موسوعة التفسير

سورةُ الحَديدِ
الآيتان (20-21)

ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ

غريب الكلمات:

وَلَهْوٌ: اللَّهْوُ: ما يَشغَلُ الإنسانَ عمَّا يَعْنِيه ويُهِمُّه، وكُلُّ باطِلٍ ألهَى عن الخَيرِ، وأصلُ (لهو): يدُلُّ على شُغلٍ عن شَيءٍ بِشَيءٍ [412] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/213)، ((المفردات)) للراغب (ص: 748)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 231)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 778). .
وَتَفَاخُرٌ: أي: يَفخَرُ بَعضُكم على بعضٍ بما أُعطِيَ مِن مَتاعِ الدُّنيا؛ مِنَ الفَخْرِ: وهو المُباهاةُ في الأشياءِ الخارجةِ عن الإنسانِ، كالمالِ والجاهِ، وأصلُ (فخر): يدُلُّ على تعاظُمٍ [413] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/416)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/480)، ((المفردات)) للراغب (ص: 627). .
وَتَكَاثُرٌ: التَّكاثُرُ: التَّباهي والتَّباري بكَثرةِ المالِ والعزِّ، وأصلُ (كثر): يدُلُّ على خِلافِ القِلَّةِ [414] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/160)، ((المفردات)) للراغب (ص: 703)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 466)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 350)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 318). .
غَيْثٍ: أي: مطَرٍ، وسُمِّيَ المطرُ غَيْثًا؛ لأنَّه يُغيثُ الخلْقَ، وقيل: الغَيثُ هو مطرٌ في إبَّانِه، وإلَّا فمطرٌ [415] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/403)، ((البسيط)) للواحدي (21/301)، ((المفردات)) للراغب (ص: 617)، ((تفسير القرطبي)) (16/28)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 672). قال القرطبي: (والغَيثُ ما كان نافعًا في وقتِه، والمطرُ قد يكونُ نافعًا وضارًّا، في وقتِه وغيرِ وقتِه). ((تفسير القرطبي)) (16/29). .
الْكُفَّارَ: أي: الزُّرَّاعَ؛ لأنَّ الكُفْرَ هو التَّغطيةُ، والزَّارِعُ يُغَطِّي البَذْرَ أو الحَبَّةَ، ويَستُرُها في التُّرابِ. وقيل: الكُفَّارُ هنا هم الكُفَّارُ باللهِ، وأصلُ (كفر): يدُلُّ على السَّترِ والتَّغطيةِ [416] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 28)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/191)، ((المفردات)) للراغب (ص: 716). .
يَهِيجُ: أي: يَيبَسُ بعدَ أنْ كان أخضَرَ نَضِرًا، وأصلُ (هيج) هنا: يدُلُّ على يُبْسِ نَباتٍ [417] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 383)، ((تفسير ابن جرير)) (22/416)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/23)، ((المفردات)) للراغب (ص: 848). .
حُطَامًا: أي: فُتاتًا، والحُطامُ: ما تحطَّمَ مِن عِيدانِ الزَّرْعِ إذا يَبِسَ، وأصلُ (حطم): يدُلُّ على كَسْرِ شَيْءِ [418] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 383)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/78)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 200)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 389). .
مَتَاعُ الْغُرُورِ: أي: مَتاعٌ زائِلٌ باطِلٌ يَخدَعُ مَن يَركَنُ إليه، ومَتاعُ الغُرورِ: الشَّيءُ الَّذي لا يُعظِّمُ الاستِمتاعَ به إلا مُغْتَرٌّ، وهو كُلُّ ما يُلْهِي عن طَلَبِ الآخرةِ، وأصلُ (متع): المنفعةُ، وامتِدادُ مدَّةٍ في خَيرٍ، وأصلُ (غرر) هنا: يدُلُّ على نُقْصانٍ [419] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 344)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/380) و(5/293)، ((البسيط)) للواحدي (21/302)، ((تفسير ابن عطية)) (5/267). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا حالَ الدُّنيا: اعلَموا أنَّ الحياةَ الدُّنيا لَعِبٌ ولَهْوٌ زائِلٌ، وزِينةٌ تَتزَيَّنونَ بها، وتفاخُرٌ بَيْنَكم، وتكاثُرٌ في الأموالِ والأولادِ، ومُباهاةٌ بكَثرةِ ذلك بَيْنَكم؛ مَثَلُها كمَثَلِ مَطَرٍ أنبَتَتْ به الأرضُ زُروعًا أعجَبَت الكُفَّارَ، ثمَّ تيبَسُ تلك الزُّروعُ، فتُرَى بعدَ تَمامِ خُضرتِها ونَضْرتِها ذابِلةً مُصْفَرَّةَ اللَّونِ، ثمَّ تَصيرُ فُتاتًا مُتَكَسِّرًا!
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى عِظَمَ الآخرةِ، فيقولُ: وفي الآخِرةِ عذابٌ شَديدٌ للكافِرينَ الَّذين اغتَرُّوا بالدُّنيا، وأعرَضوا عن الآخِرةِ، ومَغفِرةٌ مِنَ اللهِ لعِبادِه المؤمِنينَ، ورِضوانٌ، وما الحَياةُ الدُّنيا إلَّا مَتاعٌ زائِلٌ باطِلٌ يَخدَعُ مَن يَركَنُ إليه.
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى عبادَه بالمُسابَقةِ إلى ما فيه سعادتُهم، فيقولُ: سابِقُوا إلى مَغفِرةٍ مِن رَبِّكم وجَنَّةٍ عَرْضُها كعَرْضِ السَّماءِ والأرضِ، أُعِدَّت للَّذين آمَنوا باللهِ -تعالى- ورُسُلِه؛ ذلك فَضلُ اللهِ -تعالى- يُؤتيه مَن يَشاءُ مِن عِبادِه، واللهُ ذو الفَضلِ العَظيمِ الواسِعِ.

تفسير الآيتين:

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أعقَبَ التَّحريضَ على الصَّدَقاتِ والإنفاقِ بالإشارةِ إلى دَحْضِ سَببِ الشُّحِّ أنَّه الحِرْصُ على استِبقاءِ المالِ لإنفاقِه في لَذائذِ الحَياةِ الدُّنيا، فضرَبَ لهم مَثَلَ الحياةِ الدُّنيا بحالٍ مُحقَّرةٍ على أنَّها زائلةٌ؛ تَحقيرًا لحاصِلِها، وتَزهيدًا فيها؛ لأنَّ التَّعلُّقَ بها يَعوقُ عن الفَلَاحِ [420] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/400). .
وأيضًا وَجْهُ الاتِّصالِ أنَّ الإنسانَ قد يَترُكُ الجِهادَ؛ خَوفًا على نَفْسِه مِن القَتلِ، وخَوفًا مِن لُزومِ الموتِ، فبَيَّن أنَّ الحياةَ الدُّنيا مُنقَضِيةٌ؛ فلا يَنبغي أن يُترَكَ أمرُ اللهِ محافظةً على ما لا يَبقَى [421] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/254). .
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ.
أي: اعلَموا أنَّ حَقيقةَ الحياةِ الدُّنيا أنَّها لَعِبٌ وهَزْلٌ باطِلٌ مُنقَطِعٌ لا دوامَ له، ولهوٌ يُلْهِي ويَفرَحُ النَّاسُ ويَتلَذَّذونَ به، ثمَّ يَنقَضي [422] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/416)، ((تفسير القرطبي)) (17/254)، ((تفسير ابن كثير)) (8/24)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/286، 287)، ((تفسير السعدي)) (ص: 841)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 402). !
كما قال تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنعام: 32] .
وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ.
أي: والحياةُ الدُّنيا زِينةٌ تَتزَيَّنونَ بها، وتَستَطِيبونَ شَهَواتِها، وتَستَحسِنونَ مَنظَرَها وزُخْرُفَها، وهي تفاخُرٌ بَيْنَكم؛ فيَفخَرُ بَعضُكم على بَعضٍ بما حَصَّله منها [423] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/416)، ((تفسير ابن عطية)) (5/266)، ((تفسير القرطبي)) (17/255)، ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 170)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/287)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/402)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 403). !
قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ [آل عمران: 14] .
وعن أبي مالِكٍ الأَشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أربَعٌ في أُمَّتي مِن أمرِ الجاهِليَّةِ لا يَترُكونَهنَّ: الفَخرُ في الأحسابِ [424] الفَخرُ في الأحسابِ أي: التَّفاخُرُ والتَّكبُّرُ والتَّعظيمُ بعَدِّ الرَّجُلِ مَناقِبَه، ومآثِرَ آبائِه، وتفضيلِه نفْسَه على غيرِه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا علي القاري (3/1234). ، والطَّعنُ في الأنسابِ، والاستِسقاءُ بالنُّجومِ، والنِّياحةُ! )) [425] رواه مسلم (934). .
وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ.
أي: وهي تكاثُرٌ؛ تَتكَثَّرونَ فيها مِنَ الأموالِ والأولادِ، وتَتباهَونَ فيها بكَثرةِ ذلك بَيْنَكم [426] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/416)، ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 170)، ((تفسير السعدي)) (ص: 841). !
قال الله تعالى: فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف: 34] .
وقال سُبحانَه: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر: 1] .
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا قَرَّر سُبحانَه أنَّها ظِلٌّ زائِلٌ، وعَرَضٌ هائِلٌ، وكان بعضُ النَّاسِ يَتنَبَّهُ فيَشكُرُ، وبعضُهم يَعمَى فيَكفُرُ، وكان القِسمُ الثَّاني أكثَرَ؛ لأنَّ وُجودَها وإقبالَها يُعمِي أكثَرَ القُلوبِ عن حقارتِها- ضرب لذلك مثلًا مُقَرِّرًا لِما مضَى من وَصْفِها؛ لأنَّ للأمثالِ في تقريرِ الأشياءِ وتَصويرِها ما ليس لغَيرِها [427] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/288). .
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ.
أي: كمَثَلِ مَطَرٍ جاءَ بعْدَ قُنوطِ النَّاسِ، فأنبَتَت به الأرضُ المُجدِبةُ زُروعًا استَحسَنَها الكُفَّارُ [428] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (5/127)، ((تفسير السمرقندي)) (3/408)، ((تفسير الزمخشري)) (4/478، 479)، ((تفسير القرطبي)) (17/255، 256)، ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 171)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/695)، ((تفسير ابن كثير)) (8/24)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/288)، ((تفسير السعدي)) (ص: 841)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 405). قيل: الكُفَّارُ هنا: الزُّرَّاعُ؛ لأنَّ الكُفْرَ هو التَّغطيةُ، والزَّارِعُ يُغَطِّي البَذْرَ أو الحَبَّةَ ويَستُرُها في التُّرابِ. ومِمَّن قال بأنَّ الكُفَّارَ هنا هم الزُّرَّاعُ: الواحديُّ، والقرطبي، وابن كثير، والبِقاعي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/252)، ((تفسير القرطبي)) (17/255)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 24)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/288). وقيل: المرادُ: الكُفَّارُ باللهِ تعالى؛ فهم أشَدُّ إعجابًا بزِينةِ الدُّنيا مِنَ المؤمِنينَ. وممَّن ذَهَب إلى هذا القولِ: الزمخشريُّ، وابن القيم، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/478، 479)، ((عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين)) لابن القيم (ص: 171)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/695)، ((تفسير السعدي)) (ص: 841)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 405). قال ابن القيم: (الصَّحيحُ -إنْ شاء اللهُ- أنَّ الكُفَّارَ هم الكُفَّارُ باللهِ تعالى، وذلك عُرْفُ القُرآنِ حيثُ ذُكِروا بهذا النَّعْتِ في كلِّ مَوضِعٍ، ولو أراد الزُّرَّاعَ لَذَكَرَهم باسمِهم الَّذي يُعرَفونَ به، كما ذَكَرَهم به في قَولِه: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ [الفتح: 29] ). ((عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين)) (ص: 171). .
كما قال تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [البقرة: 212] .
وقال سُبحانَه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا [فاطر: 27] .
ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا.
أي: ثمَّ يَبتَدِئُ ذلك الزَّرعُ بالجَفافِ واليُبْسِ، فيُرَى بعْدَ تَمامِ خُضرتِه ونَضْرتِه ذابِلًا مُصْفَرَّ اللَّونِ [429] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/416)، ((تفسير ابن عطية)) (5/267)، ((تفسير القرطبي)) (17/256)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/405)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 405). قال ابنُ كثير: (هكذا الحياةُ الدُّنيا؛ تكونُ أوَّلًا شابَّةً، ثمَّ تَكتَهِلُ، ثمَّ تكونُ عَجوزًا شَوْهاءَ، والإنسانُ كذلك؛ في أوَّلِ عُمُرِه وعُنْفوانِ شبابِه يكونُ غَضًّا طَرِيًّا لَيِّنَ الأعطافِ، بَهِيَّ المَنظَرِ، ثمَّ إنَّه يَشرَعُ في الكُهولةِ، فتَتغَيَّرُ طِباعُه، ويَنفَدُ بَعضُ قُواه، ثمَّ يَكبَرُ فيَصيرُ شَيخًا كبيرًا، ضَعيفَ القُوى، قليلَ الحَرَكةِ، يُعجِزُه الشَّيءُ اليَسيرُ!). ((تفسير ابن كثير)) (8/24). !
ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا.
أي: ثمَّ يَصيرُ بعدَ تَناهي جَفافِه ويُبْسِه فُتاتًا مُتَكَسِّرًا [430] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/417)، ((تفسير القرطبي)) (17/256)، ((تفسير ابن كثير)) (8/24)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/289)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 405). !
كما قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف: 45] .
وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان هذا المثَلُ دالًّا على زَوالِ الدُّنيا وانقِضائِها وفراغِها لا محالةَ، وأنَّ الآخِرةَ كائِنةٌ لا محالةَ؛ حَذَّر مِن أمْرِها، ورَغَّب فيما فيها مِن الخَيرِ [431] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/24). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر ما يَؤُولُ إليه أمرُ الدُّنيا مِن الفَناءِ؛ ذكَرَ ما هو ثابِتٌ دائِمٌ مِن أمرِ الآخِرةِ مِن العَذابِ الشَّديدِ، ومِن رِضاه الَّذي هو سَبَبُ النَّعيمِ [432] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/110). .
وأيضًا بعدَما بُيِّن حَقارةُ أمْرِ الدُّنيا؛ تَزهيدًا فيها، وتَنفيرًا عن العكوفِ عليها، أُشيرَ إلى فَخامةِ شأْنِ الآخرةِ، وعِظَمِ ما فيها مِنَ اللَّذَّاتِ والآلامِ؛ تَرغيبًا في تَحصيلِ نَعيمِها المُقيمِ، وتَحذيرًا مِن عذابِها الأليمِ، وقد ذُكِرَ العذابُ فقِيلَ: وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ؛ لأنَّه مِن نَتائجِ الانهماكِ فيما فُصِّلَ مِن أحوالِ الحياةِ الدُّنيا [433] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/210، 211). .
وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ.
أي: وفي الآخِرةِ يَقَعُ عذابٌ شَديدٌ على الكافِرينَ باللهِ -تعالى- وبرُسُلِه، الَّذين اغتَرُّوا بالدُّنيا الزَّائِلةِ، وأعرَضوا عن الآخِرةِ الباقِيةِ [434] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/416)، ((تفسير القرطبي)) (17/256)، ((تفسير ابن كثير)) (8/24)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/290)، ((تفسير السعدي)) (ص: 841). .
وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ.
أي: وفي الآخِرةِ تَكونُ مَغفِرةٌ مِنَ اللهِ لذُنوبِ عِبادِه الَّذين سَعَوا للآخِرةِ سَعْيَها، ورِضوانٌ مِن اللهِ تعالى يُحِلُّه على أهلِ جَنَّتِه [435] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/416)، ((تفسير القرطبي)) (17/256)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/290، 291)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 406). .
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ.
أي: وما الحَياةُ الدُّنيا إلَّا مَتاعٌ يَتمَتَّعُ به النَّاسُ زَمَنًا قَليلًا، يَغُرُّ النَّاظِرينَ إليه، وهو زائِلٌ، ويَخدَعُ مَن يَركَنُ إليه، وهو باطِلٌ [436] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/417)، ((تفسير ابن كثير)) (8/24، 25)، ((تفسير السعدي)) (ص: 841)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/407)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 406). !
كما قال تعالى: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة: 38] .
وعن المُستَورِدِ بنِ شَدَّادٍ الفِهْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((واللهِ ما الدُّنيا في الآخِرةِ إلَّا مِثلُ ما يَجعَلُ أحَدُكم إِصْبَعَه هذه -وأشار يحيى [437] وهو يحيى بنُ يحيى التَّميمي، أبو زكريَّا النَّيسابوري، أحدُ رواةِ الحديثِ. بالسَّبَّابةِ- في اليَمِّ، فلْيَنظُرْ بِمَ تَرجِعُ؟!)) [438] رواه مسلم (2858). .
وعن سَهلِ بنِ سَعدٍ السَّاعِديِّ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَوضِعُ سَوطٍ في الجنَّةِ خَيرٌ مِنَ الدُّنيا وما فيها )) [439] رواه البخاري (3250، 6415). .
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر الله تعالى ما في الآخِرةِ مِنَ المغفِرةِ؛ أمَرَ بالمسابَقةِ إليها [440] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/110). .
وأيضًا لَمَّا بَيَّن حالَ الدُّنيا لِيَصرِفَ الكمَلةَ مِنَ العِبادِ عنها؛ لسُفولِها وحقارتِها، وأنَّ الآخِرةَ بَقاءٌ وكَمالٌ؛ لِيَرغَبوا غايةَ الرَّغبةِ فيها، ولِيَشتاقوا كلَّ الاشتياقِ لكَمالِها وشَرَفِها وجَلالِها؛ أنتَجَ ذلك قَولَه تعالى [441] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/291). :
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ.
أي: سابِقُوا غَيرَكم وبادِروا إلى عَمَلِ ما يُوجِبُ لكم تحقيقَ المَغفِرةِ مِن رَبِّكم لذُنوبِكم، فيَستُرُها عليكم، ويَتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِكم [442] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/417)، ((تفسير ابن عطية)) (5/267)، ((تفسير الرازي)) (29/465)، ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 244)، ((تفسير السعدي)) (ص: 841)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 407). قال الرازي: (سارِعوا مُسارَعةَ المُسابِقِينَ لأقرانِهم في المِضْمارِ، وقَولُه: إِلَى مَغْفِرَةٍ... لا شَكَّ أنَّ المرادَ منه المُسارَعةُ إلى ما يُوجِبُ المَغفِرةَ؛ فقال قومٌ: المرادُ: سابِقوا إلى التَّوبةِ. وقال آخَرونَ: المرادُ: سابِقوا إلى سائِرِ ما كُلِّفْتُم به، فدَخَل فيه التَّوبةُ. وهذا أصَحُّ؛ لأنَّ المَغفِرةَ والجَنَّةَ لا يُنالانِ إلَّا بالانتِهاءِ عن جميعِ المعاصي، والاشتِغالِ بكُلِّ الطَّاعاتِ). ((تفسير الرازي)) (29/465). وقال ابنُ عاشور: (أي: أكثِروا مِن أسبابِها ووسائِلِها؛ فالمُسابَقةُ إلى المَغفِرةِ هي المُسابَقةُ في تحصيلِ أسبابِها). ((تفسير ابن عاشور)) (27/408). .
قال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة: 148] .
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
أي: وسابِقوا إلى جَنَّةٍ عَرْضُها كعَرْضِ السَّمواتِ والأرضِ، لو بُسِطَت ووُصِلَ بَعضُها ببَعضٍ [443] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/243)، ((تفسير البغوي)) (5/32)، ((تفسير ابن كثير)) (8/25)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/292، 293). قال الرازي: (أمَّا قولُه تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وقال في «آلِ عِمْرانَ»: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران: 133] ، فذكروا فيه وُجوهًا: أحدُها: أنَّ السَّمواتِ السَّبْعَ والأرَضينَ السَّبْعَ لو جُعِلَتْ صفائحَ وأُلزِقَ بعضُها ببعضٍ لَكانت الجنَّةُ في عَرضِها، هذا قولُ مُقاتِلٍ. وثانيها: قال عَطاءٌ [عن] ابنِ عبَّاسٍ: يريدُ أنَّ لكلِّ واحدٍ مِن المُطيعينَ جنَّةً بهذه الصِّفةِ. وثالثُها: قال السُّدِّيُّ: إنَّ اللهَ تعالى شبَّه عَرْضَ الجنَّةِ بعَرضِ السَّمواتِ السَّبْعِ والأرَضينَ السَّبْعِ، ولا شكَّ أنَّ طُولَها أزْيَدُ مِن عَرضِها، فذكَرَ العَرضَ تنبيهًا على أنَّ طولَها أضعافُ ذلك. ورابعُها: أنَّ هذا تمثيلٌ للعِبادِ بما يَعقِلونه، ويقَعُ في نُفوسِهم وأفكارِهم، وأكثَرُ ما يقعُ في نُفوسِهم مِقدارُ السَّمواتِ والأرضِ، وهذا قولُ الزَّجَّاجِ. وخامِسُها، وهو اختيارُ ابنِ عبَّاسٍ: أنَّ الجِنانَ أربعةٌ، قال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن: 46]، وقال: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن: 62]، فالمرادُ هاهنا تشبيهُ واحدةٍ مِن تلك الجِنانِ في العَرضِ بالسَّمواتِ السَّبْعِ والأرَضينَ السَّبْعِ). ((تفسير الرازي)) (29/465). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/128). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والثعلبي، والسمعاني، والبغوي، والقرطبي، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/243)، ((تفسير السمرقندي)) (3/408)، ((تفسير الثعلبي)) (9/244)، ((تفسير السمعاني)) (5/ 376)، ((تفسير البغوي)) (5/32)، ((تفسير القرطبي)) (17/256)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 722)، ((تفسير العليمي)) (6/542). ونسَبَ القُرطبيُّ هذا القولَ في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ آلِ عِمْرانَ الآية (133) إلى الجمهورِ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (4/204). وقال النَّيْسابوريُّ في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ آلِ عِمْرانَ: (المرادُ المُبالَغةُ في وصْفِ سَعةِ الجنَّةِ، فشُبِّهَتْ بأوسَعِ ما عَلِمَه النَّاسُ مِن خَلقِه وأبسَطِه). ((تفسير النيسابوري)) (2/258). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/415)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/408). !
كما قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] .
أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ.
أي: أُعِدَّت تلك الجَنَّةُ وهُيِّئَتْ للَّذين آمَنوا باللهِ تعالى، وآمَنوا برُسُلِه عليهم السَّلامُ [444] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/417)، ((تفسير السعدي)) (ص: 841)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 409، 410). .
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.
أي: دُخولُ تلك الجَنَّةِ فَضلٌ مِنَ اللهِ تعالى تَفَضَّلَ به عليهم، واللهُ يُعطي فَضْلَه مَن يَشاءُ مِن عِبادِه بحَسَبِ ما تَقتَضيه حِكْمتُه [445] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/417)، ((تفسير ابن كثير)) (8/25)، ((تفسير السعدي)) (ص: 841)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 411). .
قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء: 69، 70].
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
أي: واللهُ صاحِبُ الفَضلِ العَظيمِ والثَّوابِ الكَبيرِ، فلا يَبعُدُ منه عزَّ وجلَّ التَّفضُّلُ بذلك على مَن يَشاءُ وإنْ عَظُمَ قَدْرُه [446] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/417)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 88)، ((تفسير الألوسي)) (14/186)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 411). .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20].
وقال سُبحانَه: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [غافر: 61] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلى آخِرِ السِّياقِ: إشارةٌ إلى أنَّ الحياةَ ينبغي أن تُتَخَّذَ وَسيلةً للنَّعيمِ الدَّائِمِ في الآخِرةِ، ووِقايةً مِنَ العذابِ الشَّديدِ، وما عدا ذلك مِن أحوالِ الحياةِ فهو مَتاعٌ قَليلٌ؛ ولذلك أعقَبَ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا بالإخبارِ عن الآخِرةِ، بقَولِه تعالى: وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ... إلخ [447] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/400). .
2- إنَّ ذَمَّ الدُّنيا ليس راجِعًا إلى مَكانِ الدُّنيا الَّذي هو الأرضُ الَّتي جَعَلَها اللهُ لبني آدَمَ مِهادًا وسَكَنًا، ولا إلى ما أودَعَ اللهُ فيها مِن الجِبالِ والبِحارِ والأنهارِ والمعادِنِ، ولا إلى ما أنبَتَه فيها مِن الشَّجَرِ والزَّرْعِ، ولا إلى ما بَثَّ فيها مِن الحيَواناتِ وغَيرِ ذلك؛ فإنَّ ذلك كلَّه مِن نعمةِ اللهِ على عِبادِه بما لهم فيه مِن المنافِعِ، ولهم به مِن الاعتِبارِ والاستِدلالِ على وحدانيَّةِ صانِعِه وقُدرتِه وعَظَمتِه، وإنَّما الذَّمُّ راجِعٌ إلى أفعالِ بني آدمَ الواقِعةِ في الدُّنيا؛ لأنَّ غالبَها واقِعٌ على غيرِ الوجهِ الَّذي تُحمَدُ عاقِبتُه، بل يَقَعُ على ما تَضُرُّ عاقِبتُه، أو لا تَنفَعُ، كما قال عزَّ وجلَّ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ [448] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/187). .
3- في قَولِه تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ دليلٌ على أنَّ اللَّعِبَ واللَّهوَ والزِّينةَ وكُلَّ ما ذُكِرَ معها: مَذمومٌ جُملةً، إلَّا ما رُخِّصَ فيه مِن مُلاعبةِ الرَّجُلِ امرأتَه وجاريتَه، ولَهْوِ النِّضالِ وما ذُكِرَ معه، وما استُثنيَ مِن الزِّينةِ في سورةِ (الأعرافِ) مِن أَخْذِ الزِّينةِ عندَ المساجِدِ، وما لم يكُنْ منها سَرَفًا [449] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/225). .
4- في قَولِه تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ التَّزهيدُ في الدُّنيا [450] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/515). .
5- قد نَجِدُ الإنسانَ أحيانًا يكونُ في حالِ الضِّيقِ أو الوَسَطِ خَيرًا منه في حالِ الغِنى؛ لأنَّه يَغُرُّه الغِنى ويُطْغِيه والعِياذُ باللهِ؛ ولهذا قال: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ، يعنى: فلا تغتَرُّوا بها، وعليكم بالآخِرةِ الَّتي إذا زُحزِحَ فيها الإنسانُ عن النَّارِ وأُدخِلَ الجنَّةَ، فإنَّه بذلك يفوزُ فَوزًا لا فَوزَ مِثلُه. نسألُ اللهَ تعالى أن يَجعَلَنا وإيَّاكم مِمَّن أُوتِيَ في الدُّنيا حَسَنةً، وفي الآخِرةِ حَسَنةً، ووقاه اللهُ عذابَ النَّارِ [451] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/439). .
6- لَمَّا سَمِعَ الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم قَولَ اللهِ عزَّ وجَلَّ: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة: 148] ، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَهِموا أنَّ المرادَ مِن ذلك أن يجتهِدَ كُلُّ واحدٍ منهم أن يكونَ هو السَّابِقَ لغَيرِه إلى هذه الكرامةِ، والمسارِعَ إلى بلوغِ هذه الدَّرَجةِ العاليةِ؛ فكان أحَدُهم إذا رأى مَن يعمَلُ عَمَلًا يَعجِزُ عنه خَشِيَ أن يكون صاحِبُ ذلك العمَلِ هو السَّابِقَ له، فيَحزَنُ لفَواتِ سَبْقِه، فكان تنافُسُهم في دَرَجاتِ الآخرةِ، واستباقُهم إليها، كما قال تعالى: خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: 26] ، ثمَّ جاء مَن بَعْدَهم فعَكَسَ الأمرَ، فصار تنافُسُهم في الدُّنيا الدَّنِيَّةِ وحُظوظِها الفانيةِ [452] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 244). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فاللَّعبُ طَورُ سِنِّ الطُّفولةِ والصِّبا، واللَّهوُ طَورُ الشَّبابِ، والزِّينةُ طَورُ الفُتُوَّةِ، والتَّفاخُرُ طَورُ الكُهولةِ، والتَّكاثُرُ طَورُ الشَّيخوخةِ [453] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/401). .
2- في قَولِه تعالى: وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ إخبارٌ بأنَّ في الآخِرةِ عَذابًا شَديدًا، ومَغفِرةً منه تعالى ورِضوانًا، وهذا مَعنًى حَسَنٌ، وهو أنَّه قابَلَ العَذابَ بشَيئَينِ: بالمَغفِرةِ والرِّضوانِ؛ فهو من بابِ: (لن يَغلِبَ عُسرٌ يُسرَينِ) [454] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/488). (لن يَغلِبَ عُسرٌ يُسرَينِ) لفظُ أثرٍ أخرجه مالكٌ (2/446)، والحاكمُ (3176)، والبيهقيُّ (10010) موقوفًا عن عُمَرَ رضيَ الله عنه. صحَّحه الحاكمُ على شرطِ مسلمٍ، ووافقه الذهبيُّ في ((التلخيص)) (2/329)، وحسَّن إسنادَه ابنُ حجر في ((تغليق التعليق)) (4/372)، وقوَّى إسنادَه ووثَّق رجالَه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (15/161). .
3- في قَولِه تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَصْفُ الدَّاءِ والدَّواءِ معًا؛ فالدَّاءُ: هو الغُرورُ. والدَّواءُ: هو المُسابَقةُ إلى مَغفِرةٍ مِنَ اللهِ ورِضوانِه [455] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (8/506). .
4- في قَولِه تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ دَلالةٌ على المُبادَرةِ فَورًا لامتِثالِ أوامِرِ اللهِ تعالى [456] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/338). ، وقد احتَجَّ القائِلونَ بأنَّ الأمرَ يُفيدُ الفَورَ بهذه الآيةِ، فقالوا: هذه الآيةُ دَلَّت على وُجوبِ المُسارَعةِ؛ فوجب أن يكونَ التَّراخي مَحظورًا [457] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/465). .
5- قال تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ هذه الآيةُ حُجَّةٌ عندَ جميعِ العلماءِ في النَّدبِ إلى الطَّاعاتِ، وقد استدَلَّ بها بعضُهم على أنَّ أوَّلَ أوقاتِ الصَّلَواتِ أفضلُ؛ لأنَّه يَقْتضي المسارعةَ والمسابقةَ [458] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/267)، ((تفسير أبي حيان)) (10/111). .
6- في قَولِه تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَمْرٌ بالمُسابَقةِ، وقد جاء الأمرُ في آيةٍ أُخرى بالمُسارَعةِ: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] ؛ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وذلك بفِعلِ أسبابِ المغفرةِ، ومِن أسبابِ المغفرةِ: أنْ تسألَ اللهَ المَغفِرةَ، تقولُ: اللَّهُمَّ اغفِرْ لي، أو تَقولُ: أستَغفِرُ اللهَ وأتوبُ إليه، ومِن أسبابِ المغفرةِ: فِعْلُ ما تكونُ به المَغفِرةُ، كقَولِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن صام رَمَضانَ إيمانًا واحتِسابًا غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذَنْبِه )) [459] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 407). والحديث أخرجه البخاريُّ (38)، ومسلمٌ (760) مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه. .
7- في قَولِه تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أنَّ مُحْسِنِي الجِنِّ في الجَنَّةِ، كما أنَّ مُسيئَهم في النَّارِ؛ لأنَّ مُؤمِنَهم ممَّنْ آمَنَ باللهِ ورُسُلِه، فيَدْخُلُ في المبشَّرينَ، ويَستحِقُّ البِشارةَ [460] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/37). .
8- قال سُبحانَه وتعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ في قَولِه تعالى: أُعِدَّتْ دَلالةٌ على أنَّ الجَنَّةَ مَخلوقةٌ، وتَكَرُّرُ ذلك في القُرآنِ يُقَوِّي ذلك، والسُّنَّةُ ناصَّةٌ على ذلك، وذلك يَرُدُّ على المُعتَزِلةِ في قَولِهم: «إنَّها الآنَ غَيرُ مَخلوقةٍ وستُخْلَقُ» [461] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/111). !
9- في قَولِه تعالى: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ حُجَّةٌ على المُعتَزلةِ في بابِ الوَعيدِ -حيثُ يُخَلِّدون عُصاةَ الموحِّدِينَ في النَّارِ- وقد أخْبَر اللهُ جلَّ جلالُه عن نَفْسِه بإعدادِ الجَنَّةِ للمُؤمِنينَ به وبرُسُلِه في هذه الآيةِ بلا شَرْطٍ [462] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/227). .
10- قال اللهُ تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وفي سورةِ (آلِ عِمرانَ) قال تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران: 133] . ولا مُنافاةَ؛ لأنَّ الأوَّلَ: عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ تَشبيهٌ، والثَّانيَ: عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران: 133] أيضًا تَشبيهٌ، لكِنْ يُسَمِّيه أهلُ البَلاغةِ: «تشبيهٌ بَليغٌ» [463] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 408). .
11- في قَولِه تعالى: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أنَّ غَيْرَهم لا حَظَّ لهم في الجنَّةِ؛ لأنَّ مَعنى إعدادِ شَيءٍ لِشَيءٍ قَصْرُه عليه [464] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/409). .
12- في قَولِه تعالى: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ سؤالٌ: أنَّه يَلزَمُ على هذا أن يُقطَعَ بحُصولِ الجنَّةِ لجَميعِ العُصاةِ، وأنْ يُقطَعَ بأنَّه لا عِقابَ عليهم!
الجوابُ: أنَّا نَقطَعُ بحُصولِ الجنَّةِ، ولا نَقطَعُ بنَفيِ العِقابِ عنهم؛ لأنَّهم إذا عُذِّبوا مُدَّةً ثمَّ نُقِلوا إلى الجنَّةِ بَقُوا فيها أبَدَ الآبادِ، فكانت مُعَدَّةً لهم [465] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/212). .
13- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ بيانُ أنَّه لا يَدخُلُ أحَدٌ الجَنَّةَ إلَّا بفَضلِ اللهِ تعالى لا بمُجَرَّدِ عَمَلِه، كما ثبَت عن أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لن يُدخِلَ أحدًا مِنكم عَمَلُه الجنَّةَ، قالوا: ولا أنت يا رَسولَ اللهِ؟ قال: ولا أنا، إلَّا أن يَتغَمَّدَنيَ اللهُ منه بفَضلٍ ورَح مةٍ)) [466] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/212). والحديث أخرجه البخاريُّ (5673)، ومسلمٌ (2816) واللَّفظُ له. .
14- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أنَّ الفَضائِلَ لا يُسأَلُ عنها [467] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/307). .
15- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تنبيهٌ على عِظَمِ حالِ الجنَّةِ؛ وذلك لأنَّ ذا الفَضلِ العَظيمِ إذا أَعطَى عَطاءً مَدَح به نَفْسَه وأثنَى بسَبَبِه على نفْسِه؛ فإنَّه لا بُدَّ أن يكونَ ذلك العَطاءُ عَظيمًا [468] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/466). !
16- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ جوازُ وَصْفِ غيرِ اللهِ تعالى بالعِظَمِ؛ لأنَّ الفَضلَ هنا يَحتَمِلُ: أنْ يُرادَ به الفَضلُ الَّذي هو فَضلُ اللهِ -أي: عَطاؤُه-، أو أنَّ المرادَ به المُتفضَّلُ به، وهو المُعطَى؛ فعلى الثَّاني لا إشكالَ في استِنباطِ تلك الفائدةِ: أنَّ العِظَمَ يُوصَفُ به غيرُ اللهِ. وعلى الأوَّلِ إذا قُلْنا: إنَّ الفَضلَ هو نفْسُ فِعْلِ اللهِ، فوَصْفُه بالعِظَمِ لا إشكالَ فيه؛ لأنَّه مِن صِفاتِ اللهِ تعالى، وصِفاتُ اللهِ كذاتِه عَظيمةٌ، فإنْ قال قائلٌ: ما دام الاحتِمالانِ قائِمَينِ فلا دَلالةَ على أنه يُوصَفُ بالعِظَمِ مَن سِوَى اللهِ ما دُمْنا نَقولُ: يَحتَمِلُ أنْ يكونَ الفَضلُ هنا صِفةً للهِ تعالى، وصِفةُ اللهِ عَظيمةٌ كذاتِ اللهِ!
فالجوابُ عن هذا أنْ يُقالَ: اقرأْ قَولَ اللهِ تعالى: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل: 23] ، فوَصَفَ العَرْشَ بالعِظَمِ مع أنَّ عَرشَها مخلوقٌ، إذنْ يَصِحُّ أنْ نقولَ: هذا الفِعلُ عَظيمٌ، وهذا رَجُلٌ عَظيمٌ، هذه سَيَّارةٌ عَظيمةٌ، هذا بَيتٌ عظيمٌ، وما أشْبَهَ ذلك، ولا يَضُرُّ، كما أنَّه يَصِحُّ أنْ نقولَ: فلانٌ عزيزٌ، فلانٌ قَوِيٌّ؛ ولا حَرَجَ في ذلك، ولكنْ يجبُ أنْ نَعلَمَ أنَّ ما نَصِفُ به المَخلوقَ مِن صفاتِ اللهِ لا يُماثِلُ صِفاتِ اللهِ تعالى، ولا يُدانيها أيضًا؛ لأنَّ الصِّفةَ تكونُ لِمَوصوفٍ تُناسِبُه [469] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/422). .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ
- قولُه: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ افتِتاحُ الكَلامِ بفِعلِ الأمْرِ اعْلَمُوا يُؤْذِنُ بأنَّ ما سيُلْقَى جَديرٌ بتَوجُّهِ الذِّهنِ بكُلِّيَّتِه إليه [470] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/400، 401). .
- و(أنَّما) المفتوحةُ الهَمزةِ أخْتُ (إنَّما) المكسورةِ الهَمزةِ في إفادةِ الحصرِ، وحصْرُ الحياةِ الدُّنيا في الأخبارِ الجاريةِ عليها هو قصْرُ أحوالِ النَّاسِ في الحياةِ على هذه الأمورِ السِّتَّةِ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ باعتبارِ غالبِ النَّاسِ؛ فهو قصْرٌ ادِّعائيٌّ [471] القَصرُ أو الحَصرُ: في اصطِلاحِ البلاغيِّينَ هو تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قصرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقَصْرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحَقيقيُّ فيه مَبنيًّا على الادِّعاءِ والمُبالَغةِ، بتنزيلِ غَيرِ المذكورِ مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. يُنظر: ((مِفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). بالنَّظرِ إلى ما تَنصرِفُ إليه هِمَمُ غالبِ النَّاسِ مِن شُؤونِ الحياةِ الدُّنيا، الَّتي إنْ سَلِمَ بعضُهم مِن بعضِها لا يَخْلو مِن مُلابَسةِ بعضٍ آخَرَ، إلَّا الَّذين عصَمَهم اللهُ تعالَى؛ وإلَّا فإنَّ الحياةَ قد يكونُ فيها أعمالُ التُّقى، والمنافعِ، والإحسانِ، والتأْييدِ للحقِّ، وتَعليمِ الفضائلِ، وتَشريعِ القوانينِ [472] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/401). .
- والتَّكاثُرُ: تَفاعُلٌ مِن الكثرةِ، وصِيغةُ التَّفاعُلِ هنا للمُبالَغةِ في الفِعلِ، بحيثُ يُنزَّلُ مَنزِلةَ مَن يُغالِبُ غيرَه في كثْرةِ شَيءٍ، فإنَّه يكونُ أحرَصَ على أنْ يكونَ الأكثرُ منه عندَه [473] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/403). .
- وفِي مِن قولِه: فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ إمَّا مُستعمَلةٌ في التَّعليلِ، وإمَّا في الظَّرفيَّةِ، فإنْ جُعِلَت الأموالُ كالظَّرفِ يَحصُلُ تَكاثُرُ النَّاسِ عندَه كمَن يَنزِعُ مِن بِئرٍ [474] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/403). .
- وقولُه: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا يَجوزُ أنْ يكونَ في مَوضعِ خَبرٍ مِن مُبتدَأٍ مَحذوفٍ، أي: هي كمَثَلِ غَيثٍ؛ فتَكونَ الجُملةُ استِئنافًا، وحذْفُ المُسنَدِ إليه مِن النَّوعِ الَّذي يُسمَّى مُتابعةَ الاستعمالِ [475] وذلك أنَّ العرَبَ إذا أجْرَوا حَديثًا على شَيءٍ، ثمَّ أخبَروا عنه، الْتَزَموا حَذفَ ضَميرِه الَّذي هو مُسنَدٌ إليه؛ إشارةً إلى التَّنويهِ به كأنَّه لا يَخْفى. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 176)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/347). .
ويجوزُ أنْ يكونَ الكافُ في مَوضعِ الحالِ، وكَمَثَلِ معْناه: كحالِ، أي: حالُ الحياةِ الدُّنيا كحالِ غَيثٍ... إلخ، فشُبِّهَت هَيئةُ أهلِ الدُّنيا في أحوالِهم الغالبةِ عليهم -والمُشارُ إلى تَنويعِها بقولِه: لَعِبٌ وَلَهْوٌ إلى آخِرِه-، بهَيئةِ غَيثٍ أنبَتَ زرْعًا فأينَعَ، ثمَّ اصفَرَّ، ثمَّ اضمَحلَّ وتَحطَّمَ، أي: تَشبيهُ هَيئةِ هذه الأحوالِ الغالبةِ على النَّاسِ في الحياةِ في كَونِها مَحبوبةً للنَّاسِ مُزهيةً لهم وفي سُرعةِ تَقضِّيها، بهَيئةِ نباتٍ جديدٍ أنْبَتَه غَيثٌ فاسْتوَى واكتمَلَ وأُعجِبَ به مَن رآهُ، فمَضَت عليه مدَّةٌ فيَبِسَ وتَحطَّمَ، والمقصودُ بالتَّمثيلِ هو النَّباتُ، وإنَّما ابتُدِئَ بغَيثٍ تَصويرًا للهيئةِ مِن مَبادئِها؛ لإظهارِ مَواقعِ الحُسنِ فيها؛ لأنَّ ذلك يَكتسِبُ منه المُشبَّهُ حُسنًا [476] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/478)، ((تفسير البيضاوي)) (5/189)، ((تفسير أبي السعود)) (8/210)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/404)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/470). .
- قيل: المرادُ بالكُفَّارِ هنا: الزُّرَّاعُ، جمْعُ كافِرٍ، وهو الزَّارعُ؛ لأنَّه يَكفُرُ الزَّريعةَ [477] الزَّرِيعةُ: ما يُزْرَعُ مِن الحَبِّ. يُنظر: ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سِيدَه (1/518)، ((غلط الفقهاء)) لابن بَرِّي (ص: 21). بتُرابِ الأرضِ، أي: يَستُرُها بالتُّرابِ، وإنَّما أُوثِرَ هذا الاسمُ هنا -وقدْ قال تعالَى في سُورةِ (الفتحِ): يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ [الفتح: 29] -؛ قصْدًا هنا للتَّوريةِ بالكُفَّارِ الَّذين هم الكافِرونَ باللهِ؛ لأنَّهم أشدُّ إعجابًا بمَتاعِ الدُّنيا؛ إذ لا أمَلَ لهم في شَيءٍ بعْدَه. وقيل: المرادُ الكُفَّارُ جمْعُ الكافرِ باللهِ؛ لأنَّهم قَصَروا إعجابَهم على الأعمالِ ذاتِ الغاياتِ الدُّنيا دونَ الأعمالِ الدِّينيَّةِ؛ فذِكرُ الكُفَّارِ تَلويحٌ إلى أنَّ المَثَلَ مَسوقٌ إلى جانِبِهم أوَّلًا [478] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/404، 405). . وقيل: وإنَّما خَصَّ الكُفَّارَ به؛ لأنَّهم أشَدُّ إعجابًا بالدُّنيا؛ فإنَّها دارُهم الَّتي لها يَعمَلونَ ويَكدَحونَ، فهم أشدُّ إعجابًا بزِينتِها وما فيها؛ مِن المؤمِنينَ [479] يُنظر: ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 171). .
- وعُطِفَتْ جُملةُ يَهِيجُ بحرْفِ (ثُمَّ)؛ لإفادةِ التَّراخي الرُّتبيِّ؛ لأنَّ اصفِرارَ النَّباتِ أعظمُ دَلالةً على التَّهيُّؤِ للزَّوالِ، وهذا هو الأهمُّ في مَقامِ التَّزهيدِ في مَتاعِ الدُّنيا [480] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/405). .
- وعُطِفَ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا بالفاءِ؛ لأنَّ اصفرارَ النبْتِ مُقارِبٌ ليُبْسِه [481] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/405). .
- وإنَّما لم يقُلْ: (فيَصْفَرُّ)؛ إيذانًا بأنَّ اصفِرارَه غيرُ مُقارِنٍ لهَيَجانِه وجَفافِه، وإنَّما المُترتِّبُ عليه رُؤيتُه كذلكَ [482] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/210)، ((تفسير الألوسي)) (14/185). .
- وعُطِفَ ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا بـ (ثمَّ) كعَطفِ ثُمَّ يَهِيجُ؛ لإفادةِ التَّراخي الرُّتبيِّ؛ لأنَّه أعظمُ دَلالةً على التَّهيُّؤِ للزَّوالِ، وهذا هو الأهمُّ في مَقامِ التَّزهيدِ في مَتاعِ الدُّنيا [483] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/405). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا، وقال في سُورةِ (الزُّمَرِ): ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا [الزمر: 21] ؛ ووجْهُه: أنَّ الأفعالَ الَّتي نُسِقَ -أي: عُطِفَ- هذا الفِعلُ عليها في سُورةِ (الزُّمَرِ) هي أفعالُ اللهِ تَعالى؛ لأنَّه قال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا [الزمر: 21] ، فهو مَعطوفٌ على قولِه: ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا، والَّذي في سُورةِ (الحديدِ) لم يُسنَدِ الفِعلُ المتقدِّمُ فيه إلى اللهِ تَعالى فيُسنَدَ إليه ما بعْدَه؛ وإنَّما هو: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ، فلم يَصلُحْ في كلِّ مكانٍ إلَّا ما جاء فيه مِن اختيارِ الكلامِ [484] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1255، 1256). .
- وقدْ ضرَبَ اللهُ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا لأطوارِ ما فيها مِن شَبابٍ وكُهولةٍ وهَرَمٍ ففَناءٍ، ومِن جِدَّةٍ وتَبذُّلٍ وبِلًى، ومِن إقبالِ الأمورِ في زمَنِ إقبالِها، ثمَّ إدْبارِها بعْدَ ذلك؛ بأطوارِ الزَّرعِ. وكلُّها أعراضٌ زائلةٌ، وآخِرُها فَناءٌ، وتَندرِجُ فيها أطوارُ المرْءِ في الحياةِ المذكورةِ في قولِه: لَعِبٌ وَلَهْوٌ إلى وَالْأَوْلَادِ، كما يَظهَرُ بالتَّأمُّلِ. وهذا التَّمثيلُ مع كَونِه تَشبيهَ هَيئةٍ مُرَكَّبةٍ بهَيئةٍ مِثلِها، هو صالحٌ للتَّفريقِ ومُقابَلةِ أجزاءِ الهَيئةِ المُشبَّهةِ بأجزاءِ الهَيئةِ المُشبَّهِ بها؛ فيُشبَّهُ أوَّلُ أطوارِ الحياةِ وإقْبالُها بالنَّباتِ عقِبَ المطَرِ، ويُشبَّهُ النَّاسُ المُنتفِعون بإقبالِ الدُّنيا بناسٍ زُرَّاعٍ، ويُشبَّهُ اكتِمالُ أحوالِ الحياةِ وقوَّةِ الكُهولةِ بهِياجِ الزَّرعِ، ويُشبَّهُ ابتداءُ الشَّيخوخةِ، ثمَّ الهرَمُ وابتِداءُ ضَعفِ عمَلِ العامِلِ، وتِجارةِ التَّاجرِ، وفِلاحةِ الفلَّاحِ؛ باصفِرارِ الزَّرعِ وتَهيُّئِه للفَناءِ، ويُشبَّهُ زَوالُ ما كان للمرْءِ مِن قوَّةٍ ومالٍ بتَحطُّمِ الزَّرعِ، ويُفهَمُ مِن هذا أنَّ ما كان مِن أحوالِ الحياةِ مَقصودًا لوجْهِ اللهِ؛ فإنَّه مِن شُؤونِ الآخِرةِ، فلا يَدخُلُ تحتَ هذا التَّمثيلِ إلَّا ظاهرًا [485] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/405، 406). .
- قولُه: وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ كان ذِكرُ حالِ الحياةِ الدُّنيا مُقتَضيًا ذِكرَ مُقابِلِه على عادةِ القرآنِ، والخبَرُ مُستعمَلٌ في التَّحذيرِ والتَّحريضِ بقَرينةِ السِّياقِ؛ ولذلك لم يُبيَّنْ أصحابُ العذابِ وأصحابُ المغفرةِ والرِّضوانِ؛ لظُهورِ ذلك [486] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/406). .
- وكُنِّيَ عن النَّعيمِ بـ (مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ)؛ لأنَّ النَّعيمَ قِسمانِ: ماديٌّ، ورُوحانيٌّ؛ فالمَغفرةُ والرِّضوانُ أصلُ النَّعيمِ الرُّوحانيِّ، كما قال تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] ، وهما يَقتضيانِ النَّعيمَ الجُسمانيَّ؛ لأنَّ أهلَ الجنةِ لَمَّا رُكِّبَت ذَواتُهم مِن أجسامٍ، وأُودِعَت فيها الأرواحُ، كان النَّعيمانِ مُناسبَينِ لهم تَكثيرًا للَّذَّاتِ، وما لذَّةُ الأجسامِ إلَّا صائرةٌ إلى الأرواحِ؛ لأنَّها المُدرِكةُ اللَّذَّاتِ، وكان رِضوانُ اللهِ يَقتضي إعطاءَهُم مُنتهى ما به الْتِذاذُهم، ومَغفرتُه مُقتضيةً الصَّفْحَ عمَّا قد يَعوقُ عن بعضِ ذلك [487] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/406). .
- وعطْفُ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ على وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ للمُقابَلةِ بيْن الحالَينِ؛ زِيادةً في التَّرغيبِ والتَّنفيرِ، والكلامُ على تَقديرِ مُضافٍ، أي: وما أحوالُ الحياةِ الدُّنيا إلَّا مَتاعُ الغُرورِ [488] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/406). .
- والحصْرُ في قولِه: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ادِّعائيٌّ [489] القَصرُ أو الحَصرُ: في اصطِلاحِ البلاغيِّينَ هو تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قصرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقَصْرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحَقيقيُّ فيه مَبنيًّا على الادِّعاءِ والمُبالَغةِ، بتنزيلِ غَيرِ المذكورِ مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. يُنظر: ((مِفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). باعتِبارِ غالبِ أحوالِ الدُّنيا بالنِّسبةِ إلى غالبِ طالِبِيها، فكونُها مَتاعًا أمرٌ مُطَّردٌ، وكَونُ المتاعِ مُضافًا إلى الغُرورِ أمرٌ غالبٌ بالنِّسبةِ لِما عدا الأعمالَ العائدةَ على المرْءِ بالفوزِ في الآخرةِ [490] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/407). .
- وإضافةُ مَتَاعُ إلى الْغُرُورِ على مَعْنى لامِ العاقِبةِ، أي: مَتاعٌ صائرٌ لأجْلِ الغُرورِ به، أي: آيلٌ إلى أنَّه يَغُرُّ النَّاظِرينَ إليه، فيُسرِعون في التَّعلُّقِ به [491] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/407). .
2- قولُه تعالَى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فَذْلَكةٌ [492] الفَذْلَكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكةً، أي: أنْهاهُ وفَرَغ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. والفَذْلَكةُ كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملةِ) و(الحَوقَلةِ)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ: النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلام، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعدَ قولِه: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). لِمَا تَقدَّمَ مِن قولِه: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ [الحديد: 12] إلى هنا، فذلِكَ مَسوقٌ مَساقَ التَّرغيبِ فيما به تَحصيلُ نَعيمِ الآخرةِ، والتَّحذيرِ مِن فَواتِه، وما يَصرِفُ عنه مِن إيثارِ زِينةِ الدُّنيا؛ ولذلك فُصِلَت الجُملةُ ولم تُعطَفْ، واقتُصِرَ في الفَذْلَكةِ على الجانبِ المَقصودِ تَرغيبُه دونَ التَّعرُّضِ إلى المُحذَّرِ منه؛ لأنَّه المقصودُ [493] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/407). .
- والبِشارةُ هاهنا أعمُّ ممَّا في سُورةِ (آلِ عِمرانَ)؛ لأنَّه قال هناك: ... أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ ... [آل عمران: 133، 134] إلى آخِرِه، وهاهنا قال: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، ولأنَّ هؤلاءِ أدْوَنُ حالًا مِن أولئك جَعَل عرْضَ الجنَّةِ هنا أقلَّ؛ فقال: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فلمْ يَجمَعِ السَّماءَ، وأدْخَلَ حرْفَ التَّشبيهِ الدَّالَّ على أنَّ المشبَّهَ أدونُ حالًا مِن المشبَّهِ به. وفي لفظِ سَابِقُوا هاهنا إشارةٌ إلى أنَّ مَراتبَ هؤلاء مُختلِفةٌ بَعضُها أسبَقُ مِن بَعضٍ، كالمسابَقةِ في الخَيلِ، وفي لَفظِ (سَارِعُوا) هُنالِكَ رمْزٌ إلى أنَّ كلَّهم مُسْتوونَ في القُرْبِ أو مُتقارِبون؛ لأنَّ المرتبةَ العُليا واحِدةٌ، وهي مَرتبةُ السَّابِقينَ المقرَّبينَ، وإنَّها غايةُ الرُّتبِ الإنسانيَّةِ، فافْهَمْ هذه الأسرارَ؛ فإنَّ ذلك فَضْلُ اللهِ يُؤتِيه مَن يَشاءُ [494] يُنظر: ((تفسير النيسابوري)) (6/258). .
- قولُه: سَابِقُوا، أي: افْعَلوا في السَّعيِ لها بالأعمالِ الصَّالِحةِ حَقَّ السَّعيِ فِعلَ مَن يُسابِقُ شَخصًا، فهو يَسْعى ويَجتهِدُ غايةَ الاجتهادِ في سَبْقِه، ولكنْ رُبَّما كان قَرينُه بَطيئًا فسار هُوينى، وأمَّا المُسارَعةُ فلا تكونُ إلَّا بجَهدِ النَّفْسِ مِن الجانبَينِ مع السُّرعةِ في العُرفِ؛ فآيةُ آلِ عمرانَ [495] في قولِه تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133]. الآمِرةُ بالمسارَعةِ الأخصِّ مِن المسابَقةِ أبلَغُ؛ لأنَّها للحثِّ على التَّجرُّدِ عن النَّفْسِ والمالِ وجميعِ الحُظوظِ أصْلًا ورأْسًا، ولذلك كانت جنَّتُها للمتَّقينَ الموصوفينَ، وأمَّا هذه ففي سِياقِ التَّصديقِ الَّذي هو تَجرُّدٌ عن فُضولِ الأموالِ؛ ولذلك كانت جنَّتُها للَّذين آمَنوا [496] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/291، 292). .
- وتَنكيرُ مَغْفِرَةٍ لقصْدِ تَعظيمِها، ولتكونَ الجُملةُ مُستقِلَّةً بنفْسِها، وإلَّا فإنَّ المَغفرةَ سبَقَ ذِكرُها في قولِه: وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ [الحديد: 20] ، فكان مُقتضى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: سابِقوا إلى المغفرةِ، أي: أكْثِروا مِن أسبابِها ووَسائلِها؛ فالمُسابَقةُ إلى المغفرةِ هي المسابَقةُ في تَحصيلِ أسبابِها [497] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/408). .
- وذِكرُ العَرْضِ دُونَ الطُّولِ في قوله: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؛ لأنَّ كلَّ ما لَه عَرْضٌ وطولٌ، فإنَّ عَرْضَه أقلُّ مِن طُولِه، فإذا وُصِفَ عرْضُه بالبَسطةِ عُرِفَ أنَّ طُولَه أبسَطُ وأمَدُّ [498] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/479)، ((تفسير البيضاوي)) (5/189)، ((تفسير أبي السعود)) (8/211). . أو العَرْضُ مُستعمَلٌ في السَّعةِ، وتَشبيهُ عَرْضِ الجنَّةِ بعرْضِ السَّماءِ والأرضِ -أي: مَجموعِ عَرْضَيْهما- لقصْدِ تَقريبِ المُشبَّهِ بأقْصى ما يَتصوَّرُه النَّاسُ في الاتِّساعِ، وليس المُرادُ تحديدَ ذلك العَرْضِ [499] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/408). .