موسوعة التفسير

سُورةُ القارِعَةِ
الآيات (1-11)

ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ

غريب الكلمات:

الْقَارِعَةُ: أي: القيامةُ الَّتي تَقرَعُ قُلوبَ العِبادِ بالمَخافةِ، وسُمِّيَت بذلك؛ لأنَّها تَقرَعُ النَّاسَ بالأهوالِ الشَّديدةِ، وأصلُ (قرع): يدُلُّ على ضَربِ الشَّيءِ .
الْمَبْثُوثِ: أي: المنتَشِرِ المتفَرِّقِ، وأصلُ (بثث): يدُلُّ على التَّفريقِ .
كَالْعِهْنِ: أي: الصُّوفِ المصبوغِ، وأصلُ (عهن): يدُلُّ على لِينٍ وسُهولةٍ .
الْمَنْفُوشِ: أي: المفَرَّقِ بَعضُ أجزائِه عن بَعضٍ. والنَّفْشُ: تَشعيثُ الشَّيءِ بأصابِعِك حتَّى يَنتَشِرَ، وأصلُ ‌‌(نفش): يدُلُّ على انتِشارٍ .
هَاوِيَةٌ: الهاوِيةُ: المكانُ المنخَفِضُ بيْنَ الجَبَلَينِ الَّذي إذا سَقَط فيه إنسانٌ أو دابَّةٌ هلَك، يُقالُ: سَقَط في الهاويةِ، وأُريدَ بها هنا جهنَّمُ، وقيل: هي اسمٌ لجهنَّمَ. وأصلُ ‌‌(هوي): يدُلُّ على خُلُوٍّ وسُقوطٍ .
حَامِيَةٌ: أي: شديدةُ الحرارةِ .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ مُفَخِّمًا شأنَ القيامةِ، قائِلًا سُبحانَه: القيامةُ الَّتي تَقرَعُ النَّاسَ وتُزعِجُهم، أيُّ شَيءٍ تلك القِيامةُ؟! وما الَّذي أعلَمَك -يا محمَّدُ- بتلك القارعةِ العَظيمةِ؟! يومَ يَخرُجُ النَّاسُ مِن قُبورِهم كالفَراشِ المنتَشِرِ المتفَرِّقِ، وتكونُ الجِبالُ كالصُّوفِ المندوفِ الَّذي يَتطايرُ في الجَوِّ.
ثمَّ بيَّن سُبحانَه أحوالَ السُّعداءِ والأشقياءِ في هذا اليومِ، فقال: فأمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوازينُ حَسَناتِه فهو في حياةٍ طَيِّبةٍ في الجنَّةِ، وأمَّا مَن خَفَّت موازينُ حَسَناتِه، فمَأْواه ومَسكَنُه جهنَّمُ البَعيدُ قَعْرُها، يَهْوِي فيها على رأسِه، وما الَّذي أعلَمَك -يا محمَّدُ- أيُّ شَيءٍ تلك الهاويةُ؟! هي نارٌ شَديدةُ الحَرارةِ.

تفسير الآيات:

الْقَارِعَةُ (1).
أي: السَّاعةُ الَّتي تَقرَعُ النَّاسَ وتُزعِجُهم، وذلك عندَ النَّفخِ في الصُّورِ .
مَا الْقَارِعَةُ (2).
أيْ: أيُّ شَيءٍ تلك القارِعةُ المَهُولةُ ؟!
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3).
أي: وما الَّذي أعلَمَك -يا محمَّدُ- بتلك القارعةِ العَظيمةِ ؟!
كما قال تعالى: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1 - 3] .
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان قولُه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ مُنبِئًا عن الوعدِ الكَريمِ بإعلامِها؛ أنْجَزَ ذلكَ بقولِه تعالَى :
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4).
أي: يومَ يَخرُجُ النَّاسُ مِن قُبورِهم كالفَراشِ المنتَشِرِ المتفَرِّقِ .
ولَمَّا كانت الجِبالُ أشَدَّ ما تكونُ؛ عظَّم الرَّهبةَ بالإخبارِ بما يُفعَلُ بها، فقال تعالى :
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5).
أي: وتكونُ الجِبالُ يومَ القيامةِ كالصُّوفِ المندوفِ الَّذي تتفَرَّقُ أجزاؤُه، وتتطايرُ في الجَوِّ .
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا وَصَف يومَ القيامةِ؛ قسَّمَ النَّاسَ فيه إلى قِسمَينِ ، فقال تعالى:
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6).
أي: فأمَّا مَن ثَقُلَت موازينُ حَسَناتِه فرجَحَت على سيِّئاتِه .
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7).
أي: فهو في حياةٍ طَيِّبةٍ في الجنَّةِ يَرضى عنها .
كما قال تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 8] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف: 107-108] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن يَدخُلُ الجنَّةَ يَنعَمُ لا يَبأَسُ، لا تَبلى ثِيابُه، ولا يَفنى شَبابُه !)) .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ وأبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يُنادي مُنادٍ: إنَّ لكم أنْ تَصِحُّوا فلا تَسْقَموا أبدًا، وإنَّ لكم أن تَحْيَوْا فلا تَموتوا أبدًا، وإنَّ لكم أن تَشِبُّوا فلا تَهْرَموا أبدًا، وإنَّ لكم أن تَنْعَموا فلا تَبْأَسوا أبدًا )) .
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8).
أي: وأمَّا مَن خَفَّت مَوازينُ حَسَناتِه فرجَحَت سَيِّئاتُه على حَسَناتِه إن كانت له حَسَناتٌ .
فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ.
أي: فمَأْواه ومَسكَنُه في مَوضِعٍ بَعيدٍ قَعْرُه، يَهْوِي فيه على رأسِه .
وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10).
أي: قال اللهُ مُفَخِّمًا شَأنَها، ومُعَظِّمًا أمْرَها: وما الَّذي أعلَمَك -يا محمَّدُ- أيُّ شَيءٍ تلك الهاويةُ ؟!
نَارٌ حَامِيَةٌ (11).
أي: هي نارٌ قد بلغت الغايةَ في شِدَّةِ الحَرارةِ .
كما قال تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون: 103] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ العَبدَ لَيتكَلَّمُ بالكَلِمةِ ما يَتبيَّنُ ما فيها، يَهوي بها في النَّارِ أبْعَدَ ما بيْنَ المَشرِقِ والمَغرِبِ! )) .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((نارُكم هذه الَّتي يُوقِدُ ابنُ آدَمَ: جُزءٌ مِن سَبعينَ جُزءًا مِن حَرِّ جَهنَّمَ. قالوا: واللهِ إنْ كانت لَكافيةً يا رَسولَ اللهِ! قال: فإنَّها فُضِّلَت عليها بتِسْعةٍ وسِتِّينَ جُزءًا، كُلُّها مِثلُ حَرِّها )) .

الفوائد التربوية:

قال الله تعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، قُرِنَ بيْنَ النَّاسِ والجِبالِ؛ تَنبيهًا على تَأثيرِ تلك القارِعةِ في الجِبالِ حتَّى صارتْ كالعِهنِ المَنفوشِ! فكيف يكونُ حالُ الإنسانِ عندَ سَماعِها؟! فالوَيلُ ثمَّ الوَيلُ لابنِ آدَمَ إنْ لم تتدارَكْه رحمةُ رَبِّه !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ فيه سُؤالٌ: إذا أخبَرْتَ عن شَيءٍ بشَيءٍ فلا بُدَّ أن تَستفيدَ منه عِلمًا زائِدًا، وقَولُه: وَمَا أَدْرَاكَ يفيدُ كَونَه جاهِلًا به، فكيف يُعقَلُ أن يكونَ هذا خَبَرًا؟
الجوابُ: قد حصَلَ لنا بهذا الخبَرِ عِلمٌ زائِدٌ؛ لأنَّا كُنَّا نظُنُّ أنَّها قارعةٌ كسائرِ القوارعِ، فبهذا التَّجهيلِ عَلِمْنا أنَّها قارِعةٌ فاقت القوارِعَ في الهَولِ والشِّدَّةِ .
2- كلُّ موضعٍ في القُرآنِ: وَمَا أَدْرَاكَ فقد عُقِّب ببيانِه؛ نحوُ قولِه تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، وقولِه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ، وكلُّ موضعٍ ذُكِر بلَفظِ: وَمَا يُدْرِيكَ لم يُعقَّبْ ببَيانِه، نحوُ قولِه تعالى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى: 17] .
3- في قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ دليلٌ على أنَّ يومَ القيامةِ فيه موازينُ .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ، فيه سؤال: كيف قال فيمَن خفَّتْ موازينُه: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ، أي: فمَسْكنُه النَّارُ، مع أنَّ كثيرًا مِن المؤمنينَ سيِّئاتُهم راجحةٌ على حَسَناتِهم؟
الجوابُ مِن وجهَينِ:
الوجهُ الأوَّلُ: قولُه فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ لا يدُلُّ على خُلودِه فيها، فيَسكُنُ المؤمنُ فيها بقدْرِ ما تَقتضيهِ ذُنوبُه، ثمَّ يَخرُجُ منها إلى الجنَّةِ.
الوجهُ الثَّاني: المُرادُ بخِفَّةِ الموازينِ خُلوُّها مِن الحَسَناتِ بالكُلِّيَّةِ، وتلك مَوازينُ الكفَّارِ .
5- قَولُ اللهِ تعالى: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ، فيه سُؤالٌ: هذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ على أنَّ الهاوِيةَ وَصْفٌ لا علَمٌ للنَّارِ؛ إذ تَنوينُها يُنافي كونَها اسمًا مِن أسماءِ النَّارِ؛ لأنَّها على تَقديرِ كَونِها مِن أسماءِ النَّارِ يَلزَمُ فيها المَنعُ مِن الصَّرفِ للعَلَميَّةِ والتَّأنيثِ. وقولُه تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ، يدُلُّ على أنَّ الهاوِيةَ مِن أسماءِ النَّارِ؟
الجوابُ: أنَّ في معنى قولِه تعالى: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ثلاثةَ أَوْجُهٍ للعُلماءِ، اثنانِ منها لا إشكالَ في الآيةِ عليهما، والثَّالثُ: هو الَّذي فيه الإشكالُ المَذكورُ. أمَّا اللَّذانِ لا إشكالَ في الآيةِ عليهِما:
فالأوَّلُ: أنَّ المعنى: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ، أي: أُمُّ رَأسِه هاويةٌ في قَعرِ جهنَّمَ؛ لأنَّه يُطرَحُ فيها مَنكوسًا؛ رأسُه أسفَل ورِجلاهُ أعلى، ورُوِيَ هذا القولُ عن قَتادةَ وأبي صالحٍ وعِكْرِمةَ والكَلْبيِّ وغيرهِم، وعلى هذا القَولِ فالضَّميرُ في قولِه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ، عائدٌ إلى مَحذوفٍ، دَلَّ عليه المَقامُ، أي: أُمُّ رأسِه هاويةٌ في نارٍ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ.
الوجهُ الثَّاني: أنَّه مِن قَولِ العَربِ إذا دَعَوْا على الرَّجُلِ بالهَلَكةِ، قالوا: (هَوَتْ أُمُّه)؛ لأنَّه إذا هوَى -أي: سقطَ وهلَكَ- فقد هَوَتْ أُمُّه ثكلًا وحُزنًا، وعلى هذا القَولِ فالضَّميرُ في قولِه: هِيَهْ، للدَّاهِيةِ الَّتي دَلَّ عليها الكلامُ.
الوجهُ الثَّالِثُ: الَّذي فيه الإشكالُ: أنَّ المعنى: فأُمُّه هاوِيةٌ، أي مَأْواهُ الَّذي يُحيطُ به ويَضُمُّهُ هاوِيةٌ، وهي النَّارُ؛ لأنَّ الأُمَّ تُؤوِي وَلَدَها وتَضُمُّه، والنَّارُ تَضُمُّ هذا العاصِيَ، وتكونُ مَأواهُ. والجوابُ على هذا القَولِ: أنَّه نكَّرَ الهاوِيةَ في مَحلِّ التَّعريفِ مِن أجْلِ الإشعارِ بخُروجِهم عن المَعهودِ للتَّفخيمِ والتَّهويلِ، ثمَّ بعْدَ إبهامِها لهذهِ النُّكتةِ، قَرَّرها بوَصفِها الهائلِ بقَولِه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ. وهذا الجوابُ الَّذي يَدخُلُ في حَدِّ نَوعٍ مِن أنواعِ البَديعِ المعنويِّ، يُسمِّيهِ عُلماءُ البَلاغةِ: (التَّجريدَ) ، فالنَّارُ سُمِّيَت الهاوِيةَ لغايةِ عُمْقِها، وبُعْدِ مَهْواها، وخَصَّها البعضُ بالبابِ الأسفلِ مِن النَّارِ، فانتَزعَ منها هاوِيةً أُخرى مِثلَها في شِدَّةِ العُمقِ وبُعْدِ المَهوَى مُبالغةً في عُمْقِها، وبُعْدِ مَهْواها .
6- قال اللهُ تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ هاءُ السَّكْتِ إشارةٌ إلى أنَّ ذِكْرَها ممَّا يَكرُبُ القَلبَ حتَّى لا يَقدِرَ على الاستِرسالِ في الكلامِ، أو إلى أنَّها مما يَنبغي للسَّامِعِ أن يَقرَعَ بهذا الاستِفهامِ عنها سَمْعَه فيَسكُتَ لسَماعِ الجَوابِ وفَهْمِه غايةَ السُّكوتِ، ويُصغِيَ غايةَ الإصغاءِ .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ
- الافتِتاحُ بلَفظِ الْقَارِعَةُ افتِتاحٌ مُهوِّلٌ، وفيه تَشويقٌ إلى مَعرفةِ ما سيُخبَرُ به .
- قولُه: الْقَارِعَةُ مَرفوعٌ إمَّا على الابتداءِ، ومَا الْقَارِعَةُ خبَرُه، ويكونُ هناك مُنتهى الآيةِ؛ فالمعْنى: القارعةُ شَيءٌ عَظيمٌ هي، وهذا يَجْري على أنَّ الآيةَ الأُولى تَنْتهي بقولِه: مَا الْقَارِعَةُ، وإمَّا أنْ تكونَ الْقَارِعَةُ الأوَّلُ مُستقِلًّا بنفْسِه، وعُدَّ آيةً عندَ أهلِ الكوفةِ، فيُقدَّرَ خبَرٌ عنه مَحذوفٌ، نحْوُ: القارعةُ قريبةٌ، أو يُقدَّرَ فِعلٌ مَحذوفٌ، نحْوُ: أتَتِ القارعةُ، ويكونَ قولُه: مَا الْقَارِعَةُ استئنافًا للتَّهويلِ .
- قولُه: مَا الْقَارِعَةُ (ما) الاستفهاميَّةُ خبَرٌ، والْقَارِعَةُ مُبتدَأٌ، لا بالعكسِ؛ لأنَّ مَحطَّ الفائدةِ هو الخبَرُ لا المُبتدأُ، ولا رَيبَ في أنَّ مَدارَ إفادةِ الهَولِ والفَخامةِ هاهنا هو كَلمةُ مَا لا الْقَارِعَةُ، أيْ: أيُّ شَيءٍ عَجيبٍ هيَ في الفَخامةِ والفَظاعةِ ؟!
- وإعادةُ لَفظِ الْقَارِعَةُ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ عُدِلَ عن أنْ يُقالَ: القارعةُ ما هِيَهْ؛ لِما في لَفظِ القارعةِ مِن التَّهويلِ والتَّرويعِ .
- وقولُه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ تَأكيدٌ لهَولِها وفَظاعتِها ببَيانِ خُروجِها عن دائرةِ عُلومِ الخلْقِ، على معْنى: أنَّ عِظَمَ شَأنِها بحيث لا تَكادُ تَنالُه دِرايةُ أحدٍ حتَّى يُدْريَك بها .
- وفي قولِه: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بالتَّكريرِ، والمرادُ به: تَهويلٌ لشَأنِها، وتَفخيمٌ لفَظاعتِها .
2- قولُه تبارك وتعالَى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ
- قولُه: يَوْمَ مَفعولٌ فيه مَنصوبٌ بفِعلٍ مُضمَرٍ دلَّ عليه وَصْفُ الْقَارِعَةُ؛ لأنَّه في تَقديرِ: تَقرَعُ، أو دلَّ عليه الكلامُ كلُّه، فيُقدَّرُ: تكونُ، أو تَحصُلُ يومَ يكونُ النَّاسُ كالفَراشِ، وجُملةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ مع مُتعلَّقِها المَحذوفِ بَيانٌ للإبهامَينِ اللَّذَينِ في قولِه: مَا الْقَارِعَةُ [القارعة: 2] وقولِه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ [القارعة: 3] ، أو مَنصوبٌ بإضمارِ (اذكُرْ)، كأنَّه قِيل بعْدَ تَفخيمِ أمرِ القارعةِ وتَشويقِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى مَعرفتِها: اذكُرْ يومَ يكونُ النَّاسُ... إلخ؛ فإنَّه يُدْريكَ ما هيَ .
- والمَقصودُ بهذا التَّوقيتِ زِيادةُ التَّهويلِ بما أُضِيفَ إليه (يومَ) مِن الجُملتينِ المُفيدتَينِ أحوالًا هائلةً، إلَّا أنَّ شَأنَ التَّوقيتِ أنْ يكونَ بزَمانٍ مَعلومٍ، وإذ قدْ كان هذا الحالُ المُوقَّتُ بزَمانِه غيرَ مَعلومٍ مَداهُ، كان التَّوقيتُ له إطماعًا في تَعيينِ وَقتِ حُصولِه؛ إذ كانوا يَسأَلون: متَى هذا الوعدُ؟ ثمَّ تَوقيتُه بما هو مَجهولٌ لهم إبهامًا آخَرَ للتَّهويلِ، والتَّحذيرِ مِن مُفاجأتِه، وأُبرِزَ في صُورةِ التَّوقيتِ؛ للتَّشويقِ إلى البَحثِ عن تَقديرِه، فإذا باءَ الباحثُ بالعجْزِ أخَذَ بحِيطةِ الاستعدادِ لحُلولِه بما يُنجِيه مِن مَصائبِه الَّتي قُرِعَت به الأسماعُ في آيٍ كَثيرةٍ، فحصَلَ في هذه الآيةِ تَهويلٌ شَديدٌ بثَمانيةِ طُرقٍ؛ وهي: الابتداءُ باسمِ القارعةِ المُؤذِنِ بأمرٍ عَظيمٍ، والاستفهامُ المُستعمَلُ في التَّهويلِ، والإظهارُ في مَقامِ الإضمارِ أوَّلَ مرَّةٍ، والاستفهامُ عمَّا يُنبِئُ بكُنْهِ القارعةِ، وتَوجيهُ الخِطابِ إلى غيرِ مُعيَّنٍ -وذلك على قولٍ-، والإظهارُ في مَقامِ الإضمارِ ثانيَ مرَّةٍ، والتَّوقيتُ بزَمانٍ مَجهولٍ حُصولُه، وتَعريفُ ذلك الوقتِ بأحوالٍ مَهولةٍ .
- وجُملةُ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ مُعترِضةٌ بيْن جُملةِ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وجُملةِ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [القارعة: 6] إلخ، وهو إدماجٌ لزِيادةِ التَّهويلِ .
- وفي قولِه: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ تَشبيهانِ رائعانِ، وهو تَشبيهٌ مُرسَلٌ مُجمَلٌ ؛ لأنَّ وَجْهَ الشَّبهِ حُذِفَ، ففي الأوَّلِ وُجوهُ الشَّبَهِ كَثيرةٌ؛ منها:
- الطَّيشُ الَّذي لَحِقَهم.
- وانتشارُهم في الأرضِ.
- ورُكوبُ بَعضِهم بَعضًا.
- والكثرةُ الَّتي لا غَناءَ فيها.
- والضَّعفُ والتَّذلُّلُ وإجابةُ الدَّاعي مِن كلِّ جِهةٍ.
- والتَّطايُرُ إلى النَّارِ للاحتراقِ مِن حيث لا تُريدُ الاحتراقَ، وفي أمثالِهِم: أضعَفُ مِن فَراشةٍ وأذلُّ وأجهَلُ.
وأوجُهُ الشَّبَهِ في تَشبيهِ الجِبالِ بالعِهنِ المَنفوشِ كَثيرةٌ أيضًا؛ منها:
- تَفتُّتُها وانهيارُها.
- وصَيْرُورتُها كالعِهنِ لتَفرُّقِ أجزائِها.
- ثمَّ صَيرورتُها كالهَباءِ.
- وكثرةُ الألوانِ؛ لأنَّ الجِبالَ مُختلِفةُ الألوانِ بحِجارتِها ونَبْتِها .
- وإعادةُ كَلمةِ وَتَكُونُ مع حرْفِ العطْفِ في قولِه: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ؛ للإشارةِ إلى اختِلافِ الكَونَينِ؛ فإنَّ أوَّلَهما كَونُ إيجادٍ، والثَّانيَ كَونُ اضمحلالٍ، وكِلاهما عَلامةٌ على زَوالِ عالَمٍ وظُهورِ عالَمٍ آخَرَ ، ولأنَّ التَّكريرَ في مِثلِ هذا المقامِ أبلَغُ في التَّحذيرِ .
3- قولُه تعالَى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ تَفصيلٌ لِما في قولِه: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: 4] مِن إجمالِ حالِ النَّاسِ حِينَئذٍ، فذلك هو المَقصودُ بذِكرِ اسمِ النَّاسِ الشَّاملِ لأهلِ السَّعادةِ وأهلِ الشَّقاءِ؛ فلذلك كان تفَصيلُه بحالَينِ: حالٍ حسَنٍ، وحالٍ فَظيعٍ؛ فهو بَيانٌ إجماليٌّ لتَحزُّبِ النَّاسِ إلى حِزبينِ، وتَنبيهٌ على كَيفيَّةِ الأحوالِ الخاصَّةِ بكلٍّ منهما إثْرَ بَيانِ الأحوالِ الشَّاملةِ للكُلِّ .
- قولُه: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ وقوله: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ جمَع فيهما المِيزانَ مع أنَّه واحدٌ -على أحدِ القولَينِ-، باعتِبارِ تَعدُّدِ المَوزوناتِ والمَوزونِ لهم. وقيل: هي جمْعُ مَوزونٍ . وقيل: إنَّ العَربَ قد تُوقِعُ لفظَ الجَمعِ على الواحِدِ تفخيمًا له. وقيل: إنَّه يُنصَبُ لكُلِّ عبدٍ مِيزانٌ .
- قولُه: عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ قيل: أي: مَرْضِيَّةٍ لا مكروهةٍ، فهي ممَّا جاء فيه فاعِلٌ بمعنَى مَفْعولٍ؛ لأنَّ ذلك مَدْحٌ للعِيشةِ، والعَرَبُ تَفعَلُ ذلك في المدْحِ والذَّمِّ، فتقولُ: هذا لَيلٌ نائِمٌ، وسِرٌّ كاتِمٌ، وماءٌ دافِقٌ، فيُوَجِّهون الفِعلَ إليه، وهو في الأصلِ مَفعولٌ لِما يُرادُ مِنَ المدْحِ أو الذَّمِّ. وقيل: رَاضِيَةٍ أي: ذاتِ رِضًا، على النِّسبةِ بالصِّيغةِ . وقيل: وُصِفَت العِيشةُ بـ رَاضِيَةٍ؛ لأنَّها سَببُ الرِّضا، أو زَمانُ الرِّضا .
4- قولُه تعالَى: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ
- جُملةُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ إخبارٌ عنه بالشَّقاءِ وسُوءِ الحالِ، والكلامُ قيل: إنَّه تَمثيلٌ لحالِ مَن خفَّت مَوازينُه يَومَئذٍ بحالِ الهالكِ في الدُّنيا؛ لأنَّ العرَبَ يُكَنُّون عن حالِ المَرْءِ بحالِ أُمِّه في الخَيرِ والشَّرِّ؛ لشِدَّةِ مَحبَّتِها ابْنَها، فهي أشدُّ سُرورًا بسُرورِه، وأشدُّ حُزنًا بما يَحزُنُه، فكأنَّه قيل: وأمَّا مَن خفَّت مَوازينُه فقدْ هَلَكَ. ويَجوزُ أنْ يكونَ (أُمُّه) مُعبَّرًا به عن مَقرِّه ومآلِه؛ لأنَّه يَأوي إليه كما يَأْوي الطِّفلُ إلى أُمِّه، فقدْ قِيل للمَأوى: أُمٌّ، على التَّشبيهِ؛ لأنَّ الأُمَّ مَأوى الولَدِ ومَفزَعُه. ويَجوزُ أنْ يكونَ (أُمُّه) على حذْفِ مُضافٍ، أي: أمُّ رَأسِه، وهي أعْلى الدِّماغِ، وهاويةٌ: ساقطةٌ، مِن قَولِهم: سَقَطَ على أمِّ رَأسِه، أي: هَلَكَ .
5- قولُه تعالَى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ تَقريرٌ للهاويةِ بعْدَ إبْهامِها، وإشعارٌ بخُروجِها عنِ الحُدودِ المَعهودةِ؛ للتَّفخيمِ والتَّهويلِ .
- وجُملةُ نَارٌ حَامِيَةٌ بَيانٌ لجُملةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ، والمعنى: هي نارٌ حاميةٌ، وهذا مِن حذْفِ المُسنَدِ إليه الَّذي اتُّبِعَ في حذْفِه استِعمالُ أهلِ اللُّغةِ .
- ووَصْفُ نَارٌ بـ حَامِيَةٌ مِن قَبيلِ التَّوكيدِ اللَّفظيِّ؛ لأنَّ النَّارَ لا تَخْلو عن الحَمْيِ، فوَصْفُها به وَصْفٌ بما هو مِن معْنى لَفظِ نَارٌ، فكان كذِكرِ المُرادِفِ، كقولِه تعالَى: نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الهمزة: 6] .