موسوعة التفسير

سورةُ الحِجْرِ
الآيات (51-60)

ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ

غريب الكلمات :

وَجِلُونَ: أي: خائِفونَ، وأصلُ الوجَلِ: يدلُّ على استشعارِ الخَوفِ .
الْقَانِطِينَ: أَي: اليائِسينَ، والقُنُوطُ: اليأسُ مِن الخيرِ، وأصلُ (قنط) يدُلُّ عَلَى اليأْسِ مِنَ الشَّيءِ .
خَطْبُكُمْ: أي: شَأنُكم وأمْرُكم الذي جِئتُم له، والخَطْبُ: الأمرُ العَظيمُ الذي يَكثُرُ فيه التَّخاطُبُ،  ولا يَكادُ يُقالُ (الخَطبُ) إلَّا في الأمرِ الشَّديدِ، وأصل: (خطب): يدُلُّ على الكَلامِ بين اثنَينِ .
الْغَابِرِينَ: أي: الباقينَ في العذابِ، والغابرُ مِن الأضدادِ ، يُراد به الباقي والماضي، وأصلُ (غبر): يدلُّ على البقاءِ .

مشكل الإعراب:

قولُه تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ
وَمَنْ يَقْنَطُ: (مَنْ) اسمُ استفهامٍ بمعنى الإنكارِ، فهو نفيٌ في المعنى؛ ولذلك جاءت بعدَه (إلَّا) التي للإيجابِ، ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداءِ، و (يَقْنَطُ) فعلٌ وفاعلُه ضميرٌ يعودُ على (مَنْ) والجملةُ خبَرٌ. الضَّالُّونَ بدلٌ من الضَّميرِ في (يَقنَطُ) وهو المُختارُ؛ لأنَّ الكلامَ غيرُ مُوجَبٍ .

المعنى الإجمالي:

يقول تعالى: وأخبِرْ- يا محمَّدُ- عبادي عن ضيوفِ إبراهيمَ- عليه السلام- مِن الملائكةِ، حين دخَلوا عليه فقالوا: سَلامًا، فرَدَّ عليهم السَّلامَ، ثمَّ قدَّمَ لهم الطَّعامَ فلم يأكُلوا، فقال: إنَّا مِنكم خائِفون. قالت الملائِكةُ له: لا تخَفْ؛ إنَّا نبَشِّرُك بولَدٍ كثيرِ العِلمِ بالدِّينِ، قال إبراهيمُ متعجِّبًا: أبشَّرتُموني بالولَدِ وأنا كبيرٌ، فبأيِّ شَيءٍ عَجيبٍ تُبشِّرونَني؟! قالوا: بشَّرْناك بالحَقِّ الذي أعلَمَنا اللهُ به، فلا تكُنْ مِن اليائسينَ. قال: لا يَيئَسُ مِن رَحمةِ رَبِّه إلَّا الضَّالُّونَ. قال: فما الأمرُ الخطيرُ الذي جِئتُم من أجْلِه أيُّها المُرسَلونَ؟ قالوا: إنَّ اللهَ أرسَلَنا لإهلاكِ قَومِ لُوطٍ المُشركينَ إلَّا لُوطًا وأهلَه المؤمنينَ به، فلن نُهلِكَهم، وسنُنَجِّيهم أجمعينَ إلَّا امرأتَه الكافِرةَ، قَضَينا أنَّها مِن المهلكينَ الباقينَ في العذابِ.

تفسير الآيات:

وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بالغَ في تقريرِ أمْرِ النبُوَّةِ، ثمَّ أردَفَه بذِكرِ دلائِلِ التَّوحيدِ، ثمَّ ذكَرَ عَقيبَه أحوالَ القيامةِ، وصِفةَ الأشقياءِ والسُّعَداءِ- أتبَعَه بذِكرِ قَصَصِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ؛ ليكونَ سَماعُها مُرَغِّبًا في الطاعةِ الموجِبةِ للفَوزِ بدَرَجاتِ الأنبياءِ، ومُحَذِّرًا عن المعصيةِ لاستحقاقِ دَرَكاتِ الأشقياءِ، فبدأ أوَّلًا بقِصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ .
وأيضا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما أعَدَّ للعاصِينَ مِن النَّارِ، وللطَّائِعينَ مِن الجنَّة- ذكَّرَ العرَبَ بأحوالِ مَن يَعرِفونَه ممَّن عصى وكذَّبَ الرُّسُلَ، فحَلَّ به عذابُ الدُّنيا قبلَ عذابِ الآخرةِ؛ ليزدَجِروا عن كُفرِهم، ولِيَعتَبِروا بما حَلَّ بغَيرِهم، فبدأ بذِكرِ جَدِّهم الأعلى إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وما جرى لقَومِ ابنِ أخيه لوطٍ عليه السَّلامُ .
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51).
أي: وأخبِرْ عبادي- يا مُحمَّدُ- عن قِصَّةِ الملائكةِ؛ ضُيوفِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فإنَّ في قَصِّك عليهم ذلك ما يُوجِبُ لهم العِبرةَ .
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52).
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا.
أي: حينَ دخَلَ الملائِكةُ على إبراهيمَ، فقالوا له عَقِبَ دُخولِهم: نسلِّمُ عليك سَلامًا .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود: 69] .
قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ.
أي: قال لهم إبراهيمُ بعدَ أن ردَّ عليهم السَّلامَ: إنَّا منكم خائِفونَ .
كما قال تعالى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [الذاريات: 25 - 28].
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53).
قَالُوا لَا تَوْجَلْ.
أي: قالت الملائكةُ لإبراهيمَ: لا تخَفْ منَّا .
كما قال تعالى: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ [الذاريات: 28].
ثمَّ عَلَّلوا ذلك بقَولِهم مؤكِّدينَ لِقَلعِ ما في نفسِه من الوجَلِ المُنافي للبُشرى :
إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ.
أي: إنَّا نبشِّرُك بمولودٍ لك غَزيرِ العِلمِ بالشَّريعةِ الإلهيَّةِ .
كما قال تعالى: وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الذاريات: 28-30].
وقال سبحانه: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] .
وقال تعالى: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 112] .
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54).
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ.
أي: قال إبراهيمُ للملائكةِ مُتعَجِّبًا: أبشَّرتُموني بولدٍ مع كِبَرِ سِنِّي ؟!
فَبِمَ تُبَشِّرُونَ.
أي: فبأيِّ شَيءٍ عَجيبٍ تُبشِّرونَني؟! فإنَّ البِشارةَ بما لا يُتصوَّرُ وقوعُه عادةً لا تصِحُّ .
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55).
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ.
أي: قالت الملائكةُ لإبراهيمَ: بشَّرْناك بولَدٍ قد قضى اللهُ أنَّه كائِنٌ بلا شَكٍّ .
فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ.
أي: فلا تكُنْ- يا إبراهيمُ- من اليائسينَ مِن فَضلِ اللهِ، الذين يستبعِدونَ وُجودَ الخيرِ، ولكِنْ أبشِرْ بالولَدِ مع الكِبَر، واقبَلِ البُشرى بذلك .
قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56).
أي: قال إبراهيمُ: ومَن ييئَسُ مِن رَحمةِ اللهِ إلَّا الذَّاهِبونَ عن طريقِ الصَّوابِ، الجاهِلونَ بكَمالِ قُدرةِ ورَحمةِ اللهِ الوهَّابِ .
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لـمَّا تحقَّقَ إبراهيمُ عليه السلامُ البُشرَى، ورأَى إتيانَهم مُجتَمِعينَ على غيرِ الصِّفةِ التي يأتي عليها المَلَكُ للوحيِ، وكان يعلمُ بأنَّه ما تَنزِلُ الملائِكةُ إلَّا بالحَقِّ- كان ذلك سببًا لِأن يسألَهم عن أمرِهم؛ لِيَزولَ وَجَلُه كُلُّه .
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57).
أي: قال إبراهيمُ للملائكةِ: فما شأنُكم الخطيرُ الذي أرسَلَكم اللهُ به سِوى البِشارةِ ؟!
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58).
أي: قالت الملائكةُ لإبراهيمَ: إنَّا أرسَلَنا اللهُ إلى قومٍ كافرينَ كَثُرَ فسادُهم، وعظُمَ خَبَثُهم؛ لنُهلِكَهم .
إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59).
أي: لكنَّ   لوطًا وأهلَه، لن نُهلِكَهم، وسنُخَلِّصُهم جميعًا من العذابِ .
كما قال تعالى حاكيًا محاورةَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ مع الملائكةِ عليهم السَّلامُ: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات: 31-36].
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60).
أي: إلَّا امرأةَ لُوطٍ، قَضَينا أنَّها مِن المُهلَكينَ الباقينَ في العذابِ؛ لكُفرِها .
كما قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [العنكبوت: 31- 32] .

الفوائد التربوية:

 مَن أنعمَ الله عليه بالهدايةِ والعِلمِ العظيمِ، فلا سبيلَ للقُنوطِ إليه؛ لأنَّه يعرِفُ مِن كثرةِ الأسبابِ والوسائلِ والطُّرُقِ لرحمةِ الله شيئًا كثيرًا، قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ الذين لا عِلمَ لهم برَبِّهم، وكمالِ اقتدارِه .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ هذه القِصَّةُ فيها إثباتُ الملائكةِ، وأنَّهم أحياءٌ، ناطِقونَ، مُنفَصِلونَ عن الآدميِّينَ، وقد تواتَرَ في الكتُبِ الإلهيَّةِ والأحاديثِ النبويَّةِ أنَّ الملائِكةَ تتصَوَّرُ بصورةِ البشَرِ، ويُرَونَ في تلك الصورةِ، فيُخاطبُهم ويراهم في هذه الصُوَرِة الأنبياءُ وغيرُ الأنبياءِ، كما أخبَرَ الله عن ضيفِ إبراهيمَ، ورؤيةِ سارَةَ امرأةِ الخليلِ عليه السَّلامُ لهم، وكما كان الصَّحابةُ يَرَون جبريلَ إذا جاء، ومن ذلك رؤيتُهم له لما جاء في صورةِ أعرابيٍّ ، وفي صورةِ دِحْيةَ الكلبيِّ .
2- قولُ الله تعالى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ فيه سؤالٌ: كيف سمَّاهم ضيفًا مع امتناعِهم عن الأكلِ؟
الجوابُ من وجهينِ:
الوجه الأول: لَمَّا ظَنَّ إبراهيمُ أنَّهم إنَّما دخلوا عليه لطلَبِ الضيافةِ، جاز تسميتُهم بذلك.
الوجه الثاني: أنَّ مَن يدخُل دارَ الإنسانِ ويلتجِئ إليه، يُسمَّى ضيفًا وإن لم يأكُلْ .
3- يُستحَبُّ بِشارةُ مَن وُلِدَ له ولَدٌ؛ قال الله تعالى عن الملائكةِ: قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ .
4- القُنوطُ مِن رحمةِ الله لا يجوزُ؛ لأنَّه سوءُ ظَنٍّ باللهِ عزَّ وجَلَّ، وذلك مِن وَجهينِ:
الأولُ: أنَّه طَعنٌ في قُدرتِه سُبحانَه؛ لأنَّ مَن عَلِمَ أنَّ الله على كلِّ شَيءٍ قَديرٌ لم يَستبعِدْ شيئًا على قدرةِ اللهِ.
الثاني: أنَّه طَعنٌ في رحمتِه سُبحانَه؛ لأنَّ مَن عَلِمَ أنَّ اللهَ رَحيمٌ لا يَستبعِدُ أن يرحَمَه اللهُ سُبحانَه؛ ولهذا كان القانِطُ مِن رحمةِ اللهِ ضالًّا؛ قال تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ .
5- قَولُ الله تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ استُدِلَّ به على أنَّ القُنوطَ مِن الكبائرِ .
6- قَولُ الله تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ هِبةَ الولدِ على الكِبَرِ مِن رَحمةِ الله؛ إذ يشدُّ عضُدَ والدِه به، ويؤازِرُه حالةَ كَونِه لا يستقِلُّ، ويَرِثُ منه عِلمَه ودينَه .
7- في قَولِه تعالى عن الملائكةِ: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ دَلالةٌ على أنَّ لفظَ آلِ فلانٍ في الكتابِ والسُّنَّةِ يدخلُ فيه ذلك الشَّخصُ .
8- في قولِه تعالى عن الملائكةِ: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ دَلالةٌ على أنَّ امرأةَ الرجلِ مِن آلِه .
9- قَولُ الله تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ فيه دليلٌ على أنَّ الاستثناءَ إذا تكَرَّر، فكُلٌّ لِما يليه .
10- عن النَّخعيِّ قال: (بيني وبين القَدَريَّةِ هذه الآيةُ: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) .
11- قَولُ الله تعالى: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ فيه سؤالٌ: لمَ أسنَدَ الملائكةُ فِعلَ التَّقديرِ إلى أنفُسِهم مع أنَّه لله تعالى، ولمَ لمْ يقولوا: قدَّرَ الله تعالى؟
الجوابُ: إنَّما ذكَروا هذه العبارةَ؛ لِما لهم من القُربِ والاختصاصِ بالله تعالى، كما يقولُ خاصَّةُ المَلِك: (دبَّرْنا كذا وأمَرْنا بكذا)، والمدبِّرُ والآمِرُ هو المَلِك لا هم، وإنَّما يريدونَ بذِكرِ هذا الكلامِ إظهارَ ما لهم من الاختصاصِ بذلك المَلِك، فكذا هاهنا، واللهُ أعلم . وقيل: أسند التَّقديرَ إلى ضَميرِ الملائكةِ؛ لأنَّهم مُزْمِعونَ على سبَبِه، وهو ما وُكِّلوا به مِن تَحذيرِ لُوطٍ عليه السَّلامُ وآلِه مِن الالتفاتِ إلى العَذابِ، وتَرْكِهم تَحذيرَ امرأتِه، حتَّى الْتفتَتْ، فحَلَّ بها ما حَلَّ بقَومِ لُوطٍ .
12- في هذه القِصَّةِ مِن العِبَر: عنايتُه تعالى بخليلِه إبراهيمَ؛ فإنَّ لوطًا عليه السَّلامُ من أتباعِه، وممَّن آمنَ به، فكأنَّه تلميذٌ له؛ فحين أراد اللهُ إهلاكَ قَومِ لُوطٍ حين استحَقُّوا ذلك، أمَرَ رُسُلَه أن يمُرُّوا على إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ كي يُبشِّروه بالولَدِ ويُخبِروه بما بُعِثوا له، حتى إنَّه جادَلَهم عليه السَّلامُ في إهلاكِهم حتى أقنَعوه، فطابت نَفسُه، قال تعالى: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ .... .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ
- قولُه: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث حذَفَ منه قَالَ سَلَامٌ اختصارًا، بينما ذكَرَه في سُورةِ هودٍ، حيث قال: قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود: 69] ؛ لأنَّ هذِه السُّورةَ مُتأخِّرةٌ، فاكْتَفَى بها عمَّا في هودٍ؛ لأنَّ التَّقديرَ: (فقالوا: سلامًا، قال: سَلامٌ، فما لَبِثَ أنْ جاء بعِجْلٍ حَنِيذٍ، فلمَّا رأى أيدِيَهم لا تصِلُ إليه نَكِرَهم، وأوجَسَ منهم خِيفةً، قال: إنَّا منكم وَجِلونَ)؛ فحُذِفَ للدَّلالةِ عليه .
2- قوله تعالى: قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ
- قولُه: قَالُوا لَا تَوْجَلْ إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمً لَا تَوْجَلْ، أي: لا تخَفْ، وبه عُبِّرَ في سُورةِ هودٍ، حيث قال: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ [هود: 70] ؛ توسعةً في التَّعبيرِ عنِ الشَّيءِ الواحدِ بمُتساوييْنِ، وخُصَّ ما هنا بالأوَّلِ؛ لمُوافقتِه قولَه: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ، وما في هودٍ بالثَّاني؛ لمُوافقتِه قولَه: خِيفَةً .
- قولُه: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ استئنافٌ في معنى التَّعليلِ للنَّهيِ عن الوَجَلِ؛ فإنَّ المُبشِّرَ لا يُخَافُ منه؛ أرادوا: إنَّك بمَثابةِ الآمِنِ المُبَشَّرِ، فلا تَوْجَلْ .
- قولُه: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ، وكذا قال في سُورةِ الذَّارياتِ: قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: 28]، فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث ورَدَ في سُورةِ الصَّافاتِ: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ [الصافات: 101] خِلاف الوَصفِ بالعلْمِ في السُّورتَينِ، ووَجْهُ ذلك: أنَّ ما في هذه السورةِ، وما في سورةِ الذارياتِ المرادُ به إسحاقُ عليه السلامُ؛ لأنَّ تبشيرَ إبراهيمَ بعلمِه ونبوتِه فيه دلالةٌ على بقائِه إلى كبرِه، وأمَّا ما في سورةِ الصافاتِ فالمرادُ به إسماعيلُ عليه السلامُ، ووُصِف بالحلمِ؛ لما ذكرَ عنه مِن الانقيادِ إلى رُؤيا أبيه، مع ما فيه مِن أمرِّ الأشياءِ على النفسِ، وأكرهِها عندَها، ووعدِها بالصبرِ ، فوصفُه بالحليمِ مناسبٌ لمقامِه وصبرِه، فلا أحلمَ ممن أسلَم نفسَه للذبحِ طاعةً لربِّه .
3- قوله تعالى: قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ
- قولُه: قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الكِبَرُ الاستفهامُ في أَبَشَّرْتُمُونِي للتَّعجُّبِ، أي: تعجَّبَ مِن بِشارتِه بولدٍ مع أنَّ الكِبَرَ مَسَّه، أو إنكارٌ لأنْ يُبشَّرَ به في مثْلِ هذه الحالةِ، وأكَّدَ هذا التَّعجُّبَ بالاستفهامِ الثَّاني بقولِه: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ؛ فهو أيضًا استفهامُ تعجُّبٍ؛ نزَّلَ الأمْرَ العجيبَ المعلومَ مَنزلةَ الأمْرِ غيرِ المعلومِ؛ لأنَّه يكادُ يكونُ غيرَ معلومٍ، وقد علِمَ إبراهيمُ عليه السَّلامُ مِن البِشارةِ أنَّهم ملائكةٌ صادِقونَ؛ فتعيَّنَ أنَّ الاستفهامَ للتَّعجُّبِ؛ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ مِن أنَّ ما بَشَّروه به أمْرٌ يكادُ أنْ يكونَ مُنْتفيًا وباطلًا؛ فكلامُهم رَدٌّ لكلامِه، وليس جوابًا على استفهامِه؛ لأنَّه استفهامٌ غيرُ حَقيقيٍّ . وقيل: قولُه: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ تأكيدُ استبعادٍ وتَعجُّبٍ، وكأنَّه لم يعلَمْ أنَّهم ملائكةٌ؛ رُسُلُ اللهِ إليه؛ فلذلك استفهَمَ، واستنكَرَ أنْ يُولَدَ له، ولو علِمَ أنَّهم رُسُلُ اللهِ ما تعجَّبَ ولا استنكَرَ، ولا سيَّما وقد رأى مِن آياتِ اللهِ عِيانًا كيف أحيا الموتَى ، وقيل غيرُ ذلك .
4- قوله تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ
- قولُه: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ هو استفهامُ إنكارٍ في معنى النَّفيِ، أو في ضِمْنِه النَّفيُ؛ ولذلك دخَلَت (إلَّا) واستثنى منه في قولِه: إِلَّا الضَّالُّونَ، يعني: أنَّه لم يذهَبْ عنه اجْتنابُ القُنوطِ مِن رحمةِ اللهِ، ولكنَّه امْتَلَكَه المُعتادُ فتعجَّبَ؛ فصار ذلك كالذُّهولِ عنِ المَعلومِ، فلمَّا نبَّهَه الملائكةُ أدنى تَنبيهٍ تذكَّرَ .
5- قوله تعالى: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ القائلُ هو إبراهيمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتوسيطُ الفعْلِ قَالَ بينَ قولِه السَّابقِ وبينَ قولِه: فَمَا خَطْبُكُمْ صَريحٌ في أنَّ بينهما مَقالةً مَطْويَّةً لهم أُشيرَ به إلى مَكانِها، كما في قولِه تعالى: قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ... [الإسراء: 61، 62]؛ فإنَّ قولَه الأخيرَ ليس مَوصولًا بقولِه الأوَّلِ، بل هو مَبْنِيٌّ على قولِه تعالى: فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر: 34]؛ فإنَّ تَوسيطَ قَالَ بينَ قَولَيْه؛ للإيذانِ بعدَمِ اتِّصالِ الثَّاني بالأوَّلِ، وعدَمِ ابْتِنائِه عليه، بل غيرِه، ثمَّ خِطابُه لهم- عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ- بعُنوانِ الرِّسالةِ بعدَما كان خِطابُه السَّابِقُ مُجرَّدًا عن ذلك، مع تَصديرِه بالفاءِ: دَليلٌ على أنَّ مَقالتَهم المَطْوِيَّةَ كانت مُتضمِّنَةً لبَيانِ أنَّ مَجيئَهم ليس لمُجرَّدِ البِشارةِ، بل لهم شأْنٌ آخرُ لأجْلِه أُرْسِلوا، فكأنَّه قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: إنْ لم يكُنْ شأنُكم مُجرَّدَ البِشارةِ؛ فماذا هو؟ فلا حاجةَ إلى الالتجاءِ إلى أنَّ علْمَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنَّ كلَّ المقصودِ ليس البِشارةَ بسبَبِ أنَّهم كانوا ذَوِي عدَدٍ، ولعلَّه علِمَ أنَّ كَمالَ المقصودِ ليس البِشارةَ؛ لأنَّهم كانوا عَددًا والبِشارةُ لا تحتاجُ إلى العدَدِ؛ ولذلك اكْتُفِيَ بالواحدِ في زَكريَّا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ومريمَ، وهذا على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ، أو لأنَّهم بَشَّروه في تَضاعيفِ الحالِ؛ لإزالةِ الوجَلِ، ولو كانت تَمامَ المقصودِ لَابْتَدؤوا بها .
6- قولُه تعالى: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ
- قولُه: قَوْمٍ مُجْرِمِينَ فيه تَنكيرُ قَومٍ، وتَنكيرُ صِفَتِهم مُجْرِمِينَ؛ تَقليلًا لهم واستِهانَةً بهم .
7- قوله تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ
- قولُه: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ استئنافٌ للإخبارِ بنَجاتِهم؛ لعدَمِ إجْرامِهم، أو لبَيانِ ما فُهِمَ مِن الاستثناءِ مِن مُطلَقِ عدَمِ شُمولِ العَذابِ لهم .