موسوعة التفسير

سورةُ الحِجْرِ
الآيات (61-77)

ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ

غريب الكلمات :

دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ: أي: يُسْتَأْصلونَ عن آخِرِهم حتَّى لا يبقَى منهم أحدٌ، وقطْعُ دابرِ الإنسان: هو إفناءُ نوعِه، ودابِرُ القومِ: آخرُهم، وأصلُ (قطع): يدلُّ على إبانةِ شيءٍ مِن شيءٍ، وأصلُ (دبر): آخِرُ الشَّيءِ وخَلْفُه [402]  يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 154)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/324) و(5/101)، ((المفردات)) للراغب (ص: 677 - 678)، ((تفسير الرازي)) (19/155)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 217). .
يَمْتَرُونَ: أي: يَشكُّونَ، وماراه مماراةً ومِراءً. وامترَى فيه وتمارَى: شكَّ، والمِريةُ: هي التردُّدُ في الأمرِ، وهي أخصُّ من الشَّكِّ [403] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/536)، ((المفردات)) للراغب (ص: 766)، ((تفسير القرطبي)) (11/106)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (4/497). .
فَأَسْرِ: أي: سِرْ ليلًا؛ من السُّرَى: وهو سَيرُ اللَّيلِ [404] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 207)، ((تفسير ابن جرير)) (12/514)، ((مقاييس اللغة)) (3/154)، ((المفردات)) للراغب (ص: 408)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 237). .
بِقِطْعٍ: أي: ببقيَّةٍ تبقَى مِن آخِرِه، وأصلُ (قطع): يدلُّ على صَرمٍ وإبانةِ شَيءٍ مِن شَيءٍ [405] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 207)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/101)، ((المفردات)) للراغب (ص: 678)، ((تفسير القرطبي)) (9/79). .
لَعَمْرُكَ: أي: وحَياتِك، وأصلُ (عمر): يدلُّ على بقاءٍ، وامتدادِ زَمانٍ [406] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/140)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 190)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 257). .
سَكْرَتِهِمْ: أي: غَوايتِهم وضَلالتِهم، وأصلُ (سكر): يدُلُّ على حَيرةٍ [407] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/91)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/89)، ((المفردات)) للراغب (ص: 416)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 520). .
يَعْمَهُونَ: أي: يتَحيَّرون ويترَدَّدونَ، وأصلُ (عمه): يدلُّ على حَيرةٍ وقِلَّةِ اهتداءٍ [408] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 41)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 321)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/133)، ((المفردات)) للراغب (ص: 588)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 14)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 52). .
مُشْرِقِينَ: أي: داخِلينَ في الإشراقِ، وهو سُطوعُ ضَوءِ الشَّمسِ وظُهورُه، وأصلُ (شرق): يدُلُّ على إضاءةٍ [409] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 317)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 446)، ((البسيط)) للواحدي (12/637)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/264)، ((تفسير ابن عطية)) (3/370)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 268)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 257). .
سِجِّيلٍ: أي: طينٍ مُتحَجِّرٍ، وقيل: أصلُها فارسيٌّ (سَنكِ وكِل) [410] قال الواحدي: (الذي عليه أعظمُ أهلِ التفسيرِ أنَّه معربٌ عن (سنك كل)، وهو قولُ ابنِ عباسٍ،  وقتادةَ، وسعيدِ بنِ جبيرٍ). ((البسيط))  (11/511). أي: الحَجَر والطِّين [411] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 207)، ((تفسير ابن جرير)) (12/526)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 280)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 237)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 520)، ((تاج العروس)) للزبيدي (29/179). .
لِلْمُتَوَسِّمِينَ: أي: المتَفرِّسين المُعتَبِرينَ، الناظرينَ في السِّمةِ الدَّالةِ؛ يُقال: توسَّمتُ فيه الخيرَ: إذا رأيتَ مِيسَمَه فيه، أي: علامَتَه التي تدُلُّ عليه، وأصلُ (وسم): يدُلُّ على أثَرٍ ومَعلَمٍ [412] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 239)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/111)، ((المفردات)) للراغب (ص: 871)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 190)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 257)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/286). .
لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ: أي: لَبِطَريقٍ واضحٍ ثابتٍ، وأصلُ (سبل): يدلُّ على امتدادِ شَيءٍ، وأصلُ (قوم): يدلُّ عَلَى انْتِصابٍ أو عَزْمٍ [413] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/97)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/129) (5/43)، ((تفسير القرطبي)) (10/45)، ((تفسير ابن كثير)) (4/544). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: فلمَّا جاءتِ الملائِكةُ إلى لوطٍ وأهلِه، قال لهم: إنَّكم قومٌ غيرُ مَعروفينَ لي. قالوا: قد جِئْنا بعذابِ قومِك الذي كان يَشُكُّون فيه، وجِئناك بالحَقِّ مِن عندِ الله، وإنَّا لصادِقونَ فيما أخْبَرناك به، فاخرُجْ ومعك أهلُك بعد مرورِ وقتٍ مِن اللَّيلِ، وسِرْ أنت وراءَهم ولا يلتَفِتْ منكم أحدٌ، وأسرِعوا إلى حيثُ أمَرَكم اللهُ.
 وأوحَينا إلى لوطٍ أنَّ قَومَك مُهلَكون عن آخِرِهم عند مَطلَعِ الصُّبحِ، وجاء أهلُ مدينةِ لُوطٍ إلى لوطٍ عليه السلامُ، وهم فَرِحونَ، يَستبشِرونَ بضُيوفِه؛ ليَفعَلوا بهم الفاحِشةَ. قال لهم لوطٌ: إنَّ هؤلاء ضُيوفي، فلا تَفضَحوني، وخافوا عِقابَ الله، ولا تتعَرَّضوا لهم فتُذلُّوني بإيذائِكم لهم. قال قَومُه: أولَم نَنْهَك أن تُضيِّفَ أحدًا مِن العالَمينَ؟ قال لوطٌ لهم: هؤلاء نساؤُكم فتزوَّجوهنَّ إن كُنتُم فاعلينَ.
ثمَّ أقسَم الله تعالى بحياةِ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم قائلًا: وحياتِك- يا محمَّدُ- إنَّ قَومَ لوطٍ لَفي غفلةٍ وضلالةٍ يتحَيَّرونَ، فنزلت بهم صيحةٌ هائلةٌ وقتَ شُروقِ الشَّمسِ، فقَلَبْنا مدينتَهم فجَعَلْنا عاليَها سافِلَها، وأمطَرْنا عليهم حجارةً مِن طينٍ متصَلِّبٍ. إنَّ فيما أصاب قومَ لوطٍ لَعِظاتٍ للمتفَكِّرينَ المتفَرِّسينَ، وإنَّ مدينةَ قَومِ لوطٍ لَفي طريقٍ ثابتٍ يراها المارُّونَ بها، وإنَّ في إهلاكِنا لهم لَدَلالةً واضِحةً للمُؤمِنينَ على انتقامِ اللهِ مِن الكافرينَ.

تفسير الآيات:

فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا تمَّ ما أُريدَ الإخبارُ عنه مِن تَحاوُرِ الملائكةِ مع إبراهيمَ عليه السَّلامُ، أخبَرَ عن أمْرِهم مع لوطٍ عليه السَّلامُ، فقال [414] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/69). :
فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61).
أي: فلمَّا أتَتِ الملائكةُ لوطًا وأهلَه [415] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/432)، ((تفسير ابن جرير)) (14/86)، ((تفسير ابن كثير)) (4/541). .
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62).
أي: قال لُوطٍ للملائكةِ: إنَّكم قومٌ غيرُ مَعروفينَ لدَيَّ، فلا أدري مَن أنتم [416] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/86)، ((تفسير القرطبي)) (10/38)، ((تفسير السعدي)) (ص: 433). قال الخازنُ: (إنَّما قال هذه المقالةَ لوطٌ؛ لأنَّهم دخلوا عليه وهم في زِيِّ شُبَّانٍ مُردان حِسانِ الوجوهِ، فخاف أن يهجُمَ عليهم قومُه؛ فلهذا السببِ قال هذه المقالةَ. وقيل: إنَّ النَّكِرة ضِدُّ المعرفة، فقوله: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ يعني: لا أعرِفُكم، ولا أعرفُ مِن أيِّ الأقوامِ أنتم، ولا لأيِّ غرَضٍ دخَلتُم). ((تفسير الخازن)) (3/59). !
قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63).
أي: قالت الملائِكةُ لِلُوطٍ: بل نحنُ مَلائِكةُ الله، جِئناك بعذابِ قَومِك، الذي كانوا يشُكُّونَ في وُقوعِه بهم [417] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/86)، ((تفسير القرطبي)) (10/38)، ((تفسير ابن كثير)) (4/541)، ((تفسير السعدي)) (ص: 433). .
وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64).
أي: وأتَيناك باليَقينِ مِن عندِ اللهِ- وهو عذابُ قَومِك- وإنَّا لَصادِقونَ فيما أخبَرْناك به مِن هلاكِهم [418] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/87)، ((تفسير القرطبي)) (10/38)، ((تفسير ابن كثير)) (4/541)، ((تفسير السعدي)) (ص: 433). .
كما قال تعالى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ [الحجر: 8] .
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65).
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ.
أي: فاخرُجْ أنت وأهلُك مِن أرضِ قَومِك بعد مُضيِّ وقتٍ مِن اللَّيلِ؛ حيثُ تكونُ العُيونُ قد نامَت، ولا يعلَمُ أحدٌ بمَسراك [419] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/87)، ((تفسير ابن كثير)) (4/541)، ((تفسير السعدي)) (ص: 433). .
وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ.
أي: وكنْ- يا لوطُ- مِن وراءِ أهلِك، وامشِ خَلْفَهم حينَ تَسري بهم [420] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/87)، ((تفسير القرطبي)) (10/38)، ((تفسير ابن كثير)) (4/541). .
وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ.
أي: ولا ينظُرْ أحدٌ منكم وراءَه، ولْتَجِدُّوا في السَّيرِ فتتباعَدوا عن القريةِ، وتنجوا مِن العذابِ النازلِ بأهلِها [421] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/87)، ((تفسير القرطبي)) (10/38)، ((تفسير السعدي)) (ص: 433). قيل: نُهوا عن الالتفاتِ؛ لِيَجِدُّوا في السَّيرِ، ويتباعَدوا عن القريةِ قبلَ أن يفاجِئَهم الصُّبحُ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/38). وقيل: نُهوا عن ذلك حتَّى لا يَرْتاعوا مِن العذابِ إذا نزَل بقومِهم. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/145). وقيل: نُهوا عن ذلك؛ لئلَّا يَرَوا ما ينزِلُ بقومِهم مِن العذابِ فيرقُّوا لهم، وليوطِّنوا نفوسَهم على المهاجَرةِ، ويُطيِّبوها عن مساكنِهم. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/584). .
وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ.
أي: واذهَبوا إلى المكانِ الذي تُؤمَرونَ بالمضيِّ إليه [422] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/87)، ((تفسير النيسابوري)) (4/230)، ((تفسير الشربيني))  (2/208)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/65). .
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66).
أي: وأوحَينا إلى لوطٍ ما قدَّرْناه من الأمرِ العظيمِ؛ أنَّ جميعَ قَومِه مُهلَكونَ عن آخِرِهم هَلاكَ استِئصالٍ مَطْلَعَ صَباحِ لَيلتِهم [423] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/89)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 594)، ((تفسير الرازي)) (19/155)، ((تفسير القرطبي)) (10/39)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/73)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/65). .
كما قال تعالى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود: 81] .
وقال سبحانه: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ [الحجر: 73] .
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67).
أي: وجاء أهلُ مدينةِ قَومِ لُوطٍ إلى بيتِ لُوطٍ فَرِحينَ مَسرورينَ، يُبَشِّرُ بَعضُهم بعضًا بقُدومِ أضيافِ لُوطٍ؛ طَمعًا في فِعلِ الفاحشةِ بهم [424] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/90)، ((تفسير القرطبي)) (10/39)، ((تفسير الخازن)) (3/59)، ((تفسير ابن كثير)) (4/542)، ((تفسير السعدي)) (ص: 433)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/286). قال الشنقيطي: (سببُ استبشارِ قَومِ لُوطٍ أنَّهم ظَنُّوا الملائكةَ شَبابًا من بني آدم، فحَدَّثَتهم أنفُسُهم بأن يَفعَلوا بهم فاحِشةَ اللُّواط). ((أضواء البيان)) (2/286). قال الخازن: (وذلك أنَّ الملائكةَ لَمَّا نَزَلوا على لوطٍ، ظهَرَ أمرُهم في المدينة، وقيل: إنَّ امرأته أخبَرَتهم بذلك، وكانوا شبانًا مُردًا في غاية الحُسن، ونهايةِ الجمالِ، فجاء قومُ لوطٍ إلى دارِه؛ طمعًا منهم في ركوبِ الفاحشةِ). ((تفسير الخازن)) (3/59). !
كما قال تعالى: وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ [هود: 78] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر: 37].
قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68).
أي: قال لُوطٌ لِقَومِه: إنَّ هؤلاء الذين تُريدونَ فِعلَ الفاحِشةِ بهم ضُيوفي، وحَقٌّ على الرجُلِ إكرامُ ضُيوفِه، فلا تَفضَحوني في ضُيوفي بتعاطي ذلك الفِعلِ القَبيحِ، فيَلحَقَني العارُ [425] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/90)، ((الوسيط)) للواحدي (3/48-49)، ((تفسير القرطبي)) (10/39)، ((تفسير أبي حيان)) (6/489)، ((تفسير الشوكاني)) (3/165)، ((تفسير السعدي)) (ص: 433). قال أبو حيان: (والظاهِرُ أنَّ هذا المجيءَ ومحاورتَه مع قومِه في حَقِّ أضيافه، وعَرْضَه بناتِه عليهم؛ كان ذلك كلُّه قبل إعلامِه بهلاكِ قومِه، وعِلمِه بأنَّهم رسُلُ الله؛ ولذلك سمَّاهم ضِيفانًا خَوفَ الفضيحةِ). ((تفسير أبي حيان)) (6/489). وقال ابنُ كثيرٍ: (هذا إنَّما قاله لهم قبلَ أن يعلمَ بأنَّهم رسُلُ الله، كما قال في سياقِ سورةِ هودٍ، وأمَّا هاهنا فتقدَّمَ ذِكرُ أنهم رسُلُ الله، وعطفَ بذكرِ مجيءِ قومِه ومحاجَّته لهم. ولكنَّ الواوَ لا تقتضي الترتيبَ، ولا سيما إذا دلَّ دليلٌ على خلافِه). ((تفسير ابن كثير)) (4/542). .
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69).
أي: وخافُوا اللهَ أن يُحِلَّ بكم عَذابَه، ولا تُذِلُّوني وتُهينوني بالتعَرُّضِ لضيوفي بمَكروهٍ [426] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/90)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/66)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/188). وممن ذهب إلى أنَّ الخِزيَ هنا بمعنى الذُّلِّ والإهانة: ابنُ جرير، وابنُ عاشور، والشنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن ذهب إلى أنَّه بمعنى الخجل: البغوي. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/62). وقال القرطبي: (يجوز أن يكونَ مِن الخِزيِ: وهو الذلُّ والهوان، ويجوزُ أن يكون مِن الخزاية: وهو الحياءُ والخجَل). ((تفسير القرطبي)) (10/39). ويُنظر:  ((تفسير أبي حيان)) (6/489). .
قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70).
أي: قال قَومُ لُوطٍ له: أولَم نَنهَك- يا لُوطُ- عن ضيافةِ أحدٍ من النَّاسِ؟ فنحن قد أنذَرْناك، ومَن أنذَرَ فقد أعذَرَ [427] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/90)، ((تفسير ابن كثير)) (4/542)، ((تفسير السعدي)) (ص: 433). .
  قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71).
أي: قال لُوطٌ لِقَومِه: تزوَّجوا مِن نسائِكم [428] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/582)، ((تفسير ابن كثير)) (3/158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 240)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة المائدة)) (2/217-218). ذهب بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ المرادَ بـ بَنَاتِي: نساءُ أمَّتي؛ لكونِ النبيِّ بمنزلةِ الأبِ لِقَومِه. وممَّن ذهَب إلى ذلك في الجملةِ: ابنُ جريرٍ، والزجَّاجُ، والزمخشري، وابنُ العربي، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/91)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/183)، ((تفسير الزمخشري)) (2/585)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/104)، ((تفسير ابن كثير)) (4/542). وممن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السلفِ: قتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/91)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (7/2269). وقيل: المراد بهنَّ: بناتُ لوطٍ عليه السلام، فعرَضَ على قومه التزوُّجَ بهنَّ إن أسلَموا. وممن ذهَب إلى هذا القولِ: البغوي، والخازنُ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/62)، ((تفسير الخازن)) (3/60). ، ولا تَفعَلوا ما حرَّمَ اللهُ عليكم من إتيانِ الذُّكورِ، إن كنتُم فاعلينَ [429] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/91)، ((تفسير البغوي)) (3/62)، ((تفسير القرطبي)) (10/39)، ((تفسير الشوكاني)) (3/165). وفي معنى إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ أقوال: قيل: المراد: إن كنتم فاعلينَ ما آمرُكم به. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابن جرير، والبغوي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/91)، ((تفسير البغوي)) (3/62). وقيل: المرادُ: إن كنتُم مريدينَ لهذا الشَّأنِ- يعني: اللذَّةَ وقَضاءَ الوطَرِ- فعليكم بالتَّزويجِ ببناتي. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الزجَّاج، والواحدي، والشوكاني. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/183)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 595)، ((تفسير الشوكاني)) (3/165). وقيل: هذا شَكٌّ في قَبولِهم لقولِه، كأنَّه قال: إن فعلتُم ما أقولُ لكم، وما أظنُّكم تفعلونَ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الزمخشري، وأبو حيان، والألوسي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/585)، ((تفسير أبي حيان)) (6/489)، ((تفسير الألوسي)) (7/315). .
كما قال تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ [هود: 78-79] .
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72).
أي: أُقسِمُ بحَياتِك- يا محمَّدُ- إنَّ قومَ لوطٍ لَفي ضَلالتِهم وجَهلِهم وغَفلتِهم يتحيَّرونَ، ولا يهتدونَ؛ بسبَبِ سَكرةِ الهَوى والعِشقِ [430] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/370)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 429، 430)، ((تفسير السعدي)) (ص: 433). وممن اختار هذا المعنى المذكورَ: ابنُ عطيةَ، وابنُ القيِّم، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. ونسَبه الواحدي لعامةِ المفسِّرين، وابنُ الجوزي لأكثرِهم. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (12/634-635)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/538). وقيل: المرادُ بقولِه: إِنَّهُمْ المشركونَ في زمنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وممن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، والسمرقندي، والواحدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/91)، ((تفسير السمرقندي)) (2/260)، ((البسيط)) للواحدي (12/634، 635). قال القاضي عياض: (اتَّفق أهلُ التفسير في هذا أنَّه قسَمٌ من الله جلَّ جلالُه بمُدَّة حياةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم). ((الشفا بتعريف حقوق المصطفى)) (1/31). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/39)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 429). .
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73).
أي: فأخَذَتْهم صيحةٌ عَظيمةٌ هائِلةٌ مُهلِكةٌ، وقتَ شُروقِ الشَّمسِ [431] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/93)، ((تفسير القرطبي)) (10/42)، ((تفسير البيضاوي)) (3/215)، ((تفسير ابن كثير)) (4/543)، ((تفسير السعدي)) (ص: 433). قال الواحدي: (قال المفسِّرون: صاح بهم جبريلُ صَيحةً أهلكَتهم، وقال أهل المعاني: ويجوزُ أن يكون جاءهم صوتٌ عظيمٌ مِن فِعلِ الله عز وجل). ((البسيط)) (12/636). قال الرازي: (قال أهلُ المعاني: ليس في الآيةِ دلالةٌ على أنَّ تلك الصَّيحةَ صيحةُ جبريلَ عليه السَّلامُ، فإنْ ثبت ذلك بدليلٍ قويٍّ قيل به، وإلا فليس في الآية دَلالةٌ إلَّا على أنه جاءتهم صيحةٌ عظيمةٌ مهلكة). ((تفسير الرازي)) (19/156). قال الواحدي: (يقال: إنَّ أوَّلَ العذابِ كان مع طلوعِ الصُّبحِ، ثمَّ امتدَّ إلى شروقِ الشَّمسِ؛ لذلك قال: مُصْبِحِينَ، ثم قال: مُشْرِقِينَ). ((الوسيط)) (3/49). وقال ابنُ عطية: (أُهلِكوا بعد الفجرِ مُصبِحينَ، واستوفاهم الهلاكُ مُشرِقينَ). ((تفسير ابن عطية)) (3/370). .
فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74).
فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا.
أي: قَلَبْنا عَليهم مدينَتَهم، فجَعَلْنا أعلاها أسفَلَها [432] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/94)، ((تفسير ابن كثير)) (4/543)، ((تفسير السعدي)) (ص: 433). .
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ.
أي: وأنزَلْنا عليهم حِجارةً مِن طينٍ مُتحَجِّرٍ [433] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/94)، ((تفسير ابن عطية)) (3/370)، ((تفسير الشوكاني)) (3/166). .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75).
أي: إنَّ في قصَّةِ قَومِ لوطٍ وما فَعَلْناه بهم من العذابِ، وبقاءِ آثارِ هَلاكِهم، لَعلاماتٍ للمُتفَرِّسينَ المتأمِّلينَ المتفَكِّرينَ، الذين لهم فِكرٌ وفِراسةٌ يفهمونَ بها ما أُريدَ بذلك، فيَعتَبِرونَ [434] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/94)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/118)، ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 12)، ((تفسير ابن كثير)) (4/543)، ((تفسير السعدي)) (ص: 433). قال ابنُ القيم: (قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قال مجاهد رحمه الله: المتفَرِّسين. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: للنَّاظرينَ. وقال قتادةُ: للمعتبرينَ. وقال مقاتلٌ: للمتفكِّرين. ولا تنافيَ بين هذه الأقوال؛ فإنَّ الناظرَ متى نظر في آثارِ ديار المكذِّبين ومنازلِهم، وما آلَ إليه أمرُهم؛ أورَثَه فِراسةً وعِبرةً وفِكرةً. وقال تعالى في حقِّ المنافقين: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد: 30] ، فالأوَّلُ: فِراسةُ النَّظَر والعينِ، والثاني: فِراسةُ الأذنِ والسَّمع). ((مدارج السالكين)) (2/452). ويُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/286، 287). .
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76).
أي: وإنَّ مدينةَ قَومِ لُوطٍ لَفي طريقٍ باقٍ واضحٍ ثابتٍ يَسلُكُه النَّاسُ، فيَرى كُلُّ مَن يمُرُّ بها آثارَ تَدميرِها [435] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/97)، ((تفسير القرطبي)) (10/45)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (19/98)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 301)، ((تفسير ابن كثير)) (4/544)، ((تفسير السعدي)) (ص: 433)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/70)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/288). قال القرطبي: (قولُه تعالى: وَإِنَّهَا يعني: قُرى قومِ لوطٍ. لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي: على طريقِ قَومِك- يا محمَّدُ- إلى الشَّامِ). ((تفسير القرطبي)) (10/45). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/70)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/288). .
كما قال تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الصافات: 137-138] .
وقال سُبحانه: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد: 10] .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77).
أي: إنَّ في إهلاكِنا قَومَ لُوطٍ، وإنجائِنا لوطًا وأهلَه المؤمنينَ، لعلامةً ودَلالةً واضِحةً للمُؤمِنينَ على انتقامِ اللهِ مِن الكافرينَ، وإنجائِهم مِن بيْنِ أيديهم سالِمينَ آمِنينَ [436] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/99)، ((تفسير ابن كثير)) (4/544). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ يبيِّنُ أنَّ كُلَّ مَن آمن باللهِ، وصَدَّق الأنبياءَ والرسُلَ، عرَفَ أنَّ ما وقع بقومِ لوطٍ إنَّما كان لأجلِ أنَّ اللهَ تعالى انتقَمَ لأنبيائِه مِن أولئك الجُهَّالِ، أمَّا الذين لا يُؤمِنونَ باللهِ، فإنَّهم يَحمِلونَه على حوادِثِ العالَمِ ووقائِعِه [437] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/156). .
2- في هذه القِصَّةِ مِن العِبَر: أنَّ الله تعالى إذا أراد أن يُهلِكَ قريةً ازداد شَرُّهم وطُغيانُهم، فإذا انتهَى أوقَعَ بهم مِن العقوباتِ ما يستحِقُّونَه، قال تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [438] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 433). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ فأمَر لوطًا عليه السلام أن يكونَ مِن ورائِهم، وتلمَّس العلماءُ أوجهَ الحكمةِ في ذلك، ومنها:
أولًا: أنه أُمِر أن يكونَ مِن ورائِهم لِئلَّا يتخَلَّفَ منهم أحدٌ فينالَه العذابُ [439] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/38). ، فهذا أحفَظُ لهم [440] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/541). .
ثانيًا: ليكونَ أقرَبَهم إلى الملائكةِ وإلى محَلِّ العذابِ؛ لأنَّه أثبتُهم قَلبًا، وأعرَفُهم بالله، وقد جَرَت عادةُ الكُبَراءِ أن يكونوا أدنى جماعتِهم إلى الأمرِ المَخوفِ؛ سَماحًا بأنفُسِهم، وتَثبيتًا لِغَيرِهم.
ثالثًا: لئلَّا يشتَغِلَ قلبُه بمن خلفَه [441] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/72). .
رابعًا: ليكونَ كالحائلِ بينَهم وبينَ العذابِ الذي يحُلُّ بقَومِه بعَقِبِ خُروجِه؛ تنويهًا ببركةِ الرَّسولِ عليه السَّلامُ.
خامسًا: لأنَّهم أمَروه ألَّا يلتفِتَ أحدٌ مِن أهلِه إلى ديارِ قَومِهم؛ لأنَّ العذابَ يكونُ قد نزل بديارِهم، فبِكونِه وراءَ أهلِه يخافونَ الالتفاتَ؛ لأنَّه يُراقِبُهم [442] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/64). .
2- قَولُ الله تعالى: وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ تعبيرُه بالمضارعِ في قَولِه: تُؤْمَرُونَ يُشعِرُ بأنَّه يكونُ معهم بعضُ الملائكةِ عليهم السَّلامُ [443] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/73). .
3- ذكَّرَ لوطٌ قَومَه بالوازعِ الدِّينيِّ- وإن كانوا كفَّارًا- استقصاءً للدَّعوةِ التي جاء بها، وبالوازعِ العُرفيِّ؛ فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ [444] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/66). .
4- في قَولِه تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قسَمٌ مِن اللهِ بحياةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذا من أعظَمِ فَضائِلِه؛ أن يُقسِمَ الرَّبُّ- عَزَّ وجَلَّ- بحياتِه، وهذه مَزِيَّةٌ لا تُعرَفُ لِغَيرِه [445] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 429). . فما أقسَمَ الله بحياةِ أحَدٍ؛ وذلك يدُلُّ على أنَّه أكرَمُ الخَلقِ على اللهِ تعالى [446] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/156). .
5- قال الله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ كَرِه كثيرٌ مِن العُلَماءِ أن يقولَ الإنسانُ: لَعَمْرِي؛ لأنَّ معناه: وحَيَاتي، وإن كان اللهُ سُبحانَه أقسَمَ به في هذه القِصَّةِ؛ فذلك بَيانٌ لِشَرَفِ المنزلةِ والرِّفعةِ لِمَكانِه، فلا يُحمَلُ عليه سِواه، ولا يُستعمَلُ في غَيرِه [447] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/40). .
6- قال الله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فعمرُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم هو عُمُرٌ شَريفٌ عَظيمٌ أهلٌ أن يُقسمَ اللهُ به؛ لِمَزيَّتِه على كُلِّ عُمُرٍ مِن أعمارِ بني آدمَ، ولا ريبَ أنَّ عُمُرَه وحياتَه مِن أعظَمِ النِّعَمِ والآياتِ، والقَسَمُ به أَولى من القسَمِ بغَيرِه من المَخلوقاتِ [448] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 430). .
7- قال الله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ إنَّما وصَفَ اللهُ- سُبحانَه- اللُّوطيَّةَ بالسَّكرةِ؛ لأنَّ سَكرةَ العِشقِ مِثلُ سَكرةِ الخَمرةِ [449] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 430). .
8- في قَولِه تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ وصَفَهم الله تعالى بالسَّكرةِ التي هي فَسادُ العَقلِ، والعَمَهِ الذي هو فسادُ البَصيرةِ، فالتعلُّقُ بالصُّوَرِ يُوجِبُ فَسادَ العَقلِ، وعَمَهَ البصيرةِ، وسُكْرَ القَلبِ [450] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 179). .
9- قَولُ الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أصلٌ في الفِراسةِ [451] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:160). والفِراسَة هي الاستدلالُ بالأمورِ الظَّاهرةِ على الأمورِ الخفيَّةِ. يُنظر: ((كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم)) للتهانوي (2/1265)، ((موسوعة الأخلاق)) إعداد القسم العلمي بالدُّرر السَّنية (2/329). .
10- في قَولِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ بيَّنَ تعالى أنَّه تارِكٌ آثارَ القَومِ المعذَّبينَ للمُشاهَدةِ، ولِيُستدَلَّ بذلك على عُقوبةِ اللهِ لهم [452] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/214). ، فالنَّاظِرُ متى نَظرَ في آثارِ ديارِ المكذِّبينَ ومنازلِهم؛ وما آلَ إليه أمرُهم؛ أورثَه فِراسةً وعِبرةً وفِكرةً [453] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/452). .
11- في هذه القِصَّةِ مِن العِبَرِ أنَّ لُوطًا- عليه السَّلامُ- لَمَّا كانوا أهلَ وَطَنِه، فرُبَّما أخَذَتْه الرِّقَّةُ عليهم والرَّأفةُ بهم، قَدَّرَ الله من الأسبابِ ما به يشتَدُّ غَيظُه وحَنَقُه عليهم، حتى استبطأَ إهلاكَهم لَمَّا قيل له: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [454] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 433). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ
- قولُه: قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ولم يقولوا: (بعذابِهم) مع حصولِ الغرضِ؛ ليتضمَّنَ الكلامُ الاستئناسَ مِن وجهينِ: تحقُّق عذابِهم، وتحقُّق صدقِه عليه السلامُ، ففيه تذكيرٌ لما كان يُكابِدُ منهم مِن التكذيبِ. وقيل: وقد كنَّى عليه السلامُ عن خوفِه ونفارِه بأنَّهم (منكرونَ) فقابَلوه عليه السلامُ بكنايةٍ أحسنَ وأحسنَ [455]  يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (7/311). .
2- قولُه تعالى: وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ المُرادُ بالحقِّ: الإخبارُ بمَجِيءِ العَذابِ المَذكورِ، وقولُه: وَإِنَّا لَصَادِقُونَ تأكيدٌ له، أي: أتيناك فيما قُلْنا بالخبَرِ الحقِّ، أي: المُطابقِ للواقِعِ، وَإِنَّا لَصَادِقُونَ في ذلك الخبَرِ، أو في كلِّ كلامٍ؛ فيكونُ كالدَّليلِ على صِدْقِهم فيه، وعلى الأوَّلِ تأكيدٌ إثْرَ تأكيدٍ [456] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/84). .
3- قوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ
- قولُه: وَاتَّبِعْ فيه إيثارُ (الاتِّباعِ) على السَّوقِ، مع أنَّه المقصودُ بالأمْرِ، ولعلَّ ذلك للمُبالغةِ في ذلك؛ إذ السَّوقُ رُبَّما يكونُ بالتَّقدُّمِ على بعضٍ مع التَّأخُّرِ عن بعضٍ، ويلزَمُه عادةً الغَفلةُ عن حالِ المُتأخِّرِ [457] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/84). .
- قولُه: وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يحتملُ أنْ يكونَ النَّهيُ عن الالتفاتِ كِنايةً عن مُواصلةِ السَّيرِ، وتَرْكِ التَّواني والتَّوقُّفِ؛ لأنَّ مَن يلتفِتُ لا بُدَّ له في ذلك مِن أدنى وَقفةٍ [458] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/584). .
- قولُه: وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ فيه حَذفٌ، والتَّقديرُ: إلى حيث أمَرَكم اللهُ تعالى بالمُضِيِّ إليه وهو الشَّامُ أو مِصرُ، وإيثارُ المُضِيِّ إلى ما ذُكِرَ على الوصولِ إليه واللُّحوقِ به؛ للإيذانِ بأهميَّةِ النَّجاةِ، ولمُراعاةِ المُناسَبَةِ بينه وبين ما سلَفَ مِن الغابرينَ [459] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/84). .
4- قوله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ
- قولُه: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ، في قولِه: ذَلِكَ الْأَمْرَ إبهامٌ؛ للتَّهويلِ، والإشارةُ للتَّعظيمِ، أي: الأمْرُ العظيمُ، ومَقْطُوعٌ، أي: مُزالٌ، وهو كِنايةٌ عنِ استئصالِهم كلِّهم [460] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/65). ، وأشار بصيغةِ المفعولِ مَقْطُوعٌ إلى عظمتِه سبحانَه، وسهولةِ الأمرِ عندَه [461]  يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/73). ، وفيه إيثارُ اسمِ الإشارةِ على الضَّميرِ؛ للدَّلالةِ على اتِّصافِهم بصِفاتِهم القَبيحةِ الَّتي هي مَدارُ ثُبوتِ الحُكمِ، أي: دابِرُ هؤلاء المُجرمينَ [462] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/84). .
- في قَولِه: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ تَبيينٌ بعدَ إجمالٍ، وهو أوقَعُ في النَّفسِ؛ فقولُه تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ عندَ الوقوفِ على قولِه: الْأَمْرَ؛ يُستفهَمُ: ما هذا الأمرُ؟ فيأتي التبيينُ بقولِه: أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ وهو كِنايةٌ عن الاستِئصالِ، ثمَّ إنَّه فسَّرَ بعدَ ذلك القضاءَ المَبتوتَ بقولِه: أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ، وفي إبهامِه أوَّلًا وتَفسيرِه ثانيًا: تَفخيمٌ للأمْرِ، وتَعظيمٌ له [463] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/584)، ((تفسير الرازي)) (19/154)، ((تفسير البيضاوي)) (3/215)، ((تفسير أبي حيان)) (6/488)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 306). .
- وعُدِّيَ قَضَيْنَا بـ (إلى)؛ لأنَّه ضُمِّنَ مَعنى: (أوحينا)، كأنَّه قيل: وأوحينا إليه مَقْضِيًّا مَبْتوتًا [464] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/584). .
- وأيضًا فيه إيرادُ صِيغَةِ المفعولِ مَقْطُوعٌ بدَلَ صِيغَةِ المُضارعِ (يُقْطَعُ)؛ لكونِها أدخَلَ في الدَّلالةِ على الوُقوعِ. وفي لفظِ القضاءِ وَقَضَيْنَا، والتَّعبيرِ عن العذابِ بالأمْرِ، والإشارةِ إليه بذلك، وتأخيرِه عن الجارِّ والمجرورِ، وإبهامِه أوَّلًا، ثمَّ تفسيرِه ثانيًا: دَلالةٌ على فَخامةِ الأمْرِ وفَظاعتِه [465] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/84). .
5- قوله تعالى: وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ
- قولُه: يَسْتَبْشِرُونَ فيه التَّعبيرُ بصِيغَةِ المُضارعِ؛ لإفادةِ التَّجدُّدِ مُبالغةً في الفرَحِ [466] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/66). .
6- قوله تعالى: قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ
- قولُه: إِنَّ هَؤُلَاءِ فيه التَّأكيدُ بـ إِنَّ وهو ليس لإنكارِهم ذلك، بل لتَحقيقِ اتِّصافِهم به، وإظهارِ اعتنائِه بشأْنِهم، وتَشمُّرِه لمُراعاةِ حُقوقِهم وحِمايتِهم مِن السُّوءِ؛ ولذلك قال: فَلَا تَفْضَحُونِ [467] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/85). .
7- قوله تعالى: قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ
- قولُه: أَوَلَمْ الاستفهامُ إنكاريٌّ، والمعطوفُ هو الإنكارُ؛ فالهمزةُ للاستفهامِ والإنكارِ، والواوُ للعطفِ على مَحذوفٍ مُقدَّرٍ، أي: ألَمْ نتقدَّمْ إليك ولَمْ ننْهَكَ عن التعرضِ لهم بمنعِهم عنا وضيافتِهم؟ وقيل: الواوُ في أَوَلَمْ نَنْهَكَ عطفٌ على كلامِ لوطٍ- عليه السلامُ- جارٍ على طريقةِ العطفِ على كلامِ الغيرِ. وتعديةُ النهيِ إلى ذاتِ العالمينَ على تقديرِ مضافٍ دلَّ عليه المقامُ، أي: ألم ننهك عن حمايةِ الناسِ أو عن إجارتِهم [468]  يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/85)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/67)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/254). ؟
8- قوله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ جملةٌ مُعتَرِضةٌ بين أجزاءِ القِصَّةِ؛ للعبرةِ في عدمِ جَدوى المَوعِظةِ فيمَن يكونُ في سَكرةِ هواه [469] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/67). .
- قولُه: لَعَمْرُكَ هذه صِيغَةُ قسَمٍ، واللَّامُ الدَّاخِلةُ على لفظِ (عَمْر) لامُ القسَمِ، والعَمْرُ- بفتحِ العَينِ وسُكونِ اللَّامِ- أصلُه لُغَةٌ في (العُمُرِ) بضَمِّ العينِ؛ فخُصَّ المفتوحُ بصِيغَةِ القسَمِ لخِفَّتِه بالفتحِ؛ لأنَّ القسَمَ كثيرُ الدَّورانِ في الكلامِ؛ فهو قسَمٌ بحياةِ المُخاطَبِ به وهو النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والقسَمُ باسمِ أحدٍ تَعظيمٌ له؛ فاسْتُعْمِلَ لفْظُ القسَمِ كِنايةً عنِ التَّعظيمِ [470] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/68). .
- قولُه: لَفِيَ سَكْرَتِهِمْ السَّكرةُ: ذَهابُ العقْلِ، وأُطْلِقَت هنا على الضَّلالِ؛ تَشبيهًا لغَلَبةِ دَواعي الهَوى على دَواعي الرَّشادِ بذَهابِ العقْلِ وغَشْيتِه؛ فكَنَّى عنِ الضَّلالةِ والغَفلةِ بالسَّكرةِ [471] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/490)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/68). .
9- قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ للْمُتَوَسِّمِينَ تَذييلٌ، والمتوسِّمون: أصحابُ التوسُّم، وهو التأمُّلُ في السِّمةِ، أي: العَلامةِ الدالَّةِ على المَعْلَم، والمراد: للمُتأمِّلين في الأسبابِ وعواقبِها، وأولئك هم المؤمِنون، وفيه تَعريضٌ بالَّذين لم تَرْدَعْهم العِبرُ بأنَّهم دونَ مَرتبةِ النَّظرِ؛ تَعريضًا بالمُشركينَ الَّذين لم يتَّعِظوا بأنْ يحُلَّ بهم ما حَلَّ بالأُمَمِ مِن قبْلِهم الَّتي عَرَفوا أخبارَها، ورَأَوا آثارَها؛ ولذلك أعقَبَ الجُملةَ بجُملةِ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ، أي: المدينةَ المذكورةَ آنفًا هي بطريقٍ باقٍ، يُشاهِدُ كثيرٌ منكم آثارَها في بِلادِ فلسطينَ في طَريقِ تِجارتِكم إلى الشَّامِ وما حولَها، وهذا كقولِه: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [472] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/69- 70). [الصافات: 137- 138] .
10- قولُه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ تَذييلٌ، وعُبِّرَ في التَّذييلِ بالمُؤمنينَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ المُتوسِّمينَ هم المُؤمنونَ [473] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/70). .
- وفي قوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث جمَعَ الآيةَ أوَّلًا فقال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ، ووحَّدَها ثانيًا هنا في قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنينَ، والقِصَّةُ واحدةٌ؛ فاختُصَّت التي في هذا الموضعِ بالآيةِ على التَّوحيدِ، والسابقةُ بالآياتِ على الجَمْع؛ وهذا لأنَّ (ذلك) في قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ إشارةٌ إلى ما قَصَّ مِن حديثِ لُوطٍ وضَيفِ إبراهيمَ، وتعرُّضِ قومِ لُوطٍ لهم طَمعًا فيهم، وما كان مِن أمْرِهم آخرًا؛ مِن إهلاكِ الكفَّارِ، وقلْبِ المدينةِ على مَن فيها،...إلخ،  وهذه أشياءُ كثيرةٌ، في كلِّ واحدةٍ منها آيةٌ، وفي جميعِها آياتٌ لمَن يتوسَّمُ؛ فكان ذِكْرُ الآياتِ هاهنا أَولى وأشبَهَ بالمعنى، وأمَّا قولُه: لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ؛ فلأنَّ قبْلَها: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ، أي: تلك المدينةُ المقلوبةُ ثابتةُ الآثارِ، مُقيمةٌ للنُّظارِ، فكأنَّها بمَرأى العُيونِ؛ لبَقاءِ آثارِها، وهذه واحدةٌ مِن تلك الآياتِ؛ فلذلك جاء عَقِيبَها: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ؛ فجمَعَ أوَّلًا باعتبارِ تَعدُّدِ ما قَصَّ مِن حديثِ لُوطٍ، وضَيفِ إبراهيمَ، ووحَّدَ ثانيًا باعتبارِ وَحدَةِ قَريةِ قَومِ لُوطٍ، المُشارِ إليها بقولِه: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [474] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/818-820)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 156-157)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/291-292)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:299-300)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/69- 70). .