موسوعة التفسير

سورةُ العَنكَبوتِ
الآيات (60-64)

ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ

غَريبُ الكَلِماتِ:

وَكَأَيِّنْ: بمعنى كَمْ، ويُرادُ بها التَّكثيرُ، وهي لَفْظةٌ مرَكَّبةٌ مِن كافِ التَّشبيهِ، و(أيٍّ)، والنُّونُ هي التَّنوينُ، أُثْبِتتْ في الخطِّ على غيرِ القياسِ [794] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 339)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 389)، ((تفسير الرازي)) (9/380)، ((تفسير ابن جزي)) (2/42)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 130)، ((تفسير أبي السعود)) (2/95)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/116، 117). .
يُؤْفَكُونَ: أي: يُصرَفونَ عن الحَقِّ ويَحيدون، وأصلُ (أفك): يدُلُّ على قَلبِ الشَّيءِ، وصَرفِه عن جِهتِه [795] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 145)، ((تفسير ابن جرير)) (18/438)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/118)، ((المفردات)) للراغب (ص: 79)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 85)، ((التبيان لابن الهائم)) (ص: 223). .
يَبْسُطُ: أي: يُوَسِّعُ، وأصلُ (بسط): يدُلُّ على امتِدادِ الشَّيءِ [796] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 254)، ((تفسير ابن جرير)) (13/516)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/247)، ((تفسير ابن كثير)) (7/194).
وَيَقْدِرُ: أي: يُضَيِّقُ، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبلغِ الشَّيءِ ونهايتِه [797] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 254)، ((تفسير ابن جرير)) (13/516)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 466)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/62)، ((المفردات)) للراغب (ص: 659)، ((تفسير ابن كثير)) (7/194)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 297). .
الْحَيَوَانُ: أي: الحياةُ الدَّائِمةُ الَّتي لا زوالَ لها، ولفظُ الحيوانِ مصدرٌ كالحياةِ، وأصلُ (حيي): يدُلُّ على خِلافِ الموتِ [798] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 339)، ((تفسير ابن جرير)) (18/440)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 195)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 289)، ((تفسير ابن جزي)) (2/129)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 332). .

المعنى الإجماليُّ:

يبيِّنُ الله تعالى أنَّ هجرةَ مَن هاجرَ لن تُضيِّعَ شيئًا مِن رزقِه الَّذي كتَبه الله له؛ وذلك ترغيبًا لهم في الهجرةِ، فيقولُ: كم مِن دابَّةٍ لا تدَّخِرُ غِذاءَها لِغَدٍ، ولا تَحمِلُ رِزقَها؛ اللهُ يَرزُقُها مِن حيثُ لا تعلَمُ، ويَرزُقُكم أيُّها المهاجِرونَ وإن لم يكُنْ معكم زادٌ ولا نَفقةٌ؛ فلا تَخافوا عَيْلةً ولا إقْتارًا، وهو السَّميعُ لكُلِّ قَولٍ، العَليمُ بكُلِّ فِعلٍ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى ما عليه المشركونَ مِن تناقضٍ، فيقولُ: ولَئِنْ سألْتَهم -يا محمَّدُ-: مَنِ الَّذي خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ، وذلَّل الشَّمسَ والقَمَرَ؟ لَيَقولُنَّ: اللهُ وَحْدَه خالِقُ هذه الأشياءِ. فكيف يُصرَفونَ عن التَّوحيدِ بعدَ قيامِ الدَّليلِ؟!
ويخبِرُ سبحانَه أنَّ الأرزاقَ جميعَها بيَدِه، فيقولُ تعالى: اللهُ وَحْدَه هو مَنْ يُوسِّعُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِه، ويُضيِّقُه على مَن يشاءُ منهم؛ إنَّ اللهِ بكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ.
ولَئِنْ سألْتَهم: مَنِ الَّذي نزَّل مِنَ السَّحابِ مَطَرًا فأحْيا بسَبَبِه الأرضَ مِن بعدِ جَدْبِها؟ لَيَقولُنَّ: اللهُ وَحْدَه هو الَّذي فعَلَ ذلك. فقُلْ -يا محمَّدُ: الحمدُ لله على إنزالِه للحُجَجِ، وتَيسيرِه للنِّعَمِ، بل أكثَرُ المُشرِكين لا يَعقِلون!
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه حقيقةَ هذه الحياةِ الدُّنيا بالنِّسبةِ للدَّارِ الآخرةِ، فيقولُ: وما هذه الحياةُ الدُّنيا إلَّا لهوٌ ولَعِبٌ، لا بقاءَ لها، وإنَّ الدَّارَ الآخرةَ لَهِيَ دارُ الحياةِ الدَّائِمةِ الَّتي لا زوالَ لها ولا انقِطاعَ. لو كان المُشرِكون يَعلَمونَ ذلك لآمَنوا باللهِ وَحْدَه، ولم يُؤْثِروا الدُّنيا الفانيةَ على الآخرةِ الباقيةِ!

تَفسيرُ الآياتِ:

وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى الَّذين صَبَروا وعلى ربِّهم يتوكَّلون؛ ذكَرَ ما يُعِينُ على التَّوكُّلِ، وهو بيانُ حالِ الدَّوابِّ الَّتي لا تدَّخِرُ شَيئًا لغدٍ، ويأتيها كُلَّ يومٍ برِزقٍ رَغَدٍ [799] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/72). .
وأيضًا لَمَّا أمرَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَن أسْلَم بمكَّةَ بالهجرةِ، خافُوا الفقرَ فقالوا: غُربةٌ في بلادٍ لا دارَ لنا فيها ولا عَقَارٌ، ولا مَن يُطْعِمُ. فمَثَّلَ لهم بأكثرِ الدَّوابِّ الَّتي تَتَقَوَّتُ ولا تَدَّخِرُ، ولا تَرَوَّى في رِزْقِها [800] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/324)، ((تفسير أبي حيان)) (8/365). و(رَوَّى) في الأمرِ: نَظَر فيه وفَكَّر. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 132). .
وهذه الآيةُ عَطفٌ على جُملةِ: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [العنكبوت: 57] ؛ فإنَّ اللهَ لَمَّا هوَّنَ بها أمْرَ الموتِ في مَرْضاةِ الله، وكانوا ممَّن لا يَعبَأُ بالموتِ؛ عَلِمَ أنَّهم يقولونَ في أنفُسِهم: إنَّا لا نخافُ الموتَ، ولكِنَّا نخافُ الفَقرَ والضَّيعةَ، واستِخفافُ العَرَبِ بالموتِ سَجِيَّةٌ فيهم، كما أنَّ خَشيةَ المَعَرَّةِ مِن سجاياهم؛ فأعقَبَ ذلك بأنْ ذكَّرَهم بأنَّ رِزقَهم على اللهِ، وأنَّه لا يُضَيِّعُهم، ولِلمُناسَبةِ في قَولِه تعالى: إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ [العنكبوت: 56] مِن توقُّعِ الَّذين يُهاجِرونَ مِن مكَّةَ ألَّا يَجِدوا رِزقًا في البلادِ الَّتي يهاجِرونَ إليها، وهو أيضًا مناسِبٌ لِوُقوعِه عَقِبَ ذِكرِ التَّوكُّلِ في قَولِه: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [801] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/24). [العنكبوت: 59] .
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ.
أي: هاجِروا وجاهِدوا في اللهِ -أيُّها المُؤمِنونَ- ولا تَخافوا عَيْلةً أو إقتارًا؛ فكثيرٌ مِن الدَّوابِّ ذاتُ حاجةٍ إلى غذاءٍ وطعامٍ وشرابٍ، ولا تُطيقُ جَمْعَه وتحصيلَه، ولا تؤخِّرُ شَيئًا منه لغَدٍ، فيُقَيِّضُ لها اللهُ رِزْقَها على ضَعفِها، ويُيَسِّرُه لها؛ فكذلك يُيَسِّرُ اللهُ لكم أرزاقَكم أيُّها النَّاسُ [802] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/437)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 835)، ((تفسير ابن كثير)) (6/292)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/468). ذكر ابن عاشور أنَّه يجوزُ أن يكونَ معنى قَولِه تعالى: لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا أي: تَسيرُ غيرَ حاملةٍ رِزقَها. وأنَّه يجوزُ أن يكونَ المرادُ بحملِ الرِّزقِ: التَّكَلُّفَ له، أي: لا تتكَلَّفُ لرِزقِها، وهذا حالُ مُعظَمِ الدَّوابِّ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/25). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عطية)) (4/325). وقال ابن عثيمين: (ليس بصَوابٍ أن نقولَ: لا تَحمِلُ رِزقَها؛ لِضَعفِها؛ لأنَّ هذا التَّعليلَ معناه أنَّها لا تحمِلُ رِزقَها لأنَّها ضعيفةٌ؛ إمَّا ضعيفةٌ في الإرادةِ، أو ضعيفةٌ في البَدنِ، فليس هذا معنى الآيةِ، بل معناها: لا تَستطيعُ أن تكتَسِبَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 361، 362). .
كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ... [هود: 6] .
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
أي: واللهُ هو السَّميعُ لأقوالِ عبادِه ودُعائِهم، العليمُ بأعمالِهم ونيَّاتِهم، ومِن ذلك أنَّه يَعلَمُ تَوكُّلَكم ورَجاءَكم منه الرِّزقَ، كما أنَّه لا تَهلِكُ دابَّةٌ مِن عدَمِ الرِّزقِ لخفائِها عليه؛ إذ لا يخفَى عليه شيءٌ سُبحانَه [803] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/437)، ((تفسير ابن كثير)) (6/294)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/25). .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا هَوَّن سُبحانَه أمرَ الرِّزقِ بخِطابِه مع المؤمِنينَ بعدَ أن كان قد أبلَغَ في تَنبيهِ الكافِرينَ بإيضاحِ المقالِ، وضَرْبِ الأمثالِ، ولِينِ المحاورةِ في الجِدالِ، ولَمَّا كان المَلِكُ لا يَتمَكَّنُ غايةَ التَّمكُّنِ مِن ترزيقِ مَن في غيرِ مَملكتِه؛ قال [804] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/469). :
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.
أي: ولَئِنْ سألْتَهم [805] قيل: المرادُ بهم: المُشرِكون. وممَّن ذهب إلى هذا: ابنُ جرير، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/438)، ((تفسير ابن كثير)) (6/294)، ((تفسير السعدي)) (ص: 635). -يا محمَّدُ-: مَنِ الَّذي خلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ، وذلَّل لكم الشَّمسَ والقَمَرَ يَجْريانِ لِمَنافِعِكم ومَصالحِكم؟ لَيَقولُنَّ: اللهُ وَحْدَه هو مَن خلَقَ وسخَّرَ ذلك دونَ مَن سِواه [806] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/438)، ((تفسير ابن كثير)) (6/294)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/26)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 369). .
فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ .
أي: فكيف يُصرَفونَ إذَن عمَّن خلَقَ وسخَّرَ ذلك، فيَعدِلونَ عن التَّوكُّلِ عليه، أو يَترُكونَ إخلاصَ العبادةِ له [807] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/438)، ((تفسير القرطبي)) (13/361)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/471)، ((تفسير السعدي)) (ص: 635)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/26). ؟!
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان قد يُشكِلُ على التَّفاوُتِ المذكورِ في الرِّزقِ عندَ كُلِّ مَن لم يَتأمَّلْ حَقَّ التأمُّلِ، فيُقالُ: يَكِلُ الخَلْقَ والرِّزقَ له، فما بالُهم مُتفاوِتينَ في الرِّزقِ؟ قال [808] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/471). :
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ.
أي: اللهُ وَحْدَه هو مَنْ يُوسِّعُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِه، ويُضَيِّقُه على مَن يشاءُ منهم وَفْقًا لِما فيه مَصلحةٌ ونَفعٌ لهم، بحَسَبِ ما تقتَضيه حِكمتُه سُبحانَه؛ فلا يَصُدَّنَّكم -أيُّها المُؤمِنونَ- عن الهِجرةِ وجِهادِ عَدوِّكم خَوفٌ مِنَ الافتِقارِ [809] يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/639)، ((تفسير ابن جرير)) (18/438)، ((تفسير القرطبي)) (13/361)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/471)، ((تفسير الشوكاني)) (4/243)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/26). .
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ عَليمٌ بكُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بمصالحِ عبادِه، فيَعلَمُ ما يُصلِحُهم ويُفسِدُهم مِن الغِنى والفَقرِ، ولا يخفَى عليه شَيءٌ مِن أحوالِهم [810] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/438)، ((تفسير الزمخشري)) (3/463)، ((تفسير القرطبي)) (13/361). .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63).
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.
أي: ولَئِنْ سألْتَهم -يا مُحمَّدُ-: مَنِ الَّذي نزَّل مِن السَّحابِ مَطَرًا، فأحيا بسبَبِه الأرضَ اليابِسةَ بالنَّباتِ مِن بعدِ جُدوبِها وقُحوطِها؟ لَيَقولُنَّ: اللهُ وَحْدَه هو الَّذي فعَلَ ذلك دونَ غيرِه [811] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/439)، ((تفسير القرطبي)) (13/361)، ((تفسير السعدي)) (ص: 635). .
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ.
أي: وإذا قالوا ذلك فقُلْ -يا محمَّدُ-: الحَمدُ لله [812] قال ابن القيم: (الحمدُ إخبارٌ عن مَحاسِنِ المحمودِ، مع حُبِّه وإجلالِه وتعظيمِه). ((بدائع الفوائد)) (2/93). على إنزالِه الحُجَجَ، وتَبيينِه الحقَّ مِن الباطِلِ، وتيسيرِه النِّعَمَ [813] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/439)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 836)، ((تفسير القرطبي)) (13/361)، ((تفسير السعدي)) (ص: 635)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 384). .
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ.
أي: بل [814] قال ابن عثيمين: (بَلْ هنا للإضرابِ الانتِقاليِّ، يعني: بعدَ أن ثبَت الأمرُ، وقامَتِ الحُجَّةُ، واستحقَّ الباري الحمدَ؛ حينَئذٍ يصِحُّ أن يُسجَّلَ عليهم الجهلُ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 386). أكثَرُ المُشرِكينَ بالله لا يَعقِلونَ الآياتِ، فلا يَعِرفونَ الحَقَّ مِن الباطِلِ، ولا يتَّبِعونَه [815] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/439)، ((تفسير السمرقندي)) (2/640)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 836)، ((تفسير القرطبي)) (13/362). وقال: أَكْثَرُهُمْ؛ لأنَّ العُقَلاءَ منهم آمَنوا، لما وضَحَت لهم تلك الحُجَجُ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/30). وقيل: المرادُ بالأكثرِ: الجميعُ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/425)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/413). !
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ الكافِرينَ يَعتَرِفونَ بكَونِ اللهِ هو الخالِقَ، وكَونِه هو الرَّزاقَ، وهم يَترُكونَ عِبادتَه، ولا يَترُكونَها إلَّا لِزينةِ الحياةِ الدُّنيا؛ بيَّنَ أنَّ ما يَميلونَ إليه ليس بشَيءٍ، بقَولِه [816] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/75). :
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ.
أي: وما هذه الحياةُ الدُّنيا الَّتي يتمَتَّعُ بها النَّاسُ إلَّا شَيءٌ يُتلَهَّى به ويُلعَبُ، لا حَقيقةَ لها ولا ثباتَ، وهي مُنقَطِعةٌ وزائِلةٌ [817] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/440)، ((تفسير القرطبي)) (13/362)، ((تفسير ابن كثير)) (6/294)، ((تفسير السعدي)) (ص: 635)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/30، 31)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 391). .
كما قال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد: 20] .
وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ.
أي: وإنَّ الَّدارَ الآخرةَ هي دارُ الحياةِ الدَّائِمةِ الباقيةِ، الَّتي لا زَوالَ لها ولا انقِطاعَ، ولا موتَ فيها [818] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/440)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/173)، ((تفسير القرطبي)) (13/362)، ((تفسير ابن كثير)) (6/294)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/475، 476). قال الواحدي: (قوله تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ يحتملُ أن يكونَ المعنى: وإنَّ حياةَ الدَّارِ الآخرةِ هي الحياةُ؛ لأنَّه لا نقْصَ فيها، ولا نَفادَ لها، أي: فتلك الحياةُ هي الحياةُ، لا الَّتي يَشوبُها ما يَشوبُ الحياةَ في هذه الدَّارِ، فيكونَ الْحَيَوَانُ مَصْدرًا على هذا. ويجوزُ أن يكونَ الْحَيَوَانُ الَّذي هو خِلافُ المَوَتانِ، وقيل للدَّارِ الآخرةِ: الحيوانُ؛ لأنَّها لا تَزولُ ولا تَبِيدُ كما تَبيدُ هذه الدَّارُ وتَزولُ، فتَكونَ الدَّارُ وُصِفَتْ بالحياةِ لهذا المعنى، والمرادُ أهلُها. ويجوزُ أن يكونَ التَّقديرُ في قولِه: لَهِيَ الْحَيَوَانُ هي ذات الحيوانِ، أي: دارُ الآخرةِ هي دارُ الحياةِ، كأنَّه لم يَعتَدَّ بحياةِ هذه الدَّارِ حياةً). ((البسيط)) (17/558). وقال ابن جرير: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ يقولُ: وإنَّ الدَّارَ الآخرةَ لَفِيها الحياةُ الدَّائمةُ الَّتي لا زوالَ لها، ولا انقطاعَ ، ولا موتَ معها). ((تفسير ابن جرير)) (18/440). وقال ابنُ القيم: (قال تعالى وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ والمرادُ: الجنَّةُ عندَ أهلِ التَّفسيرِ، قالوا: وإنَّ الآخرةَ يعني: الجَنَّةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَهِيَ دارُ الحياةِ الَّتي لا موتَ فيها). ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) (ص: 98). وممَّن نصَّ على أنَّ المرادَ بالدَّارِ الآخرةِ: الجنَّةُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، ويحيى بنُ سلام، والواحديُّ، وابنُ الجوزي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/389)، ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/640)، ((الوسيط)) للواحدي (3/425)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/413). قال السعدي: (وأمَّا الدَّارُ الآخرةُ فإنَّها دارُ الحَيَوانِ، أي: الحياةِ الكاملةِ، الَّتي مِن لَوازِمِها أن تكونَ أبدانُ أهلِها في غايةِ القوَّةِ، وقُواهم في غايةِ الشِّدَّةِ؛ لأنَّها أبدانٌ وقُوًى خُلِقَتْ للحياةِ، وأن يكونَ موجودًا فيها كلُّ ما تَكمُلُ به الحياةُ، وتَتِمُّ به اللَّذَّاتُ؛ مِن مُفرِحاتِ القلوبِ، وشَهَواتِ الأبدانِ؛ مِنَ المآكِلِ، والمَشارِبِ، والمَناكِحِ، وغيرِ ذلك، ممَّا لا عَيْنٌ رأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بَشَرٍ). ((تفسير السعدي)) (ص: 635). .
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
أي: فلو كان المُشرِكونَ يَعلَمونَ ذلك لآمَنوا باللهِ وَحْدَه، ولم يُؤْثِروا الدُّنيا الفانيةَ على الآخرةِ الباقيةِ [819] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/440)، ((تفسير القرطبي)) (13/362)، ((تفسير ابن كثير)) (6/294)، ((تفسير السعدي)) (ص: 635)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 394). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قولُه تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا فيه الإرشادُ إلى النَّظَرِ في مخلوقاتِ اللهِ؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى أخبَرنا بذلك لأجْلِ أنْ نَتفكَّرَ في هذه الدَّوابِّ الَّتي لا تَحمِلُ رِزقَها [820] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 367). .
2- قَولُ الله تعالى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ يدُلُّ على أنَّ الَّذين يَعلَمونَ لا بُدَّ أن يُؤْثِروا الآخِرةَ على الدُّنيا؛ لِما يَعلَمونَه مِن حالةِ الدَّارَينِ [821] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 635). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- تحديدُ النَّسلِ خوفًا مِن ضيقِ الرِّزقِ سوءُ ظَنٍّ باللهِ تعالى؛ فاللهُ سُبحانَه وتعالى إذا خلَقَ خَلْقًا فلا بُدَّ أنْ يَرزُقَه؛ قال الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [822] يُنظر: ((الزواج)) لابن عثيمين (ص: 34). .
2- قولُه تعالى: لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فيه إقرارُ المشركين برُبوبيَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وفي هذا أنَّ الإقرارَ بالرُّبوبيَّةِ لا يكفي في التَّوحيدِ، وبهذا نَعرِفُ بُطْلانَ تفسيرِ مَن فَسَّرَ الإلهَ بالقادرِ على الاختراعِ! فإنَّ المتكلِّمينَ يُفَسِّرُون الإلهَ بالقادرِ على الاختراعِ، وإذا فَسَّرُوا الإلهَ بهذا التَّفسيرِ لم يكن هناك فَرْقٌ بيْنَ توحيدِهم وبينَ توحيدِ المشركين! وأهلُ السُّنَّةِ يقولون: الإلهُ هو المعبودُ حقًّا، وإنْ كان المعبودُ بالباطلِ يُسمَّى إلهًا؛ لأنه يُعْبَدُ، لكنَّ أُلوهيَّتَه باطلةٌ [823] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 375). .
3- قَولُ الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ هذا استِدلالٌ على المُشرِكينَ المكَذِّبينَ بتوحيدِ الإلهيَّةِ والعبادةِ، وإلزامٌ لهم بما أثبَتوه مِن توحيدِ الرُّبوبيَّةِ، فهل تجِدُ أضعفَ عقلًا وأقَلَّ بصيرةً ممَّن أتَى إلى حجرٍ، أو قبرٍ ونحوِه، وهو يَدري أنَّه لا ينفعُ ولا يضُرُّ، ولا يَخلُقُ ولا يَرزُقُ، ثمَّ صرَف له خالصَ الإخلاصِ، وصافيَ العُبوديَّةِ، وأشرَكه مع الرَّبِّ الخالقِ الرَّازقِ، النَّافعِ الضَّارِّ [824] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:635). ؟!
4- في قَولِه تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ حُسنُ مُناظَرةِ القُرآنِ ومُجادَلتِه، وأنَّ مُناظَراتِه ومُجادلاتِه تكونُ مُلزِمةً؛ وجْهُ ذلك: أنَّ إقرارَهم بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ مُلزِمٌ لهم أن يُقِرُّوا بتوحيدِ الألوهيَّةِ، وكمالِ صفاتِه جلَّ وعلا [825] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 388). .
5- قول الله تعالى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، فيه سؤالٌ: ما الفَرقُ بيْنَ اللَّهوِ واللَّعِبِ حتَّى يَصِحَّ عطفُ أحدِهما على الآخَرِ؟
الجوابُ: الفرقُ مِن عدَّةِ أوجُهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ اللَّهْوَ للقلبِ، واللَّعِبَ للجوارحِ؛ ولهذا يُجمَعُ بيْنَهما [826] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 30). ويُنظر أيضًا: ((الفروق اللغوية)) للعسكري (ص: 254). .
الوجهُ الثَّاني: أنَّ كلَّ شغلٍ يَعرِضُ فإنَّ المُكلَّفَ إذا أقبَلَ عليه، لَزِمه الإعراضُ عن غيرِه، ومَن لا يَشغلُه شأنٌ عن شأنٍ هو الله تعالى، فالَّذي يُقْبِلُ على الباطلِ لِلَذَّةٍ يسيرةٍ زائلةٍ فيه، يَلزَمُه الإعراضُ عن الحقِّ، فالإقبالُ على الباطلِ لَعِبٌ، والإعراضُ عن الحقِّ لَهْوٌ، فالدُّنيا (لَعِبٌ) أي: إقبالٌ على الباطلِ، و(لَهْوٌ) أي: إعراضٌ عن الحقِّ.
الوجهُ الثَّالثُ: هو أنَّ المُشتَغِلَ بشَيءٍ يُرجِّحُ ذلك الشَّيءَ على غيرِه -لا مَحالةَ- حتَّى يَشتَغِلَ به؛ فإمَّا أن يكونَ ذلك التَّرجيحُ على وَجهِ التَّقديمِ بأنْ يقولَ: أقَدِّمُ هذا، وذلك الآخَرُ آتي به بَعْدَه، أو يكونَ على وَجهِ الاستِغراقِ فيه والإعراضِ عن غَيرِه بالكُلِّيَّةِ؛ فالأوَّلُ لَعِبٌ، والثَّاني لهوٌ [827] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/75). . وقيل غيرُ ذلك [828] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/15)، ((تفسير أبي حيان)) (4/484). .
6- قَولُه تعالى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ فيه بيانُ حَقَارةِ الدنيا؛ فظاهِرُ الآيةِ أنَّ الدُّنيا لهوٌ ولَعِبٌ على سَبيلِ الإطلاقِ، أو أنَّ ذلك على سبيلِ المُقارَنةِ بالآخِرةِ؛ لِقَولِه: وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [829] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 394). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
- قولُه: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ غيرُ مَقصودٍ منه إفادةُ الحُكْمِ، بلْ هو مُستعمَلٌ في لازمِ مَعناهُ، وهو الاستِدلالُ على ضَمانِ رِزقِ المُتوكِّلينَ مِنَ المؤمنينَ. وتَمثيلُه للتَّقريبِ بضَمانِ رِزقِ الدَّوابِّ الكثيرةِ الَّتي تَسِيرُ في الأرضِ لا تَحمِلُ رِزقَها، والقرينةُ على هذا الاستِعمالِ هو قولُه: اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ الَّذي هو استِئْنافٌ بَيانيٌّ لبَيانِ وجْهِ سَوقِ قولِه: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا؛ ولذلك عُطِفَ وَإِيَّاكُمْ على ضَميرِ دابَّةٍ، والمقصودُ: التَّمثيلُ في التَّيسيرِ والإلهامِ للأسبابِ المُوصِلةِ، وإنْ كانت وسائلُ الرِّزقِ مُختلِفةً [830] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/25). .
2- قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ هذا الكلامُ عائدٌ إلى قولِه: وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [العنكبوت: 52] ؛ تَعجُّبًا مِن نقائضِ كُفْرِهم [831] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/26). .
- وقولُه: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فيه تَخصيصُ تَسخيرِ الشَّمسِ والقمَرِ بالذِّكْرِ مِن بيْنِ مَظاهرِ خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ؛ لِمَا في حَرَكتِهما مِن دَلالةٍ على عَظيمِ القُدرةِ، مع ما في ذلك مِن المِنَّةِ على النَّاسِ؛ إذ ناطَ بحَركتِهما أوقاتَ اللَّيلِ والنَّهارِ، وضبْطَ الشُّهورِ والفُصولِ [832] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور) (21/26). ؛ فالنُّجومُ والكواكبُ ليس فيها مَصالحُ ظاهِرةٌ لنا، وإلَّا فقد سَخَّرَ اللهُ الشَّمسَ والقمرَ والنُّجومَ، فكلُّها مُسَخَّرةٌ، لكنَّ المصالحَ في الشَّمسِ والقَمَرِ أظهَرُ وأبيَنُ [833] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 370). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (25/73). .
- والاستفهامُ في قولِه: فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ إنكارٌ وتَعجُّبٌ واستبعادٌ مِن جِهَتِه تعالى لتَرْكِهم العَملَ بمُوجبِه، أي: فكيفَ يُصْرَفون عن الإقرارِ بتفرُّدِه تعالى في الإلهيَّةِ، مع إقرارِهم بتفرُّدِه تعالى فيما ذكَرَ مِن الخلْقِ والتَّسخيرِ [834] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/46)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/26). ؟!
3- قوله تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
- قولُه: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ تَكميلٌ لمَعنى قولِه: اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت: 60] ؛ لأنَّ الأوَّلَ الكلامُ في المَرزوقِ وعُمومِه، وهذا في الرِّزقِ وبَسْطِه وقَتْرِه. وقولُه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [العنكبوت: 61] مُعترِضٌ لتَوكيدِ مَعنى الآيتَينِ، وتعرُّضٌ بأنَّ الَّذين اعتَمَدْتُم عليهم في الرِّزقِ مُقِرُّون بقُدرتِنا؛ كقولِه: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [835] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/198). [الذاريات: 58].
- قولُه: اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ هذا إلزامٌ آخَرُ لهم بإبطالِ شِرْكِهم، وافتِضاحِ تَناقضِهم؛ فإنَّهم كانوا مُعترِفينَ بأنَّ الرَّازقَ هو اللهُ تعالى، كما قال سُبحانَه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ، إلى قولِه: فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [ يونس: 31] ، وإنَّما جاء أُسلوبُ هذا الاستِدلالِ مُخالِفًا لأُسلوبِ الَّذي قبْلَه والَّذي بعْدَه، حيثُ عُدِلَ عن تَركيبِ (ولئنْ سألْتَهم)؛ تفَنُّنًا في الأساليبِ؛ لِتَجديدِ نَشاطِ السَّامعِ. وأُدمِجَ في الاستِدلالِ على انفرادِه تعالى بالرِّزقِ التَّذكيرُ بأنَّه تعالى يَرزُقُ عِبادَه على حسَبِ مَشيئتِه؛ دَليلًا على أنَّه المُختارُ في تَصرُّفِه، وليس ذلك على مَقاديرِ حاجاتِهم، ولا على ما يَبْدو مِن الانتفاعِ بما يُرْزَقونَه [836] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/27). .
- والتَّعبيرُ بالمُضارِعِ يَبْسُطُ (يَقْدِرُ)؛ لإفادةِ تجدُّدِ البَسْطِ والقَدْرِ [837] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/27). .
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذييلٌ؛ لإفادةِ أنَّ ذلك كلَّه جارٍ على حِكمةٍ لا يطَّلِعُ عليها النَّاسُ، وأنَّ اللهَ يَعلَمُ صبْرَ الصَّابرينَ، وجزَعَ الجازِعينَ [838] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/28). .
4- قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ أُعِيدَ هنا أسلوبُ السُّؤالِ والجوابِ؛ لِيتَّصِلَ ربْطُ الأدِلَّةِ بعضِها ببعضٍ على قرْبٍ؛ فقد كان المُشرِكون لا يَدَّعونَ أنَّ الأصنامَ تُنزِلُ المطَرَ، كما صرَّحتْ به الآيةُ، فقامَتِ الحُجَّةُ عليهم، ولم يُنكِروها وهي تَقرَعُ أسماعَهم، وأُدمِجَ في الاستِدلالِ عليهم بانفرادِه تعالى بإنزالِ المطَرِ: أنَّ اللهَ أحْيَا به الأرضَ بعدَ مَوتِها، وإنْ كان أكثَرُ المشركينَ يَنسُبون المُسبَّباتِ إلى أسبابِها العاديَّةِ، وقد اعتَرَفوا بأنَّ سبَبَ الإنباتِ -وهو المطَرُ- مُنزَّلٌ مِن عندِ اللهِ، فيَلزَمُهم أنَّ الإنباتَ مِن اللهِ على كلِّ تَقديرٍ. وفي هذا الإدماجِ استِدلالٌ تَقريبيٌّ لإثباتِ البعثِ، كما قال: فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم: 50] ، وقال: وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [839] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/28، 29). [الروم: 19] .
- وقد أشار قولُه: مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا إلى موتِ الأرضِ، أي: موتُ نَباتِها يكونُ بإمساكِ المطَرِ عنها في فُصولِ الجَفافِ، أو في سِنينِ الجدْبِ؛ لأنَّه قابَلَه بكونِ إنزالِ المطَرِ لإرادتِه إحياءَ الأرضِ بقولِه: فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ، فلا جرَمَ أنْ يكونَ موتُها بتَقديرِ اللهِ؛ للعِلْمِ بأنَّ موتَ الأرضِ كان بعدَ حياةٍ سبَقَت مِن نوعِ هذه الحياةِ؛ فصارتِ الآيةُ دالَّةً على أنَّه المُتصرِّفُ بإحياءِ الأرضِ وإماتتِها، ويُعلَمُ منه أنَّه مُحْيِي الحيوانِ ومُمِيتُه بطريقةِ لَحْنِ الخِطابِ [840] لحنُ الخطاب: هو أن يكونَ المسكوتُ عنه موافقًا للمنطوقِ فى الحُكمِ، ويُسمَّى أيضًا: فحوى الخطاب. وقيل: إنْ كان أَوْلى بالحُكمِ مِن المنطوقِ به فيُسَمَّى فَحْوى الخطابِ، وإن كان مساويًا فيُسَمَّى لحنَ الخطابِ. وقيل: هو مفهومُ المخالَفةِ. وقيل: هو دَلالةُ الاقتِضاءِ أي: دلالةُ اللفظِ التزامًا على ما لا يستقلُّ الحكمُ إلَّا به، وإن كان اللفظُ لا يقتضيه وضعًا. يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 53)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (2/641)، ((المختصر في أصول الفقه)) لابن اللحام (ص: 132)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/37). . فانتظَمَ مِن هذه الآياتِ المُفتتَحةِ بقولِه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [العنكبوت: 61] إلى هنا، أُصولُ صِفاتِ أفعالِ اللهِ تعالى، وهي: الخلْقُ، والرزقُ، والإحياءُ، والإماتةُ؛ مِن أجْلِ ذلك عُقِّبَت بأمْرِ اللهِ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يَحمَدَه بكلامٍ يَدُلُّ على تَخصيصِه بالحمْدِ [841] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/29). .
- قولُه: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ إضرابُ انتقالٍ مِن حَمْدِ اللهِ على وُضوحِ الحُجَجِ، إلى ذَمِّ المشركينَ بأنَّ أكثَرَهم لا يَتفطَّنون لنُهوضِ تلك الحُجَجِ الواضحةِ، فكأنَّهم لا عقْلَ لهم؛ لأنَّ وُضوحَ الحُجَجِ يَقْتضي أنْ يَفطُنَ لِنتائجِها كلُّ ذي مُسْكةٍ مِن عقْلٍ؛ فنُزِّلوا مَنزلةَ مَن لا عُقولَ لهم. وإنَّما أُسنِدَ عدَمُ العقْلِ إلى أكثَرِهم دونَ جَميعِهم؛ لأنَّ مِن عُقلائهم وأهلِ الفِطَنِ منهم مَن وضَحَت له تلك الحُجَجُ، فمِنهم مَن آمَنوا، ومِنهم مَن أصَرُّوا على الكفْرِ عِنادًا [842] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/30). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث قال هنا: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ، وقال في سُورةِ (الجاثيةِ): وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الجاثية: 5] ، وقال في سُورةِ (البقرةِ): إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة: 164] ؛ فخُصَّت سُورةُ (العنكبوتِ) بـ (مِن) في قولِه: مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا، وأُخلِيَ الموضعانِ الآخَرانِ منها؛ لأنَّه لَمَّا كان سِياقُ الكلامِ هنا في مَساقِ التَّقريرِ، كان المَقامُ مُقْتضيًا للتَّأكيدِ بزِيادةِ (مِن) في قولِه: مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا؛ إلْجاءً لهم إلى الإقرارِ بأنَّ فاعلَ ذلك هو اللهُ دونَ أصنامِهم؛ فلذلك لم يكُنْ مُقْتضًى لزِيادةِ (مِن) في آيةِ (البَقرة) وفي آيةِ (الجاثية): فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا  [843] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/29). ويُنظر أيضًا: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1024، 1025)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 200)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 439، 440). [البقرة: 164، الجاثية: 5].
- ومِن المناسَبةِ أيضًا أنَّه قال هنا: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، وقال في سُورةِ (لُقمانَ): بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [لقمان: 25] ؛ فاختُصَّت الأُولى بقولِه: لَا يَعْقِلُونَ، والثَّانيةُ بقولِه: لَا يَعْلَمُونَ؛ وذلك لأنَّ الأوَّلَ في التَّنبيهِ على البَعثِ والإحياءِ بعدَ الموتِ، فاستُعْمِلَ فيه لَا يَعْقِلُونَ، أي: لا يَفهَمون عن هذا الفِعلِ مِثْلَه، وفي مِثلِ هذا يُقال: عقَلْتُ كلامَه؛ إذا استَدْركْتَ وفهِمْتَ، ومَن تنبَّهَ على الشَّيءِ وعلِمَه بعدَ أنْ لم يكُنْ مُتنبِّهًا عليه، يُستعمَلُ فيه مِثلُ: فطِنَ له، وعقَلَه، وأدْرَكَه، وشعَرَ به، وإنْ صحِبَ كلَّ ذلك العِلْمُ، إلَّا أنَّه عِلْمٌ على وصْفٍ. وليس كذلك الآيةُ في سُورةِ (لُقمانَ)؛ لأنَّ الكفَّارَ فيها مُقِرُّون بأنَّ اللهَ وحْدَه خالقُ السَّمواتِ والأرضِ، وهم يَعلَمون ذلك، ويُثبِتون معه آلهةً، فكأنَّهم لا يَعلَمون؛ فلذلك قال: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، فإذا عَبَدوا الأصنامَ العِبادةَ الَّتي تَحِقُّ لِمَن خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ بإقرارِهم، فكأنَّهم لم يَعلَموا ما أقَرُّوا به، وثبَتَ معلومًا لهم [844] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1026-1028). .
- وفيه وجْهٌ آخَرُ: أنَّه وصَفَ أكثَرَهم هنا بعدَمِ العقْلِ للتَّعريفِ بإفراطِ قُصورِهم حتَّى استحَقُّوا الوصْفَ بصِفاتِ البهائمِ ومَن لا يصِحُّ خِطابُه؛ وذلك أنَّ العقْلَ فُضِّلَ به الإنسانُ، وبه امتيازُه عن البَهيمةِ، ولا يُمكِنُ العِلْمُ بشَيءٍ إلَّا بعدَ حُصولِه والاتِّصافِ به، وهو مَناطُ التَّكليفِ، فإذا فُقِدَ لَحِقَ فاقِدُه بالبهائمِ؛ فإنزالُ الماءِ مِن السَّماءِ وهو ماءٌ واحدٌ يكونُ عنه مُختلِفُ النَّباتِ، وضروبُ الأشجارِ، وأنواعُ الثَّمرِ المختلِفِ الحالاتِ مع وَحدةِ المادَّةِ؛ فمَن عقَل هذا عقَل وُجودَ الإنسانِ مِن نُطفةٍ واحدةٍ، كوحدةِ الماءِ النَّازلِ مِن السَّماءِ، ثمَّ يكونُ عن تلك النُّطفةِ شكْلُ الإنسانِ، وما يَنْطوي عليه خلْقُه، وتَشتمِلُ عليه جُملتُه، والمادَّةُ واحدةٌ؛ فالتَّلاقي والشَّبهُ بيْنَ الماءَينِ وما يُوجِدُه سُبحانه عنهما أوضَحُ شَيءٍ لِمَن عقَلَ، فكيف يَستبعِدُ العَودةَ مَن يُشاهِدُ ذلك أو يَعتبِرُ به [845] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/393). ؟!
5- قوله تعالى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
- قولُه: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إشارةُ تَحقيرٍ وقلَّةِ اكتِراثٍ، وكيف لا وهي لا تَزِنُ عندَ اللهِ جَناحَ بعَوضةٍ [846] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/463)، ((تفسير البيضاوي)) (4/199)، ((تفسير أبي حيان)) (8/366)، ((تفسير أبي السعود)) (7/47)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/31). ؟!
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، فقد زادَتْ هذه الآيةُ بتَوجيهِ اسمِ الإشارةِ إلى الحَياةِ، ولم تُوَجَّهِ الإشارةُ إلى الحياةِ في سُورةِ (الأنعامِ): وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [الأنعام: 32] ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ هذه الآيةَ لم يَتقدَّمْ فيها ما يَقْتضي تَحقيرَ الحياةِ؛ فجِيءَ باسمِ الإشارةِ لإفادةِ تَحقيرِها، وأمَّا آيةُ سُورةِ (الأنعامِ) فتقدَّمَ قولُه: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام: 31] ، فذكَرَ لهم في تلك الآيةِ ما سيَظهَرُ لهم إذا جاءتْهمُ السَّاعةُ مِن ذَهابِ حَياتِهم الدُّنيا سُدًى [847] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/31). .
- وأمَّا تقديمُ ذِكْرِ اللَّهوِ هنا في قولِه: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وذِكْرِ اللَّعِبِ في سُورةِ (الأنعامِ)؛ فلأنَّ آيةَ سُورةِ (الأنعامِ) لم تَشتمِلْ على اسمِ إشارةٍ يُقصَدُ منه تَحقيرُ الحياةِ الدُّنيا، فكان الابتداءُ بأنَّها لعَِبٌ مُشِيرًا إلى تَحقيرِها؛ لأنَّ اللَّعِبَ أعرَقُ في قِلَّةِ الجَدْوى مِن اللَّهوِ [848] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/31). .
- والحَصرُ في قولِه: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ حَصْرٌ ادِّعائيٌّ، يُقصَدُ به المُبالَغةُ؛ لأنَّ الأعمالَ الحاصلةَ في الحياةِ كثيرةٌ؛ منها اللَّهوُ واللَّعِبُ، ومنها غيرُهما، والمقصودُ مِن ذِكرِ الحياةِ هنا ما يَحصُلُ فيها ممَّا يُحِبُّها النَّاسُ لأجْلِه، وهو المُلائِماتِ. ووجهُ حَصرِ الحياةِ الدُّنيا في اللَّهوِ واللَّعِبِ -مع كَونِ المُلائماتِ كثيرةً، ومنها ما ليس بلَعبٍ ولَهْوٍ-: أنَّه لَمَّا كان مُعظمُ المُلائماتِ يَستدعي صرْفَ هِمَّةٍ وعَملٍ كانت مُشتمِلةً على شَيءٍ مِن التَّعبِ، وهو منافرٌ؛ فكان مُعظَمُ ما يُحِبُّ الناسُ الحياةَ لأجْلِه هو اللَّهوَ واللَّعِبَ؛ لأنَّه الأغلبُ على أعمالِ النَّاسِ في أوَّلِ العُمُرِ، والغالبُ عليهم فيما بعدَ ذلك، إلَّا مَن آمَنَ وعَمِلَ صالحًا؛ فلذلك وقَعَ القصرُ الادِّعائيُّ [849] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/194) و(21/31). القَصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمُبالَغةِ، بتنزيلِ غيرِ المذكورِ مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). . .
- قولُه: وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ أي: لَهِيَ دارُ الحياةِ الحقيقيَّةِ؛ لامتِناعِ طرَيانِ الموتِ عليها، أو هي في ذاتِها حَياةٌ؛ للمُبالَغةِ، و(الحيوانُ) مَصدرُ (حَيي) سُمِّيَ به ذو الحياةِ، وهو أبلَغُ مِن الحياةِ؛ لِمَا في بِناءِ (فَعَلان) مِن الحركةِ والاضْطِرابِ اللَّازمِ للحياةِ، وهو أمَارةٌ على قوَّةِ الحَيويَّةِ في الشَّيءِ مِثْلَ الغَليانِ، والمقامُ يَقْتضي المُبالَغةَ؛ لأنَّه واقعٌ في مُقابلِ حياةِ الدُّنيا؛ فكما بُولِغَ في قلَّةِ ثَباتِها وسُرعةِ تَقَضِّيها -حيثُ جُعِلَت لهوًا ولعِبًا تشبيهًا بلَعِبِ الصِّبيانِ، يَلْعَبون ساعةً ثمَّ يتفرَّقون- بُولِغَ في دوامِها وثباتِها [850] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/463)، ((تفسير البيضاوي)) (4/199)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/201)، ((تفسير أبي حيان)) (8/366)، ((تفسير أبي السعود)) (7/47)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/31). .
- ولَمَّا أُشِيرَ في هذه الآيةِ إلى الحياةِ الآخرةِ في قولِه: فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا [العنكبوت: 63] ، زادَهُ تَصريحًا بأنَّ الحياةَ الآخرةَ هي الحياةُ الحقُّ، وهمْ قد جَهِلوا الحياةَ الآخرةَ مِن أصْلِها؛ فلذلك قال: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [851] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/31). .
- ومِن المُناسَبةِ أيضًا: أنَّه قال في (الأنعامِ): وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ [الأنعام: 32] ، وقال هاهنا: وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ؛ وذلك لأنَّه لَمَّا كان الحالُ هناك حالَ إظهارِ الحسْرةِ، ما كان المُكلَّفُ يَحتاجُ إلى رادعٍ قَوِيٍّ، فقال: الْآَخِرَةُ خَيْرٌ، ولمَّا كان هاهنا الحالُ حالَ الاشتغالِ بالدُّنيا، احتاجَ إلى رادعٍ قَوِيٍّ، فقال: لا حياةَ إلَّا حياةُ الآخرةِ، وهذا كما أنَّ العاقلَ إذا عُرِضَ عليه شَيئانِ، فقال في أحدِهما: هذا خيرٌ مِن ذلك، يكونُ هذا تَرجيحًا فحسْبُ، ولو قال: هذا جيِّدٌ، وهذا الآخرُ ليس بشَيءٍ؛ يكونُ تَرجيحًا مع المُبالَغةِ، فكذلك هاهنا بالَغَ؛ لِكَونِ المُكلَّفِ مُتوغِّلًا فيها [852] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/75). .
- ومِن المُناسَبةِ أيضًا: أنَّه قال في (الأنعامِ): خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأنعام: 32] ، ولم يقُلْ هاهنا إلَّا: لَهِيَ الْحَيَوَانُ؛ وذلك لأنَّ الآخرةَ خيرٌ للمُتَّقي فحسْبُ، أي: المُتَّقي عن الشِّركِ، وأمَّا الكافرُ: فالدُّنيا جنَّتُه، فهي خيرٌ له مِن الآخرةِ، وأمَّا كَوْنُ الآخرةِ باقيةً، فيها الحياةُ الدَّائمةُ، فلا يَختَصُّ بقَومٍ دونَ قومٍ [853] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/76). .