موسوعة التفسير

سُورةُ التَّكاثُرِ
الآيات (1-8)

ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ

غريب الكلمات:

أَلْهَاكُمُ: أي: شَغَلكم، وأصلُ (لهو) هنا: يدُلُّ على شُغلٍ عن شَيءٍ بشَيءٍ .
التَّكَاثُرُ: أي: التَّباهي والتَّفاخرُ بكَثرةِ المالِ والعَدَدِ وغيرِ ذلك، والتَّكاثرُ أن يَطلُبَ الرَّجُلُ أن يكونَ أكثَرَ مِن غيرِه، وأصلُ (كثر): يدُلُّ على خِلافِ القِلَّةِ .
الْجَحِيمَ: أي: النَّارَ، والجُحْمَةُ: شدَّةُ تأجُّجِ النَّارِ، ومنه: الجحيمُ، وأصْلُ (جحم): الحرارةُ وشِدَّتُها .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ
قَولُه تعالى: سَوْفَ تَعْلَمُونَ العِلمُ هنا بمعنى المعرفةِ المتعدِّيةِ لمفعولٍ واحدٍ، وهو محذوفٌ، تقديرُه: تعلمونَ سوءَ عاقِبةِ التَّفاخُرِ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ توكيدٌ لَفظيٌّ للجُملةِ الأُولى والعَطفُ هنا بـ «ثُمَّ» صُوريٌّ؛ لأنَّ بيْن الجملتَينِ تمامَ الاتِّصالِ، فلا تُعطَفُ الثَّانيةُ على الأُولى عَطفًا حقيقيًّا، فالتَّكريرُ للتَّأكيدِ، و«ثُمَّ» للدَّلالةِ على الأبلَغِيَّةِ؛ أنَّ الثَّانيَ أبلَغُ مِن الأوَّلِ. والمؤكَّدُ والمؤكِّدُ إنْ كانا جملتَينِ وأُمِنَ توهُّمُ كَونِ الثَّانيةِ غيرَ مُؤَكِّدةٍ، فالأجودُ الفَصلُ بيْنَهما بعاطِفٍ كما هنا.
وقَولُه تعالى: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ جوابُ لَوْ محذوفٌ؛ لدَلالةِ ما قَبْلَه عليه، وهو أَلْهَاكُمُ، أي: لو تَعلَمونَ عِلمَ اليقينِ لَشغَلَكم ما تَعلَمونَ عن التَّكاثُرِ وغَيرِه، أو نحوُ ذلك. عِلْمَ: مَفعولٌ مُطلَقٌ، وإضافتُه لليقينِ مِن إضافةِ المَوصوفِ إلى صِفتِه، أي: العِلمَ اليَقينَ.
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ لَتَرَوُنَّ: اللَّامُ واقِعةٌ في جوابِ قَسَمٍ محذوفٍ، أي: واللهِ لَتَرَوُنَّ. تَرَوُنَّ: فِعلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ، وعلامةُ رَفعِه النُّونُ المحذوفةُ لتوالي الأمثالِ، والواوُ: في محلِّ رَفعٍ فاعِلٌ. والنُّونُ للتَّوكيدِ حَرفٌ لا محَلَّ له مِنَ الإعرابِ، والجُملةُ لا محَلَّ لها مِن الإعرابِ جَوابُ القَسَمِ المقدَّرِ، وجُملةُ القَسَمِ المقَدَّرِ وجَوابِه استئنافيَّةٌ لا محَلَّ لها مِن الإعرابِ؛ فالوَقفُ على الْيَقَينِ واجِبٌ.
وقَولُه تعالى: عَيْنَ الْيَقِينِ: مَفعولٌ مُطلَقٌ نائِبٌ عن المصدَرِ؛ لأنَّه صِفةُ مَصدَرٍ مُقدَّرٍ، أي: لَتَرَوُنَّها الرُّؤيةَ الَّتي هي نفْسُ اليقينِ وخالِصَتُه، أو لأنَّه مُلاقيه في المعنى؛ فالرُّؤيةُ والمُعايَنةٌ شَيءٌ واحِدٌ، كأنَّه قيل: لَتُعايِنُنَّها عِيانًا .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ موبِّخًا مَن انشَغل عن طاعتِه قائِلًا: شَغَلكم عن طاعةِ اللهِ -أيُّها النَّاسُ- التَّكاثُرُ بالأموالِ والأولادِ حتَّى مُتُّمْ ودُفِنتُم في المقابِرِ.
ثمَّ قال الله تعالى متوَعِّدًا مَن يفعلُ ذلك: فانزَجِروا عن الالتِهاءِ بالتَّكاثُرِ، فسوف تَعلَمونَ بعْدَ مَوتِكم خطأَ ذلك وسُوءَ عاقبتِه.
ثمَّ قال سُبحانَه مؤكِّدًا: ثُمَّ سوف تَعلَمونَ بعْدَ مَوتِكم خطأَ ذلك وسُوءَ عاقبتِه، كلَّا لو تَعلَمونَ عِلمًا يقينيًّا أنَّ اللهَ سيَبعَثُكم يومَ القيامةِ، ويُحاسِبُكم على أعمالِكم، لَمَا ألهاكم التَّكاثُرُ عن طاعةِ اللهِ.
ثمَّ قال تعالى: أُقسِمُ إنَّكم ستَرَونَ الجَحيمَ في الآخِرةِ، ثُمَّ أُقسِمُ إنَّكم ستَرَونَ الجحيمَ في الآخِرةِ رُؤيةً حقيقيَّةً مُؤكَّدةً، ثُمَّ أُقسِمُ إنَّكم ستُسأَلونَ يومَ القيامةِ عمَّا تنعَّمتُم به في الدُّنيا.

تفسير الآيات:

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1).
أي: شَغَلكم عن طاعةِ اللهِ -أيُّها النَّاسُ- التَّكاثُرُ بالأموالِ والأولادِ، وغيرِ ذلك مِن مَتاعِ الدُّنيا .
كما قال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ [الحديد: 20] .
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2).
أي: دُمتُم على تلك الحالِ إلى أن مُتُّمْ ودُفِنتُم في المقابِرِ !
عن عبدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيرِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتَيْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يَقرأُ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ قال: يقولُ ابنُ آدَمَ: مالي، مالي، وهل لك -يا ابنَ آدَمَ- مِن مالِك إلَّا ما أكَلْتَ فأفنَيْتَ، أو لَبِسْتَ فأبلَيتَ، أو تصدَّقْتَ فأمضَيتَ؟!)) .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يقولُ العَبدُ: مالي، مالي، إنَّما له مِن مالِه ثلاثٌ: ما أكَلَ فأفْنَى، أو لَبِسَ فأبْلَى، أو أعطَى فاقتَنى ، وما سِوى ذلك فهو ذاهِبٌ وتارِكُه للنَّاسِ )) .
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3).
أي: ما هكذا ينبغي أن تفعَلوا؛ فانزَجِروا عن الالتِهاءِ بالتَّكاثُرِ، فسوف تَعلَمونَ بعْدَ مَوتِكم خطأَ ذلك، وسُوءَ عاقِبَتِه .
ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4).
أي: قال اللهُ تعالى مؤكِّدًا هذا التَّهديدَ والوَعيدَ: ثمَّ انزَجِروا عن الانشِغالِ بالتَّكاثُرِ عن طاعةِ اللهِ؛ فسوف تَعلَمونَ إذا نزَل بكم الموتُ خطَأَ ذلك، وسُوءَ عاقبتِه .
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أُعيدَ الزَّجرُ ثالِثَ مرَّةٍ؛ زيادةً في إبطالِ ما هم عليه مِن اللَّهوِ عن التَّدَبُّرِ في أقوالِ القُرآنِ، لعَلَّهم يُقلِعونَ عن انكبابِهم على التَّكاثُرِ ممَّا هم يَتكاثَرونَ فيه .
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5).
أي: انزَجِروا عن الانشِغالِ بالتَّكاثُرِ؛ فلو تَعلَمونَ الآنَ قبْلَ مَوتِكم عِلمًا يقينيًّا أنَّ اللهَ سيَبعَثُكم يومَ القيامةِ ويُحاسِبُكم ويُجازيكم على أعمالِكم، لَمَا ألْهاكم التَّكاثُرُ عن طاعةِ اللهِ، ولحَرَصتُم عليها .
عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((خَطَب رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خُطبةً ما سَمِعتُ مِثْلَها قَطُّ، قال: لو تَعلَمونَ ما أعلَمُ لَضَحِكتُم قليلًا، ولَبَكَيتُم كثيرًا !)) .
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6).
أي: أُقسِمُ إنَّكم ستَرَونَ الجَحيمَ في الآخِرةِ .
كما قال تعالى: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى [النازعات: 36] .
ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7).
أي: ثُمَّ أُقسِمُ إنَّكم ستَرَونَ الجحيمَ في الآخِرةِ رُؤيةً حقيقيَّةً مُؤكَّدةً بأبصارِكم، لا تَشُكُّونَ في مُشاهَدتِها .
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8).
أي: ثُمَّ أُقسِمُ إنَّكم ستُسأَلونَ يومَ القيامةِ عن جميعِ ما تنعَّمتُم به في الدُّنيا .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ أوَّلَ ما يُسأَلُ عنه يومَ القيامةِ -يعني: العَبدَ مِن النَّعيمِ- أن يُقالَ له: ألَمْ نُصِحَّ لك جِسْمَك، ونُرْوِيَك مِن الماءِ البارِدِ؟)) .
وعن أبي هُرَيرةَ رضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حديثِ الرُّؤيةِ الطَّويلِ، وفيه قال: ((... فيَلْقى العَبدَ فيَقولُ: أيْ فُلُ ، ألَمْ أُكرِمْكَ، وأُسَوِّدْكَ ، وأُزَوِّجْكَ، وأُسَخِّرْ لك الخَيْلَ والإبِلَ، وأَذَرْكَ تَرْأَسُ وتَرْبَعُ ؟)) .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((خرَج رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يَومٍ -أو لَيلةٍ- فإذا هو بأبي بَكرٍ وعُمَرَ، فقال: ما أخرَجَكما مِن بُيوتِكما هذه السَّاعةَ؟ قالا: الجُوعُ، يا رَسولَ اللهِ... فلمَّا أنْ شَبِعوا ورَوُوا قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي بكرٍ وعُمَرَ: والَّذي نَفْسي بيَدِه، لَتُسأَلُنَّ عن هذا النَّعيمِ يومَ القيامةِ؛ أخرَجَكم مِن بُيوتِكم الجُوعُ، ثمَّ لم تَرجِعوا حتَّى أصابكم هذا النَّعيمُ! )) .
وعن الزُّبَيرِ بنِ العَوَّامِ رَضِيَ الله عنه، قال: ((لَمَّا نزَلَت: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال الزُّبَيرُ: يا رَسولَ اللهِ، فأيُّ النَّعيمِ نُسأَلُ عنه، وإنَّما هما الأسْوَدانِ: التَّمرُ والماءُ؟! قال: أمَا إنَّه سيَكونُ!)) .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ قَولُه تعالى: كَلَّا رَدعٌ وتنبيهٌ على أنَّه لا يَنبغي للنَّاظِرِ لنَفْسِه أن تكونَ الدُّنيا جميعَ هَمِّه، ولا يَهتَمَّ بدِينِه، وقَولُه تعالى: سَوْفَ تَعْلَمُونَ إنذارٌ لِيَخافوا فيَنتَبِهوا عن غَفلتِهم، وقَولُه تعالى: ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ تكريرٌ للتَّأكيدِ، وثُمَّ للدَّلالةِ على أنَّ الثَّانيَ أبلَغُ مِن الأوَّلِ وأشدُّ، كما يُقالُ للمَنصوحِ: أقولُ لك، ثمَّ أقولُ لك: لا تفعَلْ، والمعنى: سوف تَعلَمونَ الخطَأَ فيما أنتم عليه إذا عايَنْتُم ما قُدَّامَكم مِن هَولِ لقاءِ اللهِ تعالى، وأنَّ هذا التَّنبيهَ نصيحةٌ لكم، ورحمةٌ عليكم .
2- قَولُ اللهِ تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ في الآيةِ تهديدٌ عظيمٌ للعُلَماءِ؛ فإنَّها دَلَّت على أنَّه لو حصل اليقينُ بما في التكاثُرِ والتفاخُرِ مِنَ الآفةِ، لتركوا التكاثُرَ والتفاخُرَ، وهذا يقتضي أنَّ من لم يترُكِ التكاثُرَ والتفاخُرَ لا يكونُ اليقينُ حاصِلًا له، فالوَيلُ للعالِمِ الذي لا يكونُ عامِلًا، ثمَّ الويلُ له !
3- قال اللهُ تعالى: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ لم يأتِ في التَّنزيلِ ذِكرُ المقابِرِ إلَّا في هذه السُّورةِ، والدخولُ إليها ومشاهدتُها مِن أعظَمِ الدَّواءِ للقَلْبِ القاسي؛ لأنَّها تُذكِّرُ الموتَ والآخِرةَ، وذلك يحمِلُ على قِصَرِ الأمَلِ، والزُّهدِ في الدُّنيا، وتَركِ الرَّغبةِ فيها . قال العُلَماءُ: ينبغي لمن أراد عِلاجَ قَلْبِه، وانقِيادَه بسلاسِلِ القَهْرِ إلى طاعةِ رَبِّه أن يُكثِرَ مِن ذِكرِ هاذِمِ اللَّذَّاتِ، ومُفَرِّقِ الجماعاتِ، ومُوتِمِ البَنينَ والبناتِ، ويواظِبَ على مُشاهَدةِ المحتَضَرينَ، وزيارةِ قُبورِ أمواتِ المُسلِمينَ؛ فهذه ثلاثةُ أمورٍ يَنبغي لِمَن قسا قلبُه ولَزِمَه ذَنْبُه أن يستعينَ بها على دواءِ دائِه، ويَستصرِخَ بها على فِتَنِ الشَّيطانِ وأعوانِه، فإنِ انتفَعَ بالإكثارِ مِن ذِكرِ الموتِ، وانجَلَت به قساوةُ قَلْبِه، فذاك، وإنْ عَظُمَ عليه رانُ قَلْبِه، واستحكَمَت فيه دواعي الذَّنبِ، فإنَّ مُشاهَدةَ المحتَضَرينَ وزيارةَ قُبورِ أمواتِ المُسلِمينَ تَبلُغُ في دَفعِ ذلك ما لا يَبلُغُه الأوَّلُ؛ لأنَّ ذِكرَ الموتِ إخبارٌ للقَلبِ بما إليه المصيرُ، وقائِمٌ له مقامَ التَّخويفِ والتَّحذيرِ .
4- مَن أكلَ مِن الطَّيِّباتِ ولم يَشْكُرْ فهو مذمومٌ؛ قال تعالى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ، أي: عن الشُّكرِ عليه .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ التَّكاثُرُ مُطلقًا ليس بمذمومٍ؛ لأنَّ التَّكاثُرَ في العِلمِ والطَّاعةِ والأخلاقِ الحميدةِ ليس بمذمومٍ إذا كان المرادُ أن يَقتديَ به غيرُه. وإنَّما المذمومُ ما يكونُ الباعِثُ عليه الاستكبارَ وحُبَّ الجاهِ والغَلَبةِ، والفَخرَ بما لا سعادةَ حقيقيَّةً فيه، وليست السعادةُ الحقيقيَّةُ إلَّا فيما يرجِعُ إلى العِلمِ والعَمَلِ، أو إلى ما يُعِينُ عليهما مِن الأمورِ الخارجيَّةِ . فالألِفُ والَّلامُ في التَّكَاثُرُ ليسا للاستغراقِ، بل للمَعهودِ السَّابِقِ، وهو التَّكاثُرُ في الدُّنيا ولَذَّاتها وعلائِقِها؛ فإنَّه هو الَّذي يمنَعُ عن طاعةِ اللهِ تعالى وعُبوديَّتِه .
2- قَولُه تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ أَلْهَاكُمُ أبلَغُ في الذَّمِّ مِن «شَغَلَكم»؛ فإنَّ العامِلَ قد يَستعمِلُ جوارحَه بما يَعملُ وقلْبُه غيرُ لاهٍ به؛ فاللَّهوُ هو ذُهولٌ وإعراضٌ .
3- قال اللهُ تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ في هذا دَليلٌ على صِحَّةِ القَولِ بعذابِ القَبرِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى ذِكْرُه أخبَرَ عن هؤلاء القَومِ الَّذين ألْهاهم التَّكاثُرُ أنَّهم سيَعلَمونَ ما يَلقَونَ إذا هم زاروا القُبورَ؛ وَعيدًا منه لهم وتهَدُّدًا .
4- قال تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ فجعَلَ الغايةَ زيارةَ المقابِرِ دونَ الموتِ؛ إيذانًا بأنَّهم غيرُ مُستَوطِنينَ ولا مُستقِرِّينَ فى القُبورِ، وأنَّهم فيها بمنزلةِ الزَّائرينَ يَحضُرونَها مدَّةً ثمَّ يَظْعَنونُ عنها، كما كانوا في الدُّنيا زائرينَ لها، غيرَ مُستقِرِّينَ فيها، ودارُ القَرارِ هي الجنَّةُ أو النَّارُ .
5- في قَولِه تعالى: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ تنبيهٌ على أنَّ الزائرَ لا بُدَّ أنْ يَنتَقِلَ عن مَزارِه؛ فهو تنبيهٌ على البَعثِ .
6- في قَولِه تعالى: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ استدَلَّ به عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ -رحمه اللهُ- على أنَّ الزَّائِرَ لا بُدَّ أن يرجِعَ إلى وطَنِه، وأنَّ القُبورَ ليست بدارِ إقامةٍ، وكذلك يُذكَرُ عن بعضِ الأعرابِ أنَّه سَمِعَ قارِئًا يقرأُ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، فقال: (واللهِ ما الزَّائِرُ بمقيمٍ، واللهِ لَنُبعَثَنَّ)؛ لأنَّ الزَّائِرَ -كما هو معروفٌ- يَزورُ ويَرجِعُ، فقال: (واللهِ لَنُبعَثَنَّ)، وهذا هو الحَقُّ، وبهذا نَعرِفُ أنَّ ما يَذْكُرُه بعضُ النَّاسِ الآنَ في الجرائدِ وغيرِها؛ يقولُ عن الرَّجُلِ إذا مات: إنَّه انتقلَ إلى مَثْواه الأخيرِ؛ أنَّ هذا كلامٌ باطلٌ وكَذِبٌ؛ لأنَّ القُبورَ ليست هي المثوى الأخيرَ، بل لو أنَّ الإنسانَ اعتقدَ مدلولَ هذا اللَّفظِ لَصار كافرًا بالبَعثِ، والكفرُ بالبعثِ رِدَّةٌ عن الإسلامِ، لكنَّ كثيًرا مِن النَّاسِ يَأخُذونَ الكَلِماتِ ولا يَدرُونَ ما معناها، ولعَلَّ هذه موروثةٌ عن المُلْحِدين الَّذين لا يُقِرُّون بالبَعثِ بعدَ الموتِ؛ لهذا يجِبُ تجنُّبُ هذه العبارةِ، فلا يُقالُ عن القَبرِ: إنَّه المثوى الأخيرُ؛ لأنَّ المثوى الأخيرَ إمَّا الجنَّةُ وإمَّا النَّارُ في يومِ القيامةِ .
7- قَولُ اللهِ تعالى: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ فيه سُؤالٌ: شأنُ الزَّائِرِ أن ينصَرِفَ قريبًا، والأمواتُ مُلازِمونَ القُبورَ، فكيف يُقالُ: إنَّه زار القَبرَ؟
الجوابُ: أنَّ سُكَّانَ القُبورِ لا بُدَّ أن يَنصَرِفوا منها .
8- قَولُ اللهِ تعالى: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ يدُلُّ على أنَّ البَرزخَ دارٌ مَقصودٌ منها النُّفوذُ إلى الدَّارِ الباقيةِ؛ لأنَّ اللهَ سَمَّاهم زائرينَ، ولم يُسَمِّهم مُقيمينَ؛ فدَلَّ ذلك على البَعثِ والجزاءِ بالأعمالِ في دارٍ باقيةٍ غيرِ فانيةٍ .
9- قال تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ذكرَ اللهُ سُبحانَه في كِتابِه مَراتِبَ اليَقينِ، وهي ثلاثةٌ: حَقُّ اليَقينِ، وعِلمُ اليَقينِ، وعَيْنُ اليَقينِ:
أوَّلُها: عِلمُه، وهو التَّصديقُ التَّامُّ به؛ بحيثُ لا يَعرِضُ له شَكٌّ ولا شُبهةٌ تَقدَحُ في تَصديقِه، كعِلمِ اليَقينِ بالجنَّةِ مثلًا، وتَيَقُّنِهم أنَّها دارُ المُتَّقِينَ ومَقَرُّ المُؤمنينَ، فهذه مَرتَبةُ العِلمِ؛ لِتَيَقُّنِهم أنَّ الرُّسلَ أَخبَروا بها عن اللهِ، وتَيَقُّنِهم صِدْقَ المُخبِرِ.
المَرتَبةُ الثَّانيةُ: عَيْنُ اليَقينِ؛ وهي مَرتَبةُ الرُّؤيةِ والمُشاهَدةِ، كما قال تعالى: ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ، وبيْنَ هذه المَرتَبةِ والَّتي قبلَها فَرْقُ ما بيْنَ العِلمِ والمُشاهَدةِ؛ فاليَقينُ للسَّمعِ، وعَيْنُ اليَقينِ للبَصرِ.
المَرتَبةُ الثَّالثةُ: مَرتَبةُ حَقِّ اليَقينِ؛ وهي مُباشَرةُ الشَّيءِ بالإحساسِ به، كما إذا أُدخِلُوا الجنَّةَ وتَمتَّعُوا بما فيها، فهُم في الدُّنيا في مَرتَبةِ عِلمِ اليَقينِ، وفي المَوقِفِ حينَ تُزْلَفُ وتُقرَّبُ منهم حتَّى يُعايِنُوها في مَرتَبةِ عَيْنِ اليَقينِ، وإذا دَخلُوها وباشَرُوا نَعيمَها في مَرتَبةِ حَقِّ اليَقينِ .
فعِلْمُ اليَقينِ: ما عَلِمَه بالسَّماعِ والخبرِ والقياسِ والنَّظَرِ، وعَينُ اليقينِ: ما شاهَده وعايَنَه بالبصَرِ، وحَقُّ اليقينِ: ما باشَرَه ووَجَدَه وذاقَه وعَرَفَه بالاعتبارِ؛ فالأوَّلُ: مِثلُ مَن أُخْبِرَ أنَّ هناك عَسَلًا، وصَدَّقَ المُخْبِرَ، أو رأى آثارَ العسَلِ فاستدلَّ على وُجودِه. والثَّاني: مِثلُ مَن رأى العَسَلَ وشاهَدَه وعايَنَه، وهذا أعلى، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ليس الخبرُ كالمُعايَنةِ)) . والثَّالثُ: مِثلُ مَن ذاق العَسَلَ ووَجَدَ طَعْمَه وحَلاوتَه، ومَعلومٌ أنَّ هذا أعلى مِمَّا قبْلَه .
10- قال تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ هذه الجُملةُ مُستقِلَّةٌ مُستأنَفةٌ لا صِلةَ لها بما قَبْلَها، وهي جُملةٌ قَسَميَّةٌ، فيها قَسَمٌ مُقَدَّرٌ، والتَّقديرُ: واللهِ لتَرَوُنَّ الجحيمَ، وليست جوابَ «لو»؛ ولهذا يجِبُ على القارئِ أن يقِفَ عندَ قَولِه تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. ونحن نَسمَعُ كثيرًا مِن الأئمَّةِ يُصَلُّونَ فيقولونَ: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، وهذا الوَصلُ إمَّا غَفلةٌ منهم ونِسيانٌ، وإمَّا أنَّهم لم يتأمَّلوا الآيةَ حَقَّ التَّأمُّلِ، وإلَّا لو تأمَّلوها حَقَّ التَّأمُّلِ لَوجدوا أنَّ الوَصلَ يُفسِدُ المعنى؛ لأنَّه إذا قال: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ صارت رؤيةُ الجَحيمِ مَشروطةً بعِلْمِهم، وهذا ليس بصَحيحٍ؛ لذلك يجِبُ التَّنبُّهُ والتَّنبيهُ لهذا. وأيضًا فالمشروعُ أن يقفَ الإنسانُ عندَ رأسِ كلِّ آيةٍ .
11- قال اللهُ تعالى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ الْتَحَم آخِرُها بأوَّلِها على وَجهٍ هو مِن ألطَفِ الخِطابِ، وأدَقِّ المسالِكِ في النَّهيِ عمَّا يجُرُّ إلى العذابِ؛ لأنَّ العاقِلَ إذا عَلِمَ أنَّ بيْنَ يَدَيه سُؤالًا عن كُلِّ ما يَتلذَّذُ به، عَلِمَ أنَّه يَعوقُه ذلك في زمَنِ السُّؤالِ عن لَذاذاتِ الجنَّةِ العَوالِ الغَوَالِ؛ فكان خَوفُه مِن مُطلَقِ السُّؤالِ مانِعًا له عن التَّنَعُّمِ بالمُباحِ، فكيف بالمكروهِ، فكيف ثمَّ كيف بالمحَرَّمِ؟! فكيف إذا كان السُّؤالُ مِن مَلِكٍ تَذوبُ لهيبتِه الجِبالُ؟ فكيف إذا كان السُّؤالُ على وَجهِ العِتابِ؟ فكيف إذا جَرَّ إلى العَذابِ ؟!

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ
- في قَولِه: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ أعرَضَ عن ذِكْرِ المتكاثَرِ به؛ إرادةً لإطلاقِه وعُمومِه، وأنَّ كلَّ ما يُكاثِرُ به العبدُ غيرَه سِوى طاعةِ اللهِ ورَسولِه، وما يَعودُ عليه بنفعِ معادِه: فهو داخِلٌ في هذا التَّكاثرِ . وأيضًا لم يُعيِّن -سُبحانه- المتكاثَرَ به، بل ترَكَ ذِكْرَه؛ لأنَّ المَذمُومَ هو نفْسُ التَّكاثُرِ بالشَّيءِ، لا المتكاثَرِ به، كما يقال: (شَغَلكَ اللَّعِبُ واللَّهوُ)، ولم يذكرْ ما يَلعبُ ويَلهُو به .
- وحُذِفَ المُلْهى عنه، فلم يقلْ: ألهاكم عن كذا؛ للتَّعظيمِ المأخوذِ مِن الإبهامِ بالحذفِ، والمُبالَغةِ في الذمِّ حيثُ أشار إلى أنَّ ما يُلهي مذمومٌ، فضلًا عن الملهي عن أمرِ الدِّينِ .
وعلى القولِ بأنَّ الخِطابَ للمُشركينَ: فلم يَذكُرِ المُلْهَى عنه لظُهورِ أنَّه القرآنُ والتَّدَبُّرُ فيه، والإنصافُ بتصديقِه، وهذا الإلهاءُ حَصَل منهم وتَحَقَّق كما دَلَّ عليه حِكايَتُه بالفعلِ الماضي .
- والتَّعبيرُ بالفعلِ الماضي في زُرْتُمُ لتَنزيلِ المُستقبَلِ مَنزِلةَ الماضي؛ لأنَّه مُحقَّقٌ وُقوعُه . وقيل غيرُ ذلك .
2- قولُه تعالَى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ أُتبِعَ الخبَرُ المُستعمَلُ في التَّوبيخِ بالوعيدِ والإنذارِ على ذلك بعْدَ الموتِ، وبحرْفِ الزَّجرِ والإبطالِ بقولِه: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، فأفاد كَلَّا زَجْرًا وإبطالًا لإلْهاءِ التَّكاثُرِ، وتَنبيهًا على أنَّ العاقلَ يَنْبغي له ألَّا يكونَ جَميعُ هَمِّه ومُعظَمُ سَعيِه للدُّنيا؛ فإنَّ عاقبةَ ذلك وَبالٌ وحَسرةٌ .
- وقولُه: سَوْفَ لتَحقيقِ حُصولِ العِلمِ، وحُذِفَ مَفعولُ تَعْلَمُونَ؛ لظُهورِ أنَّ المرادَ: تَعلَمون سُوءَ مَغبَّةِ ما أنتُم عليه إذا عاينتُم عاقبَتَه .
- وأُكِّدَ الزَّجرُ والوَعيدُ بقولِه: ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، فعُطِفَ عطْفًا لَفظيًّا بحَرْفِ التَّراخي أيضًا؛ للإشارةِ إلى تَراخي رُتبةِ هذا الزَّجرِ والوَعيدِ عن رُتبةِ الزَّجرِ والوَعيدِ الَّذي قبْلَه، فهذا زَجرٌ ووَعيدٌ مُماثلٌ للأوَّلِ، لكنَّ عَطْفَه بحَرْفِ (ثمَّ) اقْتَضى كَونَه أقْوى مِن الأوَّلِ؛ لأنَّه أفادَ تَحقيقَ الأوَّلِ وتَهويلَه، فجُملةُ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ تَوكيدٌ لَفظيٌّ لجُملةِ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ.
وقيل: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ما يَنزِلُ بكم مِن عَذابٍ في القبرِ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ عندَ البَعثِ أنَّ ما وُعدِتْم به صِدقٌ، أي: تُجعَلُ كلُّ جُملةٍ مُرادًا بها تَهديدٌ بشَيءٍ خاصٍّ، وهذا مِن مُسْتَتْبَعاتِ التَّراكيبِ والتَّعويلِ على مَعونةِ القرائنِ بتَقديرِ مَفعولٍ خاصٍّ لكلٍّ مِن فِعلَيْ تَعْلَمُونَ، وليس تَكريرُ الجُملةِ بمُقتضٍ ذلك في أصلِ الكلامِ، ومُفادُ التَّكريرِ حاصلٌ على كلِّ حالٍ . وقيل: كرَّر اللفظَينِ؛ لأنَّ أحدَهما توعُّدٌ غيرُ ما تُوعِّدَ به الآخَرُ؛ فالأوَّلُ توعُّدٌ بما يَنالُهم في الدُّنيا، والثَّاني توعُّدٌ بما أُعِدَّ لهم في الأُخرى. وقيل: الأوَّلُ ما يَلقَوْنه عندَ الفِراقِ إذا بُشِّروا بالمصيرِ إلى النَّارِ، والثاني ما يَرَوْنه مِن عذابِ القبرِ؛ فكِلاهُما عذابٌ في الدُّنيا، إلَّا أنَّ أحدَهما غيرُ الآخَرِ، وهو مِثلُه في الشِّدَّةِ؛ فلذلك أُعيدَ بتلك اللَّفظةِ. وإذا حُمِل على عذابِ الدُّنيا وعذابِ الآخرةِ، لم يكُنْ تَكرارًا .
وفيه وجْهٌ آخَرُ: أنَّه تهديدٌ ووعيدٌ، فناسَبَه التَّكريرُ تَحقيقًا وتثبيتًا؛ كقولِه: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1-2] ، والْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ [القارعة: 1-2] ، وما أتى مِن مِثلِ هذا .
3- قولُه تعالَى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ
- جُملةُ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ تَهويلٌ وإزعاجٌ؛ لأنَّ حذْفَ جَوابِ لَوْ يَجعَلُ النُّفوسَ تَذهَبُ في تَقديرِه كلَّ مَذهبٍ مُمكِنٍ؛ لِما في حَذْفِه مِن مُبالَغةِ التَّهويلِ، يعني: لو تَعلَمون عِلمَ اليقينِ لَتبيَّنَ لكم حالٌ مُفظِعٌ عَظيمٌ، أو لَفَعلْتُم ما لا يُوصَفُ ولا يُكتَنهُ، وهي بَيانٌ لِما في كَلَّا مِن الزَّجْرِ .
- قَولُه: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي: لو تَعْلَمونَ ما بَيْنَ أيديكم عِلْمَ الأمرِ المتيَقَّنِ، أي: كعِلْمِكم ما تَسْتَيقِنونَه مِنَ الأُمورِ، فالعِلْمُ مُضافٌ للمَفعولِ، واليَقينُ بمعنى المتيَقَّنِ، صِفةٌ لمُقَدَّرٍ، وجُوِّز كونُ الإضافةِ مِن إضافةِ المَوصوفِ إلى صِفَتِه، أي: العِلمَ اليَقينَ، وفائِدةُ الوَصْفِ ظاهِرةٌ بِناءً على أنَّ العِلْمَ يُطلَقُ على غَيرِ اليَقينِ .
- قولُه: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ ما سَبَقَه مِن الزَّجرِ والرَّدعِ المُكرَّرِ، ومِن الوعيدِ المُؤكَّدِ على إجمالِه؛ يُثيرُ في نفْسِ السَّامعِ سُؤالًا عمَّا يُترقَّبُ مِن هذا الزَّجرِ والوَعيدِ، فكان قولُه: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جَوابًا عمَّا يَجيشُ في نفْسِ السَّامعِ، وهو جَوابُ قسَمٍ مَحذوفٍ أُكِّدَ به الوعيدُ، وأُوضِحَ به ما أنْذَرَهم منه بعْدَ إبهامِه تَفخيمًا .
- وعلى القولِ بأنَّ الخِطابَ للمُشركينَ فالإخبارُ عن رُؤيتِهم الجَحيمَ كِنايةٌ عن الوُقوعِ فيها؛ فإنَّ الوُقوعَ في الشَّيءِ يَستلزِمُ رُؤيتَه، فيُكنَّى بالرُّؤيةِ عن الحُضورِ، وأُكِّدَ ذلك بقولِه: ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ؛ قصْدًا لتَحقيقِ الوعيدِ بمَعناهُ الكِنائيِّ .
- وكُرِّرَ القسَمُ مَعطوفًا بحرْفِ ثُمَّ في قولِه: ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ؛ تَغليظًا في التَّهديدِ، وزِيادةً في الوَعيدِ والتَّهويلِ، وتَأكيدًا له. وقيل: الأُولى إذا رَأَتْهم مِن مَكانٍ بعيدٍ، والثَّانيةُ إذا وَرَدوها. أو الأوَّلُ قبْلَ دُخولِهم الجَحيمَ، والثَّاني بعْدَه؛ ولهذا قال عَقِبَه: عَيْنَ الْيَقِين. أو المرادُ بالأُولى المَعرفةُ، وبالثَّانيةِ الإبصارُ .
- وعَينُ اليَقينِ: اليقينُ الَّذي لا يَشوبُه تَردُّدٌ، فلَفظُ (عَينٍ) مُعبَّرٌ به عن حَقيقةِ الشَّيءِ الخالصةِ، غيرِ النَّاقصةِ ولا المُشابِهةِ، وإضافةُ عَيْنَ إلى الْيَقِين بَيانيَّةٌ .
- وفي قولِه: عَيْنَ الْيَقِين تَأكيدٌ للرُّؤيةِ بأنَّها يَقينٌ، وأنَّ اليقينَ حَقيقةٌ .
- قولُه: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ على القولِ بأنَّ الخِطابَ للمشركينَ: فقد أُعقِبَ التَّوبيخُ والوعيدُ على لَهْوِهم بالتَّكاثُرِ عن النَّظرِ في دَعوةِ الإسلامِ، مِن حيثُ إنَّ التَّكاثُرَ صَدَّهم عن قَبولِ ما يُنجِّيهم؛ بتَهديدٍ وتَخويفٍ مِن مُؤاخَذتِهم على ما في التَّكاثُرِ مِن نَعيمٍ تَمتَّعوا به في الدُّنيا ولم يَشكُروا اللهَ عليه بقولِه: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ، أي: عن النَّعيمِ الَّذي خُوِّلْتُموه في الدُّنيا، فلمْ تَشكُروا اللهَ عليه وكان به بَطَرُكم .
- وعُطِفَ هذا الكلامُ بحرْفِ ثُمَّ الدَّالِّ على التَّراخي الرُّتبيِّ في عطْفِه الجُمَلَ مِن أجْلِ أنَّ الحِسابَ على النَّعيمِ الَّذي هو نِعمةٌ مِن اللهِ أشدُّ عليهم؛ لأنَّهم ما كانوا يَترقَّبونه؛ لأنَّ تَلبُّسَهم بالإشراكِ وهُمْ في نَعيمٍ أشدُّ كُفرانًا للَّذي أنْعَمَ عليهم . وذلك على القولِ بأنَّ الخِطابَ للمشرِكين.
- والجُملةُ المضافُ إليها (إِذْ) مِن قولِه: يَوْمَئِذٍ مَحذوفةٌ دلَّ عليها قولُه: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [التكاثر: 6] ، أي: يومَ إذ تَرَونَّ الجَحيمَ فيُغلَّظُ عليكم العَذابُ . وذلك على القولِ بأنَّ الخِطابَ للمشرِكين.
- قولُه: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ السُّؤالُ عن النَّعيمِ المُوجَّهُ إلى المشرِكين هو غيرُ السُّؤالِ الَّذي يُسأَلُه كلُّ مُنعَمٍ عليه فيما صَرَفَ فيه النِّعمةَ؛ فإنَّ النِّعمةَ لَمَّا لم تكُنْ خاصَّةً بالمُشرِكين -خِلافًا للتَّكاثُرِ- كان السُّؤالُ عنها حَقيقًا بكلِّ مُنعَمٍ عليه وإنِ اختَلَفَت أحوالُ الجَزاءِ المُترتِّبِ على هذا السُّؤالِ. فالكلُّ سيُسْأَلُ، ولكنْ سُؤالُ الكافرِ سُؤالُ تَوبيخٍ؛ لأنَّه قد تَرَكَ الشُّكرَ، وسُؤالُ المؤمنينَ سُؤالٌ لتَرتيبِ الثَّوابِ على الشُّكرِ، أو مِن أجْلِ المُؤاخَذةِ بالنَّعيمِ الحرامِ .