موسوعة التفسير

سورةُ العَنكَبوتِ
الآيات (28-30)

ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْفَاحِشَةَ: أي: الفَعلةَ القَبيحةَ الشَّنيعةَ، وهي هنا إتيانُ الذُّكورِ، وأصلُ (فحش): يدُلُّ على قُبحٍ في شَيءٍ وشَناعةٍ .
نَادِيكُمُ: أي: مَجلِسِكم، وأصلُ (ندي) هنا: يدُلُّ على تجمُّعٍ .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبَيِّنًا ابتلاءَ لُوطٍ بقومِه وابتلاءَهم به: واذكُرْ -يا محمَّدُ- لوطًا حينَ قال لِقَومِه: إنَّكم لَتَفعَلونَ الفاحِشةَ الشَّنيعةَ ما سبَقَكم بها أحدٌ مِن العالَمينَ؛ أئِنَّكم لَتُجامِعونَ الرِّجالَ، وتَقطَعونَ الطَّريقَ على المسافِرينَ، وتأتونَ في مَجالِسِكم قَبيحَ الأقوالِ والأعمالِ! فما كان جوابَ قَومِ لوطٍ إلَّا أنْ قالوا له: ائْتِنا بعَذابِ اللهِ إنْ كُنتَ مِن الصَّادِقينَ، قال لوطٌ: رَبِّ انصُرْني على هؤلاءِ القَومِ المُفسِدينَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) .
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
الانتِقالُ مِن رِسالةِ إبراهيمَ إلى قَومِه، إلى رِسالةِ لوطٍ؛ لِمُناسَبةِ أنَّه شابَهَ إبراهيمَ في أن أنجاه اللهُ مِن عذابِ الرِّجزِ .
وأيضًا لَمَّا قَصَّ اللهُ علينا قَصَصَ إبراهيمَ وما لاقاه مِن قَومِه، ثمَّ نَصْرَه له نَصرًا مُؤَزَّرًا- أعقَبَه بقَصَصِ لُوطٍ؛ إذ كان مُعاصِرًا له، وكان إبراهيمُ سَبَقَه إلى الدَّعوةِ إلى اللهِ .
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ.
أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- نَبيَّنا لُوطًا حينَ قال لِقَومِه المُشرِكينَ: إنَّكم لَتَفعَلونَ ما تَجاوَزَ الحَدَّ في القُبحِ والشَّناعةِ، وذلك بإتيانِ الذُّكورِ في أدبارِهم !
مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ.
أي: ما سَبَقكم إلى فِعلِ هذه الفاحِشةِ أحَدٌ مِن الأُمَمِ قَبْلَكم، وإنَّما هو شَيءٌ ابتَدَعْتُموه أنتم .
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29).
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ.
أي: أئنَّكم لَتُجامِعونَ الرِّجالَ في أدبارِهم ؟!
كما قال سبحانه وتعالى: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ [الأعراف: 81] .
وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ.
أي: وتَقطَعونَ الطَّريقَ على المارَّةِ والمُسافِرينَ ؟!
وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ.
أي: وتَفعَلونَ في مَجالِسِكم التي تجتَمِعونَ فيها ما قَبُحَ مِن الأقوالِ والأعمالِ ؟!
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
أي: فما كان جوابَ قَومِ لُوطٍ على دَعوتِه لهم، وإنكارِه عليهم إلَّا أنْ قالوا له: ائْتِنا بعذابِ اللهِ إن كُنتَ مِن الصَّادِقينَ في زَعمِك أنَّك رَسولٌ مِن عندِ اللهِ، وفيما تَتَوعَّدُنا به مِنَ العذابِ على أعمالِنا !
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) .
أي: قال لوطٌ: رَبِّ انصُرْني بإهلاكِ هؤلاء القَومِ المُشرِكينَ العاصينَ بإتيانِ القبائِحِ، الَّذين يُفسِدونَ أنفُسَهم وغَيرَهم مِنَ النَّاسِ .
كما قال تعالى: قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ [الشعراء: 167 - 169] .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- قال الله تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ الأمرُ بذِكْرِ هؤلاءِ الفُضَلاءِ مِن الأنبياءِ ليس لمجرَّدِ الثَّناءِ عليهم، وإعلاءِ رُتبَتِهم بيْنَ النَّاسِ، بل لهذا الغَرَضِ ولِغَرَضٍ آخَرَ، وهو الاقتداءُ بهم، واتِّباعُهم، والصَّبرُ كما صَبَروا .
2- في قَولِه تعالى: مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ أنَّه يَنبغي ذِكْرُ ما يُنَفِّرُ عن العَمَلِ السَّيِّئِ، ووجْهُ كونِه مُنَفِّرًا أنَّهم ليس لهم قُدوةٌ حتَّى يُعذَرُوا بها، وكذلك آثامُ مَن بعْدَهم تكونُ عليهم !
3- قال الله تعالى: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّه لا ينبغي للمُجتَمِعينَ أن يَتعاشَروا إلَّا على ما يُقَرِّبُ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ولا ينبغي أن يجتَمِعوا على الهُزءِ واللَّعِبِ .
4- في قَولِه تعالى: قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أنَّ لوطًا حَذَّرَهم مِن عذابِ اللهِ؛ ففيه أنَّه ينبغي للدَّاعِيةِ أنْ يَدعوَ مُبَشِّرًا ومُنْذِرًا، ولا يقولَ: إذا أنذَرتُ نَفَّرْتُ؛ لأنَّ الإنذارَ قد يكونُ لا بُدَّ منه .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- هذه القِصَّةُ كغَيرِها مِن القِصصِ تَرِدُ في القرآنِ الكريمِ على وُجوهٍ مُتنَوِّعةٍ، فكيف نجمَعُ بيْنَ هذه الوُجوهِ في قِصَّةٍ واحدةٍ؟
نقولُ في الجَمعِ: إن كان ممَّا يمكِنُ أن يَتكَرَّرَ فإنَّها تكونُ قد تكرَّرت على الوجهَينِ، وإن كان ممَّا لا يمكِنُ تكَرُّرُه فإنَّ الله تعالى يحكيها بالمعنى هذا تارةً، وبالمعنى هذا تارةً.
مِثالُ ذلك: يقولُ اللهُ سُبحانَه وتعالى في هذه الآيةِ في قِصَّةِ لُوطٍ: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، وفي آيةٍ أخرى: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [النمل: 54] ؛ ففي هذه الآيةِ قال سُبحانَه وتعالى: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ، وفي الآيةِ الأولى قال: مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ وهذا اختِلافٌ، والجَمعُ بيْنَهما هو تعدُّدُ القَولِ؛ فمَرَّةً قال لهم: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ، ومرَّةً قال لهم: مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، وهذا لا إشكالَ فيه؛ فإذا أمكنَ التَّعَدُّدُ -سواءٌ مِن القائِلِ أو بالقَولِ- حُمِلَ عليه، فإذا لم يُمكِنِ التَّعدُّدُ يكونُ مِن بابِ نَقلِه بالمعنى، واللهُ سُبحانَه وتعالى يَتكلَّمُ به في كُلِّ موضِعٍ بما يُناسِبُه، وبما تقتضيه البلاغةُ .
2- لم يأْتِ في قِصَّةِ لُوطٍ أنَّه دعَا قومَه إلى عِبادةِ اللهِ، كما جاء في قصَّةِ إبراهيمَ وقصَّةِ شُعَيبٍ؛ لأنَّ لُوطًا كان مِن قومِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ وفي زَمانِه، وسبَقَه إبراهيمُ إلى الدُّعاءِ لعِبادةِ اللهِ وتَوحيدِه، واشتُهِرَ أمْرُه بذلك عندَ الخلْقِ؛ فذكَرَ لُوطٌ ما اختُصَّ به مِن المنْعِ مِن الفَحشاءِ وغيرِها، وأمَّا إبراهيمُ وشُعيبٌ فجاءَا بعدَ انقراضِ مَن كان يَعبُدُ اللهَ؛ فلذلك دَعَوَا إلى عِبادةِ اللهِ .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ دَلالةٌ على أنَّها كانت فاحِشةً عندَهم قبْلَ أن يَنهاهم، بخِلافِ قَولِ مَن يَقولُ: «ما كانت فاحِشةً ولا قَبيحةً ولا سيِّئةً حتَّى نهاهم عنها»! ولهذا قال لهم: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ، وهذا خِطابٌ لِمَن يَعرِفونَ قُبحَ ما يَفعَلونَ .
4- في قَولِه تعالى: لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ عَبَّرَ بالإتيانِ كنايةً عن الجِماعِ؛ لأنَّ القُرآنَ يُكَنِّي عمَّا يُستَقبَحُ ذِكرُه بما يدُلُّ عليه، وهذا كَثيرٌ في اللُّغةِ العربيَّةِ، ومثالٌ آخَرُ مِن القُرآنِ؛ قال اللهُ تعالى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة: 223] ، فكَنَّى عنِ الجِماعِ بالإتيانِ .
5- قَولُ الله تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ فيه تشديدٌ في الإنكارِ عليهم في أنَّهم الَّذين سَنُّوا هذه الفاحِشةَ السَّيِّئةَ للنَّاسِ، وكانت لا تخطُرُ لأحدٍ ببالٍ، وإنَّ كثيرًا مِن المفاسِدِ تكونُ النَّاسُ في غَفلةٍ عن ارتكابِها؛ لعَدَمِ الاعتيادِ بها، حتَّى إذا أقْدَمَ أحدٌ على فِعلِها وشُوهِدَ ذلك منه، تَنبَّهَت الأذهانُ إليها، وتعَلَّقَت الشَّهَواتُ بها .
6- قَولُ الله تعالى: قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ عبَّروا باسمِ الجلالة (الله)؛ زيادةً في الجُرأةِ !
7- في قَولِه تعالى: قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ أنَّ مُجَرَّدَ الإيمانِ باللهِ رَبًّا مُدَبِّرًا لا يُدخِلُ الإنسانَ في الإيمانِ؛ فإنَّ هؤلاءِ القَومَ كانوا مُقِرِّينَ باللهِ؛ لِقَولِهم: بِعَذَابِ اللَّهِ؛ فليس مُجَرَّدُ كَونِ الإنسانِ يُؤْمِنُ بأنَّ للخليقةِ رَبًّا مُدَبِّرًا يُدْخِلُه في الإيمانِ .
8- قال الله تعالى: قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ذَكَر حالَ المَدْعوِّ عليهم مِن بابِ التَّوسُّلِ؛ لأنَّ كلَّ وَصْفٍ يَستوجِبُ الإجابةَ فإنه يُعَدُّ وَسيلةً، فالتَّوسُّلُ إلى الله عزَّ وجلَّ أنواعٌ، ومنها: التَّوسُّلُ بحالِ المدعوِّ عليهم .
9- في قَولِه تعالى: الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ أنَّ اللِّواطَ مِن الإفسادِ في الأرضِ ، وكذلك قَطْعُ السبيلِ، وإتيانُ المنكَرِ.

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ
- توكيدُ الجُملةِ بـ (إنَّ) واللَّامِ توكيدٌ لتَعلُّقِ النِّسبةِ بالمفعولِ لا تأكيدٌ للنِّسبةِ؛ فالمقصودُ تحقيقُ أنَّ الَّذي يَفعَلونه فاحشةٌ، أي: عمَلٌ قبيحٌ بالِغٌ الغايةَ في القُبْحِ؛ لأنَّ الفُحْشَ بُلوغُ الغايةِ في شَيءٍ قَبيحٍ؛ لأنَّهم كانوا غيرَ شاعِرينَ بشَناعةِ عمَلِهم وقُبْحِه، وهو إخبارٌ مُستعمَلٌ في التَّوبيخِ .
- قَولُه: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ فيه عَرَّفَ الفاحشةَ في اللِّواطِ، وذلك يفيدُ أنَّه جامِعٌ لمعاني اسمِ الفاحِشةِ، كما تقولُ: «زَيْدٌ الرَّجُلُ، ونِعْمَ الرَّجُلُ زَيدٌ»، أي: أتأتونَ الخَصلةَ الَّتي استقَرَّ فُحْشُها عندَ كلِّ أحدٍ؟! فهي لِظُهورِ فُحْشِها وكَمالِه غَنِيَّةٌ عن ذِكْرِها؛ بحيثُ لا يَنصرِفُ الاسمُ إلى غيرِها، ثُمَّ أَكَّدَ سبحانه بيانَ فُحْشِها بأنَّها لم يَعمَلْها أحدٌ مِنَ العالَمينَ قَبْلَهم: مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ !
- قولُه: مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ جُملةٌ مُستأنَفةٌ مُقرِّرةٌ لفَحاشةِ تلك الفعلةِ، كأنَّ قائلًا قال: لِمَ كانت فاحشةً؟ فقِيلَ له: لأنَّ أحدًا قبْلَهم لم يُقدِمْ عليها اشمئزازًا منها في طِباعِهم؛ لإفراطِ قُبْحِها، حتَّى أقدَمَ عليها قومُ لوطٍ؛ لخبثِهم وقذَرِ طِباعِهم. وقيل: إنَّ جُملةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ جُملةٌ حاليَّةٌ، كأنَّه قال: أتأتونَ الفاحشةَ مُبتدعينَ لها، غيرَ مَسبوقينَ بها ؟!
2- قوله تعالى: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
- جُملةُ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ بدَلُ اشتِمالٍ مِن مَضمونِ جُملةِ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ [العنكبوت: 28] ، باعتبارِ ما عُطِفَ على جُملةِ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ مِن قولِه: وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ...؛ لأنَّ قطْعَ السَّبيلِ وإتيانَ المُنكَرِ في نادِيهم ممَّا يَشتمِلُ عليه إتيانُ الفاحِشةِ. وأدخَلَ استِفهامَ الإنكارِ على جَميعِ التَّفصيلِ، وأُعِيدَ حَرْفُ التَّأكيدِ؛ لِتَتطابَقَ جُملةُ البَدلِ مع الجُملةِ المُبدَلِ منها؛ لأنَّ الجزءَ الأوَّلَ مِن هذه الجُملةِ المُبدَلةِ عندَ قَطْعِ النَّظرِ عمَّا عُطِفَ عليها تكونُ مِن الجُملةِ المُبدَلِ منها بمَنزلةِ البدَلِ المُطابِقِ .
- واستَفهَمَ استِفهامَ إنكارٍ وتَوبيخٍ وتقريعٍ، وبيَّن ما تلك الفاحِشةُ المُبهمةُ في قولِه: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ، وإنْ كانت مُعَيَّنةً أنَّها إتيانُ الذُّكورِ في الأدبارِ بقولِه: مَا سَبَقَكُمْ بِهَا، فقال: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ ... ؟!
- وفيه مُناسَبَةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، وقال في سُورة (النملِ): إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ [النمل: 56] ، والجمْعُ بيْنَهما: أنَّهم أوَّلًا قالوا: ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ، ثمَّ إنَّه لَمَّا كثُرَ منه الإنكارُ، وتكرَّر ذلك منه نَهيًا ووعْظًا ووَعِيدًا، قالوا: أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ، وهي المرَّةُ الأخيرةُ مِن مرَّاتِ المُقاولاتِ الجاريةِ بيْنَهم وبيْنَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
- ومِن المُناسَبةِ كذلك: أنَّه لَمَّا كان إنَّما يأمُرُهم بتَرْكِ الفواحشِ وما كانوا يَصنَعونه مِن قَبيحِ المعاصي، ويَعِدُ على ذلك بالعذابِ، وكانوا يقولونَ: إنَّ اللهَ لم يُحرِّمْ هذا، ولا يُعذِّبُ عليه، وهو يقولُ: إنَّ اللهَ حرَّمَه ويُعذِّبُ عليه، قالوا: ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ؛ فكانوا ألطَفَ في الجوابِ مِن قومِ إبراهيمَ بقولِهم: اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ؛ لأنَّه كان يَذُمُّ آلهتَهم، وعَمَد إلى أصنامِهم فكسَرَها، فكان فِعلُه هذا معهم أعظَمَ مِن قولِ لوطٍ لقَومِه، فكان جوابُهم له أنْ قالوا: اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ .
- والأمْرُ في ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ للتَّعجيزِ، وهو يَقْتضي أنَّه أنْذَرَهم العذابَ في أثناءِ دَعوتِه، ولم يَتقدَّمْ ذِكْرُ ذلك في قِصَّةِ لُوطٍ فيما مَضَى، لكنَّ الإنذارَ مِن شُؤونِ دَعوةِ الرُّسلِ .
3- قوله تعالى: قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ
- وصَفَهم بقولِه: الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ مُبالَغةً في استِنزالِ العَذابِ عليهم، وإشعارًا بأنَّهم أحِقَّاءُ بأنْ يُعجَّلَ لهم العذابُ . وأيضًا وَصَفهم بـ الْمُفْسِدِينَ؛ لأنَّهم يُفسِدون أنفُسَهم بشَناعاتِ أعمالِهم، ويُفسِدون النَّاسَ بحَمْلِهم على الفَواحشِ وتَدريبِهم بها، وفي هذا الوَصفِ تَمهيدٌ للإجابةِ بالنَّصرِ؛ لأنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفسدينَ .