موسوعة التفسير

سُورة الأنفالِ
الآيات (55-59)

ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ

غريب الكلمات:

تَثْقَفَنَّهُمْ: أي: تَجِدَنَّهم، وتظفَرَنَّ بهم، وأصلُ (ثقِف): يدلُّ على الحِذقِ في إدراكِ الشَّيءِ، وفِعلِه [765] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 76)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 168)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/382)، ((المفردات)) للراغب (ص: 173)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 131)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 104). .
فَشَرِّدْ بِهِمْ: أي: فنكِّلْ بهم، وافعَلْ بهم فعلًا من العقوبةِ يتفَرَّقُ به مَن وراءَهم، وأصلُ (شرد): يدلُّ على تنفيرٍ وإبعادٍ [766] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 180)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/269)، ((المفردات)) للراغب (ص: 449)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 131)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 219)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 542). .
فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ: أي: فاطرَحْ إليهم عَهدَهم، وأصلُ (نبذ) يدلُّ على طَرحٍ وإلقاءٍ [767] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/263)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/380)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 131)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 202). .

مشكل الإعراب:

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ
في إعرابِ هذه الآيةِ وُجوهٌ؛ بيانُها على النَّحوِ التَّالي:
- أنَّ فاعِلَ يَحْسَبَنَّ هو النبيُّ عليه الصلاةُ والسَّلامُ، والَّذِينَ مفعولُ يَحْسَبَنَّ الأوَّلُ.
- وجملةُ سَبَقُوا في مَحلِّ نَصبٍ، مفعولٌ ثانٍ، فيكون تخريجُها مثلَ قراءةِ التَّاءِ: وَلَا تحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا بِتَوجيهِ الخِطابِ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
- أنَّ الفاعِلَ مُضمَرٌ تقديرُه: (أحَدٌ) أو (حاسِبٌ) أو (مَن خَلفَهم)، والَّذِينَ وسَبَقُوا هما مَفعولَا يَحْسَبَنَّ أيضًا.
- أنَّ الفاعِلَ الَّذينَ، والمفعولُ الأوَّلُ محذوفٌ، أي: أنفُسَهم، والمفعولُ الثَّاني سَبَقُوا والتَّقديرُ: ولا يَحسبَنَّ الذينَ كَفَروا أنفُسَهم سَبَقوا.
- قولُه: إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ جملة مُستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ. وقُرِئَ بالفتحِ أنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ على حَذْفِ لامِ العِلَّةِ، أي: لأنَّهم لا يُعْجِزون [768] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي بن أبي طالب (1/318-319)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/629-630)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/623-626)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/143-144). .

المعنى الإجمالي:

يُبَيِّنُ اللَّه تعالى أنَّ أكثَرَ الدَّوابِّ التي تدبُّ على وجهِ الأرضِ شَرًّا في حكمِه وقضائِه، هم الذينَ كَفَروا، وقد سبَقَ في علمِ الله تعالى أنَّهم لا يُؤمنونَ، الذين أخذَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم العَهدَ عليهم، بأن يُسالِمَهم ويُسالِموه، ثم ينقضونَ عَهدَهم كلمَّا عاهدوه، وهم لا يتَّقونَ، ثمَّ يأمُرُ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُنكِّلَ بهم، ويُعاقِبَهم عقوبةً غليظةً إنْ لاقاهم في الحَربِ؛ حتى يكونَ ذلك عبرةً وتشريدًا لغَيرِهم من الأعداءِ، لعلَّهم يذَّكَّرونَ.
أمَّا القومُ الذين بينَه وبَينَهم عهدٌ، ويخافُ أن يَغدِروا به فينقُضوا عَهدَه- وذلك لظهورِ علاماتٍ له تدلُّ على غدرِهم- فيأمره حينئذٍ أن يُلقِيَ إليهم عَهدَهم؛ حتى يكونَ الطَّرفانِ مُستَويَينِ في العِلمِ أنْ لا عهدَ باقٍ بينهما، فيبرَأ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الغَدرِ بهم، إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَن يَغدِرُ ويخونُ عهده.
ثمَّ قال الله تعالى: لا يظننَّ الذين كَفَروا أنفُسَهم أفلَتُوا من أن يُظفَرَ بهم، وأنَّهم قد فاتُونا بأنفُسِهم فلا نقدِرُ عليهم، إنَّهم لا يُمكِنُهم الإفلاتُ مِن اللهِ تعالى، ولا الهَرَبُ منه؛ فهو قادِرٌ عليهم.

تفسير الآيات :

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا وصفَ اللهُ تعالى كلَّ الكُفَّارِ بِقَولِه: وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ؛ أفرَدَ بَعضَهم بمزيَّةٍ في الشَّرِّ والعنادِ [769] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/497). .
وأيضًا لَمَّا وصَفَهم اللهُ تعالى بالظُّلمِ في الآيةِ السَّابقة، علَّلَ اتِّصافَهم ذلك بأنَّهم كَفَروا بآياتِ رَبِّهم الذي تفَرَّدَ بالإحسانِ إليهم [770] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/308). ، فقال تعالى:
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55).
أي: إنَّ أكثَرَ الدَّوابِّ التي تدبُّ على وجهِ الأرضِ شَرًّا عند اللهِ، هم الذين كَفَروا بربِّهم، وتغلغَلَ الكُفرُ في نُفوسِهم، فهم مُستمرُّونَ على كُفرِهم، قد سبَقَ في علمِ الله تعالى أنَّهم لا يُؤمنونَ [771] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/235)، ((تفسير ابن عطية)) (2/541)، ((تفسير ابن كثير)) (4/78)، ((تفسير السعدي)) (ص: 324)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/131). .
كما قال تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 22، 23].
وقال سبحانه: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179].
وقال عزَّ وجلَّ: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 44] .
ثمَّ ذكَرَ تعالى صفةً أخرى من صفاتِهم [772] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 324). ، فقال:
الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (56).
الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ.
أي: الَّذين أخذتَ عليهم العَهدَ- يا مُحمَّدُ- وأخَذُوا عليك العَهدَ؛ بأن يُسالِموك وتُسالِمَهم، فلا يحارِبوك ولا تُحارِبَهم، ثمَّ ينقُضونَ عَهدَهم كلَّما عاهَدوك [773] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/235)، ((تفسير ابن عطية)) (2/542)، ((تفسير ابن كثير)) (4/78)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/132). قال ابنُ عطيةَ: (أجمع المتأوِّلونَ أنَّ الآيةَ نَزَلت في بني قُريظةَ، وهي بعدُ تَعُمُّ كُلَّ مَن اتَّصفَ بهذه الصِّفةِ، إلى يومِ القيامةِ). ((تفسير ابن عطية)) (2/542). .
وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ.
أي وهؤلاءِ الكُفَّارُ الذين ينقُضونَ عَهدَهم، ليست لهم تَقوى مِن الله تعالى تَحمِلُهم على الالتزامِ بفِعلِ أوامِرِه، واجتنابِ نواهِيه، ولا يخافونَ عند نَقضِهم للعَهدِ في كُلِّ مَرَّةٍ، أن يَحُلَّ بهم عذابُ اللهِ [774] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/235)، ((البسيط)) للواحدي (10/206)، ((تفسير القرطبي)) (8/30)، ((تفسير ابن كثير)) (4/78)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/133). قال ابنُ عاشورٍ: (ووقوعُ فِعلِ يَتَّقُونَ في حَيِّزِ النَّفيِ، يعُمُّ سائِرَ جِنسِ الاتِّقاءِ، وهو الجِنسُ المُتَعارَف منه، الذي يتهَمَّمُ به أهلُ المُروءاتِ والمُتَدَيِّنونَ، فيعُمُّ اتِّقاءَ اللهِ، وخشيةَ عِقابِه في الدُّنيا والآخرةِ، ويعُمُّ اتِّقاءَ العارِ، واتِّقاءَ الْمَسَبَّةِ، واتِّقاءَ سُوءِ السُّمعةِ، فإنَّ الخَسيسِ بالعَهدِ والغَدْرِ، مِن القبائِحِ عند جميعِ أهلِ الأحلامِ، وعند العَرَبِ أنفُسِهم؛ ولأنَّ مَن عُرِفَ بنَقْضِ العهدِ عَدِمَ مَن يَركَنُ إلى عَهدِه وحِلْفِه، فيبقى في عُزلةٍ مِن النَّاسِ، فهؤلاء الذين نقَضُوا عَهْدَهم، قد غلَبَهم البُغضُ في الدِّينِ، فلم يعبَؤُوا بما يَجُرُّه نقضُ العهدِ مِن الأضرارِ لهم). ((تفسير ابن عاشور)) (10/49). .
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57).
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ.
أي: فإنْ تلْقَيَنَّ- يا مُحمَّدُ- أولئك الكُفَّارَ، الذينَ ينقُضونَ العَهدَ مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ، وتَظفَرْ بهم في حالِ مُحارَبتِهم، بحيثُ لا يكونُ لهم عهدٌ معك- فنكِّلْ بهم، وعاقِبْهم عقوبةً غليظةً، تكونُ عِبرةً وتشريدًا لِغَيرِهم من الأعداءِ، فيتفَرَّقوا عنك، ويخافوا منك، ولا يجتَرئُوا عليك بعد ذلك [775] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/236)، ((تفسير ابن عطية)) (2/542)، ((تفسير الرازي)) (15/497)، ((تفسير القرطبي)) (8/30)، ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 289)، ((تفسير ابن كثير)) (4/78، 79)، ((تفسير السعدي)) (ص: 324)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/134). قال ابن عاشور: (المعنى: فاجعَلْهم مَثلًا وعِبرةً لغيرِهم من الكفَّارِ، الذينَ يترقَّبونَ ماذا يجتني هؤلاءِ مِن نقضِ عهدِهم، فيفعلونَ مِثلَ فِعْلِهم؛ ولأجلِ هذا الأمرِ نكَّل النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقُريظةَ حين حاصَرَهم، ونزلوا على حُكمِ سَعدِ بنِ مُعاذٍ رَضِي اللهُ عنه، فحَكَم بأن تُقتَلَ المقاتِلةُ وتُسبَى الذُّريَّةُ، فقتَلَهم رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمدينةِ، وكانوا أكثرَ مِن ثمانِمئةِ رجلٍ، وقد أمرَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا الأمرِ بالإغلاظِ على العدوِّ؛ لِما في ذلك مِن مصلحةِ إرهابِ أعدائِه؛ فإنَّهم كانوا يَستضعِفونَ المسلمين، فكان في هذا الإغلاظِ على النَّاكثينَ تحريضٌ على عقوبتِهم؛ لأنَّهم استحقُّوها، وفي ذلك رحمةٌ لغيرِهم؛ لأنَّه يصدُّ أمثالَهم عن النَّكثِ، ويكفي المؤمنينَ شرَّ النَّاكثينَ الخائِنينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (10/50). .
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ.
أي: لعلَّ مَن خَلْفَهم مِن الكُفَّارِ الذين يعلمونَ بما فعَلْتَ بناقِضي العَهدِ، يتَّعِظونَ فيَحذَروا مِن نَقضِ ما بينك وبينهم مِن عهدٍ؛ لئلَّا يُصيبَهم ما أصاب غَيرَهم مِن ناقِضي العُهودِ [776] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/236)، ((تفسير ابن عطية)) (2/543)، ((تفسير الرازي)) (15/497)، ((تفسير السعدي)) (ص: 324)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/50)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/134). .
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ (58).
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء.
أي: وإمَّا تَخافَنَّ- يا مُحمَّدُ- مِن قَومٍ بينك وبينهم عَهدٌ، أن يَغدِروا بك، فينقُضُوا عَهدَهم معك، بما يظهَرُ مِن قرائِنَ تَدُلُّك على ذلك، من غيرِ تَصريحٍ منهم بالخيانةِ [777] قال ابنُ جرير: (فإن قال قائلٌ: وكيف يجوزُ نقضُ العهدِ بخوفِ الخيانةِ، والخوفُ ظنٌّ لا يقينٌ؟!  قيل: إنَّ الأمرَ بخلافِ ما إليه ذهبْتَ، وإنَّما معناه: إذا ظهَرَت آثارُ الخيانةِ مِن عَدُوِّك، وخِفتَ وُقوعَهم بك؛ فألْقِ إليهم مَقاليدَ السَّلْمِ، وآذِنْهم بالحَربِ). ((تفسير ابن جرير)) (11/239). وقال الرازي: (قال أهلُ العلم: آثارُ نَقضِ العَهدِ إذا ظهَرَت: فإمَّا أن تظهَرَ ظُهورًا مُحتمَلًا، أو ظهورًا مقطوعًا به؛ فإن كان الأوَّلُ وجب الإعلامُ- على ما هو مذكورٌ في هذه الآيةِ- وذلك لأنَّ قُريظةَ عاهدوا النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثم أجابوا أبا سُفيانَ ومَن معه مِن المُشرِكينَ إلى مُظاهَرتِهم على رَسولِ اللهِ، فحصَلَ لرسولِ اللهِ خَوفُ الغَدرِ منهم به وبأصحابِه، فهاهنا يجبُ على الإمامِ أن ينبِذَ إليهم عُهودَهم على سواءٍ، ويُؤذِنَهم بالحربِ. أمَّا إذا ظهَرَ نَقضُ العَهدِ ظهورًا مَقطوعًا به، فهاهنا لا حاجةَ إلى نبذِ العَهدِ، كما فعلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأهلِ مكَّةَ؛ فإنَّهم لَمَّا نقَضُوا العهدَ بِقَتلِ خُزاعةَ- وهم مِن ذِمَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وصل إليهم جيشُ رسولِ اللهِ بمَرِّ الظَّهرانِ، وذلك على أربعةِ فراسِخَ من مكَّةَ). ((تفسير الرازي)) (15/498). ويُنظر: ((البسيط)) للواحدي (10/209، 210)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/142). ، فاطرَحْ إليهم عَهدَهم عَلَنًا؛ حتى تستويَ أنت وهم في العِلمِ بأَنَّه لا عهدَ بينَك وبينَهم، وأنَّ بعضَكم مُحارِبٌ لبعضٍ، فتبرَأَ بذلك من الغَدرِ بهم [778] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/238)، ((تفسير ابن عطية)) (2/543)، ((تفسير القرطبي)) (8/31، 32)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/622)، ((تفسير ابن كثير)) (4/79)، ((تفسير السعدي)) (ص: 324)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/52)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/140). .
عن سُلَيمِ بنِ عامرٍ، قال: ((كان بين مُعاويةَ وبين أهلِ الرُّومِ عَهدٌ، وكان يَسيرُ في بلادِهم، حتى إذا انقضَى العَهدُ أغار عليهم، فإذا رجلٌ على دابَّةٍ أو على فَرسٍ، وهو يقولُ: اللهُ أكبَرُ، وفاءٌ لا غَدرٌ، وإذا هو عَمرُو بنُ عَبَسةَ، فسأله معاويةُ عن ذلك، فقال: سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: مَن كان بينه وبين قَومٍ عهدٌ، فلا يَحُلَّنَّ عهدًا، ولا يَشُدَّنَّه حتى يَمضِي أمَدُه، أو ينبِذَ إليهم على سَواءٍ، قال: فرجَعَ معاويةُ بالنَّاسِ)) [779] أخرجه أبو داود (2759)، والترمذي (1580)، والنسائي في ((الكبرى)) (8679)، وأحمد (17015)، وابن حبان في ((الصحيح)) (4871). قال الترمذي: (حسنٌ صحيحٌ). وصححه ابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (120)، والألباني في ((صحيح الترمذي)) (1580). .
وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لكُلِّ غادرٍ لِواءٌ يومَ القيامةِ، يُرفَعُ له بِقَدرِ غَدرِه، ألا ولا غادِرَ أعظَمُ غَدرًا مِن أميرِ عامَّةٍ )) [780] رواه مسلم (1738). .
إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ.
أي: إنَّ الله لا يُحبُّ الذين يَغدِرونَ بمَن عاهَدَهم وأمِنَهم، ويخونونَ في عُهودِهم وغيرِها [781] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/238، 239)، ((الوسيط)) للواحدي (2/468)، ((تفسير السعدي)) (ص: 324). .
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (59).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى ما يفعَلُ الرَّسولُ في حقِّ مَن يَجِدُه في الحَربِ، ويتمَكَّنُ منه، وذكَرَ أيضًا ما يجِبُ أن يفعَلَه فيمَن ظهَرَ منه نقضُ العَهدِ- بيَّنَ هنا حالَ مَن فاتَه في يومِ بَدرٍ وغَيرِه؛ لئلَّا يبقَى حَسرةً في قَلبِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فقد كان فيهم مَن بلَغَ في أذيَّةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مَبلغًا عظيمًا [782] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/498)، ((تفسير اين عاشور)) (10/53). .
وأيضًا لمَّا كان نبذُ العهدِ مَظِنَّةُ الخوفِ مِن تكثيرِ العدوِّ وإيقاظِه، وكان الإيقاعُ أولَى بالخوفِ، أتْبَع سبحانَه ذلك ما يُسلِّي عن فوتِ مَن هرَب مِن الكفَّار في غزوةِ بدر،ٍ فلم يُقتَلْ، ولم يُؤْسَرْ [783]  يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/313). ، فقال تعالى:
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ قراءتان:
قِراءةُ وَلَا يَحْسَبَنَّ قيل: على معنى: لا يحسبنَّ النبيُّ، أو لا يحسبَنَّ أحدٌ، أو لا يحسبَنَّ الَّذين كَفَروا [784] قرأ بها حفصٌ وابنُ عامرٍ وحمزةُ وأبو جعفرٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/277). ويُنظر: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/441، 442)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 312)، ((الكشف عن وجوه القراءات السبع)) لمكي بن أبي طالب (1/493، 494)، ((تفسير القرطبي)) (8/34). ذكر الشنقيطيُّ أنَّ هذه القراءةَ سبعيةٌ متواترةٌ، لا وجهَ للطعنِ فيها، وذكر أن تفسيرَها مشكلٌ، قال: (لأنَّه لا يُدرَى أين مفعولَا (حَسِب)، ولا يُدرَى الفاعلُ أينَ هو؟! وللعلماءِ فيها أقوالٌ متقاربةٌ لا يُكذِّبُ بعضُها بعضًا). ((العذب النمير)) (5/145- 146). .
قِراءةُ وَلَا تَحْسِبَنَّ على أنَّ الخطابَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [785] قرأ بها الباقون، وقرَأ شعبةُ وَلَا تَحْسَبَنَّ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/236، 277). ويُنظر: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/441، 442)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 312)، ((الكشف)) لمكي بن أبي طالب (1/493، 494)، ((تفسير ابن عطية)) (2/544)، ((تفسير القرطبي)) (8/34). ، وقيل: ولا تَحْسِبَنَّ يا سامعُ [786] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/624). .
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ.
أي: لا يظُننَّ الذين كَفَروا أنفُسَهم [787] يُنظر: ((تفسير ابن عطية))، ((تفسير السعدي)) (ص: 324). أفلَتُوا من أن يُظفَرَ بهم، وأنَّهم قد فاتُونا بأنفُسِهم فلا نقدِرُ عليهم [788] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/231)، ((تفسير ابن كثير)) (4/70)، ((تفسير الشوكاني)) (2/365)، ((تفسير القاسمي)) (5/315). .
إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ.
أي: إنَّ الكافرينَ لا يُمكِنُهم الإفلاتُ مِن اللهِ تعالى في الدُّنيا ولا في الآخرةِ، ولا يَقدِرونَ على الهَرَبِ منه؛ فهو قادِرٌ عليهم سبحانَه [789] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/244)، ((تفسير ابن عطية)) (2/544)، ((تفسير ابن جزي)) (1/328)، ((تفسير أبي السعود)) (4/31)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/149). .
كما قال تعالى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ [النور: 57] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [العنكبوت: 4] .

الفوائد التربوية:

- الإسلامُ لا يبيحُ لأهلِه الخيانةَ مطلقًا؛ فالخيانةُ مبغوضةٌ عندَ الله بجميعِ صُورِها ومظاهرِها، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [791] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/45). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وصَفَهم بشَرِّ الدَّوابِّ؛ لأنَّ دَعوةَ الإسلامِ أظهَرُ مِن دَعوةِ الأديانِ السَّابقةِ، ومُعجزةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أسطَعُ، ولأنَّ الدَّلالةَ على أحقيَّةِ الإسلامِ دَلالةٌ عَقليَّةٌ بيِّنةٌ، فمن يَجحَدْه فهو أشبَهُ بما لا عَقلَ له [792] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/47). ، ولإفادةِ أنَّهم ليسوا من شرارِ البَشَرِ فقط، بل هم أضَلُّ مِن عَجْماواتِ الدَّوابِّ؛ لأنَّ فيها منافِعَ للنَّاسِ، وهؤلاء لا خَيرَ فيهم، ولا نَفْعَ لِغَيرِهم منهم، فإنَّهم لشِدَّةِ تعصُّبِهم لجِنْسِهم قد صاروا أعداءً لِسائِرِ البَشَرِ [793] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/42). .
2- قَولُ الله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فائدةُ قَولِه: فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بعد ذِكرِ ما قَبلَه: أنْ يُبَيِّنَ أنَّ شَرَّ الدوابِّ هم الذين كَفَروا، واستمَرُّوا على كُفرِهم إلى وقتِ مَوتِهم [794] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:222). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ دلَّ تقييدُ هذه العُقوبةِ فِي الْحَرْبِ على أنَّ الكافِرَ- ولو كان كثيرَ الخيانةِ سَريعَ الغَدرِ- أنَّه إذا أُعطِيَ عَهدًا لا يجوزُ خيانَتُه وعُقوبتُه [795] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 324). .
4- قال الله تعالى: الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ إنَّما قال: يَنْقُضُونَ بفِعلِ الاستقبالِ، مع أنَّهم كانوا قد نَقَضوه قبلَ نُزولِ الآية؛ لإفادةِ استمرارِهم على ذلك، وأنَّه لم يكُنْ هَفوةً رَجَعوا عنها، ونَدِموا عليها، بل أنَّهم ينقُضونَه في كلِّ مَرَّةٍ، وإن تكَرَّر [796] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/43). .
5- الذين جَمَعوا هذه الخِصالَ الثَّلاثَ: الكُفرَ، وعدمَ الإيمانِ، والخيانةَ؛ هم شَرُّ الدوابِّ عند اللهِ، فهم شَرٌّ مِن الحَميرِ والكلابِ وغَيرِها؛ لأنَّ الخيرَ مَعدومٌ منهم، والشَّرَّ مُتوقَّعٌ فيهم؛ قال الله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ [797] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:324). .
6- قال الله تعالى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ولا تُخالِفُ هذه الشدَّةُ كَونَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُرسِلَ رحمةً للعَالِمينَ؛ لأنَّ المرادَ أنَّه رَحمةٌ لِعُمومِ العالَمينَ، وإن كان ذلك لا يخلو مِن شِدَّةٍ على قليلٍ منهم، كقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [799] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/50). [البقرة: 179] .
7- مِن فَوائِدِ العُقوباتِ والحدودِ المرتَّبةِ على المعاصي، أنَّها سبَبٌ لازدجارِ مَن لم يعمَلِ المعاصيَ، بل وسببُ زجرٍ لِمَن عَمِلَها ألَّا يُعاوِدَها؛ قال الله تعالى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [800] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 324). .
8- قَولُ الله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ رتَّبَ نبْذَ العَهدِ على خوفِ الخيانةِ دونَ وُقوعِها؛ لأنَّ شُؤونَ المُعامَلاتِ السياسيَّةِ والحربيَّةِ تجري على حسَبِ الظُّنونِ ومخائِلِ الأحوالِ، ولا يُنتظَرُ تحقُّقُ وُقوعِ الأمرِ المَظنونِ؛ لأنَّه إذا تريَّثَ وُلاةُ الأمورِ في ذلك يكونونَ قد عرَّضُوا الأمَّةَ للخَطرِ، أو للتَّورُّطِ في غَفلةٍ وضياعِ مصلحةٍ، ولا تُدارُ سِياسةُ الأمَّةِ بما يُدارُ به القَضاءُ في الحُقوقِ؛ لأنَّ الحُقوقَ إذا فاتَتْ كانت بَلِيَّتُها على واحدٍ، وأمكَنَ تدارُكُ فائِتِها، ومصالِحُ الأمَّةِ إذا فاتت تمكَّنَ منها عَدُوُّها؛ فلذلك علَّقَ نبْذَ العَهدِ بتوقُّعِ خِيانةِ المُعاهَدينَ مِن الأعداءِ [801] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/52). .
9- قَولُ الله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ فيه إباحةُ نَبذِ العَهدِ لِمَن تُوُقِّعَ منهم غائلةُ مَكرٍ، وأنْ يُعلِمَهم بذلك؛ لئلَّا يُشَنِّعوا بنَصبِ الحَربِ مع العَهدِ [802] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 136). .
10- قَولُ الله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ يَدلُّ على أنَّه إذا وُجِدَت الخيانةُ المُحقَّقةُ منهم، لم يُحتَجْ أن يُنبَذَ إليهم عَهدُهم؛ لأنَّه لم يُخَفْ منهم، بل عُلِمَ ذلك، ولِعَدمِ الفائدةِ، ولِقَولِه: عَلَى سَوَاءٍ وهنا قد كان معلومًا عند الجميعِ غَدرُهم [803] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 324). .
11- قَولُ الله تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ دلَّ مفهومُه أيضًا على أنَّه إذا لم يُخَفْ منهم خيانةٌ- بأن لم يُوجَدْ منهم ما يدُلُّ على ذلك- أنَّه لا يجوزُ نَبذُ العهدِ إليهم، بل يجِبُ الوفاءُ إلى أن تتِمَّ مُدَّتُه [804] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 324). .

بلاغة الآيات:

1- إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
- قولُه: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ استئنافٌ ابتدائيٌّ، انتَقَل به مِن الكلامِ على عُمومِ المشركينَ إلى ذِكرِ كُفَّارٍ آخَرينَ، هم الذين بيَّنهم بقولِه: الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ [805] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/46). .
- قولُه: فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فيه تَقديمُ المُسنَدِ إليه فَهُمْ على الخَبرِ الفِعلي المنفيِّ لَا يُؤْمِنُونَ مع عَدمِ إيلاءِ المسنَدِ إليه حرْفَ النَّفي؛ لقَصْدِ إفادةِ تقويةِ نفْيِ الإيمان عنهم، أي: الذين يَنْتفي الإيمانُ عنهُم في المستقبلِ انتفاءً قويًّا؛ فهم بُعدَاءُ عنه أشدَّ الابتعادِ [806] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/47). .
2- قَولُه تعالى: الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ
- قولُه: ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فيه التعبيرُ بصِيغةِ الاستِقبالِ المضارِعِ يَنْقُضُونَ؛ تَنبيهًا على أنَّ مِن شأنهم نَقضَ العهدِ مَرَّةً بعدَ مرَّة، وفيه دَلالةٌ على تجدُّد النَّقضِ وتعدُّدِه، وكونِهم على نِيَّته في كلِّ حالٍ، أي: يَنْقُضون عَهْدَهم الذي أخَذْته منهم؛ فهو تعريضٌ بالتأييسِ من وَفائِهم بعَهْدِهم [807] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/339)، ((تفسير أبي السعود)) (4/30)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/48). .
3- قَولُه تعالى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
- قولُه: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فيه مَجيءُ الشَّرطِ بحرْفِ إنْ وبعدها ما؛ لإفادةِ تأكيدِ وقوعِ الشَّرطِ؛ وبذلك تَنْسلِخُ إنْ عن الإشعارِ بعدَمِ الجَزمِ بوقوعِ الشَّرطِ، وزِيدَ التأكيدُ باجتلابِ نُونِ التوكيدِ في تَثْقَفَنَّهُمْ [808] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/49). .
4- قَولُه تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ
- في هذه الآيةِ ما يُعرَفُ بالإشارةِ [809] هو أن يكونَ اللَّفظُ القَليلُ دالًّا على المعنى الكثيرِ، حتى تكونَ دَلالةُ اللَّفظِ على المعنى كالإشارةِ باليَدِ، فإنَّها تُشيرُ بحركةٍ واحدةٍ إلى أشياءَ كثيرةٍ، لو عُبِّرَ عنها بأسمائِها احتاجَت إلى عبارةٍ طويلةٍ وألفاظٍ كثيرةٍ. والفَرقُ بينه وبين الإيجازِ: أنَّ الإيجازَ بألفاظِ المعنى الموضوعةِ له، وألفاظُ الإشارةِ لَمحةٌ دالَّةٌ؛ فدَلالةُ اللَّفظِ على الإيجازِ دَلالةُ مُطابَقةٍ، ودَلالةُ اللَّفظِ في الإشارةِ إمَّا دَلالةُ تَضمينٍ، أو دَلالةُ التزامٍ. يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (4/30). ، وبعضُهم يُدرِجُه في بابِ الإيجازِ؛ لأنَّه مُتفَرِّعٌ عنه، فقولُه تعالى: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ يشيرُ إلى الأمرِ بالمقاتلةِ بنَبذِ العَهدِ، كما نبَذُوا عَهْدَك، مع ما يدُلُّ عليه الأمرُ بالمساواةِ في الفِعلِ مِنَ العَدلِ، فإذا أضفْتَ إلى ذلك ما تشيرُ إليه كَلِمةُ خِيانَةً مِن وُجودِ مُعاهدةٍ سابِقةٍ؛ تَبيَّنَ لك ما انطَوَت عليه هذه الإشاراتُ الخفيَّةُ من دَلالاتٍ كأنَّها أخذةُ السِّحرِ [810] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيان)) لمحيي الدين درويش (4/30). .
- قولُه: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ فيه مَجيءُ قَوْمٍ نَكِرةً في سِياق الشَّرطِ؛ لإفادةِ العُمومِ، أي: كلُّ قومٍ تَخافُ مِنهم خيانةً [811] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/51). .
- قولُه: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ وصْفُ النَّبذِ أو النابِذ بأنَّه على سواءٍ تمثيلٌ بحالِ الماشي على طَريقٍ جادَّةٍ، لا التواءَ فيها؛ فلا مُخاتَلةَ لصاحِبها [812] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/52). .
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ يَحتمِلُ أنْ تكونَ هذه الجملةُ تعليلًا معنويًّا للأمْرِ بنَبْذِ العَهدِ على عَدلٍ- وهو إعلامُهم-؛ فهي تعليلٌ للأمرِ بالنَّبذِ، والنَّهيِ عن مُناجزةِ القِتالِ المدلولِ عليه بالحالِ على طريقةِ الاستئنافِ. ويَحتملُ أنْ تكونَ مستأنفةً سِيْقَتْ لِذَمِّ مَنْ خان رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونَقَضَ عَهْدَه [813] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/64)، ((تفسير أبي حيان)) (5/341)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/622). وقال أبو السُّعود: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ تعليلٌ للأمْرِ بالنبذِ؛ إمَّا باعتبار استلزامِه للنهي عن المناجزة، التي هي خيانةٌ؛ فيكونُ تحذيرًا لرسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منها، وإمَّا باعتبار استتباعِه للقتال بالآخِرة؛ فيكونُ حثًّا له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على النبذ أولًا، وعلى قِتالهم ثانيًا، كأنه قيل: وإمَّا تعلَمنَّ من قومٍ خيانةً فانبذْ إليهم، ثم قاتِلْهم؛ إنَّ الله لا يُحِبُّ الخائنين، وهم مِن جُملتِهم؛ لِمَا علمتَ مِن حالِهم). ((تفسير أبي السعود)) (4/31). ؛ فعلى وجْهِ التعليلِ تكونُ الجملةُ تَذييلًا لِمَا اقتضتْه جملةُ: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ... تصريحًا واستلزامًا، والمعنى: أنَّ اللهَ لا يُحبُّهم؛ لأنَّهم مُتَّصِفون بالخيانةِ؛ فلا تَستمِرَّ على عَهدِهم، فتكونَ معاهدًا لِمَن لا يُحِبُّهم اللهُ، ومَوقِعُ (إنَّ) فيه مَوقِعُ التَّعليلِ للأمرِ بردِّ عهدِهم، ونَبْذِه إليهم؛ فهي مُغنِيةٌ غَناءَ فاءِ التَّفريعِ، وهذا من نُكَتِ الإعجازِ [814] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/53). .
- وقولُه: إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ تعليلٌ للنَّهيِ على طريقةِ الاستئنافِ [815] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/65)، ((تفسير أبي السعود)) (4/31). أو على حذفِ لامِ العلةِ في قراءةِ ابنِ عامرٍ، بفتحِ الهمزةِ في أَنَّهُمْ. ويُنظر: ((إتحاف فضلاء البشر)) للبنَّاء (ص: 299). .