامِ إليهما يُنظر: ((تفسير السعدي)) (1/211). .
6- يُستفادُ من قوله تعالى: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ أنَّ مَن لم يشكُرِ اللهَ، أو مَن لم يُؤمِنْ به فإنَّه عُرْضةٌ للانتقامِ والعذاب؛ لأنَّ اللهَ سبحانه نفى العذابَ عمَّن شكَر وآمَن، وهذا يدلُّ على أنَّ مَن لم يشكُرْ ويؤمِنْ فإنَّه معرَّضٌ لعقابِه، وهذا هو الواقعُ؛ قال الله تبارك وتعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/378). .

الفوائدُ العِلميَّة واللَّطائِف:

1- في هذه الآية: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا: دليلٌ على كمالِ عدلِ اللهِ، وأنَّ الله لا يُعَذِّبُ أحًدا قبل قيام الحُجَّةِ عليه يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 211). .
2- أنَّ اللهَ سبحانه له سلطانٌ وحُجَّةٌ على مَن خالَفَ أمْرَه، ويدلُّ على هذا قولُه تعالى حين ذكَر إرسالَ الرُّسلِ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، فهنا لو لم يُرسَلِ الرُّسُلَ صارتِ الحُجَّةُ للنَّاسِ على اللَّهِ، وإذا أُرسِلَ الرُّسُلُ وبُيِّنَتِ الأحكامُ صارتِ الحُجَّةُ للهِ على العباد يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/373). .
3- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فيه وجوبُ موالاةِ المؤمنين ومُناصرتِهم؛ لأنَّ المؤمنين إخوةٌ، فما أصابَ أحدَهم فقد أصاب الآخَرَ، وما حصَلَ مِن ضررٍ وجَب على جميعِ المؤمنين إزالتُه على حسَبِ الحالِ والإمكان يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/373). .
4- قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، والسَّببُ في كونِ المنافقِ أشدَّ عذابًا من الكافرِ؛ لأنَّه مِثلُه في الكفر، وضمَّ إليه نوعًا آخَرَ من الكُفرِ، وهو الاستهزاءُ بالإسلامِ وبأهله، وبسببِ أنَّهم لَمَّا كانوا يُظهِرون الإسلامَ يمكِنُهم الاطِّلاعُ على أسرار المسلمين، ثمَّ يُخبِرون الكفَّارَ بذلك فكانت تتضاعَفُ المِحنةُ مِن هؤلاء المنافقين؛ فلهذه الأسبابِ جعَل اللهُ عذابهم أزيدَ مِن عذابِ الكفَّار يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/251). فهم شرُّ أهلِ النَّار بما جمَعوا بين الكفرِ والنِّفاقِ ومُخادعةِ الله والمؤمنين وغشِّهم؛ فأرواحُهم أسفلُ الأرواحِ، وأنفسُهم أخَسُّ الأنفسِ يُنظر: ((تفسير المنار)) (5/385). .
5- إنَّما كان مُستَقرُّ المنافقين فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، أي: لأنَّ ذلك أخفى ما في النَّار وأستَرُه وأخبَثُه، كما أنَّ كُفرَهم أخْفَى الكُفرِ وأخبثُه وأستَرُه يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/339). .
6- في قوله تعالى: فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أنَّ طَبقاتِ النَّار تُسمَّى دركاتٍ، وسُمِّيَت بذلك؛ لأنَّها مُتدارِكةٌ متتابِعةٌ إلى أسفلَ، كما أنَّ الدَّرجَ متراقيَةٌ إلى فوقَ يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/339). .
7- أنَّ هؤلاء المنافقين فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وهذا لا يَعني أنَّ غيرَهم لا يُشاركونهم، بل قد يُشارِكُهم غيرُهم، لكنَّنا نجزِمُ بأنَّ المنافقين فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ، وأنَّ مَن سواهم قد يكونون فيه، وقد لا يكونون فيه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/374). .
8- قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا كان المُنافِقُ متَّصِفًا بنقائضِ هذه الأوصافِ مِن الكُفرِ وفَساد ِالأعمالِ والموالاة للكافرين والاعتزازِ بهم، والمراءاة للمؤمنين- شرَط في تَوبتِهم ما يُناقِضُ تلك الأوصافَ، وهي التَّوبةُ مِن النِّفاقِ، وهي الوصفُ المحتوي على بقيَّةِ الأوصافِ من حيثُ المعنى، ثمَّ فصَّل ما أجمَلَ فيها، وهو الإصلاحُ للعَملِ المستأنَفِ المقابِلُ لفسادِ أعمالهم الماضية، ثمَّ الاعتصامُ بالله في المستقبَل، وهو المقابلُ لموالاةِ الكافرين والاعتماد عليهم في الماضي، ثمَّ الإخلاص لدِين اللهِ، وهو المقابلُ للرِّياء الَّذي كان لهم في الماضي يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/113). .
9- في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ، أنَّ المنافقَ تُقبَلُ توبتُه، وأنَّ مَن اتَّصَف بهذه الصِّفات فإنَّه يكونُ مع المؤمنين، ولو كان قبل ذلك منافقًا؛ لأنَّ هذه الصِّفاتِ تنتشلُه من النِّفاقِ إلى الإيمان، فهذه معيَّةُ المؤمنين، لا شكَّ أنَّها منزلةٌ عالية؛ كما قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/376،377). .
10- أنَّ الله سبحانه غنيٌّ عن عذابِ الخَلْقِ إذا قاموا بالشُّكر والإيمان؛ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/378). .
11- لَمَّا ذكَر أنَّ هؤلاء مع المؤمنينَ لم يقُلْ: (وسوف يُؤتيهم أجرًا عظيمًا)، مع أنَّ السِّياقَ فيهم، بل قال: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا؛ لأنَّ هذه القاعدةَ الشَّريفة لم يزَلِ اللهُ يُبدِئُ فيها ويُعيدُ: إذا كان السِّياقُ في بعضِ الجزئيَّاتِ، وأراد أن يُرتِّبَ عليه ثوابًا أو عقابًا، وكان ذلك مُشتركًا بينه وبين الجِنس الدَّاخِل فيه، رتَّبَ الثَّوابَ في مقابلةِ الحُكمِ العامِّ الَّذي تندرج تحتَه تلك القضيةُ وغيرُها؛ ولئلَّا يُتوهَّمَ اختصاصُ الحُكمِ بالأمر الجُزئيِّ؛ فهذا مِن أسرارِ القرآن البديعةِ؛ فالتَّائبُ مِن المنافقين مع المؤمنين، وله ثوابُهم يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 212)، ((القواعد الحسان)) للسعدي (ص: 122). .

بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ: استئناف ابتدائيٌّ؛ لأنَّه توجيهُ خِطابٍ بعدَ الانتهاءِ من الإخبارِ عن المنافِقين بطريقِ الغَيبة يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/242). ، وقد نُهوا عن موالاةِ الكَفَرةِ صَريحًا في هذه الآية، وإنْ كان ما تقدَّمَ في بيانِ حالِ المنافقين، مَزْجرةً عن ذلك؛ مُبالغةً في الزَّجر والتَّحذير يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/246). .
2- قوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا: استئناف بيانيٌّ؛ لأنَّ النَّهيَ عن اتِّخاذِ الكافرين أولياءَ ممَّا يبعَثُ النَّاسَ على معرفةِ جزاء هذا الفِعل مع قصد التَّشهيرِ بالمنافقين، والتَّسجيل عليهم، أي: إنَّكم إنِ استمررتُم على موالاةِ الكافرين، جعَلتُم للهِ عليكم حُجَّةً واضحةً على فَسادِ إيمانكم، فهذا تعريضٌ بالمنافقين يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/243). .
- والاستفهام في قولِه: أَتُرِيدُونَ مُستعمَلٌ في معنى التَّحذيرِ والإنذار يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/243). .
3- قوله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ: جملةٌ مستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ إذ هي عَودٌ إلى أحوالِ المنافقين، وتأكيدُ الخبر بـ: (إنَّ) لإفادة أنَّه لا مَحِيصَ لهم عنه يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/244). .
4- قوله: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا أتى بـ(سوف)؛ لأنَّ إيتاءَ الأجرِ يكونُ يومَ القيامة، وهو زمانٌ مستقبَل ليس حاضرًا، و(سوف) أبلغُ في التَّنفيسِ من السِّينِ يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/114). .
5- قوله: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ: جملة استئنافيَّةٌ مسُوقةٌ لبيانِ أنَّ مدارَ تعذيبِهم وجودًا وعَدَمًا إنَّما هو كُفرُهم لا شيء آخَر، فيكون مُقرِّرًا لِمَا قبله من إثابتِهم عن توبتِهم يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/247)، ((تفسير ابن عاشور)) (5/245). .
- وقوله: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ استفهامٌ إنكاريٌّ- على القولِ بأنَّ مَا استفهاميَّة- مُفيدٌ للنَّفيِ على أَبلغِ وجهٍ وآكَدِه يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/247)، ((تفسير ابن عاشور)) (5/245). .
- وقوله: إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ: فيه تقديمُ الشُّكرِ على الإيمان؛ لأنَّ العاقلَ ينظُرُ إلى ما عليه من النِّعمةِ العظيمة في خَلْقِه وتَعريضِه للمنافعِ، فيشكُرُ شُكرًا مبهَمًا، فإذا انتَهى به النَّظرُ إلى مَعرفةِ المنعِمِ آمَنَ به، ثمَّ شكَر شُكرًا مُفصَّلًا، فكان الشُّكرُ متقدِّمًا على الإيمانِ، وكأنَّه أصلُ التَّكليفِ ومدارُه يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/582)، ((تفسير البيضاوي)) (2/105). .
5- قوله: وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا: اعْتِرَاضٌ في آخرِ الكلام، وهو إعلامٌ بأنَّ اللهَ لا يُعطِّلُ الجزاءَ الحسَنَ عن الَّذين يُؤمنون به، ويَشكُرون نِعمَه الجمَّةَ، والإيمانُ بالله وصفاتِه أوَّلُ درجاتِ شُكرِ العبدِ ربَّه يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (5/245). .
- وأتَى بصِفة الشُّكر شَاكِرًا باسمِ الفاعِل بلا مبالغةٍ؛ ليدلَّ على أنَّه يَتقبَّلُ ولو أقلَّ شيءٍ مِن العمل ويُنمِّيه يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/115). .
- وأتَى بصفة العِلم عَلِيمًا على صِيغةِ (فعيل)؛ للمُبالغةِ في وصْفِه سبحانه بالعِلمِ بجميعِ المعلوماتِ يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/247). ، وفيه تحذيرٌ، وندبٌ إلى الإخلاصِ للهِ تَعالَى يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/115). ، مع ما في الجَمْعِ بين صِفَتَي شَاكِرًا عَلِيمًا مِن البَلاغةِ والمناسبةِ الحَسنةِ للسِّياق.