موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (86- 89)

ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ

المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبِر الله تبارَك وتعالَى أنَّه لا يَهدي قومًا ارتدُّوا على أعقابِهم، وكفَروا بعدَ إيمانِهم وشهِدوا أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حقٌّ، وجاءتهم البيِّناتُ القاطعاتُ والبراهين الشاهدةُ على صِدقِه؛ فكيف يَستحقُّ هؤلاء الهداية؟! فالله عزَّ وجلَّ لا يَهدي إلى الحقِّ الَّذين ظلموا أنفسَهم، بترْكهم الحقَّ بعدَ معرفتهم له، واتِّباعهم الباطلَ مع وضوح بُطلانه. ثمَّ أخبر الله تعالى عن عُقوبةِ هؤلاء الظَّالمين في الدُّنيا والآخرة، وهي الطَّرد والإبعاد من رحمتِه، وأنَّ خلْقَه جميعًا من الملائكةِ والنَّاس يَلعنونهم، وأنَّهم خالدون في هذه اللَّعنةِ والعقوبة، لا يُخَفَّف عنهم من العذاب شيئًا، ولا هم يُمْهَلون أو يُؤَخَّرون.
ثم استثنى اللهُ تعالى مَن تابَ ورجَع إلى الله، وعمِل الصالحات، فهو يَغفر ذَنبَه، ويستُر عيبَه، ويَتجاوز عن خطاياه، وذلك من لُطفه سبحانه وبرِّه، ورأفته ورحمته بخَلقه.

تفسير الآيات:

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا عظَّم اللهُ تعالى أمْر الإسلام والإيمان بقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، أكَّد ذلك التعظيم بأنْ بيَّن وعيدَ مَن ترك الإسلام، فقال: كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ؟!
سبب النُّزولِ:
عن ابن عبَّاس رضِي اللهُ عنهما قال: كانَ رجلٌ منَ الأنصارِ أسلمَ ثمَّ ارتدَّ ولحِقَ بالشِّرْكِ ثمَّ تندَّمَ، فأرسلَ إلى قومِهِ: سلوا لي رسولَ اللَّهِ، صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، هل لي من توبةٍ؟ فجاءَ قومُهُ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فقالوا: إنَّ فلانًا قد ندِمَ وإنَّهُ أمرنا أنَّ نسألَكَ: هل لَهُ من توبةٍ؟ فنزلَت: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ إلى قولِهِ: غَفُورٌ رَحِيمٌ فأرسلَ إليهِ فأسلمَ .
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ
 أي: لا يَهدي اللهُ قومًا ارتدُّوا بعدَ أنْ آمنوا؛ فكيف يستحقُّون الهدايةَ وقد اختاروا الكُفر والضَّلال بعدَ أن عَرَفوا الحقَّ، ودخلوا في الإيمان ؟!
وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ
 أي: وبعدَ أنْ أقرُّوا أنَّ محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رسولُ الله إلى النَّاس حقًّا، صادقٌ فيما أخبر، عادلٌ فيما حَكم .
وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ
 أي: وجاءتْهم الحُجج من عند الله، وقامتْ عليهم الدلائلُ والبراهين الَّتي تُبيِّن صِدْقَ ما جاء به الرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
أي: واللهُ عزَّ وجلَّ لا يُوفِّق للحقِّ الَّذين ظلموا أنفسَهم فتركوا الحقَّ بعدما عرَفوه، واتَّبعوا الباطل مع عِلمهم ببُطلانِه .
ثم أخبَر عن عقوبةِ هؤلاءِ المعانِدين الظالمين الدُّنيويَّة والأخرويَّة، فقال:
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
أي: هؤلاء الَّذين كفَروا بعد إيمانِهم، وشهِدوا أنَّ الرَّسول حقٌّ وجاءَهم البيِّنات- ثوابهم ومكافأتُهم طَرْدُ الله لهم، وإبعادُهم من رحمتِه، ولعْنُ خلْقِه لهم من الملائكةِ والنَّاس جميعًا .
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ.
خَالِدِينَ فِيهَا
أي: ماكثِينَ في عُقوبةِ الله ولعنتِه .
لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ
أي: لا يُنْقَصون من العذابِ شيئًا، ولا تُهَوَّن عليهم العقوبة .
وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ
أي: ولا هم يُمْهَلون ولا يُؤخَّرون ولا يؤجَّلون .
ثم استثنى- جلَّ ثناؤه- الَّذين تابوا من هؤلاء الَّذين كفروا بعد إيمانهم، فقال:
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا
 إلَّا الَّذين رجَعوا إلى الله، وراجَعوا الإيمانَ بالله ورسولِه من بعد كُفرِهم وارتدادِهم، وأصْلَحوا ما أَفْسَدوا، وعمِلوا الصَّالحات .
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
 أي: فإنَّ اللهَ يَستُر عليهم الذُّنوب، ويتجاوزُ عنها، ويترُكُ العقوبةَ عليها، ويتعطَّف عليهم بالرَّحمة، الَّتي تَقتضي الإحسانَ والإنعام .

الفوائد التربوية :

1- في قوله: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا: استعظَم اللهُ كُفرَ القوم؛ لأنَّه حصل بعد خِصالٍ ثلاث؛ وهي: الإيمان، والشَّهادة بكون الرَّسول حقًّا، وبعدَ مجيءِ البيِّنات؛ فيكون الكفرُ بعدَ هذه الأشياء أقبحَ؛ لأنَّ مثلَ هذا الكفرِ يكون كالمعاندةِ والجحود .
2- في قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، إشارةٌ إلى أنَّ الجزاء من جِنس العمل، فإنَّ هؤلاء لَمَّا ارتكبوا ثلاثَ جرائم، أو ثلاثةَ أمورٍ في كُفرهم، كان عليهم لعنةُ الله والملائكةِ والنَّاس، ثلاثٌ بثلاثٍ .
3- زلَّة العالم أقبحُ من زلَّة الجاهل؛ يُستفادُ ذلك من قوله: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ .
4- في قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: دليلٌ على أنَّ التَّوبة تَجُبُّ ما قبلها ، أي: تقْطَعُ وتَمْحو ما كانَ قَبْلَها مِنَ الكُفرِ والمعاصي والذُّنوب.
5- في قوله تعالى: وَأَصْلَحُوا: دليلٌ على أنَّ التوبة وحدها لا تَكفي؛ إذ لا بدَّ معها من الإصلاح، وهذا واجبٌ في كلِّ مَن يتعدَّى جُرْمُه إلى غيره، أنْ يقومَ بإصلاحِ ما ترتَّب على هذا الجرم .
6- يَتبيَّن من قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا أنَّ التَّوبة الَّتي لا تأثيرَ لها على سلوكِ الإنسانِ وحالِه وأعمالِه، لا شأنَ لها ولا قيمةَ في نظرِ الدِّين؛ ولذلك جرى القرآنُ على عطفِ العملِ الصَّالح عليها عند ذِكرِها أو وصْفِها بالنَّصوح .

الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- يُستفاد مِن قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ: أنَّ مَن ضلَّ عن بصيرةٍ، فإنَّه يَبعُد أن يُهْدَى، ومَن فَسقَ عن بصيرةٍ فإنَّه يبعُد أنَّ يكونَ من العدول .
2- لَمَّا كان المقيمُ في الشدَّة قد تَنقُص شدَّتُه إذا طالتْ، نفَى ذلك بقوله: لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ .
3- أشارَ اللهُ تعالى إلى ما سبَقَ من الكُفر بقوله: مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، وهي إشارةُ البعيد؛ وذلك لانحطاطِ مَرتبتِه .
4- في الجمْعِ بين الغفور والرَّحيم زيادةُ معنى على ما يَتضمَّنه الاسمان، وهو أنَّ الله تعالى قد جمَع بين المغفرة الَّتي بها زوالُ المكروه، وآثار الذنب، والرَّحمة الَّتي بها حُصولُ المطلوبِ وهو النِّعمةُ والإحسان، كما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ: هذا استئنافٌ ابتدائيٌّ يُناسب ما سبَقه من التنويهِ بشَرف الإسلام، وكَيْفَ استفهامٌ إنكاريٌّ، معناه النَّفي، والمقصودُ استبعاد لأنْ يُرشدَهم الله للصَّواب ويوفِّقهم؛ فإنَّ الحائد عن الحقِّ بعدَما وضَح له، منهمكٌ في الضَّلال، بعيد عن الرَّشاد، وإنكارُ أنْ تحصُل لهم هدايةٌ خاصَّة، وهي إمَّا الهدايةُ الناشئةُ عن عِنايةِ الله بالعبدِ ولُطفه به، وإسنادُها إلى الله ظاهر، وإمَّا الهدايةُ الناشئة عن إعمالِ الأدلَّة والاستنتاجِ منها، وإسنادُها إلى الله؛ لأنَّه موجِدُ الأسباب ومُسبَّباتِها .
- وفيه: تأكيدٌ للتعظيم السابق وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ، حيث بيَّن وعيدَ مَن ترَك الإسلام، وأكَّده هنا بقوله: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ .
2- قوله تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ: فيه تعميمٌ للحُكم بعد ذِكر بعض أفراده؛ فإنَّه قال في أوَّل الآية: كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا... وقال في آخرها: وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ؛ فقوله: كَيْفَ يَهْدِي اللهُ مختصٌّ بالمرتدِّين، ثم إنَّه تعالى عمَّم ذلك الحُكم في المرتدِّ، وفي الكافر الأصلي، فقال: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ؛ وسمَّى الكافر ظالِمًا؛ لأنَّ الشِّرك ظُلمٌ عظيم .
3- في قوله: أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ... أتى باسم الإشارةِ أُولَئِكَ على وجهِ البُعد؛ إشارةً إلى انحطاطِ مرتبتهم .
4- قوله تعالى: فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ: فيه تعليلٌ لِمَا دلَّ عليه الاستثناءُ ، مع ما فيه من تأكيد الخبر بـ(إنَّ) واسميَّة الجملة، والمبالغة في صِيغةِ فعول وفعيل غَفُورٌ رَحِيمٌ.