موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (36-37)

ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ

غريب الكلمات:

عِدَّةَ: أي: عَدَدَ، وأصل العدِّ: إِحْصاءُ الشيءِ [578] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/29)، ((المفردات)) للراغب (ص: 550). .
حُرُمٌ: أي: مُحَرَّمةٌ، وأصلُ (حرم): يدلُّ على مَنعٍ وتَشديدٍ [579] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/45)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 214)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 245). .
الْدِّيْنُ الْقَيِّمُ: أي: الدينُ الصَّحيحُ المستقيمُ، والحِسابُ الصَّحيحُ، والعدَدُ المُستوِي والمُستوفَى، وأصلُ (قوم): يدلُّ على مُراعاةِ الشَّيءِ وحِفظِه [580] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 185)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/43)، ((المفردات)) للراغب (ص: 699-691)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 138)، ((تفسير القرطبي)) (8/134). .
النَّسِيءُ: أي: تَأْخيرُ تَحْريمِ المُحَرَّمِ، وأصلُ (نسأ): يدلُّ على تأخيرِ الشَّيءِ [581] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 186)، ((تفسير ابن جرير)) (11/449)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 462،463)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/422)، ((المفردات)) للراغب (ص: 804)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 138)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 224). .
لِيُوَاطِئُوا: أي: لِيُوافِقوا، والمُواطَأةُ: المُوافَقةُ، وأصلُه أن يطَأَ الرَّجُلُ برِجلِه مَوطِئَ صاحِبِه [582] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 186)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 406)، ((المفردات)) للراغب (ص: 875)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 138)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 224)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 990). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّ عِدَّةَ الشُّهورِ عِنده- تعالى- اثنَا عشَرَ شَهرًا، في حكم الله وتقديره المسطَّر في اللوح المحفوظ منذُ خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ، منها أربَعةٌ يَحرُمُ فيها القتال وانتهاكُ المَحارِمِ أشَدَّ ممَّا يَحرُمُ في غَيرِها، ذلك الدِّينُ المُستَقيمُ، والحسابُ الصَّحيحُ، فلا تَظلِموا فيهنَّ أنفُسَكم بارتكابِكم السَّيِّئاتِ، وقاتِلوا المُشرِكينَ بأجمَعِكم، كما يُقاتِلونَكم بأجمَعِهم، واعلَمُوا أنَّ اللهَ مع المتَّقِينَ.
ويُبيِّنُ اللهُ تعالى أنَّ تأخيرَ تَحريمِ الأشهُرِ الحُرُمِ، وتغيِيرَها عمَّا شَرَعه اللهُ تعالى، زيادةٌ في كُفرِ مُشرِكي قُريشٍ، وقد كانوا يُحِلُّونَ شَهرَ مُحَرَّمٍ عامًا، ويَستَبدِلونَ به صَفَرًا، فيَجعَلونَه مُحَرَّمًا، وفي العامِ الذي يليه يَعودونَ لِتَحريمِ مُحَرَّمٍ، يُضِلُّ اللهُ بذلك الكُفَّارَ؛ يُحِلُّونَ ذلك التَّأخيرَ والتَّغييرَ عامًا، ويُحَرِّمونَه عامًا؛ لِيُوافِقُوا بذلك عددَ الأشهُرِ التي حَرَّمها اللهُ كلَّ عامٍ؛ فهم في كلِّ عامٍ لهم أربعةُ أشهُرٍ مُحَرَّمةٌ، كما حَرَّمَ اللهُ أربعةَ أشهُرٍ، لكِنَّهم يُؤَخِّرونَ ويُغَيِّرونَ الأشهُرَ، فيُحِلُّون ما حَرَّمَ اللهُ تعالى، حُسِّنَ لهم قَبيحُ أعمالِهم، واللهُ تعالى لا يُوَفِّقُ للحَقِّ المصرِّين على كفرهم.

تفسير الآيتين:

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ أنواعًا مِن قبائِحِ أهلِ الشِّركِ وأهْلِ الكتابِ؛ ذكَرَ أيضًا نوعًا منه، وهو تغييرُ العَرَبِ أحكامَ الله تعالى؛ لأنَّه حَكَمَ في وقتٍ بحُكمٍ خاصٍّ، فإذا غَيَّروا ذلك الوَقتَ، فقد غيَّروا حُكمَ الله [583] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/414). .
وأيضًا فهذه الآيةُ والتي تَليها عَودٌ إلى الكلامِ في أحوالِ المُشرِكينَ، وما يُشرَعُ مِن مُعامَلَتِهم بعد الفَتحِ، وسُقوطِ عصبيَّةِ الشِّركِ، وكان الكلامُ في قتالِ أهلِ الكِتابِ، وما يجِبُ أن ينتهيَ به من إعطاءِ الجِزيةِ مِن قَبيلِ الاستطرادِ، اقتضاه ما ذَكَرَ قبلَه من أحكامِ قِتالِ المُشرِكينَ ومُعامَلتِهم، وقد ختم الكلامَ في أهلِ الكتابِ ببيانِ حالِ كثيرٍ مِن رجالِ الدِّين الذين أفسدَتْ عليهم دينَهم المطامعُ الماليةُ، وإنذارِ مَن كانت هذه حالَهم بالعذابِ الشديدِ يومَ القيامةِ، وجعلِ هذا الإنذارِ موجهًا إلينا وإليهم جميعًا، ومِن ثمَّ كان التناسبُ بينَ الكلامِ فيما يشتركُ فيه المسلمون معَ أهلِ الكتابِ مِن الوعيدِ على أكلِ أموالِ الناسِ بالباطلِ، وكنزِ النَّقْدين، إلى ما يجبُ أن يخالفوا فيه المشركينَ مِن إبطالِ النسيءِ، ومِن أحكامِ القتالِ- تناسبًا ظاهرًا قويًّا [584] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/357). .
وأيضًا لَمَّا تقدَّمَ كَثيرٌ ممَّا ينبني على التَّاريخِ: كالحجِّ في غير موضِعٍ، وإتمامِ عَهدِ مَن له مُدَّةٌ إلى مُدَّتِه، والزكاةِ، والجِزيةِ، وخُتِمَ ذلك بالكَنزِ الذي لا يُطلَقُ شَرعًا إلَّا على ما لم تؤَدَّ زَكاتُه، وكان مُشرِكو العَرَبِ، الذين تقدَّمَ الأمرُ بالبراءةِ منهم، والتَّأذينِ بهذه الآياتِ يومَ الحَجِّ الأكبَرِ فيهم، قد أحدَثوا في الأشهُرِ بالنَّسِيءِ الذي أُمِروا أن يُنادُوا في الحَجِّ بإبطالِه، ما غَيَّرَ السِّنينَ عن مَوضُوعِها الذي وَضَعَها اللهُ عليه، فضاهَوْا به فِعلَ أهلِ الكتابِ بالتَّدَيُّنِ بتَحليلِ أكابِرِهم وتحريمِهم، كما ضاهَى أولئك قَولَ أهْلِ الشِّركِ في النبوَّةِ والأبُوَّةِ [585] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/449). ، قال تعالى:
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ.
أي: إنَّ عدَدَ الشُّهورِ في حُكمِ الله وتَقديرِه، اثنا عشَرَ شَهرًا قَمَرِيًّا، مكتوبةٌ في اللَّوحِ المحفوظِ [586] قال الواحدي: (فِي كِتَابِ اللَّهِ قال الواقدي: يعني اللَّوحَ المَحفوظَ، وهو قولُ عامَّةِ أهلِ التَّأويلِ). ((البسيط)) (10/407). مُنذُ خَلَقَ اللهُ السَّمواتِ والأرضَ [587] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/440)، ((البسيط)) للواحدي (10/407، 408)، ((تفسير القرطبي)) (8/132، 133)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/180). قال ابن رجب: (فأخبَرَ سبحانه أنَّه منذُ خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ، وخلقَ اللَّيلَ والنَّهارَ، يدورانِ في الفَلَكِ، وخلَقَ ما في السَّماء من الشَّمسِ والقَمَرِ والنُّجوم، وجعَلَ الشَّمسَ والقمَرَ يسبحانِ في الفَلَك، وينشأ منهما ظُلمةُ الليل وبياضُ النَّهارِ، فمِن حينئذٍ جعَلَ السنةَ اثنَي عشَرَ شَهرًا، بحسب الهلالِ، فالسَّنَةُ في الشَّرعِ مُقدَّرةٌ بِسَيرِ القَمرِ وطُلوعِه، لا بِسَيرِ الشَّمسِ وانتقالِها، كما يفعَلُه أهلُ الكتابِ). ((لطائف المعارف)) (ص: 112). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 336). .
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: 5] .
وعن أبي بَكْرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنَّ الزَّمانَ قد استدارَ كهَيئَتِه يومَ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأرضَ؛ السَّنةُ اثنا عشَرَ شَهرًا، منها أربعةٌ حُرُمٌ، ثلاثةٌ متوالياتٌ: ذُو القَعدةِ، وذو الحِجَّةِ، والمُحَرَّمُ، ورجَبٌ شَهرُ مُضَرَ، الذي بين جُمادى وشَعبانَ )) [588] رواه البخاري (7447)، ومسلم (1679) واللفظ له. قال ابن كثيرٍ: (قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحديثِ: ((إنَّ الزَّمانَ قد استدارَ كهَيئَتِه يومَ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأرضَ))، تقريرٌ منه- صلواتُ الله وسلامُه عليه- وتثبيتٌ للأمْرِ على ما جعَلَه اللهُ تعالى في أوَّلِ الأمرِ، من غيرِ تَقديمٍ ولا تأخيرٍ، ولا زيادةٍ ولا نَقصٍ، ولا نَسيءٍ ولا تبديلٍ، كما قال في تحريمِ مكة: «إنَّ هذا البلَدَ حَرَّمه اللهُ يومَ خلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ؛ فهو حرامٌ بحُرمةِ الله إلى يومِ القيامة»، وهكذا قال هاهنا: «إنَّ الزَّمانَ قد استدارَ كهَيئَتِه يومَ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأرضَ» أي: الأمرُ اليومَ شَرعًا كما ابتدأ اللهُ ذلك في كتابِه يومَ خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ. وقد قال بعض المفسِّرين والمتكلِّمين على هذا الحديثِ: إن المرادَ بِقَولِه: «قد استدارَ كهَيئَتِه يومَ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأرضَ» أنَّه اتَّفَقَ أنْ حَجَّ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في تلك السَّنةِ في ذي الحِجَّةِ، وأنَّ العَرَب قد كانت نَسَأتِ النَّسيءَ، يحجُّونَ في كثيرٍ من السنين، بل أكثَرِها، في غير ذي الحِجَّة!! وزعموا أنَّ حَجَّةَ الصِّدِّيقِ في سنةِ تِسعٍ كانت في ذي القَعدةِ! وفي هذا نَظَرٌ). ((تفسير ابن كثير)) (4/146). ويُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/493 - 495). .
مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ.
أي: مِن هذه الشُّهورِ الاثنَي عشَرَ أربعةُ أشهُرٍ، يَحْرُم انتهاكُ المحارِمِ فيها [589] اختلف العلماءُ في تحريمِ القتالِ في الأشهرِ الحرمِ؛ فذهَب الجمهورُ إلى أنَّ تحريمَ القتالِ في الأشهرِ الحرمِ منسوخٌ بالأمرِ بقتالِ المشركين حيثما وُجِدوا، في قولِه تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وممن ذهَب إلى ذلك سعيدُ بنُ المسيبِ، وسليمانُ بنُ يَسارٍ، وقتادةُ، والزهريُّ، وعطاءٌ الخراسانيُّ، وسفيانُ الثوريُّ، وأبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلَّام، وابنُ جريرٍ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((الناسخ والمنسوخ)) للقاسم بن سلام (ص: 206- 208)، ((تفسير ابن جرير)) (3/663)، ((تفسير القرطبي)) (8/134). وذهَب آخرونَ إلى أنَّ تحريمَ القتالِ في الأشهرِ الحرمِ باقٍ، غيرُ منسوخٍ، وهو قولُ عطاءِ بنِ أبي رباحٍ، ورجَّحه ابنُ القيِّم، والشوكانيُّ، والشنقيطيُّ. يُنظر: ((الناسخ والمنسوخ)) للقاسم بن سلام (1/207)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/302، 303)، ((تفسير الشوكاني)) (2/409، 410)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/482). قال ابنُ كثيرٍ: (اختلف العُلَماءُ في تحريمِ ابتداءِ القِتالِ في الشَّهرِ الحرام: هل هو منسوخٌ أو مُحكَمٌ؟ على قولين: أحدُهما- وهو الأشهَرُ- أنَّه منسوخٌ؛ لأنَّه تعالى قال هاهنا: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهنَّ أَنْفُسَكُمْ، وأمر بقِتالِ المشركين، وظاهرُ السِّياقِ مُشْعِرٌ بأنَّه أمَرَ بذلك أمرًا عامًّا، فلو كان مُحَرَّمًا في الشَّهرِ الحَرامِ، لأوشَكَ أن يُقَيِّدَه بانسلاخِها؛ ولأنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حاصَرَ أهلَ الطَّائِفِ في شَهرٍ حرامٍ- وهو ذو القَعدة- كما ثبت في الصَّحيحين: أنه خرج إلى هوازِنَ في شوَّال، فلما كسَرَهم واستفاءَ أموالَهم، ورجَعَ فَلُّهم، فلجَؤوا إلى الطَّائِفِ- عَمد إلى الطَّائِفِ فحاصَرَها أربعينَ يومًا، وانصرف ولم يفتَتِحْها، فثبت أنَّه حاصر في الشَّهرِ الحرامِ. والقَولُ الآخَر: أنَّ ابتداءَ القِتالِ في الشَّهرِ الحرامِ حَرامٌ، وأنَّه لم يُنسَخْ تَحريمُ الحرامِ). ((تفسير ابن كثير)) (4/149). وقال ابن القيم: (غَزوُ الطَّائِفِ كان من تمامِ غَزوةِ هَوازِنَ، وهم بدَؤُوا رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالقتالِ، ولَمَّا انهزموا دخَلَ مَلِكُهم- وهو مالك بن عوف النضري- مع ثقيفٍ في حِصنِ الطَّائِفِ، مُحاربينَ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان غَزوُهم من تمامِ الغَزوةِ التي شَرَعَ فيها، واللهُ أعلم. وقال الله تعالى في سورة المائدة، وهي من آخِرِ القُرآنِ نُزولًا، وليس فيها منسوخٌ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّه وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ [المائدة:2] ، وقال في سورة البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيه قُلْ قِتَالٌ فِيه كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّه [البقرة: 217] ، فهاتان آيتانِ مدنيَّتان بينهما في النُّزول نحوُ ثمانيةِ أعوام، وليس في كتابِ الله ولا سُنَّةِ رَسولِه ناسِخٌ لِحُكمِهما، ولا أجمَعَت الأمَّةُ على نَسْخِه، ومن استدَلَّ على نسخِه بِقَولِه تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة:36] ونحوِها من العُموماتِ، فقد استدَلَّ على النَّسخِ بما لا يدُلُّ عليه). ((زاد المعاد)) (3/302، 303). ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/409، 410). وقال الشنقيطي: (وَمِنْ أَصْرَحِ الأدلةِ في ذلك هو الحديثُ الذي أَشَرْنَا إليه؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ به يومَ النحرِ في حجةِ الوداعِ عامَ عَشْرٍ، ولم يَعِشْ بعد ذلك إلا نحوَ ثمانينَ يومًا، وقد صَرَّحَ فيه بأن ذلك الشهرَ حرامٌ، وذلك اليومَ حرامٌ، وذلك البلدَ حرامٌ، ولم يَأْتِ بعدَ ذلك شيءٌ يَنْسَخُ هذا التحريمَ الثابتَ عنه، صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه). ((العذب النمير)) (5/482). ، أشَدَّ ممَّا يَحرُمُ في غيرِها، وهي: ذو القَعدةِ، وذو الحِجَّةِ، ومُحرَّمٌ، ورجَب [590] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/440)، ((البسيط)) للواحدي (10/409)، ((تفسير القرطبي)) (8/133). قال الواحدي: (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وهي: رجَب، وذو القَعدةِ، وذو الحِجَّةِ، والمُحَرَّم، في قولِ الجَميعِ). ((البسيط)) (10/409). وقال الشنقيطي: (فالتَّحقيقُ أنَّ هذه الصورةَ التي نزل بها القرآنُ، التي كان يفعَلُ لهم الكِنانيُّونَ: أنَّهم سنةً يُحَرِّمونَ صَفرًا، ويُحِلُّونَ المُحَرَّم مكانَه، وفي سنةٍ يُبقونَ الأمرَ على حالِه، فيُحِلُّونَ المُحَرَّمَ سَنةً، ويُحَرِّمونَه سنةً؛ لِيُواطِئوا بذلك- يُوافِقوا- عِدَّةَ ما حَرَّمَ الله، وهي أربعةُ أشهُرٍ مِن السَّنَةِ). ((العذب النمير)) (5/495). .
  ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.
أي: هذا الذي أخبَرْتُكم به- مِن كَونِ الشُّهورِ اثنَي عَشَرَ شَهرًا، منها أربعةٌ حُرُمٌ- هو الدِّينُ المُستَقيمُ، والحِسابُ الصَّحيحُ [591] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/442)، ((تفسير ابن عطية)) (3/31)، ((تفسير ابن جزي)) (1/337)، ((تفسير الشوكاني)) (2/409)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/185). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ بالدِّينِ القَيِّم هنا: الدِّينُ المُستقيمُ: ابن جرير، وابن عطيَّة، وابن جُزي، وابن عاشور. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن ذهب إلى أنَّ المراد: الحسابُ الصَّحيحُ المستقيمُ: مُقاتِل، وابنُ قتيبةَ، والواحديُّ، والسمعانيُّ، والبَغَويُّ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/169)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 185)، ((البسيط)) للواحدي (10/410، 411)، ((تفسير السمعاني)) (2/308)، ((تفسير البغوي)) (2/345)، ((تفسير القرطبي)) (8/134). وجمعَ الشَّوكاني بين القَولَينِ، فقال: (قولُه: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي: كَونُ هذه الشهورِ كذلك، ومنها أربعةٌ حُرمٌ؛ هو الدِّينُ المستقيمُ، والحِسابُ الصَّحيحُ، والعدَدُ المُستوفى). ((تفسير الشوكاني)) (2/409). .
فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ.
أي: فلا تَظلِموا- أيُّها النَّاسُ- أنفُسَكم في هذه الأشهُرِ الأربعةِ الحُرُمِ [592] ذهَب جماعةٌ مِن أهلِ العلمِ إلى أنَّ معنى قولِه: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أي: بإيقَاعِ القتالِ فيها، والهتكِ لحرمتِها ولذا قالوا: إن تحريمَ القتالِ في الأشهرِ الحرُمِ ثابتٌ محكمٌ لم يُنْسَخْ لهذه الآيةِ وغيرِها، وذهَب آخرونَ إلى أنَّ هذه الآيةَ على هذا التأويلِ منسوخةٌ بإباحةِ القتالِ في جميعِ الشهورِ، وذهب الجمهورُ إلى أنَّ الظلمَ هنا مؤوَّلٌ بارتكابِ المعاصي، وأنَّ حرمةَ المقاتلةِ في الأشهر الحرم منسوخةٌ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/134)، ((تفسير الشوكاني)) (2/409)، ((تفسير الألوسي)) (5/283). ، بارتكابِ السَّيِّئاتِ [593] وهو قولُ جمهورِ المفسِّرين، منهم: ابنُ جريرٍ، والواحديُّ، والرازي، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عاشورٍ. ونسَبه الرازي للجمهورِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/443، 444، 446)، ((البسيط)) للواحدي (10/412)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 462)، ((تفسير الرازي)) (16/43)، ((تفسير ابن كثير)) (4/148)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/185). وممن قال بهذا القولِ مِن السَّلف: قتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/444). قال القرطبي: (خصَّ اللهُ تعالى الأربعةَ الأشهُرِ الحُرُمَ بالذِّكرِ، ونهى عن الظُّلمِ فيها؛ تشريفًا لها، وإن كان منهيًّا عنه في كلِّ الزَّمانِ، كما قال تعالى: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197] ، على هذا أكثَرُ أهلِ التَّأويلِ، أي: لا تَظلِموا في الأربعةِ الأشهُرِ أنفُسَكم). ((تفسير القرطبي)) (8/135). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/447). وقيل: المعنى: فلا تَظلِموا أنفُسَكم بالمعاصي في جميعِ أشهُرِ السَّنَةِ، وممن اختاره ابنُ عطيَّةَ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/31). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاس. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/444). وقال ابنُ عاشورٍ: (والأنفُسُ تَحتَمِلُ أنَّها أنفُسُ الظَّالِمينَ في قَولِه: فَلَا تَظْلِمُوا أي: لا يظلِمْ كُلُّ واحدٍ نفسَه... ويجوز أن يكون الظُّلمُ بمعنى الاعتداءِ، ويكون المرادُ بالأنفُسِ أنفُسَ غيرِ الظَّالمينَ، وإضافتُها إلى ضميرِ المُخاطَبينَ للتَّنبيهِ على أنَّ الأمَّةَ كالنَّفسِ مِن الجَسَد). ((تفسير ابن عاشور)) (10/186). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّه وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ [المائدة: 2] .
وعن جابِرِ بنِ عبدِ الله رَضِيَ الله عنهما، قال: ((لم يكُنْ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يغزُو في الشَّهرِ الحرامِ، إلَّا أن يُغزَى- أو يُغْزَوْا- فإذا حضَرَ ذاك، أقام حتى ينسلِخَ)) [594] أخرجه القاسم بن سلام في ((الناسخ والمنسوخ)) (389)، وأحمد (14583)، والحارث بن أبي أسامة كما في ((بغية الباحث)) (645)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (4879). صحح إسناده ابن كثير في ((التفسير)) (1/330)، وابن حجر في ((العجاب)) (1/470)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/69): رجاله رجال الصحيح، وقال الوادعي في ((الصحيح المسند)) (256): حسن على شرط مسلم.  .
وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً.
أي: وقاتِلوا- أيُّها المُسلِمونَ- المُشرِكينَ كلَّهم، وأنتم مجتَمِعونَ مُؤتَلِفونَ مُتَوافِقونَ جميعًا على قتالهم، بلا تفَرُّقٍ ولا تخاذُلٍ ولا تقاطُعٍ، كما يقاتِلُكم المُشرِكونَ مُجتَمِعينَ غيرَ مُتَفَرِّقينَ [595] ممَّن اختار هذا القول: ابنُ جريرٍ، وابنُ عطيةَ، والرازي، والشَّوكاني، ومحمد رشيد رضا. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/448)، ((تفسير ابن عطية)) (3/31)، ((تفسير الرازي)) (16/44)، ((تفسير الشوكاني)) (2/410)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/359). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، والسُّدِّي. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (6/1793)، ((تفسير ابن جرير)) (11/448). قال ابن عطية: (قال بعضُ النَّاسِ: كان الفَرضُ بهذه الآيةِ قد توجَّهَ على الأعيانِ، ثم نُسِخَ ذلك بعدُ، وجُعِلَ فَرضَ كِفايةٍ. وهذا الذي قالوه لم يُعلَم قطُّ مِن شَرْعِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه ألزَمَ الأمَّةَ جَميعًا النَّفْرَ، وإنَّما معنى الآية: الحضُّ على قِتالِهم والتحَزُّبُ عليهم وجَمعُ الكَلِمةِ، ثم قيَّدَها بِقَولِه: كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ، فبِحَسَب قتالِهم واجتماعِهم لنا يكونُ فَرضُ اجتماعِنا لهم، وأمَّا الجِهادُ الذي يُنتَدَبُ إليه، فإنَّما هو فرضٌ على الكفايةِ؛ إذا قام به بعضُ الأمَّةِ سقَطَ عن الغَيرِ). ((تفسير ابن عطية)) (3/31). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/149)، ((تفسير السعدي)) (ص: 336). وقيل: المعنى: وقاتِلوا- أيُّها المُسلِمونَ- جميعَ المُشرِكينَ، كما أنَّهم يستحِلُّونَ قِتالَكم جميعًا، وممَّن اختار هذا القولَ: الواحديُّ، والسمعانيُّ، وابنُ تيميةَ، والسعديُّ، وابنُ عاشورٍ. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 462)، ((تفسير السمعاني)) (2/308)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 336)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/187). قال ابنُ تيميَّة: (وقَولُه تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً أي: قاتِلوهم كلَّهم، لا تَدَعُوا مُشرِكًا حتى تُقاتِلوه، فإنَّها أُنزِلَت بعد نَبْذِ العُهودِ، ليس المرادُ: قاتِلوهم مُجتَمِعينَ، أو جميعُكم؛ فإنَّ هذا لا يجِبُ، بل يُقاتَلون بحسَبِ المَصلحةِ، والجهادُ فرضٌ على الكفايةِ، فإذا كانت فرائِضُ الأعيانِ لم يؤكَّدِ المأمورونَ فيها بـــ كَافَّةً، فكيفَ يؤكَّدُ بذلك في فُروضِ الكفايةِ؟! وإنما المقصودُ تعميمُ المقاتَلينَ). ((مجموع الفتاوى)) (7/267). وقال الواحدي: (يريدُ: قاتِلوهم كُلَّهم ولا تُحابوا بعضَهم بتَرْكِ القِتالِ؛ كما أنَّهم يستحِلُّونَ قِتالَ جَميعِكم، ويجوزُ أن يكونَ المعنى: قاتِلوهم بأجمَعِكم، مجتمعينَ على قتالِهم كما يفعلونَ هم. يريد: تعاوَنوا وتَناصَروا على ذلك ولا تتَجادَلوا، وكلا المعنيينِ يحتَمِلُه قوله: جميعًا). ((البسيط)) (10/415، 416). .
وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.
أي: واعلَمُوا- أيُّها المؤمِنونَ- أنَّكم إن قاتَلْتُم المُشرِكينَ كافَّةً، واتَّقَيتُم اللهَ بفِعلِ أوامِرِه واجتنابِ نواهيه؛ فإنَّ اللهَ معكم بِعَونِه وتَأييدِه، وينصُرُكم على أعدائِكم المُشرِكينَ [596] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/449)، ((البسيط)) للواحدي (10/417)، ((تفسير الرازي)) (16/44)، ((تفسير السعدي)) (ص: 336). .
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ الآيةَ السَّابِقةَ كالمُقَدِّمةِ إلى المقصودِ هنا، وهو إبطالُ النَّسيءِ وتَشنيعُه [597] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/188). .
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ.
أي: إنَّما تأخيرُ تَحريمِ الأشهُرِ الأربعةِ الحُرُمِ، وتغييرُها عمَّا شَرَعَه اللهُ- بأن يكونَ شَهرُ مُحَرَّمٍ الحرامُ حلالًا، وشهرُ صَفَر الحَلالُ حَرامًا [598] قال الواحدي: (قال العُلماءُ وأهلُ التَّفسيرِ: إنَّ العَرَبَ كانت تحرِّمُ الشُّهورَ الأربعةَ، وكان ذلك ممَّا تمسَّكَت به مِن مِلَّةِ إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السَّلامُ، وكانت العربُ أصحابَ حُروبٍ وغاراتٍ، فشَقَّ عليهم أن يَمكُثُوا ثلاثةَ أشهُرٍ متواليةً لا يُغِيرُونَ فيها... فكانوا يؤخِّرونَ تَحريمَ المُحَرَّمِ إلى صَفَرَ، فيُحَرِّمونَه، ويستَحِلُّونَ المُحَرَّمَ، وكانوا يمكُثون بذلك زمانًا يُحَرِّمونَ صَفَرَ وهم يُريدونَ به المُحَرَّمَ، ويقولون: هو أحَدُ الصَّفَرَينِ). ((البسيط)) (10/420). وقال ابن تيمية: (روى أحمدُ عن أبي وائلٍ، في قَولِه عزَّ وجَلَّ: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِه الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا الآية [التوبة: 37] ، قال: كان رجلٌ ينسَأُ النَّسيءَ مِن كِنانةَ، وكان يجعَلُ المُحَرَّم صَفَرًا يستحِلُّ فيه الغنائِمَ، فنزلت: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: 37] . وهذا ممَّا أجمَعَ عليه أهلُ العِلمِ بالأخبارِ والتَّفسيرِ والحديثِ). ((شرح عمدة الفقه)) (2/226). - زيادةٌ في كُفرِ مُشرِكي العَرَبِ، الذين ابتَدَعوا هذا التَّأخيرَ [599] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/449، 450)، ((البسيط)) للواحدي (10/418، 427)، ((تفسير الرازي)) (16/40)، ((تفسير القرطبي)) (8/139)، ((تفسير السعدي)) (ص: 336)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/191، 193). قال القرطبي: (قوله تعالى: زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ بيانٌ لِما فَعَلَتْه العَربُ مِن جَمْعِها من أنواعِ الكُفرِ؛ فإنَّها... أنكَرَت البَعثَ فقالت: قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهيَ رَمِيمٌ [يس: 78] . وأنكَرَت بَعثةَ الرُّسُلِ، فقالوا: أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ [القمر: 24]. وزعَمَت أنَّ التَّحليلَ والتحريمَ إليها، فابتَدَعَتْه من ذاتِها مُقتَفِيةً لِشَهواتِها، فأحَلَّت ما حَرَّمَ الله، ولا مُبدِّلَ لِكَلِماتِه، ولو كَرِهَ المُشرِكونَ). ((تفسير القرطبي)) (8/139). .
يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ثلاثُ قِراءاتٍ:
1- قراءةُ: يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بضَمِّ الياءِ وفتح الضادِ، على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه، أي: أنَّ الكافرين يُضَلُّونَ [600] وقرأ بها حمزةُ والكسائيُّ وخلفٌ وحفص. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/279). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 318)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (6/47). .
2- قراءةُ: يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بضَمِّ الياء وكسرِ الضاد، ومعناه أنَّ الكفَّارَ يُضِلُّونَ بالنَّسيءِ أتباعَهم في إِحْلالِهم المحَرَّمَ مَرَّةً، وتحريمِهم إيَّاه أخرى. أو: يُضِلُّ اللهُ الذين كفروا [601] وقرأ بها يعقوبُ الحضرميُّ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/279). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/453)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (6/47). .
3- قراءةُ: يَضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بفَتحِ الياءِ وكَسرِ الضَّادِ، والفِعلُ للكفَّارِ الضَّالِّينَ، فهم يَضِلُّونَ لا يَهتَدونَ [602] وقرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/279). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/453)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 318). .
يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ .
أي: يُضَلُّ بتأخيرِ تَحريمِ الأشهُرِ الأربعةِ الحُرُمِ، الذينَ كفَروا [603] قال الواحدي: (ومعناه: أنَّ كبَراءَهم يُضِلُّونَهم بحَمْلِهم على هذا التَّأخيرِ في الشُّهورِ، فأُسنِدَ الفِعلُ إلى المفعولِ، كقوله تعالى في هذه الآية: زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ أي: زَيَّنَ لهم ذلك حامِلوهم وداعُوهم إليه). ((البسيط)) (10/427)، ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/46). .
يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا.
أي: يُحِلُّ الذينَ كَفَروا ذلك النَّسيءَ عامًا دونَ عامٍ، فيُحِلُّونَ شَهرَ مُحَرَّمٍ عامًا، ويُحَرِّمونَه في عامٍ آخَرَ، فإذا قاتلوا في المحرَّمِ أحلُّوه، وحرَّموا مكانَه صَفرًا، وإذا لم يُقاتِلوا فيه حرَّمُوه [604] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/451)، ((البسيط)) للواحدي (10/428، 429)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/493 - 495). .
لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ.
أي: لِيُوافِقوا بتَحلِيلِهم شَهرَ مُحَرَّمٍ، وتَحريمِهم شَهرَ صَفَرٍ، عدَدَ الأشهُرِ الأربعةِ التي حَرَّمَها اللهُ كُلَّ عامٍ بلا زيادةٍ ولا نُقصانٍ في العَدَدِ، فيُحِلُّوا بتأخيرِ حُرمةِ شَهرِ مُحَرَّم، ما حرَّمَه الله تعالى [605] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/451، 457)، ((البسيط)) للواحدي (10/429)، ((تفسير ابن عطية)) (3/33)، ((تفسير القرطبي)) (8/139)، ((تفسير أبي السعود)) (4/64)، ((تفسير السعدي)) (ص: 337)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/495). !
زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ.
أي: حُسِّنَ للمُشرِكينَ سيِّئُ أعمالِهم وقَبيحُها [606] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/451)، ((البسيط)) للواحدي (10/428)، ((تفسير السعدي)) (ص: 337)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/496). ذهب السعدي والشنقيطي إلى أنَّ المُزَيِّنَ لهم: هو الشَّيطانُ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 337)، ((العذب النمير)) (5/496). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلف الحسنُ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (6/1796). .
وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ.
أي: واللهُ لا يوفِّقُ للحَقِّ المصرِّين على كفرهم، ويخذُلُهم عن الهُدى [607] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/451)، ((تفسير الشوكاني)) (2/411)، ((تفسير السعدي)) (ص: 337)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/496، 497). قال الشوكاني: (لا يَهدِيهم هدايةً تُوصِلُهم إلى المطلوبِ، وأمَّا الهدايةُ بمعنى الدَّلالةِ على الحقِّ، والإرشادِ إليه؛ فقد نَصَبَها اللهُ سُبحانه لِجَميعِ عِبادِه). ((تفسير الشوكاني)) (2/411). قال الشنقيطي: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ هذه الآيةُ وأمثالُها بالقرآنِ، فيها سؤالٌ مَعروفٌ، وإشكالٌ مشهورٌ، وهو أن يقول طالِبُ العلم: هذه الآيةُ وأمثالُها صرَّحَ الله فيها بأنَّه لا يهدي الكافرينَ، مع أنَّا نُشاهدُ اللهَ يهدي كثيرًا من الكافرين، فاللهُ يهدي من يشاءُ مِن الكفَّار، ويُضِلُّ من يشاء، فما وجهُ تعميمِه في قوله تعالى: لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ هذا وجهُ السؤالِ، وللعلماءِ عنه جوابان معروفان: أحدهما: أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ وأمثالَها في القرآنِ: مِن العامِّ المخصوصِ، أي: لا يهدي القومَ الكافرين الذين سبَقَ في عِلمِه عَدمُ هدايتِهم، وشقاؤُهم شقاءً أزليًّا، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يونس: 96، 97] وقولِه تعالى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس:7] ونحوِ ذلك من الآيات. وعلى أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ من العامِّ المخصوصِ بآياتٍ أُخَر، فلا إشكالَ. وقال بعض العلماء: لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ما دامُ اللهُ جلَّ وعلا مُريدًا منهم أن يكونوا كافرينَ، فإذا شاء اللهُ أن يهديَهم هداهم. وقال بعضُ العلماءِ: لا يهديهم ما داموا مُصِرِّينَ على كُفْرِهم). ((العذب النمير)) (5/496-497). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96-97] .
وقال سبحانه: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهمْ أَغْلَالًا فَهيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: 7 - 11] .

الفوائد التربوية:

1- الحِرصُ على استعمالِ تَقوى الله في السِّرِّ والعَلَنِ، والقيامِ بِطاعَتِه، خصوصًا عند قتال الكُفَّارِ؛ فإنَّه في هذه الحالِ ربَّما ترَكَ المؤمِنُ العمَلَ بالتَّقوى في معاملةِ الكُفَّارِ الأعداءِ المُحارِبينَ؛ يُرشِدُ إلى ذلك قولُه تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [608] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:336). .
2- قال الله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ جُعِلَ النَّسيءُ زيادةً في الكُفرِ؛ لأنَّ الكافِرَ كلمَّا أحدَثَ مَعصِيةً ازداد كُفرًا، فزادَتْهم رِجسًا إلى رِجْسِهم، كما أنَّ المؤمِنَ كلَّما أحدَثَ طاعةً ازدادَ إيمانًا؛ قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [609] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/612). [التوبة: 124] .
3- قال الله تعالى: لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهمْ هذا يدلُّ على أنَّ مِن أسوَأِ الأعمالِ وأخبَثِها تحليلَ ما حَرَّمَه اللهُ، وتحريمَ ما أحَلَّ اللهُ [610] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/496). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّه يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهنَّ أَنْفُسَكُمْ. فإن قيل: أجزاءُ الزَّمانِ مُتشابِهةٌ في الحقيقةِ، فما السَّبَبُ في هذا التَّمييزِ؟ فالجوابُ: أنَّ هذا المعنى غيرُ مُستبعَدٍ في الشَّرائِعِ؛ فإنَّ أمثِلتَه كثيرةٌ، ألا ترى أنَّه تعالى ميَّزَ البلدَ الحرامَ عن سائِرِ البلادِ بِمَزيدِ الحُرمةِ، ومَيَّزَ يومَ الجُمُعةِ عن سائِرِ أيَّامِ الأسبوعِ بمزيدِ الحُرمةِ، وميَّزَ يومَ عرفةَ عن سائِرِ الأيام بتلك العبادةِ المخصوصةِ، وميَّزَ شَهرَ رَمَضانَ عن سائِرِ الشُّهورِ بمَزيدِ حُرمةٍ، وهو وجوبُ الصَّومِ، وميَّزَ بعضَ ساعاتِ اليومِ بوجوبِ الصَّلاةِ فيها، وميَّزَ بعض اللَّيالي عن سائِرِها، وهي ليلةُ القَدْرِ، وميَّزَ بعضَ الأشخاصِ عن سائرِ النَّاسِ بإعطاءِ خِلعةِ الرِّسالةِ، وإذا كانت هذه الأمثلةُ ظاهرةً مَشهورةً، فأيُّ استبعادٍ في تخصيصِ بَعضِ الأشهُرِ بمزيدِ الحُرمةِ [611] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/41، 42). ؟!
2- فَي قَولِه تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّه يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ قال أهلُ المعاني: وفي جَعْلِ بعضِ الشُّهورِ أعظَمَ حُرمةً من بعضٍ، فوائِدُ من المصلحةِ في الكَفِّ عن الظُّلمِ فيها؛ لِعِظَمِ مَنزِلَتِها في حُكمِ خالِقِها، فربَّما أدَّى ذلك إلى تَركِ الظُّلمِ رأسًا؛ لانطفاءِ الثَّائرة في تلك المدَّةِ [612] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (10/409). .
3- ضَبطُ التَّوقيتِ: مِن أصولِ إقامةِ نِظامِ الأمَّةِ، ودَفْعِ الفوضى عن أحوالِها؛ يُرشِدُ إلى ذلك قَولُ الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّه يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [613] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/180). .
4- قال الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّه...، مِن أحكامِ كتابِ الله التشريعيةِ أنَّ كلَّ ما يتعلَّق بحسابِ الشهورِ والسِّنين، كالصيامِ والحجِّ وعدةِ المطلقاتِ والرضاعِ، فالمعتبرُ فيه الأشهرُ القمريةُ، ولهذا فسَّرَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام الأربعةَ الحرمَ، بأنها: رجبُ مُضَرَ، وذو القعدةِ، وذو الحِجَّةِ، ومُحَرَّمٌ [614] تقدَّم تخريجه من حديث أبي بكرةَ. ، وهذه الشهورُ القمريةُ هي أقدمُ أشهُرِ التوقيتِ في البشرِ وأضبطِها، ويمكنُ العلمُ بها بالرؤيةِ البصريةِ للأُميينَ، والمتعلِّمين في البدوِ والحضرِ على سواءٍ، ولَمَّا استعمرَ الكفارُ كثيرًا مِن البلادِ الإسلاميةِ حَوَّلُوا التاريخَ إلى تاريخِهم؛ استعبادًا واستذلالًا للشعوبِ [615] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/357-358)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/180-181)، ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقم: 169). .
5- قولُ الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّه يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهنَّ أَنْفُسَكُم فيه أنَّ اللهَ تعالى وضَعَ هذه الأشهُرَ، وسَمَّاها ورَتَّبَها على ما هي عليه، وأنزل ذلك على أنبيائِه، فيُستَدَلُّ به لِمَن قال: إنَّ اللُّغاتِ تَوقيفيَّةٌ [616] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:140). .
6- قَولُ الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهنَّ أَنْفُسَكُم وجهُ تخصيصِ المعاصي في هذه الأشهُرِ بالنَّهيِ: أنَّ اللهَ جعَلَها مواقيتَ للعِبادةِ، فإنْ لم يكُنْ أحَدٌ مُتَلِّبسًا بالعبادةِ فيها، فليَكُنْ غيرَ مُتلَبِّسٍ بالمعاصي، وليس النَّهيُ عن المعاصي فيها بمقتَضٍ أنَّ المعاصِيَ في غيرِ هذه الأشهُرِ ليست منهيًّا عنها، بل المرادُ أنَّ المعصيةَ فيها أعظَمُ، وأنَّ العمَلَ الصَّالِحَ فيها أكثَرُ أجرًا [617] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/186). .
7- قَولُ الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهنَّ أَنْفُسَكُم فيه ذِكرُ الأشهُرِ الحُرمِ، وتعظيمُ الظُّلمِ فيها زيادةً عليه في غَيرِها، ومن هنا شُرِعَ تَغليظُ الدِّيَةِ في القَتلِ فيها، على ما ذهب إليه بعضُ العُلماءِ [618] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:140). .
8- قولُه تعالى: فِي كِتَابِ اللَّهِ يريد: اللَّوحَ المحفوظَ. وأعاده بعد أن قال: عِنْدَ اللَّه؛ لأنَّ كثيرًا من الأشياءِ يُوصَفُ بأنَّه عند الله، ولا يُقالُ إنَّه مكتوبٌ في كتابِ الله، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [619] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/132). .
9- قولُ الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّه يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ إنَّما قال: يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؛ لِيُبيِّنَ أنَّ قضاءَه وقَدَرَه كان قبل ذلك، وأنَّه سبحانه وضَعَ هذه الشُّهورَ وسمَّاها بأسمائِها، على ما رتَّبَها عليه يومَ خلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ، وأنزل ذلك على أنبيائِه في كتُبِه المُنَزَّلةِ، وهو معنى قَولِه تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا وحُكمُها باقٍ على ما كانت عليه، لم يُزِلْها عن ترتيبِها تغييرُ المُشركين لأسمائها، وتقديمُ المُقَدَّمِ في الاسمِ منها، والمقصودُ من ذلك اتِّباعُ أمرِ الله فيها، ورَفضُ ما كان عليه أهلُ الجاهليَّةِ مِن تأخيرِ أسماء الشُّهورِ وتقديمِها، وتعليقِ الأحكامِ على الأسماءِ التي رتَّبوها عليه؛ ولذلك قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في خُطبَتِه في حَجَّةِ الوداعِ: ((أيُّها النَّاسُ، إنَّ الزَّمانَ قد استدارَ كهيئَتِه يومَ خلَقَ اللهُ السَّمواتِ والأرضَ )) [620] أخرجه البخاري (4662)، ومسلم (1679) دون قوله: "أيها الناس" من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه. وأنَّ الذي فعَلَ أهلُ الجاهليَّةِ مِن جَعْلِ المُحَرَّمِ صَفَرًا، وصَفَرٍ مُحَرَّمًا؛ ليس يتغيَّرُ به ما وصَفَه الله تعالى [621] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/132، 133). .
10- في قَولِه تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّه يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّ هذا هو الدِّينُ القَيِّمُ؛ ليُبيِّنَ أنَّ ما سواه من أمْرِ النَّسيءِ وغَيرِه مِن عاداتِ الأُمَمِ، ليس قَيِّمًا؛ لِمَا يَدخُلُه مِن الانحرافِ والاضطرابِ [622] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (25/141). .
11- دلَّ قولُه تعالى: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهنَّ أَنْفُسَكُمْ أنَّ السَّيِّئةَ- وإنْ كانت لا تتَضاعَفُ- إلَّا أنَّها قد تَعْظُمُ أحيانًا بشَرَفِ الزَّمانِ أو المكانِ [623] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/317). .
12- قولُ الله تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين جملةُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين تأييدٌ وضَمانٌ بالنَّصرِ عند قِتالِهم المُشرِكينَ؛ لأنَّ المعيَّةَ هنا مَعيَّةُ تأييدٍ على العمَلِ، وليست معيَّةَ عِلمٍ؛ إذ لا تختَصُّ معيَّةُ العِلمِ بالمتَّقينَ [624] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/188). .
13- قال الله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ هذه الآيةُ الكريمةُ مِن سُورةِ براءةَ، مِن أصرَحِ النُّصوصِ القُرآنيَّةِ في أنَّ كُلَّ مَن اتَّبَع نِظامًا غيرَ نِظامِ الله، وتشريعًا غيرَ تَشريعِ الله، وقانونًا غيرَ قانونِ الله؛ أنَّه كافِرٌ بالله؛ إن كان يزعُمُ الإيمانَ فقد كفَرَ، وإن كان كافرًا، فقد ازداد كُفرًا جديدًا إلى كُفرِه الأوَّلِ [625] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/483). .
14- قال تعالى: يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا، فعَبَّرَ عن الحولِ بلفْظٍ يدورُ على معنَى السَّعةِ فقال: عَامًا؛ إشارةً إلى أنَّهم يَفعلونَه ولو لم يَضطرَّهم إلى ذلك جدبُ سَنةٍ ولا عَضُّ زمانٍ، بل بمُجرَّدِ التَّشهِّي؛ فإنَّهم يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا هكذا دائمًا كلَّما أرادوا، وليس المرادُ أنَّهم كلَّ سَنةٍ يَفعلون ذلك، مِن غيرِ إجلالٍ لسَنةٍ مِن السِّنينَ [626] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/453). .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
- في قولِهِ: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ افتْتِاحُ الكلامِ بحَرْفِ التَّوكِيدِ؛ للاهْتِمامِ بمضمونِه؛ لتَتوجَّهَ أَسْماعُ النَّاسِ وألبابُهم إلى وَعْيِه [627] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/180). .
- وقولُه: الشُّهُورِ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ عبَّرَ هنا بجَمْعِ الكَثْرةِ (الشُّهورِ)؛ وذلك لأنَّها كانتْ أَزْيدَ مِنْ عَشرةٍ، بخِلافِ قولِهِ في سُورةِ البَقرةِ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة: 197] ، حيثُ جاء بلَفْظِ جَمْعِ القِلَّةِ أَشْهُرٌ وهو مُناسِبٌ؛ لأنَّهُ أَشْهُرٌ قليلةٌ؛ فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُهُ [628] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/414). .
- قولُه: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ الإشارةُ بـذَلِكَ الذي يَتضمَّنُ مَعْنى البُعْدِ، فيه تفخيمُ المُشارِ إليه، وهو الدِّينُ [629] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/63). .
- قوله: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ فيه تَخْصيصُ النَّهْي عن المَظالِمِ في الأَشْهُرِ الحُرُمِ؛ تَشريفًا لها، وتعظيمًا بالتَّخصيصِ بالذِّكْرِ، وإنْ كانتِ المظالِمُ مَنْهيًّا عَنْها في كُلِّ زمانٍ [630] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/415). .
- قولُه: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ احْتِراسٌ مِن ظَنِّ أنَّ النَّهيَ عن انْتِهاءِ الأَشْهُرِ الحُرُمِ يَقْتضي النَّهْيَ عن قِتالِ المشركينَ فيها إذا بَدؤوا بقِتالِ المُسلِمينَ، وبهذا يُؤذِنُ التَّشبيهُ التَّعليليُّ في قولِهِ: كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً؛ فيكونُ المَعْنى: فلا تَنْتَهِكوا حُرْمةَ الأَشْهُرِ الحُرُمِ بالمعاصي، أو باعْتِدائكُم على أعدائكُم؛ فإنْ هُمْ بادَؤوكُمْ بالقتالِ فقاتِلُوهم؛ فمقصودُ الكلامِ هو الأَمْرُ بقِتالِ المُشْركِينَ الذين يُقاتِلونَ المسلمينَ في الأَشْهُرِ الحُرُمِ، وتعليلُه بأنَّهُم يَسْتحِلُّونَ تلك الأَشْهُرَ في قِتالِهم المُسلِمينَ [631] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/187). .
- قولُه: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ الجُمْلةُ بمَنْزِلةِ التَّذييلِ لِمَا قَبْلَها؛ مِنْ أَجْلِ ما فيها مِن العُمومِ في المُتَّقينَ [632] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/188). .
- وفيه وضْعُ الظاهِرِ مَوضِعَ المُضْمَرِ- حيثُ لَمْ يَقُلْ: (واعْلَموا أنَّ اللهَ مَعَكُم)-؛ مَدْحًا لهم بالتَّقوى، وحَثًّا للقاصِرينَ على القِتالِ، وإيذانًا بأنَّ مَعِيَّةَ اللهِ للمُتَّقينَ عليها المدارُ في النَّصْرِ، وقيل: هي بِشارةٌ وضَمانٌ لهم بالنُّصْرةِ؛ بسَببِ تَقْواهُمْ [633] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/64). ، وأيضًا أظْهرَ الوَصْفَ تَعليقًا للحُكمِ به، وتَعميمًا [634] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/451). .
2- إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
- قوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا استئنافٌ بيانيٌّ ناشئٌ عَنْ قولِه تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ ...؛ لأنَّ ذلك كالمُقدِّمةِ إلى المقصودِ، وهو إبْطالُ النَّسيءِ وتَشْنيعُه [635] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/188). .
- وصِيغةُ القَصْرِ في قولِهِ: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ تَقْتضي أنَّهُ لا يَعْدُو كونَه مِنْ أَثَرِ الكُفْرِ لمَحبَّةِ الاعْتِداءِ والغاراتِ؛ فهو قَصْرٌ حقيقيٌّ، ويَلْزَمُ مِنْ كونِه زيادةً في الكُفْرِ: أنَّ الذين وَضَعوهُ ليسوا إلَّا كافرينَ وما هم بمُصْلِحينَ، وما الذين تابَعوهم إلَّا كافِرونُ كذلك، وما هم بمتَّقينَ [636] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/191). .
- وجُمْلةُ: يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا بيانٌ لسَببِ كونِ النَّسيءِ ضَلالًا [637] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/192). .
- واخْتيرَ التَّعبيرُ بالفِعْلِ المُضارِعِ في (يُضَلُّ- يُحلُّونَهُ- يُحرِّمونَهُ)؛ لدَلالتِهِ على التَّجدُّدِ والاسْتِمرارِ، أي: هم في ضلالٍ مُتجدِّدٍ مُسْتَمِرٍّ بتَجدُّدِ سَببِه [638] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/192). .
- قولُه: لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فيه الإتيانُ بالموصولِ مَا دونَ أنْ يَقولَ مَثلًا: (لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ الشُّهورِ الحُرُمِ)؛ للإشارةِ إلى تَعليلِ عَمَلِهِم في اعْتِقادِهِمْ بأنَّهم حافَظوا على عِدَّةِ الأشْهُرِ التي حرَّمها اللهُ تَعظيمًا؛ ففيه تَعريضٌ بالتَّهكُّمِ بهم [639] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/194). .
- وعطَف فَيُحِلُّوا عَلَى لِيُواطِئُوا تَنزيلًا للأمْرِ المترتِّبِ على العِلَّةِ مَنزلةَ المقصودِ مِن التَّعليلِ، وإنْ لم يَكُنْ قَصْدُ صاحبِه به التَّعليلَ، على طَريقةِ التَّهكُّمِ والتَّخطئةِ، مثلُ قَولِه تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [640] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/194). [القصص: 8] .
- وفي قولِه: فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ- حيثُ لم يَقُلْ: (فيُحِلُّوهُ)-؛ لزيادةِ التَّصريحِ بتَسجيلِ شَناعَةِ عَمَلِهِمْ [641] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/194). .
- وجُمْلةُ: زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ مُسْتأنَفةٌ اسْتِئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ ما حُكِي مِنِ اضْطرابِ حالِهم يُثيرُ سؤالَ السائلينَ عن سببِ هذا الضِّغْثِ من الضَّلالِ الذي تَملَّؤُوه؛ فقيل: لأنَّهم زُيِّنَ لهم سوءُ أعمالِهم [642] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/194). .
- قولُه: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ- حيث لم يَقُل: -(واللهُ لا يَهديهم)-؛ لقَصدِ إفادةِ التَّعميمِ الذي يَشمَلُهم وغيرَهم، أي: هذا شأنُ اللهِ مع جَميعِ الكافِرينَ [643] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/195). .