موسوعة التفسير

سُورةُ المُطَفِّفينَ
الآيات (1-6)

ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ

غريب الكلمات:

وَيْلٌ: أي: عَذابٌ وهَلاكٌ. وقيلَ: وَيلٌ: وادٍ في جَهنَّمَ [7] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/163)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 478)، ((المفردات)) للراغب (ص: 888). قال الراغب: (ومَن قال: وَيْلٌ: وادٍ في جَهنَّمَ، فإنَّه لم يُرِدْ أنَّ وَيْلًا في اللُّغةِ هو موضوعٌ لهذا، وإنَّما أراد: مَن قال اللهُ تعالى ذلك فيه فقد استحَقَّ مَقَرًّا من النَّارِ، وثَبَت ذلك له). ((المفردات)) (ص: 888). ويُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 4). وقال ابنُ عطيَّة: (الوَيلُ في كلامِ العَرَبِ: المصائِبُ والحُزنُ والشِّدَّةُ مِن هذه المعاني، وهي لفظةٌ تُستعمَلُ في الدُّعاءِ على الإنسانِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/81). وقال الشنقيطي: (الأظهرُ أنَّ لفظةَ وَيْلٌ كلمةُ عَذابٍ وهلاكٍ، وأنَّها مَصدرٌ لا فِعلَ له مِن لَفظِه، وأنَّ المسَوِّغَ للابتِداءِ بها -مع أنَّها نَكِرةٌ- كَونُها في مَعرِضِ الدُّعاءِ عليهم بالهَلاكِ). ((أضواء البيان)) (7/190). .
لِلْمُطَفِّفِينَ: أي: الَّذين يَنقُصونَ النَّاسَ حُقوقَهم في الكَيْلِ والوَزْنِ، والتَّطفيفُ: النُّقصانُ، أصلُه في الشَّيءِ الطَّفيفِ، وهو النَّزْرُ القليلُ، والمطَفِّفُ إنَّما يأخُذُ بالميزانِ شيئًا طفيفًا، وأصلُ (طفف): يدُلُّ على قِلَّةِ الشَّيءِ [8] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/185)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/405)، ((المفردات)) للراغب (ص: 521)، ((تفسير ابن عطية)) (5/449)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 454)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 884). قال الزَّجَّاجُ: (والمطَفِّفونَ: الَّذين يَنقُصونَ المِكْيالَ والميزانَ، وإنَّما قيل للفاعِلِ مِن هذا مُطَفِّفٌ؛ لأنَّه لا يَكادُ يَسرِقُ في المِكْيالِ والميزانِ إلَّا الشَّيءَ الحقيرَ الطَّفيفَ، وإنَّما أُخِذَ مِن طَفِّ الشَّيءِ، وهو جانِبُه). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/297). .
اكْتَالُوا كَالُوهُمْ: يُقالُ: كِلْتُ فُلانًا: أعطَيْتُه. واكتَلْتُ عليه: أخَذْتُ منه، والاكتيالُ: الأخذُ بالكَيْلِ [9] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/150)، ((البسيط)) للواحدي (23/309)، ((المفردات)) للراغب (ص: 730)، ((تفسير القرطبي)) (19/252). .
يَسْتَوْفُونَ: أي: يأخُذونَ حُقوقَهم وافيةً تامَّةً، وأصلُ (وفي): يدُلُّ على إكمالٍ وإتمامٍ [10] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/129)، ((تفسير ابن كثير)) (8/346)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 987). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بالوَعيدِ الشَّديدِ للَّذين يَنقُصونَ في الكَيلِ أو الوَزنِ، فقال تعالى: عَذابٌ وهَلاكٌ للَّذين يَنقُصونَ النَّاسَ حُقوقَهم في المِكْيالِ والمِيزانِ؛ الَّذين إذا اشتَرَوا مِنَ النَّاسِ أخَذُوا حَقَّهم كامِلًا، وإذا كالُوا أو وَزَنوا لغَيرِهم مِن النَّاسِ يَنقُصونَهم حَقَّهم.
ثمَّ قال تعالى متوعِّدًا لهم: ألَا يَظُنُّ أولئك المُطَفِّفونَ أنَّهم مَبعوثونَ ليومِ الحِسابِ العَظيمِ؛ يومَ يَقومُ النَّاسُ لله رَبِّ العالَمينَ ؟!

 تفسير الآيات:

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1).
سَبَبُ النُّزولِ:
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((لَمَّا قَدِمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينةَ كانوا مِن أخبَثِ النَّاسِ كَيْلًا، فأنزَل اللهُ سُبحانَه: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ؛ فأحسَنُوا الكَيلَ بعْدَ ذلك)) [11] أخرجه النَّسائيُّ في ((السنن الكبرى)) (11654)، وابنُ ماجه (2223) واللَّفظُ له. صَحَّحه ابنُ حِبَّانَ في ((صحيحه)) (4919)، والحاكم في ((المستدرك)) (2240)، وصَحَّح إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (8/565)، وحَسَّن الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2223)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (4919). قال ابنُ عاشور: (اجتَمَعت كَلِمةُ المفَسِّرينَ على أنَّ أهلَ يَثرِبَ كانوا مِن أخبَثِ النَّاسِ كَيلًا، فقال جماعةٌ مِنَ المفَسِّرينَ: إنَّ هذه الآيةَ نزلت فيهم؛ فأحسَنوا الكَيلَ بعدَ ذلك). ((تفسير ابن عاشور)) (30/190). .
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1).
أي: عَذابٌ وهَلاكٌ للَّذين يَنقُصونَ النَّاسَ حُقوقَهم في المِكْيالِ والمِيزانِ [12] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (5/297)، ((تفسير السمعاني)) (6/177)، ((تفسير ابن عطية)) (5/449)، ((تفسير القرطبي)) (19/250)، ((تفسير ابن كثير)) (8/346)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/311)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/189)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 93). .
كما قال تعالى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن: 9].
الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2).
أي: الَّذين إذا اشتَرَوا مِنَ النَّاسِ ما يُباعُ بالكَيلِ أخَذُوا حَقَّهم كامِلًا بلا نَقْصٍ [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/186)، ((تفسير ابن كثير)) (8/346)، ((تفسير السعدي)) (ص: 915)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/191، 192)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 93). .
وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3).
أي: وإذا كالُوا أو وَزَنوا للنَّاسِ حينَ يَبِيعونَ لهم ما يُكالُ أو يُوزَنُ يَنقُصونَهم حَقَّهم [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/186، 187)، ((تفسير ابن كثير)) (8/346)، ((تفسير السعدي)) (ص: 915)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/191، 192)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 93). قال ابنُ عثيمين: (فهؤلاء يَستَوفُونَ حَقَّهم كاملًا، ويَنقُصونَ حَقَّ غَيرِهم؛ فجَمَعوا بيْن الأمْرَينِ؛ بيْن الشُّحِّ والبُخلِ. الشُّحُّ: في طَلَبِ حَقِّهم كاملًا بدونِ مُراعاةٍ أو مُسامحةٍ. والبُخلُ: بمَنعِ ما يجِبُ عليهم مِن إتمامِ الكَيلِ والوَزنِ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 93). .
أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر سُبحانَه وتعالى أنَّهم أدمَنُوا على هذه الرَّذائِلِ حتَّى صارت لهم خُلُقًا مَرَنُوا عليه، وأَنِسُوا به، وسَكَنوا إليه، وكان ذلك لا يكونُ إلَّا مِمَّن أَمِنَ العِقابَ وأنكَرَ الحِسابَ- أنتَجَ ذلك الإنكارَ عليهم على أبلَغِ الوُجوهِ؛ لإفهامِه أنَّ حالَهم أهلٌ لأن يُتعَجَّبَ منه ويُستَفهَمَ عنه، وأنَّ المُستَفهَمَ عن حُصولِه عِندَهم الظَّنُّ -وذلك على قولٍ-، وأمَّا اليقينُ فلا يُتخَيَّلُ فيهم؛ لبُعدِ أحوالِهم الجافيةِ وأفهامِهم الجامدةِ عنه؛ فقال تعالى [15] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/315). :
أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4).
أي: ألَا يَظُنُّ أولئك المُطَفِّفونَ أنَّهم مَبعوثونَ مِن قُبورِهم أحياءً بَعْدَ مَوتِهم [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/187)، ((تفسير ابن عطية)) (5/450)، ((تفسير القرطبي)) (19/254)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/315، 316)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 93). قال القرطبي: (الظنُّ هنا بمعنى اليقينِ، أي: ألَا يوقنُ أولئك، ولو أيقنوا ما نقَصوا في الكيلِ والوزنِ. وقيل: الظنُّ بمعنى الترددِ، أي: إنْ كانوا لا يستيقنونَ بالبعثِ، فهلا ظنُّوه، حتى يتدبَّروا ويَبحثوا عنه، ويأخذوا بالأحوطِ). ((تفسير القرطبي)) (19/254). ؟!
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5).
أي: ليومٍ عَظيمٍ شأنُه، شديدةٍ أهوالُه [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/187)، ((تفسير القرطبي)) (19/254)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/316)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 95).
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6).
أي: يومَ يكونُ النَّاسُ قيامًا لله رَبِّ العالَمينَ، فيُحاسِبُهم ويُجازيهم على أعمالِهم [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/187)، ((الوسيط)) للواحدي (4/441)، ((تفسير ابن كثير)) (8/347)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/316)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/193)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 96). .
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حتَّى يَغِيبَ أحَدُهم في رَشَحِه [19] في رَشَحِه: أي: عَرَقِه. يُنظر: ((مصابيح الجامع)) للدماميني (8/487). إلى أنصافِ أُذُنَيه!)) [20] رواه البخاريُّ (4938) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2862). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ذَمُّ التَّطفيفِ والخيانةِ في الكَيلِ والوَزنِ [21] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 284). . فأَمرُ المكيالِ والميزانِ عَظيمٌ؛ وذلك لأنَّ عامَّةَ الخَلْقِ يحتاجونَ إلى المعامَلاتِ، وهي مَبنيَّةٌ على أمرِ المِكيالِ والميزانِ؛ فلهذا السَّبَبِ عَظَّم اللهُ أمْرَه، فقال: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن: 7 - 9]، وقال: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25] [22] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/84). ، ولا ينفَعُ فيما وقع مِن التَّطفيفِ ولا يُخلِّصُ صاحِبَه إلَّا التَّوبةُ، ورَدُّ المَظْلمةِ إلى صاحِبِها، وقال مالِكُ ابنُ دِينارٍ: (احتُضِرَ جارٌ لي، فجعل يقولُ: جبلانِ مِن نارٍ، فقلتُ له ما هذا؟ فقال لي: يا أخي، كان لي مِكيالانِ، آخُذُ بالوافي، وأُعطي بالنَّاقِصِ) [23] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/449). !
2- قال اللهُ تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ هذه الآيةُ تحذيرٌ للمُسلِمينَ مِن التَّساهُلِ في التَّطفيفِ، وحَسْبُهم أنَّ التَّطفيفَ يَجمَعُ ظُلمًا واختِلاسًا ولُؤْمًا، والعَرَبُ كانوا يتعَيَّرونَ بكُلِّ واحدٍ مِن هذه الخِلالِ مُتفَرِّقةً ويتبَرَّؤونَ منها، ثمَّ يَأتونَها مُجتَمِعةً، وناهِيكَ بذلك أَفَنًا [24] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/192). والأَفَنُ: ضَعفُ الرَّأْيِ والعَقْلِ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (34/182). !
3- في قَولِه تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ الوَعيدُ على مَن يَستوفي العُقودَ تامَّةً ولا يُوَفِّيها تامَّةً [25] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/7). !
4- قَولُه تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ هذا مِثالٌ ذَكَرَه اللهُ عزَّ وجلَّ في الكَيلِ والوَزنِ، فيُقاسُ عليه كلُّ ما أشْبَهَه؛ فكلُّ مَن طَلَبَ حقَّه كامِلًا ممَّن هو عليه، ومَنَعَ الحقَّ الَّذي عليه: فإنَّه داخِلٌ في الآيةِ الكريمةِ؛ فمثلًا الزَّوجُ يريدُ مِن زوجتِه أنْ تعطيَه حقَّه كاملًا، ولا يَتهاوَنُ في شَيءٍ مِن حقِّه، لكِنَّه عندَ أداءِ حقِّها يَتهاوَنُ، ولا يُعطيها الَّذي لها! ورُبَّما يَنْقُصُ أكثرَ حقِّها مِن النَّفَقةِ والعِشْرةِ بالمعروفِ وغيرِ ذلك [26] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 93). ، وأيضًا الموظَّفُ إذا كان يريدُ أنْ يُعطَى راتبَه كامِلًا لكِنَّه يتأخَّرُ في الحُضورِ أو يتقدَّمُ في الخُروجِ، فإنَّه مِن المطَفِّفينَ الَّذين توعَّدَهم اللهُ بالوَيلِ؛ لأنَّه لا فرقَ بيْن إنسانٍ يَكِيلُ أو يَزِنُ للنَّاسِ، وبيْن إنسانٍ مُوظَّفٍ عليه أنْ يَحْضُرَ في السَّاعةِ الفلانيَّةِ ولا يَخْرُجَ إلَّا في السَّاعةِ الفلانيَّةِ، ثُمَّ يتأخَّرُ في الحضورِ ويتقَدَّمُ في الخُروجِ! هذا مُطَفِّفٌ، وهذا المُطَفِّفُ في الوظيفةِ لو نَقَصَ مِن راتبِه ريالٌ واحِدٌ مِن عَشَرةِ آلافٍ لَقال: لماذا تَنْقُصُ! هذا مُطَفِّفٌ يَدخُلُ في هذا الوَعيدِ [27] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (5/402). ، وأيضًا فمِن الحَيفِ والجَورِ أنْ يَتكَلَّمَ الإنسانُ في شَخصٍ كعالِمٍ أو تاجرٍ أو أيِّ إنسانٍ، ثُمَّ يَذْكُرَ مَساوِيَه -الَّتي قد يكونُ معذورًا فيها- ولا يَذْكُرَ محاسِنَه! هذا ليس مِن العَدْلِ؛ يأتي إلى عالِمٍ مِن العُلَماءِ أخطأ في مَسألةٍ وهو فيها معذورٌ، ثُمَّ يَنْشُرُ هذه المسألةَ الَّتي أخطَأَ فيها، ويَنْسَى محاسِنَ هذا العالِمِ الَّذي نفَعَ العِبادَ بكَثيرٍ مِن عِلْمِه! هذا لا شَكَّ أنَّه تطفيفٌ وجَورٌ وظُلمٌ. إذا كنتَ تريدُ أنْ تُقَوِّمَ الشَّخصَ فلا بُدَّ أنْ تَذْكُرَ محاسِنَه ومَساوِيَه، أمَّا إذا كنتَ تريدُ أنْ تَتكَلَّمَ على خَطَأٍ معيَّنٍ لِتُحَذِّرَ النَّاسَ منه، فنَعم، اذكُرِ الخطأَ، لكنْ بقَطْعِ النَّظَرِ عن قائلِه، وقُلْ مثلًا: سَمِعْنا أنَّ بعضَ النَّاسِ يقولُ كذا وكذا، وهو خطأٌ، ثُمَّ تُبَيِّنُ الخطأَ، أمَّا أنْ تريدَ أنْ تَنشرَ مَساويَ الآخَرينَ دونَ محاسِنِهم، فهذا ظُلمٌ وجَورٌ [28] يُنظر: ((اللقاء الشهري)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 50). .
5- قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ والمطَفِّفُ الَّذي يَنقُصُ الكَيلَ والوَزنَ، وأراد بهذا الَّذينَ يُعامِلونَ النَّاسَ؛ فإذا أخَذوا لأنفُسِهم استَوفَوا، وإذا دَفَعوا إلى مَن يُعامِلُهم نَقَصوا، ويَتجَلَّى ذلك في الوَزنِ والكَيلِ، وفي إظهارِ العَيبِ، وفي القَضاءِ والأداءِ والاقتِضاءِ، فمَن لم يَرْضَ لأخيه المُسلِمِ ما يَرضاه لنَفْسِه، فليس بمُنصِفٍ؛ فالَّذي يرى عَيبَ النَّاسِ ولا يرى عيبَ نَفْسِه فهو مِن هذه الجُملةِ؛ جُملةِ المطَفِّفينَ، كما قيل:
وتَعذِرُ نفْسَك إمَّا أَسَأْتَ       وغيرُكَ بالعُذرِ لا تَعذِرُ
وتُبصِرُ في العَينِ مِنْهُ القَذَى       وفي عَينِكَ الجِذْعُ لا تُبصِرُ
ومَنِ اقتضى حَقَّ نَفْسِه دونَ أن يَقضيَ حُقوقَ غَيرِه مِثلَما يَقتضيها لنَفْسِه، فهو مِن جُملةِ المُطَفِّفينَ [29] يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/699، 700)، ((تفسير الرازي)) (31/85). .
6- في قَولِه تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ تَنبيهٌ على أنَّ أصلَ الآفاتِ: الخُلُقُ السَّيِّئُ، وهو حُبُّ الدُّنيا المُوقِعُ في جَمعِ الأموالِ مِن غَيرِ وَجْهِها، ولو بأخَسِّ الوُجوهِ؛ التَّطفيفِ الَّذي لا يَرضاه ذو مُروءةٍ [30] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/311). !
7- التَّقديمُ في افتتاحيةِ هذه السُّورةِ بـ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ يُشعِرُ بشِدَّةِ خَطَرِ هذا العَمَلِ، وهو فِعلًا خَطيرٌ؛ لأنَّه مِقياسُ اقتِصادِ العالَمِ، ومِيزانُ التَّعامُلِ، فإذا اختَلَّ أحدَثَ خَلَلًا في اقتصادِه، واختلالًا في التَّعامُلِ، وهو فسادٌ كبيرٌ، وأكبَرُ مِن هذا كُلِّه وُجودُ الرِّبا إذا بِيعَ جِنسٌ بجِنْسِه، وحَصَل تفاوُتٌ في الكَيلِ أو الوَزنِ، وفيه كما قال تعالى: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [31] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/454). [البقرة: 279] .
8- في قَولِه تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ دَلالةٌ على أنَّ الإنسانَ كما يأخُذُ مِنَ النَّاسِ الَّذي له يجِبُ عليه أن يُعطِيَهم كُلَّ ما لَهم مِن الأموالِ والمعاملاتِ، بل يَدخُلُ في عُمومِ هذا الحُجَجُ والمقالاتُ؛ فإنَّه كما أنَّ المتناظِرَينِ قد جرت العادةُ أنَّ كُلَّ واحدٍ منهما يحرِصُ على ما له مِن الحُجَجِ، فيَجِبُ عليه أيضًا أن يُبَيِّنَ ما لخَصْمِه مِنَ الحُجَجِ الَّتي لا يَعلَمُها، وأن يَنظُرَ في أدِلَّةِ خَصْمِه كما يَنظُرُ في أدِلَّتِه هو، وفي هذا الموضِعِ يُعرَفُ إنصافُ الإنسانِ مِن تعَصُّبِه واعتِسافِه، وتواضُعُه مِن كِبْرِه، وعَقْلُه مِن سَفَهِه [32] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 915). .
9- قال عُلَماءُ الدِّينِ: (التَّطفيفُ في كُلِّ شَيءٍ؛ في الصَّلاةِ والوُضوءِ، والكَيلِ والميزانِ)، كما أنَّ السَّرِقةَ في كُلِّ شَيءٍ، وأسوأُ النَّاسِ سَرِقةً مَن يَسرِقُ صَلاتَه؛ فلا يُتِمُّ ركوعَها ولا سُجودَها [33] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/366). فيه إشارةٌ إلى حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أسوأُ النَّاسِ سرقةً الذي يسرِقُ صلاتَه. قال: وكيفَ يسرقُ صلاتَه. قال: لا يتمُّ ركوعَها ولا سجودَها) أخرجه ابن حبان (1888) واللفظ له، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4665)، والحاكم (836). صحَّحه ابن حبان، وحسَّنه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (533)، وصحَّح إسنادَه الحاكمُ، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (1888). . وعن سَلْمانَ الفارسيِّ رضيَ الله عنه، قال: (الصَّلاةُ مِكيالٌ، فمَن أَوفى أَوفى اللهُ له، وقد عَلِمتُم ما قال اللهُ في الكَيلِ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [34] أخرجه ابنُ أبي شَيْبةَ في ((المصنَّف)) (1/259) (2979). . قال مالِكٌ: (وكان يُقالُ: في كُلِّ شَيءٍ وفاءٌ وتطفيفٌ)، فإذا توعَّد اللهُ سُبحانَه بالوَيلِ للمُطَفِّفينَ في الأموالِ، فما الظَّنُّ بالمطَفِّفينَ في الصَّلاةِ [35] يُنظر: ((الصلاة وأحكام تاركها)) لابن القيم (ص: 124). ويُنظر: ((الموطأ)) للإمام مالك (1/12). ؟!
10- يُشعِرُ قَولُه تعالى: أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ أنَّ عَدَمَ الإيمانِ بالبَعْثِ أو الشَّكَّ فيه: هو الدَّافِعُ لكُلِّ سُوءٍ، والمضَيِّعُ لكُلِّ خيرٍ، وأنَّ الإيمانَ باليَومِ الآخِرِ هو المُنطَلَقُ لكُلِّ خيرٍ، والمانِعُ لكُلِّ شَرٍّ، والإيمانُ بالبَعثِ هو مُنطَلَقُ جميعِ الأعمالِ الصَّالحةِ [36] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/471). .
11- قال تعالى: أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ في هذا الإنْكارِ والتَّعْجيبِ، وكَلِمةِ الظَّنِّ، ووَصفِ اليَومِ بالعِظَمِ، وقِيامِ النَّاسِ فيه للهِ خاضِعينَ، ووَصْفِه ذاتَه برَبِّ العالَمينَ: بَيانٌ بَليغٌ لعِظَمِ الذَّنْبِ وتَفاقُمِ الإثمِ في التَّطفيفِ، وفيما كان في مِثلِ حالِه مِن الحَيفِ، وتَرْكِ القِيامِ بالقِسطِ والعَملِ على السَّويَّةِ والعَدْلِ في كُلِّ أخْذٍ وإعْطاءٍ، بل في كُلِّ قَولٍ وعَملٍ، وليس ذلك كُلُّه مِن أجْلِ التَّطْفيفِ مِن حَيثُ هو التَّطفيفُ، بل مِن حَيثُ إنَّ الميزانَ قانونُ العَدْلِ والاستِقامةِ، وهو الحِكمةُ في الخَلقِ والتَّكليفِ، والحَشْرِ والنَّشْرِ، ومَن تَطفَّفَ حاوَلَ إبْطالَ حِكمةِ اللهِ في الدَّارَينِ [37] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/720)، ((تفسير البيضاوي)) (5/294)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/341)، ((تفسير أبي حيان)) (10/427)، ((تفسير أبي السعود)) (9/ 126)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/193). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ أنَّه إذا كان الوعيدُ بالوَيلِ على الشَّيءِ الطَّفيفِ، فما فَوقَه مِن بابِ أَولى [38] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/455). !
2- في قَولِه تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ أنَّه إذا كان هذا الوعيدُ على الَّذين يَبخَسُونَ النَّاسَ بالمِكيالِ والميزانِ، فالَّذي يأخُذُ أموالَهم قَهْرًا أو سَرِقةً أَولى بهذا الوعيدِ مِن المُطَفِّفينَ [39] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 915). .
3- يُفهَمُ مِن فَحْوى قَولِه تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ إلى قَولِه تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ أنَّهم إذا بُعِثوا إلى ذلك اليَومِ العَظيمِ، وقام النَّاسُ لرَبِّ العالَمينَ، واجتَمَع الخلائِقُ الأوَّلونَ والآخِرونَ في صَعيدٍ واحدٍ يَنفُذُهم البَصَرُ، ويُسْمِعُهم الدَّاعي: أنَّ ذلك الخائِنَ النَّاقِصَ في الكَيلِ والوَزنِ يُنادَى به على رُؤوسِ الأشهادِ، ويُفتَضَحُ على رُؤوسِ الأشهادِ يومَ القيامةِ، وفَضيحةُ القيامةِ ليست كفَضيحةِ الدُّنيا [40] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/515). !
4- قال اللهُ تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ إلى قَولِه: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ في هذه الآياتِ مُبالَغاتٌ:
منها: أنَّ الوَيلَ إنَّما يُذكَرُ عند شِدَّةِ البلاءِ.
ومنها: الإنكارُ بقَولِه تعالى: أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ.
ومنها: استِعظامُه تعالى لليَومِ.
ومنها: تأكيدُه بما بَعْدَه، وما يُوهِمُ ذلك وما يَقتَضيه مِن خضوعِهم وذِلَّتِهم، وفي هذا نكتةٌ، وهي كأنَّ قائِلًا يقولُ: هذا التَّشديدُ العظيمُ، والوعيدُ البليغُ، كيف يكونُ على التَّطفيفِ مع نَزارتِه وزَهادتِه، وكَرَمِ المَولى وإحسانِه؟ فأشار بقَولِه: لِرَبِّ الْعَالَمِينَ إلى أنَّه مُرَبِّيهم ومَسؤولٌ عن أمورِهم، فلا يليقُ أن يُهمِلَ مِن أمورِهم شيئًا [41] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/85)، ((تفسير ابن عادل)) (20/210). .
5- في قَولِه تعالى: لِرَبِّ الْعَالَمِينَ أنَّ الظَّنَّ قد يُستعمَلُ بمعنى اليقينِ في اللُّغةِ العربيَّةِ [42] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 95). . وذلك على قولٍ في الآيةِ.
6- يومُ القيامةِ إنَّما سُمِّيَ يومَ القيامةِ؛ لوُجوهٍ ثلاثةٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ النَّاسَ يَقومون فيه مِن قُبورِهم للهِ عزَّ وجَلَّ، كما قال اللهُ تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.
الثَّاني: أنَّه يُقامُ فيه العَدلُ؛ لِقَولِ اللهِ تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [الأنبياء: 47] .
والثَّالثُ: أنَّه يقومُ فيه الأشهادُ، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [43] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام)) لابن عثيمين (6/354). [غافر: 51] .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
- قولُه: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ افتِتاحُ السُّورةِ باسمِ الوَيلِ مُؤذِنٌ بأنَّها تَشتَمِلُ على وَعيدٍ، فلَفْظُ (وَيْلٌ) مِن بَراعةِ الاستِهلالِ [44] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/189). وبراعةُ الاستِهلالِ: هي كَونُ ابتداءِ الكلامِ مُناسِبًا للمقصودِ، وأنْ يكونَ أوَّلُ الكلامِ دالًّا على ما يُناسِبُ حالَ المتكلِّمِ، مُتضمِّنًا لِمَا سِيق الكلامُ مِن أجْلِه مِن غيرِ تصريحٍ، بلْ بألْطَفِ إشارةٍ يُدرِكُها الذَّوقُ السَّليمُ، ومِن أحسَنِ صُوَرِ براعةِ الاستِهلالِ مَوقِعًا، وأبلَغِها معنًى: فواتحُ سُوَرِ القرآنِ الكريمِ، ومنها الحُروفُ المقطَّعةِ؛ فإنَّها تُوقِظُ السَّامِعينَ للإصغاءِ إلى ما يَرِدُ بعدَها؛ لأنَّهم إذا سمِعوها مِن النَّبيِّ الأُمِّيِّ عَلِموا أنَّها والمَتْلُوَّ بعْدَها مِن جِهةِ الوحيِ، وفيها تنبيهٌ على أنَّ المتلوَّ عليهم مِن جِنسِ ما يَنظِمونَ منه كلامَهم، مع عجْزِهم عن أنْ يأتوا بمِثلِه. يُنظر: ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 45)، ((الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم)) لعصام الدين الحنفي (1/129)، ((تفسير أبي السعود)) (4/282)، ((أنوار الربيع في أنواع البديع)) لابن معصوم (1/53)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 378). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال تعالَى هنا: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، وقال في مَوضعٍ آخَرَ: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأنعام: 152] ؛ فمعْنى هذه الآيةِ: تَحرَّوا بقدْرِ المستطاعِ مِن التَّطفيفِ ولو يَسيرًا وبعْدَ بَذْلِ الجُهدِ، لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وهذا غايةٌ في التَّحرِّي، مع شِدَّةِ التَّحذيرِ، والتَّوعُّدِ بالويْلِ [45] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/455). .
- قولُه: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ... إلخ، صِفةٌ كاشِفةٌ [46] الصِّفةُ الكاشفةُ: هي الَّتي تُبيِّنُ الواقعَ، ولا تُقيِّدُ المَوصوفَ؛ لأنَّ الصِّفاتِ منها صِفةٌ مقيِّدةٌ تُخرِجُ ما سِواه، ومنها صفةٌ كاشِفةٌ تبيِّنُ حقيقةَ أمرِه، فهي خبرٌ عن المَوصوفِ عندَ التَّحقيقِ، تبيِّنُ ماهيَّةَ الشَّيءِ بأن تكونَ وصفًا لازمًا مختصًّا به. والصِّفةُ إذا كان لها مفهومٌ فهي مقيِّدةٌ، وإن لم يكن لها مفهومٌ فهي كاشِفةٌ، أي: مبيِّنةٌ للحقيقةِ، مثالُ ذلك: قولُه تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117] ، فقولُه: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ صفةٌ كاشفةٌ، ولا مفهومَ مخالفةٍ له، فلا يصحُّ لأحدٍ أن يقولَ: أمَّا مَن عبَدَ معه إلهًا آخَرَ له بُرهانٌ به فلا مانعَ مِن ذلك! لاستِحالةِ وُجودِ بُرهانٍ على عبادةِ إلهٍ آخَرَ معه، فقولُه: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ وصفٌ مطابقٌ للواقعِ؛ لأنَّهم يَدْعون معه غيرَه بلا بُرهانٍ، فذِكْرُ الوصفِ لموافقتِه الواقِعَ، لا لإخراجِ المفهومِ عن حُكمِ المنطوقِ. ومِن ذلك قولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة: 61] ، وقولُه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] . يُنظر: ((الكليات)) للكفوي (ص: 545)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/364، 365)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 27)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/ 299، 314)، ((دراسات أصولية في القرآن الكريم)) للحفناوي (ص: 22). للمُطفِّفينَ، شارِحةٌ لكَيفيَّةِ تَطْفيفِهم الَّذي استَحقُّوا به الذَّمَّ، والدُّعاءَ بالوَيلِ [47] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/124). ، ويجوزُ أنْ تكونَ صِفةً مُخصِّصةً، أو جارِيةً على الذَّمِّ.
- وجُملةُ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ قيل: هي إدْماجٌ [48] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70]؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه تعالى بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 449)، ((خِزانة الأدب)) لابن حِجَّةَ الحَمَوي (2/484)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبدالرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). ، مَسوقةٌ لكَشْفِ عادةٍ ذَميمةٍ في تُجَّارِ الكافِرين، وهي الحِرصُ على تَوفيرِ مِقْدارِ ما يَبْتاعونه بدُونِ حَقٍّ لهم فيه، والمَقصودُ الجُملةُ المَعطوفةُ عليها، وهي جُملةُ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ؛ فَهُم مَذْمومون بمَجْموعِ ضِمْنِ الجُملتَينِ [49] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/190). .
- قولُه: اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ، أي: اشَتَروا مِن النَّاسِ ما يُباعُ بالكَيلِ، فحُذِفَ المَفعولُ؛ لأنَّه مَعلومٌ في فِعلِ اكْتَالُوا، أي: اكْتالوا مَكيلًا، ومَعنى كَالُوهُمْ: باعوا للنَّاسِ مَكيلًا، فحُذِفَ المَفعولُ؛ لأنَّه مَعلومٌ [50] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/191). . أو عَدَمُ التَّعرُّضِ للمَكيلِ والمَوزونِ في الصُّورَتَينِ اكْتَالُوا، كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ؛ لأنَّ مَساقَ الكَلامِ لبَيانِ سُوءِ مُعامَلتِهم في الأخْذِ والإعْطاءِ، لا في خُصوصيَّةِ المأْخوذِ والمُعْطى [51] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/125). .
- ولَمَّا كان اكْتِيالُهم مِن النَّاسِ اكْتِيالًا يَضُرُّهم ويُتحامَلُ فيه عليهم، أُبدِلَ (عَلَى) مَكانَ (مِن)؛ للدَّلالةِ على ذلك، بتَضْمينِ اكْتَالُوا مَعنى التَّحامُلِ، أي: إلْقاءِ المَشقَّةِ على الغَيرِ وظُلمِه؛ ذلك أنَّ شأْنَ التَّاجرِ وخُلُقَه أنْ يَتَطلَّبَ تَوفيرَ الرِّبحِ، وأنَّه مَظِنَّةُ السَّعةِ، ووُجودِ المالِ بِيَدِه؛ فهو يَستَعمِلُ حاجةَ مَن يأْتيه بالسِّلعةِ. وقيلَ: إنَّ الحَرفَينِ (مِن) و(عَلَى) يَتعاقَبانِ في هذا المَوضِعِ؛ لأنَّه حَقٌّ عليه، فإذا قالَ: اكتَلْتُ عليك، فكأنَّه قال: أخَذْتُ ما عليك، وإذا قالَ: اكتَلْتُ منك، فكقَولِه: استَوفَيْتُ منك [52] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/719)، ((تفسير البيضاوي)) (5/294)، ((تفسير أبي حيان)) (10/426)، ((تفسير أبي السعود)) (9/125)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/190، 191)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/408). .
- وقال: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ولم يَقُلْ: (اكْتالوا واتَّزَنوا)، كما قال في مقابِلِه: وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ؛ لأنَّ المُطفِّفين كانتْ عادَتُهم ألَّا يَأخُذوا ما يُكالُ وما يُوزَنُ إلَّا بالمِكيالِ؛ لأنَّ استِيفاءَ الزِّيادةِ بالمِكيالِ أمكَنُ لهم، وأهْوَنُ عليهم منه بالميزانِ، وإذا أَعطَوا كالُوا ووَزَنوا؛ لتَمَكُّنِهم مِن البَخْسِ فيهما [53] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/720)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/313)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 602)، ((تفسير أبي السعود)) (9/125). .
أو لم يَقُلْ: (أو اتَّزَنوا)، كما قيلَ: أَوْ وَزَنُوهُمْ؛ لأنَّ قولَه: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا إمَّا أنْ يَكونَ صِفةً مُخصِّصةً، أو كاشِفةً، أو جارِيةً على الذَّمِّ؛ فَعَلى الأوَّلِ لا يَنبَغي ذِكرُ الوَزنِ؛ لأنَّ سَببَ النُّزولِ في قَومٍ مَخصوصينَ، وفي فِعلٍ مَخصوصٍ، وهو: الكَيلُ؛ لأنَّ مَعنى التَّطْفيفِ: البَخْسُ في الكَيلِ والوَزنِ، فيَدخُلُ في هذا العامِّ مَن نَزَلَتْ فيهم الآيةُ دُخولًا أوَّليًّا، أو يَكونُ ذِكرُ الوَزنِ لمَزيدِ الذَّمِّ، يَعني: إذا اتَّفَقَ أحْيانًا لهم وَزنٌ بما هو قانونُ العَدلِ -لقولِه تعالَى: وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [الحديد: 25]- يُخسِرون أيضًا [54] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/339، 340). .
أو الاقتِصارُ على قولِه: إِذَا اكْتَالُوا دُونَ أنْ يَقولَ: (وإذا اتَّزَنوا) كما قال: وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ؛ اكتِفاءٌ بذِكرِ الوَزنِ في الثَّاني تَجَنُّبًا لفِعلِ (اتَّزَنوا)؛ لقِلَّةِ دَوَرانِه في الكلامِ؛ فكان فيه شَيءٌ مِن الثِّقَلِ، ولنُكْتةٍ أُخْرى؛ وهي: أنَّ المُطفِّفين هم أهلُ التَّجْرِ، وهم يأخُذونَ السِّلَعَ مِن الجالِبينَ في الغالِبِ بالكَيلِ؛ لأنَّ الجالِبينَ يَجلِبونَ التَّمرَ والحِنطةَ ونَحوَهما ممَّا يُكالُ، ويَدفَعون لهم الأثْمانَ عَينًا بما يوزَنُ مِن ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ مَسْكوكَينِ أو غَيرَ مَسْكوكَينِ؛ فلذلك اقتُصِرَ في ابْتِياعِهم مِن الجالِبينَ على الاكْتيالِ نَظرًا إلى الغالِبِ، وذكَرَ في بَيعِهم للمُبْتاعِينَ الكَيلَ والوَزنَ؛ لأنَّهم يَبيعون الأشْياءَ كَيلًا، ويَقبِضون الأثْمانَ وَزْنًا، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ التَّطْفيفَ مِن عَملِ تُجَّارِهم [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/191، 192). .
- والاسْتيفاءُ: أَخْذُ الشَّيءِ وافِيًا؛ فالسِّينُ والتَّاءُ في قولِه: يَسْتَوْفُونَ للمُبالَغةِ في الفِعلِ [56] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/192). .
- وفي قولِه: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ مُقابَلةٌ أَتَتْ على أحسَنِ وَجْهٍ وأنْظَمِه، أي: إذا كان الكَيلُ مِن جِهةِ غَيرِهم استَوفَوه، وإذا كان الكَيلُ مِن جِهتِهم خاصَّةً أخْسَروه، سَواءٌ باشَروه أو لا؛ فالضَّميرُ لا يدُلُّ على مُباشَرةٍ ولا إشعارٍ أيضًا بذلك، والَّذي يدُلُّ على أنَّ الضَّميرَ لا يُعطي مُباشرةَ الفعلِ: أنَّه يَجوزُ أنْ يُقالَ: الأمراءُ همُ الَّذين يُقيمون الحدودَ لا السُّوقةُ، وليس معناه أنَّهم يُباشِرونَ ذلك بأنفُسِهم، وإنَّما مَعناهُ أنَّ فِعلَ ذلك مِن جِهتِهم خاصَّةً [57] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/411). .
2- قولُه تعالَى: أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ استِئنافٌ ناشئٌ عن الوَعيدِ والتَّقْريعِ للمُطفِّفينَ بالوَيلِ على التَّطْفيفِ، وما وُصِفوا به مِن الاعتِداءِ على حُقوقِ المُبتاعينَ [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/192). ؛ فهو استئنافٌ واردٌ لتهويلِ ما ارتكَبُوه مِن التَّطفيفِ، والتَّعجيبِ مِن اجترائِهم عليهِ [59] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/125). .
- قولُه: أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ الهَمزةُ للاستِفهامِ الإنكاريِّ التَّعْجيبيِّ، بحَيثُ يَسألُ السَّائلُ عن عِلمِهم بالبَعثِ، كأنَّهم لا يَخطُرُ بِبالِهم، ولا يُخمِّنون تَخْمينًا أنَّهم مَبْعوثونَ ومُحاسَبون على مِقدارِ الذَّرَّةِ والخَرْدَلةِ [60] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/720)، ((تفسير البيضاوي)) (5/294)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/192)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/410). !
- وأُولَئِكَ إشارةٌ إلى المُطفِّفينَ، ووَضَعه مَوضِعَ ضَميرِهم للإشْعارِ بمَناطِ الحُكمِ الَّذي هو وَصفُهم؛ فإنَّ الإشارةَ إلى الشَّيءِ مُتعرِّضةٌ له مِن حَيثُ اتِّصافُه بوَصفِه، وأمَّا الضَّميرُ فلا يَتَعرَّضُ لوَصفِه. وللإيذانِ بأنَّهم مُمتازونَ بذلك الوَصفِ القَبيحِ عن سائرِ النَّاسِ أكْمَلَ امتِيازٍ، نازِلون مَنزِلةَ الأُمورِ المُشارِ إليها إشارةً حِسِّيَّةً؛ فالعُدولِ عن الإضْمارِ إلى اسمِ الإشارةِ في قولِه: أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ لقَصدِ تَمييزِهم، وتَشهيرِ ذِكرِهم في مَقامِ الذَّمِّ، ولأنَّ الإشارةَ إليهم بعْدَ وَصفِهم بالمُطَفِّفينَ تُؤذِنُ بأنَّ الوَصفَ مَلحوظٌ في الإشارةِ، فيُؤذِنُ ذلك بتَعليلِ الإنْكارِ. وما فيه مِن مَعنى البُعدِ؛ للإشْعارِ ببُعدِ دَرَجتِهم في الشَّرارةِ والفَسادِ [61] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/125)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/192، 193). .
- واللَّامُ في قولِه: لِيَوْمٍ عَظِيمٍ لامُ التَّوقيتِ، وفائدةُ لامِ التَّوقيتِ إدْماجُ الرَّدِّ على شُبهتِهم الحامِلةِ لهم على إنْكارِ البَعثِ، باعتِقادِهم أنَّه لو كان بَعثٌ لَبُعِثَتْ أمْواتُ القُرونِ الغابِرةِ، فأَوْمأَ قولُه: لِيَوْمٍ أنَّ للبَعثِ وَقتًا مُعيَّنًا يَقَعُ عندَه لا قبْلَه [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/193). .
- ومَعنى يَقُومُ النَّاسُ: أنَّهم يَكونون قِيامًا؛ فالتَّعبيرُ بالمُضارِعِ لاستِحضارِ الحالةِ [63] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/193). .
- وفي تَخصيصِ (ربِّ العالَمينَ) بالذِّكرِ هنا مِن بيْنِ سائِرِ الصِّفاتِ: إشْعارٌ بالمالِكيَّةِ والتَّربِيةِ، ولاستِحضارِ عَظَمتِه بأنَّه مالِكُ أَصنافِ المَخلوقاتِ؛ فلا يَمتَنِعُ عليه الظَّالمُ القَويُّ، ولا يَترُكُ حَقَّ المَظلومِ الضَّعيفِ [64] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/341)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/193). .