موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (85-87)

ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ

غريب الكلمات:

وَلَا تَبْخَسُوا: أي: لا تَنْقُصُوا، ولَا تَظلِموا، والبَخْسُ: نَقصُ الشَّيءِ على سَبيلِ الظُّلمِ، وأصلُ (بخس): يدلُّ على النَّقْصِ [1051] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 140)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/205)، ((المفردات)) للراغب (ص: 110)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 975). .
تُوعِدُونَ: أي: تَتوعَّدون وتُخوِّفونَ، والوَعدُ يكونُ في الخَيرِ والشَّرِّ، والوعيدُ في الشَّرِّ فقط، وأصلُ (وعد): يدلُّ على تَرجِيَةٍ بقولٍ [1052] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/313)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/125)، ((المفردات)) للراغب (ص: 875)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 114). .
عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ: أي: آخرُ أمرِهم، والعاقِبةُ تختصُّ بالثَّوابِ إذا أُطلِقَتْ، وقد تُستعمَلُ في العُقوبةِ أو ما يؤدِّي إليه السَّبَبُ المتقدِّمُ إذا أُضيفَتْ، وأصل (عقب): تأخيرُ شيءٍ، وإتيانُه بعدَ غيرِه [1053] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/311)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 140)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/205)، ((المفردات)) للراغب (ص: 110)، ((تفسير القرطبي)) (7/256)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 975). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّه أرسَلَ إلى قبيلةِ مَدْينَ أخاهم في النَّسَبِ شُعَيبًا؛ لِيدعُوَهم إلى عبادَةِ اللهِ وَحدَه، وتَرْكِ عبادةِ ما سِواه، فقال لهم: اعبُدُوا اللهَ وَحدَه؛ ليس لكم معبودٌ يستحِقُّ العبادةَ غَيرُه، قد أتَتْكُم حُجَّةٌ واضحةٌ مِن رَبِّكم، على صِدقِ ما جِئْتُ به، فأوفُوا الكَيلَ والميزانَ، ولا تنقُصُوا النَّاسَ حُقوقَهم، ولا تُفسِدُوا في الأرضِ بعد إصلاحِها، هذا الذي أُمِرْتُم به مِن إخلاصِ العِبادةِ لله، وإيفاءِ حُقوقِ النَّاسِ، وتَرْكِ الفَسادِ في الأرضِ؛ خَيرٌ لكم إن كنتم مُؤمنينَ، ولا تَجلِسُوا بكلِّ طَريقٍ تَتوَعَّدونَ النَّاسَ بالقَتلِ أو العَذابِ، وتَمنعونَ عن طاعةِ اللهِ مَن آمَنَ به، وتَصْرِفونَه عن اتِّباعِ نَبِيِّه، وتطلبونَ لِسَبيلِ اللهِ أنْ تكونَ مائلةً، واذكروا حين كُنتُم قليلًا في العَدَدِ فكَثَّرَكم اللهُ تعالى، وانظُرُوا كيف كان عاقبةُ المُفسدينَ، وإن كانت طائفةٌ منكم آمَنُوا بالذي أرسَلَني اللهُ به، وطائفةٌ لم يُؤمِنُوا؛ فاصبِرُوا حتى يحكُمَ اللهُ بيننا، وهو خَيرُ الحاكمينَ.

تفسير الآيات:

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ
أي: وأَرْسَلْنا إلى قبيلةِ مَدْينَ أخاهم في النَّسَبِ شُعيبًا عليه السَّلامُ؛ لِيَدعُوَهم إلى عبادةِ اللهِ وَحْدَه، وينهاهم عَن عِبادَةِ غَيْرِه، وينهاهم عَنِ الفَسادِ في الأرضِ، فقال لهم: يا قَومِ، اعبُدُوا اللهَ وَحْدَه؛ ليس لكم معبودٌ يستحِقُّ العبادةَ غَيرُه، فلا تُشْرِكوا به شيئًا [1054] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/311)، ((الوسيط)) للواحدي (2/387)، ((تفسير السعدي)) (ص: 296)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/569). .
قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
أي: قال شُعَيبٌ لِقَومِه: قد جاءَتْكم حُجَّةٌ واضِحةٌ مِن خالِقِكم ومالِكِكم ومُدَبِّرِ شُؤونِكم، على صِدْقِ ما جِئْتُكم به مِن إفرادِ اللهِ بالعبادةِ، وتَرْكِ الفَسادِ في الأرضِ [1055] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/311)، ((تفسير ابن كثير)) (3/447)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/578 -580). قال ابنُ كثير: (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي دلالةٌ وحُجَّةٌ واضحة، وبرهانٌ قاطِعٌ على صِدْقِ ما جِئتُكم به، وأنَّه أرسَلَني، وهو ما أجرى اللهُ على يَدَيه مِنَ المعجزاتِ التي لم تُنقَل إلينا تفصيلًا، وإن كان هذا اللَّفظُ قد دلَّ عليها إجمالًا). ((البداية والنهاية)) (1/429). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/313). .
كما قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25] .
وقال تعالى: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التوبة: 70] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ما مِنَ الأنبياءِ مِن نبيٍّ إلَّا قد أُعطِيَ مِنَ الآياتِ ما مِثْلُه آمَنَ عليه البَشَرُ، وإنَّما كان الذي أُوتِيتُ وَحيًا أوحَى اللهُ إليَّ، فأرجُو أن أكونَ أكثَرَهم تابعًا يومَ القِيامةِ )) [1056] رواه البخاري (4981) ومسلم (152). .
فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
أي: فأتِمُّوا للنَّاسِ حُقُوقَهم؛ بإتمامِ كَيلِ المِكيالِ، ووَزنِ المِيزانِ [1057] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/311)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 402)، ((تفسير الشربيني)) (1/493)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/584). .
كما قال تعالى حاكيًا قَوْلَ شُعَيبٍ لِقَومِه: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الشعراء: 181-182] .
وقال سُبحانَه حاكيًا أيضًا قَولَ شُعَيبٍ لِقَومِه: وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ [هود: 84-85] .
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ
أي: ولا تَنقُصُوا النَّاسَ حُقُوقَهم [1058] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/311)، ((تفسير ابن كثير)) (3/447)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/586 - 587). قال الرازي: (المرادُ أنَّه لَمَّا منَعَ قَومَه مِنَ البَخسِ في الكيلِ والوَزن؛ منَعَهم بعد ذلك من البَخْسِ والتنقيصِ بجَميعِ الوجوهِ، ويدخلُ فيه المنعُ مِنَ الغَصبِ والسَّرِقة، وأخذِ الرِّشوة وقطعِ الطَّريقِ، وانتزاعِ الأموالِ بطريقِ الحِيَل)). ((تفسير الرازي)) (14/313 - 314). وقال القرطبي: (البخسُ: النَّقصُ، وهو يكونُ في السِّلعة بالتَّعييبِ والتَّزهيد فيها، أو المخادعةِ عَنِ القيمةِ، والاحتيالِ في التزيُّدِ في الكَيلِ والنقصان منه، وكلُّ ذلك مِن أكْلِ المالِ بالباطِلِ). ((تفسير القرطبي)) (7/248). ويُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (2/318). .
قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين: 1- 6] .
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا
أي: ولا تُفسِدُوا في الأرضِ بالشِّركِ والمعاصي وظُلْمِ النَّاسِ، بعد أنْ أصلَحَ اللهُ تعالى الأرضَ ببَعْثِ الرُّسُلِ، والأمرِ بالعَدْلِ [1059] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/312)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/354)، ((البسيط)) للواحدي (9/180)، ((تفسير البغوي)) (2/214)، ((تفسير الرازي)) (14/314). .
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا تقَدَّمَ إليهم بالأمرِ والنَّهيِ؛ أشارَ إلى عَظَمةِ ما تضَمَّنَه ذلك؛ حثًّا لهم على امْتِثالِه، فقال [1060] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/461). :
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
أي: هذا الذي أمَرْتُكم به؛ مِن إخلاصِ العِبادةِ للهِ، وإيفاءِ حُقُوقِ النَّاسِ، وتَرْكِ الفَسادِ في الأرضِ- أنفَعُ لكم في دُنياكم وآخِرَتِكم، إنْ كُنتُم حقًّا مُؤمنينَ باللهِ وبرَسولِه وباليَومِ الآخِرِ [1061] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/312)، ((تفسير السمعاني)) (2/197)، ((تفسير ابن عطية)) (2/426)، ((تفسير الرازي)) (14/314)، ((تفسير أبي حيان)) (5/105). قال ابنُ عاشور في قوله تعالى: إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ: (المرادُ بالتَّقييدِ نَفْيُ الخَيرِ الكامِلِ عن تلكَ الأعمالِ الصَّالحةِ، إن لم يكُنْ فاعِلُوها مؤمنينَ باللهِ حَقَّ الإيمانِ). ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/246). .
كما قال تعالى حاكيًا قَولَ شُعَيبٍ لِقَومِه: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [هود:86] .
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
مُناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا كان للتَّعميمِ بعدَ التَّخصيصِ، والتَّفصيلِ بعد الإجمالِ؛ مِنَ الموقِعِ في النُّفوسِ ما لا يخفَى، وكان النَّهيُ عن الإفسادِ بالصَّدِّ عَن سَبيلِ اللهِ؛ هو المقصودَ بالذَّاتِ؛ لأنَّه يَنهى عن كُلِّ فسادٍ- خَصَّه بالذِّكْرِ؛ إشارةً إلى أنَّه زُبدةُ المرادِ بعد التَّعميمِ، فقال [1062] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/461). :
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ
أي: ولا تَجلِسُوا بكُلِّ طَريقٍ تُهَدِّدونَ النَّاسَ بالقَتلِ أو العذابِ، إن لم يُعطُوكم أموالَهم [1063] وممَّن اختارَ هذا المعنى: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/447). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عطية)) (2/426-427). ، أو إن أرادُوا الإيمانَ باللهِ، واتِّباعَ نَبِيِّه شُعَيبٍ عليه السَّلامُ [1064] وممن اختار هذا المعنى: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/312). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عطية)) (2/426 - 427)، ((تفسير القرطبي)) (7/248-249). وجمع الواحدي بين القولينِ. يُنظر: ((الوجيز)) (ص: 402). وقال الشوكاني: (أي: لا تقعُدُوا بكلِّ طَريقٍ تُوعِدُونَ النَّاسَ بالعذاب، قيل: كانوا يقعُدونَ في الطُّرُقاتِ المُفضِيَةِ إلى شُعَيبٍ، فيتوعَّدونَ مَن أراد المجيءَ إليه. وقيل: المرادُ بالآية: النهيُ عن قَطعِ الطَّريقِ، وأخذِ السَّلبِ، وكان ذلك من فِعْلِهم، وقيل: إنَّهم كانوا عشَّارينَ يأخُذونَ الجِبايةَ في الطُّرُقِ مِن أموالِ النَّاسِ، فنُهُوا عن ذلك. والقولُ الأوَّلُ أقرَبُها إلى الصَّوابِ، مع أنَّه لا مانِعَ مِن حَملِ النَّهيِ على جميعِ هذه الأقوالِ المذكورة). ((تفسير الشوكاني)) (2/255). .
وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ
أي: وتَمنعونَ عن طاعةِ اللهِ مَن آمَنَ باللهِ، وتَصرِفُونَهم عنِ اتِّباعِ نَبِيِّ اللهِ [1065] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/315)، ((تفسير الماوردي)) (2/239)، ((تفسير السمعاني)) (2/197)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/138)، ((تفسير القرطبي)) (7/249)، ((تفسير ابن كثير)) (3/447)، ((تفسير السعدي)) (ص: 296). .
وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا
أي: تودُّونَ أن تكونَ سبيلُ اللهِ معوجَّةً، وتلتمسون لها الزيغَ؛ بإلقاءِ الشُبَهِ أو بِوَصْفِها للنَّاسِ بالبطلان والضلال، وتُميلُونها اتِّباعًا لأهوائِكم [1066] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/315)، ((تفسير ابن كثير)) (3/447)، ((تفسير السعدي)) (ص: 296)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/247). .
وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ
أي: واذكُرُوا حينَ كُنتُم قليلًا عَدَدُكم، فكثَّركم اللهُ، فصِرْتُم أعِزَّةً أقوياءَ، فاشكُرُوه وأخْلِصُوا له العبادةَ [1067] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/316)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/355)، ((تفسير الرازي)) (14/315)، ((تفسير ابن كثير)) (3/447)، ((تفسير السعدي)) (ص: 296)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/589). .
وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا رَغَّبَهم اللهُ تعالى بالتَّذكيرِ بالنِّعمةِ؛ حَذَّرَهم بالتَّذكيرِ بأهْلِ النِّقمةِ، فقال [1068] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/463). :
وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
أي: وانظُرُوا إلى آخِرِ أمْرِ المُفسدينَ، الذين أفسَدُوا في الأرضِ بالشِّركِ والمعاصي، مِنَ الأُمَمِ قَبلَكم؛ فقد حَلَّ بهم العذابُ والخِزيُ والنَّكالُ [1069] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/316)، ((تفسير الرازي)) (14/315)، ((تفسير ابن كثير)) (3/447)، ((تفسير السعدي)) (ص: 296). .
كما قال تعالى حاكيًا قَوْلَ شُعَيبٍ لِقَومِه: وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: 89] .
وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا
أي: وإن كانَتْ جماعةٌ منكم آمَنُوا بما أرسَلَني اللهُ به؛ مِن إفرادِه بالعبادةِ، وتَرْكِ الفَسادِ في الأرضِ، وجماعةٌ أخرى لم يُؤمِنُوا بذلك- فانتَظِروا حُكمَ اللهِ وقَضاءَه بيننا [1070] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/317)، ((تفسير ابن كثير)) (3/448)، ((تفسير السعدي)) (ص: 296)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/250)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/593). .
كما قال تعالى حاكيًا قَولَ شُعَيبٍ لِقَومِه: وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ [هود: 93] .
وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
أي: واللهُ خَيرُ مَن يَحكُمُ بين عِبادِه المُخْتلفِينَ، فيُنجِّي المؤمنينَ، ويُهلِكُ الكافرينَ [1071] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/317)، ((تفسير ابن كثير)) (3/448)، ((تفسير السعدي)) (ص: 296)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/251)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/594). .

الفوائد التربوية:

قال اللهُ تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ قَالَ يَا قَوْمِ دالٌّ على النَّصيحةِ والشَّفَقةِ مَع مَن يَدعُوهم، وذلك مِن خِلالِ تَذْكيرِهم بالقَرابةِ [1072] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/459). .
في قوله تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ فبدأ شعيبٌ عليه السَّلامُ بِدَعوَتِهم إلى توحيدِ العبادةِ، وثنَّى بالأوامِرِ والنَّواهِي [1074] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/468، 474). .
عادةُ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ أنَّهم إذا رَأَوْا قَوْمَهم مُقْبِلينَ على نوعٍ مِن أنواعِ المفاسِدِ إقبالًا أكثَرَ مِن إقبالِهم على سائِرِ أنواعِ المفاسِدِ؛ بَدَؤُوا بمَنْعِهم عن ذلك النَّوعِ، وكان قَومُ شُعَيبٍ مَشغوفينَ بالبَخْسِ والتَّطفيفِ؛ فلهذا السَّبَبِ بدأ بذِكرِ هذه الواقعةِ، فقال: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ [1075] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/313). ، وعلى الدُّعاةِ أن يهتمُّوا بذلك، فقدوتُهم في ذلك الأنبياءُ، قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] .
تَرْكُ المعاصي- امتثالًا لأمرِ اللهِ تعالى، وتقَرُّبًا إليه- خيرٌ وأنفَعُ للعَبدِ مِن ارتكابِها المُوجِبِ لسَخَطِ الجَبَّارِ، وعذابِ النَّارِ؛ قال تعالى: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [1076] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 296). .
قال تعالى: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ الإشارةُ بـ ذلكم إلى كُلِّ ما تقَدَّمَ مِن أمرٍ ونَهيٍ، أي: هو خيرٌ لهم في دِينِهم ودُنياهم، لا تكليفُ إعناتٍ، فاللهُ لا يأمُرُ إلَّا بما هو نافِعٌ، ولا ينهى إلَّا عما هو ضارٌّ، وهو على كلِّ حالٍ غَنِيٌّ عن العالَمِينَ، ولو شاء لأعنَتَهم، ولكِنَّه رحيمٌ لا يفعَلُ ذلك [1077] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/470). .
في قَولِه تعالى: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ دلالةٌ على أنَّ التَّوحيدَ واجتنابَ نَزَعاتِ الشِّركِ ترفَعُ قَدْرَ الإنسانِ، وتُطَهِّرُ عَقلَه ونَفْسَه مِنَ الخُرافاتِ والأوهامِ، وتَعتِقُ إرادَتَه من العبوديَّة والذِّلَّةِ لمخلوقٍ مِثلِه مُساوٍ له؛ في كَونِه مَخلوقًا مُسَخَّرًا لإرادةِ الخالِقِ وسُنَنِه، وإن فاقَه في عَظَمةِ الخَلقِ أو عِظَمِ المنفعةِ كالشَّمسِ، أو بعضِ الصِّفاتِ أو الخصائِصِ؛ كالأنبياءِ والملائكةِ، وغَيرِ ذلك مِمَّا عُبِدَ مِن دُونِ الله، أو في المُلكِ والسُّلطان، فالتَّوحيدُ في العبادةِ هو لمصلحةِ النَّاسِ وتَكريمِهم وإعلاءِ شَأنِهم، وكذلك سائِرُ العباداتِ وأحكامُ الحَظرِ والإباحةِ، كما أنَّه قد ثبت بالدَّلائلِ العقليَّةِ والنَّقليَّةِ والتجارِبِ الَّدقيقة أنَّ مَلَكاتِ الفَضائِلِ لا تنطبِعُ في الأنفُسِ إلَّا بالتربيةِ الدِّينيةِ؛ ولذلك تَقِلُّ السَّرقةُ والخيانةُ في البلادِ التي يغلِبُ على أهلِها التَّدَيُّنُ الصَّحيحُ [1078] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا  (8/471- 474). .
المؤمِنُ يُثابُ على فِعلِه؛ لِبنائِه له على أساسِ الإيمانِ، والكافِرُ أعمالُه فاسدةٌ، فلا يكونُ فِعْلُه خيرًا له مِن جِهَةِ إسعادِه في الآخرةِ؛ لأنَّه لا ثوابَ له؛ يُبَيِّنُ ذلك قَولُه تعالى: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [1079] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/461). .
في قَولِه تعالى: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا دلالةٌ على أنَّ الواجِبَ هو الاحترامُ والتعظيمُ للسَّبيلِ التي نصَبَها اللهُ لعباده؛ لِيَسلُكُوها إلى مَرضاتِه ودارِ كَرامَتِه، ورَحِمَهم بها أعظَمَ رحمةٍ، مع القيامِ بنُصْرَتِها والدَّعوةِ إليها والذَّبِّ عنها [1080] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 296). .
تَذَكُّرُ كَثرةِ إنعامِ اللهِ تعالى، يحمِلُ على الطَّاعةِ، والبُعْدِ عَنِ المَعصيةِ؛ يُرشِدُنا إلى ذلك قَولُه تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [1081] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/315). .
تذكُّرُ عاقبةِ المُفسدينَ وما لَحِقَهم مِنَ الخِزيِ والنَّكالِ؛ زاجِرٌ عَنِ العِصيانِ والفَسادِ؛ يُبَيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [1082] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/315). .
في قَولِه تعالى: وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ حُسْنُ التلَطُّفِ في المحاوَرةِ مع المُخالِفِ؛ فهذا الكلامُ مِن أحسَنِ ما تُلُطِّفَ به في المحاورةِ؛ إذ برَزَ المتَحَقِّقُ في صورةِ المشكوكِ فيه، وذلك أنَّه قد آمَنَ به طائفةٌ بدليلِ قَوْلِ المُستكبرينَ عن الإيمانِ: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ [1083] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/109). .
حُكمُ اللهِ بَينَ عِبادِه نوعان: حُكمٌ شَرعيٌّ يُوحِيه إلى رُسُلِه، وحُكمٌ فِعليٌّ يَفصِلُ فيه بين الخَلقِ بمُقتَضى عَدْلِه وسُنَنِه، وهذا الثَّاني كما في قَولِه تعالى: وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) وإنمَّا حَكَم تعالى بين الأُمَمِ بنَصرِ أقْرَبِها إلى العَدلِ والإصلاحِ في الأرضِ، وحُكْمُه هو الحَقُّ، ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِه، فلْيَعتَبِرِ المسلمونَ بهذا قبلَ كُلِّ أحدٍ، ولْيَعرِضوا حالَهم وحالَ دُوَلِهم على القُرآنِ وعلى أحكامِ اللهِ لهم وعليهم؛ لعَلَّهم يَثُوبونَ إلى رُشْدِهم، ويَتُوبونَ إلى ربِّهم، فيُعيدَ إليهم ما سُلِبَ منهم، ويَرفَعَ مَقْتَه وغَضَبَه عنهم [1084] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/476-477). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا غايةُ ما يُفيدُه القرآنُ: أنَّ اللهَ بعَثَ نَبِيَّه شُعيبًا إلى أهلِ مَدينَ، وذكَرَ اللهُ في سُوَرٍ أُخرَى أنَّ شُعَيبًا أُرسِلَ أيضًا إلى أصحابِ الأيْكةِ، كما في قَوْلِه تعالى: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 176] والعُلَماءُ مُختلِفونَ: هل أصحابُ الأيْكةِ هم مَدينُ أنفُسُهم، فيكون شُعَيبٌ أُرسِلَ إلى أمَّةٍ واحدةٍ، أو مَدينُ أمَّةٌ، وأصحابُ الأيكةِ أُمَّةٌ أخرى، فيكونُ شُعَيبٌ قد أُرسِلَ إلى أُمَّتَينِ؟ هذا خلافٌ مَعروفٌ بينَ العُلَماءِ، وأكثَرُ أهلِ العِلمِ على أنَّهم أمَّةٌ واحدةٌ، كانوا يَعبُدُونَ أيكةً، أي: شَجرًا مُلتفًّا، وأنَّ اللهَ سَمَّاهم مرَّةً بِنَسَبِهم (مَدْيَن) ومَرَّةً أضافَهم إلى الأيكةِ التي يعبُدونَها.
والذين قالوا: إنَّهما أمَّتانِ قالوا: في (مدين) قال إنَّه أخوهم؛ حيث قال: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا أمَّا أصحابُ الأيكةِ، فلم يقُلْ إنَّه أخوهم، بل قال: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ [الشعراء: 176-177] ولم يقُلْ: أخوهم شعيبٌ.
وأُجيبَ عن هذا بأنَّه لَمَّا ذَكَرَ مَدينَ ذَكَرَ الجَدَّ الذي يشمَلُ القبيلةَ، ومِن جُملَتِها شُعيبٌ- ذَكَرَ أنَّه أخوهم مِنَ النَّسَبِ، أمَّا قَولُه: أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ فمعناه: أنَّهم يَعْبُدونَها، ولَمَّا ذكَرَهم في مقامِ الشِّركِ وعبادةِ غَيرِ اللهِ، لم يُدخِلْ معهم شُعَيبًا في ذلك، وهم أمَّةٌ واحدةٌ. والله أعلم [1086] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/572، 573). القولُ بأنَّ أصحابَ الأيكةِ هم أهلُ مدينَ هو قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ، واختاره ابنُ جريرٍ وابنُ كثيرٍ، وممن ذهب إليه مِن السَّلف: ابنُ عبَّاس وابنُ زيدٍ، يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/633)، ((تفسير ابن كثير)) (6/158)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (1/438). وذهب قتادةُ- كما في ((تفسير ابن جرير)) (17/637)- ومقاتلُ بنُ سليمانَ- كما في ((زاد المسير)) لابن الجوزي (3/347)- وابنُ عاشورٍ في ((تفسيره)) (19/183) إلى أن مدينَ غيرُ أصحابِ الأيكةِ. .
2- في قَولِه تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ جاء تجريدُ الفِعلِ في: قَالَ يَا قَوْمِ مِنَ الفاء هنا، فقيل: ذلك للدَّلالةِ على أنَّ كَلامَه هذا، ليس هو الذي فاتَحَهم به في ابتداءِ رِسالَتِه، بل هو مِمَّا خاطَبَهم به بعد أنْ دعاهم مِرارًا، وبعد أنْ آمَنَ به مَن آمَنَ منهم [1087] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/239). .
ما جاءَ في هذا التَّشريعِ في قَولِه تعالى: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ هو أصلٌ مِن أُصولِ رَواجِ المعاملةِ بَينَ الأمَّةِ؛ لأنَّ المُعامَلاتِ تعتَمِدُ الثِّقةَ المتبادَلةَ بين الأمَّةِ، وإنَّما تحصُلُ بِشُيوعِ الأمانةِ فيها، فإذا حصَلَ ذلك نَشِطَ النَّاسُ للتَّعامُلِ؛ فالمُنتِج يزدادُ إنتاجًا وعَرْضًا في الأسواقِ، والطَّالِبُ من تاجرٍ أو مُستهلِكٍ يُقبلُ على الأسواقِ آمنًا، لا يخشى غَبنًا ولا خديعةً ولا خِلابةً، فتتوفَّرُ السِّلَعُ في الأمَّةِ، وتستغني عن اجتلابِ أقواتِها وحاجِيَّاتِها وتَحسينيَّاتِها، فيقومُ نَماءُ المدينةِ والحضارةِ على أساسٍ مَتينٍ، ويعيشُ النَّاسُ في رخاءٍ وتحابُبٍ وتآخٍ، وبضِدِّ ذلك يختَلُّ حالُ الأمَّةِ بمقدارِ تَفَشِّي ضِدِّ ذلك [1088] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/244). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ في إضافةِ الأشياءِ إلى النَّاسِ دليلٌ على مِلْكِهم إيَّاها [1089] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/105). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَمَّا كان طريقُ الدِّينِ أهَمَّ؛ خَصَّه بالذِّكرِ، فقال: وَتَصُدُّونَ، أي: تُوقِعونَ الصَّدَّ- على سبيلِ الاستمرارِ- عَنْ سَبيلِ اللَّهِ [1090] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/462). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ أخَّرَ النَّهيَ عن الصَّدِّ عن سبيلِ اللهِ، بعد جُملةِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ولم يجعَلْه في نَسَقِ الأوامِرِ والنَّواهِي الماضيةِ، ثم يُعقِبْه بِقَولِه: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ؛ لأنَّه رَتَّبَ الكلامَ على الابتداءِ بالدَّعوةِ إلى التَّوحيدِ، ثمَّ إلى الأعمالِ الصَّالحةِ؛ لِمُناسَبةِ أنَّ الجَميعَ فيه صلاحُ المُخاطبينَ، فأعقَبَها ببيانِ أنَّها خَيرٌ لهم، إن كانوا مُؤمنينَ، فأعاد تَنبيهَهم إلى الإيمانِ، وإلى أنَّه شَرْطٌ في صلاحِ الأعمالِ، وبمُناسبةِ ذِكرِ الإيمانِ عاد إلى النَّهيِ عن صَدِّ الرَّاغبينَ فيه [1091] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/247). .
جاء النَّهيُ الواردُ في قَولِه تعالى: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا من قِبَل شُعَيبٍ عليه السَّلامُ عَقِبَ النَّهيِ عَن قَطعِهم الطُّرقَ على مَن يَغشى مَجلِسَه عليه السَّلامُ، ويَسمَعُ دَعوَتَه (على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ)، فقيل: ذلك لا لأنَّ اقتِرافَه دون اقترافِ التَّطفيفِ في الكَيلِ والميزانِ، وبَخْسِ الحُقوقِ؛ بل لأنَّه مُتأخِّرٌ عنها في الزَّمَنِ، فالدَّعوةُ قد وُجِّهَتْ أوَّلًا إلى أقرَبِ النَّاسِ إليه في بَلَدِه، ثمَّ إلى الأقرَبِ فالأقرَبِ منهم، وممَّن يزورُ أرضَهم، وقد كان الأقرَبونَ دارًا هم الأبعَدينَ استجابةً له في الأكثَرِ، وتلك سُنَّةُ اللهِ في الخَلقِ، فلمَّا رَأَوْا غَيرَهم يَقبَلُ دَعوَتَه ويَعقِلُها ويَهتَدِي بها؛ شَرَعُوا يَصُدُّونَ النَّاسَ عنه [1092] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/474). .
حاصِلُ ما أمَرَ به شُعَيبٌ عليه السَّلامُ قَومَه، بعد الأمرِ بالتَّوحيدِ؛ ينحَصِرُ في ثلاثةِ أُصُولٍ: هي حِفظُ حُقوقِ المعاملةِ المالِيَّةِ، وحِفظُ نظامِ الأمَّةِ ومَصالِحِها، وحِفظُ حُقوقِ حُرِّيَّةِ الاستهداءِ.
فالأصلُ الأوَّلُ يُؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، فإيفاءُ الكَيلِ والميزانِ يَرجِعُ إلى حِفظِ حُقوقِ المُشتَرِينَ، وأمَّا النَّهيُ عن بَخْسِ النَّاسِ أشياءَهم فيرجِعُ إلى حِفظِ حُقوقِ البائِعِ.
والأصلُ الثَّاني يُؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا
والأصلُ الثَّالثُ يُؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ... [1093] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/243-246). .
6- قولُ اللهِ تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ لَمَّا كانت أفعالُهم نَقْصَ النَّاسِ؛ إمَّا في الأموالِ بالبَخسِ، وإمَّا في الإيمانِ والنُّصرةِ بالصَّدِّ- ذَكَّرَهم أنَّ اللهَ تعالى فعَلَ معهم ضِدَّ ذلك مِنَ التَّكثيرِ بعد القِلَّةِ، فقال: فكَثَّرَكُم أي: كثَّرَ عَدَدَكم وأموالَكم، وكُلَّ شَيءٍ يُنسَبُ إليكم، فلا تُقابِلوا النِّعمةَ بِضِدِّها [1094] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/462). .
7- في قَولِه تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ مِن حِكَمِ تَذكيرِهم بهذه النِّعمةِ أنْ يُقابِلُوها باعتبارِ نِقمَتِه تعالى مِنَ الَّذينَ غَضِبَ عليهم؛ إذ استأصَلَهم بعد أن كانوا كثيرًا، فذلك مِن تَمايُزِ الأشياءِ بأضدادِها؛ فلذلك أعقَبَه بِقَولِه: وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [1095] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/249). .
قَولُ اللهِ تعالى: آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ بَنَى أُرْسِلْتُ للمَفعولِ؛ إشارةً إلى أنَّ الفاعِلَ معروفٌ بما تقَدَّمَ مِنَ السِّياقِ، وأنَّه صار بحيث لا يتطَرَّقُ إليه شَكٌّ؛ لِمَا نَصَبَ مِنَ الدَّلالاتِ [1096] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/463). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ إنَّما قال: خَيْرُ الْحَاكِمِينَ لأنَّه قد يُسمَّى بعضُ الأشخاصِ حاكِمًا، ولكن الحاكِم في الحقيقةِ هو اللهُ تعالى [1097] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/494). .

بلاغة الآيات:

قوله:  قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
قوله:  قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ استِئنافٌ مبنيٌّ على سُؤالٍ نَشأَ عن حِكايةِ إرسالِه إليهم، كأنَّه قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل: قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ [1098] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/246). .
قوله: مِنْ رَبِّكُمْ مُتعلِّق بـجَاءَتْكُمْ، أو بمحذوفٍ هو صفةٌ لفاعِله، مُؤكِّدةٌ لفخامتِه الذاتيَّةِ المستفادَةِ مِن تنكيرِه بفخامتِه الإضافيةِ، أي: بيِّنةٌ عظيمةٌ ظاهرةٌ، كائنةٌ من ربِّكم ومالكِ أُمورِكم [1099] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/247). .
قولُه: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ إنَّما خصَّ هذَينِ التَّحيُّلينِ بالأمْرِ والنَّهي المذكورين؛ لأنَّهما كانا شائعَينِ عند مَدْيَن، ولأنَّ التحيُّلاتِ في المعاملةِ الماليةِ تَنحصِرُ فيهما، وعلى هذا فالنَّهيُ في قوله: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ أفادَ معنًى غيرَ الذي أفادَه الأمرُ في قولِه: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ، وليس ذلك النهيُ جاريًا مجرَى العِلَّةِ للأمرِ، أو التأكيدِ لمضمونِه- كما فَسَّر به بعضُ المفسِّرين [1100] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/244). .
والتَّنكيرُ في قولِه: خَيْرٌ للتعظيمِ والكمالِ؛ لأنَّه جامعٌ خَيرَيِ الدُّنيا والآخِرة [1101] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/245). .
قوله: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
قوله: تُوعِدُونَ فيه حَذْفُ المُوعَدِ به؛ لتذهَبَ النَّفْسُ فيه كُلَّ مَذْهَبٍ مِنَ الشَّرِّ [1102] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/105). .
و(كُل) في قوله: بِكُلِّ صِرَاطٍ للعُمومِ، وهو عمومٌ عُرْفي، أي: كلِّ صِراطٍ مُبلِّغٍ إلى القريةِ، أو إلى منزلِ شُعَيبٍ عليه السَّلامُ [1103] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/246). .
وقوله: وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ فيه التعبيرُ عن الإيمانِ بالفِعلِ الماضي في قَولِه: مَنْ آمَنَ بِهِ عِوضًا عَنِ المُضارعِ- حيث المرادُ بمَن آمَنَ: قاصِدُ الإيمانِ-؛ لتَحقيقِ عَزمِ القاصِدِ على الإيمانِ، فهو لولا أنَّهم يَصُدُّونَه، لكان قد آمَنَ [1104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/247). .
قوله: وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ فيه تهديدٌ لهم، وتذكيرٌ بعاقِبَةِ مَن أَفْسدَ قَبْلَهم، وتمثيلٌ لهم بمَنْ حلَّ به العذابُ مِن قومِ نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ، وكانوا قَريبي عهدٍ بما أجاب المُؤتَفِكةَ [1105] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/109). .
قوله: فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
قوله: فَاصْبِرُوا أَمرٌ فيه قوةُ التَّهديدِ والوعيدِ للكافِرين بانتقامِ الله تَعالَى منهم [1106] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/109). .
وقوله: وَهُو خَيْرُ الْحَاكِمِينَ تذييلٌ بالثَّناءِ على اللهِ تعالى بأنَّ حُكمَه عَدْلٌ محضٌ، لا يَحتمِل الظُّلمَ عمدًا ولا خطأً [1107] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/251). .