موسوعة التفسير

سورةُ الحَديدِ
الآيات (16-19)

ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ

غريب الكلمات:

الْأَمَدُ: أي: الزَّمانُ والغايةُ [313] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 453)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/137)، ((المفردات)) للراغب (ص: 88)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 313). .
الصِّدِّيقُونَ: أي: الَّذين كثُر صِدقُهم وتصديقُهم، وأصلُ (صدق): يدُلُّ على قوَّةٍ في الشَّيءِ قولًا وغيرَه [314] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/339)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي بن أبي طالب (11/7323)، ((المفردات)) للراغب (ص: 479). .
الْجَحِيمِ: أي: النَّارِ، والجُحْمَةُ: شدَّةُ تأجُّجِ النَّارِ، ومنه: الجحيمُ، وأصْلُ (جحم): الحرارةُ وشِدَّتُها [315] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 372)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/429)، ((المفردات)) للراغب (ص: 187). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى معاتبًا المؤمنينَ: ألم يَحِنْ للمُؤمِنينَ أن تَلِينَ قُلوبُهم وتَخضَعَ لذِكرِ اللهِ وما نَزَل مِن القُرآنِ، ثمَّ يُحذِّرُهم مِن مُشابَهةِ أهلِ الكِتابِ، فيقولُ: ولا يَكونوا كاليَهودِ والنَّصارى الَّذين أنزَلَ اللهُ عليهم الكِتابَ مِن قَبلِ نُزولِ القُرآنِ، فطالَ عليهم الزَّمانُ، فقَسَت قُلوبُهم، وكَثيرٌ منهم خارِجونَ عن طاعةِ اللهِ؟!
ثمَّ يقولُ تعالى: اعلَموا أنَّ اللهَ تعالى يُحْيي الأرضَ بالماءِ بعْدَ يُبسِها، فكذلك يُحْيي القَلْبَ بعْدَ قَسْوتِه بالوَحيِ المُنَزَّلِ مِنَ السَّماءِ. قد أوضَحْنا لكم الآياتِ الدَّالَّةَ على الحَقِّ؛ لِتَعقِلوا.
ثمَّ يقولُ تعالى مُبينًا ما أعدَّه للمؤمنينَ الَّذين يَبذُلونَ أموالَهم في سبيلِه: إنَّ المُتصَدِّقينَ والمُتصَدِّقاتِ والمُنفِقينَ في سَبيلِ اللهِ مُبتَغِينَ ما عِندَ رَبِّهم بلا مَنٍّ ولا أذًى: يُثيبُهم اللهُ على ذلك الإنفاقِ أُجورًا كَثيرةً، ولهم ثَوابٌ حَسَنٌ، وجَزاءٌ جَميلٌ.
ثمَّ يَذكُرُ الله تعالى السُّعداءَ ومآلَهم، ويَعطِفُ بذكرِ الأشقياءِ، ويُبينُ حالَهم، فيقولُ: والَّذين آمَنوا باللهِ وبرُسُلِه هم الصِّدِّيقونَ، والشُّهَداءُ لهم ثَوابُ اللهِ في الآخِرةِ، ولهم نُورُهم. والَّذين كَفَروا باللهِ ورُسُلِه وكَذَّبوا: أولئك أصحابُ النَّارِ.
تَفسيرُ الآياتِ:
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر حالَ المُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ والمُنافِقينَ والمُنافِقاتِ في الدَّارِ الآخِرةِ، كان ذلك مِمَّا يدعو القُلوبَ إلى الخُشوعِ لِرَبِّها، والاستِكانةِ لعَظَمتِه؛ فعاتَبَ اللهُ المُؤمِنينَ على عَدَمِ ذلك، فقال تعالى [316] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 840). :
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ.
سَبَبُ النُّزولِ:
عن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أُنزِلَ القُرآنُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتلا عليهم زَمانًا، فقالوا: يا رَسولَ اللهِ، لو قصَصْتَ علينا! فأنزَلَ اللهُ: الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 1 - 3] ، فتلاها عليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زمانًا، فقالوا: يا رَسولَ اللهِ لو حدَّثْتَنا! فأنزَلَ اللهُ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر: 23] الآيةَ، كُلُّ ذلك يُؤمَرونَ بالقُرآنِ. قال خَلَّادٌ [317] هو أحدُ رواةِ الحديثِ. : وزاد فيه حِينَ قالوا: يا رَسولَ اللهِ ذَكِّرْنا، فأنزَلَ اللهُ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ)) [318] أخرجه الطَّحاويُّ في ((شرح مشكل الآثار)) (1157)، وابنُ حِبَّانَ (6209) واللَّفظُ له، والحاكمُ (3319). صحَّحه ابنُ حِبَّان، والألبانيُّ في ((صحيح الموارد)) (1462)، وصَحَّح إسنادَه الحاكمُ، وحسَّن إسنادَه ابنُ تيميَّةَ في ((مجموع الفتاوى)) (17/40)، وحَسَّنَ الحديثَ ابنُ حجر في ((المطالب العالية)) (4/126)، وقوَّى إسنادَه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (6209). .
عن ابنِ مَسعودٍ رَضِي اللهُ عنه، قال: (ما كان بيْنَ إسلامِنا وبيْنَ أنْ عاتَبَنا اللهُ بهذه الآيةِ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ إلَّا أربَعُ سِنِينَ) [319] رواه مسلم (3027). .
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ.
أي: أمَا حانَ للمُؤمِنينَ أن تَلِينَ قُلوبُهم وتَرِقَّ وتَخضَعَ وتَذِلَّ لذِكرِ اللهِ وما نَزَل مِن القُرآنِ [320] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/408)، ((الوسيط)) للواحدي (4/249)، ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 26)، ((تفسير ابن كثير)) (8/19)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/278، 279)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/547)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 389، 390). قال الشنقيطي: (قَولُه: لِذِكْرِ اللَّهِ الأظهَرُ منه: أنَّ المرادَ خُشوعُ قُلوبِهم لأجْلِ ذِكرِ اللهِ، وهذا المعنى دَلَّ عليه قَولُه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] ، أي: خافت عِندَ ذِكرِ اللهِ، فالوَجَلُ المذكورُ في آيةِ الأنفالِ هذه والخَشيةُ المذكورةُ هنا: مَعناهما واحِدٌ. وقال بَعضُ العُلَماءِ: المرادُ بذِكرِ اللهِ: القُرآنُ، وعليه فقَولُه: وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ مِن عَطفِ الشَّيءِ على نَفْسِه مع اختِلافِ اللَّفظَينِ). ((أضواء البيان)) (7/547). وقيل: لِذِكْرِ اللَّهِ حقوقُ الله، وقيل: ما يُذِّكرُهم به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو الصَّلاةُ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/478)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/391). ؟!
وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان للمُسابَقةِ والمُنافَسةِ أثرٌ عَظيمٌ في تحريكِ الهِمَمِ لأهلِ الأَنَفةِ وأُولي المَعالي؛ قال [321] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/279). :
وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ.
أي: وأمَا حانَ للمُؤمِنينَ ألَّا يَكونوا كاليَهودِ والنَّصارى الَّذين أنزَلَ اللهُ عليهم الكِتابَ -التَّوراةَ والإنجيلَ- المُوجِبَ لخُشوعِ القَلبِ والانقيادِ التَّامِّ، مِن قَبلِ نُزولِ القُرآنِ الكريمِ عليكم [322] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/409)، ((تفسير ابن كثير)) (8/20)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/279، 280)، ((تفسير السعدي)) (ص: 840)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/392). ؟
فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ.
أي: فطالَ على أهلِ الكِتابِ الزَّمانُ [323] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/410)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/392)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 390). قيل: طال الزَّمانُ بَيْنَهم وبيْنَ موسى عليه السَّلامُ. ومِمَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/410)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7322). وقيل: طال الزَّمانُ بَيْنَهم وبيْنَ أنبيائِهم. ومِمَّن قال بهذا: الثعلبيُّ، والواحدي، والبغوي، والخازن، وجلال الدين المحلي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/240)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1068)، ((تفسير البغوي)) (5/30)، ((تفسير الخازن)) (4/249)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 721)، ((تفسير الشوكاني)) (5/207). قال ابن الجوزي: (المعنى: أنَّه بَعُدَ عَهدُهم بالأنبياءِ والصَّالِحينَ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/235). وقال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ يعني: طولَ الأجَلِ، وخُروجَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/242). ومِمَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ: طُولُ الزَّمانِ بَيْنَهم وبيْنَ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/392). قال ابنُ عاشور: (الأَمَدُ: الغايةُ مِن مَكانٍ أو زَمانٍ، والمرادُ به هنا: المُدَّةُ الَّتي أُوصُوا بأن يُحافِظوا على اتِّباعِ شَرائِعِهم فيها، المُغَيَّاةُ بمَجيءِ الرَّسولِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- المُبَشَّرِ في الشَّرائِعِ، وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران: 81]). ((تفسير ابن عاشور)) (27/392). وقيل: المرادُ: طُولُ الأجَلِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا القولِ: السمرقنديُّ، والزمخشري، والنسفي، وأبو السعود، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/406)، ((تفسير الزمخشري)) (4/477)، ((تفسير النسفي)) (3/438)، ((تفسير أبي السعود)) (8/209)، ((تفسير القاسمي)) (9/147). وقال ابنُ عطية: (الأمَدُ: قيل: معناه: أمَدُ انتِظارِ الفَتحِ. وقيل: أمَدُ انتِظارِ القيامةِ. وقيل: أمَدُ الحَياةِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/264). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/461). .
فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ.
أي: فقَسَت بسَبَبِ طُولِ الزَّمانِ قُلوبُهم، فصارت غَليظةً لا تَلِينُ لِذِكرٍ، ولا تَرِقُّ لِمَوعِظةٍ [324] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/411)، ((تفسير ابن كثير)) (8/20)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/280)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/392). .
قال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 74] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 42، 43].
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ.
أي: وكَثيرٌ منهم خارِجونَ عن طاعةِ اللهِ، ضالُّونَ عن الحَقِّ والهُدى [325] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/411)، ((تفسير الزمخشري)) (4/477)، ((تفسير ابن كثير)) (8/20)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/392). .
قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ [المائدة: 59].
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17).
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا.
أي: اعلَموا أنَّ اللهَ تعالى يُحْيي الأرضَ بعْدَ يُبسِها وجَدْبِها، بالماءِ المُنزَّلِ مِنَ السَّماءِ، فكذلك يُحْيي اللهُ القَلْبَ بعْدَ قَسْوتِه وصَلابتِه، بالوَحيِ المُنَزَّلِ مِنَ السَّماءِ [326] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/411)، ((تفسير القرطبي)) (17/252)، ((تفسير ابن كثير)) (8/21)، ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 317)، ((تفسير السعدي)) (ص: 840)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/393، 394). .
عن أبي مُوسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: ((إنَّ مَثَلَ ما بعَثَني اللهُ به عزَّ وجلَّ مِنَ الهُدى والعِلمِ؛ كَمَثلِ غَيثٍ أصاب أرضًا، فكانت منها طائفةٌ طيِّبةٌ، قَبِلَتِ الماءَ، فأنبَتَتِ الكَلَأَ والعُشبَ الكثيرَ، وكان منها أجادِبُ [327] الأجادِبُ: الأرضُ الصُّلبةُ الَّتي تُمسِكُ الماءَ؛ مِنَ الجَدْبِ، وهو القَحْطُ، سَمَّاها أجادِبَ؛ لأنَّها لِصَلابَتِها لا تُنبِتُ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/242)، ((شرح النووي على مسلم)) (15/47). أمسَكَتِ الماءَ، فنَفَعَ اللهُ بها النَّاسَ، فشَرِبوا منها وسَقَوْا ورَعَوْا، وأصابَ طائفةً منها أخرى، إنَّما هي قِيعانٌ [328] القِيعانُ: جمعُ قاعٍ، وهي الأرضُ المُستَوِيةُ الَّتي لا نَباتَ فيها. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (15/47)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (1/235). ؛ لا تُمسِكُ ماءً، ولا تُنبِتُ كَلأً، فذلك مَثَلُ مَنْ فَقُه في دِينِ اللهِ، ونَفَعَه بما بعَثَني اللهُ به، فعَلِمَ وعلَّم، ومَثَلُ مَن لم يَرفَعْ بذلك رأسًا، ولم يَقْبَلْ هُدى اللهِ الَّذي أُرسِلْتُ به) ) [329] رواه البخاريُّ (79)، ومسلمٌ (2282) واللَّفظُ له. .
قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
أي: قد أوضَحْنا وأظهَرْنا لكم الآياتِ الدَّالَّةَ على الحَقِّ؛ لِتَعقِلوا وتتَّعِظوا وتَعمَلوا بمُوجَبِ ذلك [330] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/411)، ((تفسير القرطبي)) (17/252)، ((تفسير الشوكاني)) (5/207)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 392). .
قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 3] .
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بَعْدَ أن وازَنَ بيْنَ المؤمنينَ والمنافِقِين فيما مضى، وأبان ما يكونُ بيْنَهما مِن فارِقٍ يومَ القيامةِ؛ ذكَرَ هنا التَّفاوُتَ بيْنَ حالِ المؤمنينَ وحالِ الكافِرِين [331] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (27/174). وذكَر ابنُ عاشورٍ أنَّ هذه الآيةَ يُشبِهُ أنْ تكونَ متَّصلةَ المعنَى بقولِه تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد: 11] ، وأنَّ آيةَ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا [الحديد: 16] وما بعدَها معترضٌ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/395). .
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: الْمُصَدِّقِينَ وَالْمُصَدِّقَاتِ بتَخفيفِ الصَّادِ، أي: إنَّ الَّذين صدَّقوا اللهَ ورَسولَه [332] قرأ بها ابنُ كثيرٍ، وشُعبةُ عن عاصِمٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/384). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (22/412)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 192)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/56)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 701). . مِن الصِّدقِ، الَّذي هو خِلافُ الكذبِ.
2- قِراءةُ: الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ بتَشديدِ الصَّادِ، أي: إنَّ المُتصَدِّقينَ والمُتصَدِّقاتِ [333] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/384). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (22/411)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/56)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 701). . مِن التَّصدُّقِ.
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ.
أي: إنَّ المُتصَدِّقينَ والمُتصَدِّقاتِ في سَبيلِ اللهِ مِن طَيِّبِ أموالِهم مُحتَسِبينَ في إنفاقِها، مُبتَغِينَ ما عِندَ رَبِّهم بلا مَنٍّ ولا أذًى- يُثيبُهم اللهُ على ذلك الإنفاقِ أُجورًا كَثيرةً، قد تَبلُغُ سَبْعَمِئةِ ضِعفٍ أو أكثَرَ [334] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/411، 412)، ((تفسير ابن كثير)) (8/22)، ((تفسير السعدي)) (ص: 840)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 392، 394). !
وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ.
أي: ولهم ثَوابٌ حَسَنٌ، وجَزاءٌ جَميلٌ [335] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/412)، ((تفسير ابن كثير)) (8/22)، ((تفسير السعدي)) (ص: 840)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 394). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالأجرِ الكريمِ: الجنَّةُ: ابنُ جرير، والبغويُّ، والقرطبي، وابن كثير، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/412)، ((تفسير البغوي)) (5/31)، ((تفسير القرطبي)) (17/252)، ((تفسير ابن كثير)) (8/14)، ((تفسير الشوكاني)) (5/208). قال ابن عثيمين: (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي: ثوابٌ كريمٌ، والكريمُ هو الحسَنُ الطَّيِّبُ؛ وذلك أنَّ الجنَّةَ فيها ما لا عَيْنٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خطَرَ على قلبِ بشَرٍ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 394). وقال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (يعني: جزاءً حسَنًا في الجنَّةِ). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/243). ويُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/407). .
وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
ذكَرَ تعالى -قبْلَ هذه الآيةِ- حالَ المؤمِنينَ والمنافِقِين، وذكَرَ الآنَ حالَ المؤمنينَ وحالَ الكافِرين [336] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/462). .
وأيضًا لَمَّا ذُكِرَ فَضْلُ المُتصدِّقينَ، وكان مِن المُؤمنينَ مَن لا مالَ له لِيَتصدَّقَ منه؛ أُعقِبَ ذِكرُ المُتصدِّقينَ ببَيانِ فضْلِ المؤمنينَ مُطلقًا، وهو شاملٌ لِمَن يَستطيعُ أنْ يَتصدَّقَ ومَن لا يَستطيعُ، على نحْوِ التَّذكيرِ المُتقدِّمِ آنِفًا في قولِه: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [337] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/396). [الحديد: 10] .
وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ.
أي: والَّذين آمَنوا باللهِ وبرُسُلِه هم الصِّدِّيقونَ الَّذين هم في غايةِ الصِّدقِ وكَثرةِ التَّصديقِ لِما وَجَب التَّصديقُ به، فليس في قُلوبِهم أدنَى شَكٍّ [338] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/243)، ((تفسير ابن جرير)) (22/412)، ((تفسير السمرقندي)) (3/407)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/284، 285)، ((تفسير السعدي)) (ص: 840)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 399). قال ابن جزي: (الصِّدِّيقُونَ مبالغةٌ مِن الصِّدقِ أو مِن التَّصديقِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/347). وقال ابن عثيمين: (الصِّدِّيقُونَ أي: البالِغونَ في الصِّدقِ مبلغًا كبيرًا؛ لأنَّ الصِّدِّيقَ صيغةُ مبالغةٍ، والصِّدقُ يكونُ بالقصدِ وبالقولِ وبالفعلِ). ((تفسير ابن عثيمين: الحجرات - الحديد)) (ص: 399). وقال السعدي: (الصِّدِّيقونَ هم الذين كمَّلوا مراتِبَ الإيمانِ والعملِ الصالحِ، والعلمِ النَّافعِ، واليقينِ الصَّادقِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 841) .
قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69] .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إنَّ أهلَ الجنَّةِ لَيَتراءَوْنَ أهلَ الغُرَفِ مِن فَوقِهم، كما تَتراءَونَ الكوكَبَ الدُّرِّيَّ [339] الدُّرِّيَّ: الشَّديدَ الإضاءةِ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (5/285). الغابِرَ مِن الأُفُقِ [340] الغابِرَ: أي: الباقِيَ في الأُفُقِ بعدَ انتِشارِ ضَوءِ الفَجرِ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (5/ 285). ، مِن المَشرِقِ أو المَغرِبِ؛ لِتَفاضُلِ ما بيْنَهم. قالوا: يا رَسولَ اللهِ، تلك مَنازِلُ الأنبياءِ لا يَبلُغُها غَيرُهم؟! قال: بلى، والَّذي نفْسي بيَدِه، رِجالٌ آمَنوا باللهِ، وصَدَّقوا المُرسَلينَ)) [341] رواه البخاريُّ (3256)، ومسلمٌ (2831) واللَّفظُ له. .
وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ.
أي: والشُّهَداءُ: لهم ثَوابُ اللهِ في الآخِرةِ، ولهم نُورُهم [342] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/415)، ((تفسير أبي حيان)) (10/109)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 351، 352)، ((تفسير ابن كثير)) (8/23)، ((تفسير الإيجي)) (4/265)، ((تفسير العليمي)) (6/540). قال ابن جُزَي: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ يحتملُ أن يكونَ الشُّهداءُ مُبتدَأً وخبرُه ما بعدَه، أو يكونَ معطوفًا على الصِّدِّيقينَ. فإنْ كان مُبتدَأً ففي المعنى قَولانِ: أحدُهما: أنَّه جمْعُ شهيدٍ في سبيلِ الله، فأخبَر أنَّهم عندَ ربِّهم لهم أجرُهم ونورُهم. والآخَرُ: أنَّه جمعُ شاهِدٍ، ويُرادُ به الأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لأنَّهم يَشهَدونَ على قَومِهم. وإن كان معطوفًا ففي المعنى قَولانِ: أحدُهما: أنَّه جمْعُ شهيدٍ، فوصَفَ اللهُ المؤمنينَ بأنَّهم صِدِّيقونَ وشُهَداءُ، أي: جمَعوا الوصفَينِ،... والآخَرُ: أنَّه جمعُ شاهِدٍ؛ لأنَّ المؤمنينَ يَشهَدون على النَّاسِ، كقولِه: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] . لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ هذا خبَرٌ عن الشُّهداءِ خاصَّةً إن كان مُبتدَأً، أو خبرٌ عن المؤمنينَ إن كان الشُّهداءُ مَعطوفًا). ((تفسير ابن جزي)) (2/347). ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/479). ممَّن اختار أنَّ الجُملةَ مُستأنَفةٌ، وأنَّ الشُّهداءَ مُبتدَأٌ وخبَره ما بعدَه: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والفَرَّاءُ، وابنُ جرير، والرَّسْعَنيُّ، وأبو حيان، وابن كثير، والنيسابوري، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/243)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/135)، ((تفسير ابن جرير)) (22/413)، ((تفسير الرسعني)) (7/645)، ((تفسير أبي حيان)) (10/109)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 22)، ((تفسير النيسابوري)) (6/257)، ((تفسير العليمي)) (6/540). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومَسروقٌ، وأبو الضُّحى، والضَّحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/413)، ((تفسير ابن كثير)) (8/22). وممَّن اختار أنَّها معطوفةٌ: الزمخشريُّ، والنسفي، والبِقاعي، والشوكاني، والألوسي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/478)، ((تفسير النسفي)) (3/438)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/ 285)، ((تفسير الشوكاني)) (5/208)، ((تفسير الألوسي)) (14/182). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ مَسعودٍ، ومجاهِدٌ، وزَيدُ بنُ أسلَمَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/414)، ((تفسير الماوردي)) (5/479)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/236). قال أبو السعود: (أي: أُولئكَ عِنْدَ رَبِّهِمْ بمنزلةِ الصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ المشهورينَ بعلوِّ الرُّتبةِ، ورفعةِ المحلِّ). ((تفسير أبي السعود)) (8/210)، ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/478)، ((تفسير الألوسي)) (14/182). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالشُّهداءِ: الأنبياءُ: الفرَّاءُ، والزَّجَّاجُ، والعُلَيمي. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/135)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/126)، ((تفسير العليمي)) (6/540). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بالشُّهداءِ: الَّذين استُشْهِدوا في سبيلِ الله: ابنُ جرير، والزمخشريُّ، والنسفي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/413)، ((تفسير الزمخشري)) (4/478)، ((تفسير النسفي)) (3/438). قال ابن رجب: (قد يُطلَقُ الشَّهيدُ على مَن حقَّق الإيمانَ وشَهِد بصِحَّتِه؛ لقولِه تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ). ((أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور)) (ص: 101). وقال ابن القيِّم: (قيل: إنَّ الوقفَ على قولِه تعالى: هُمُ الصِّدِّيقُونَ، ثمَّ يبتدئُ: وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ، فيَكونُ الكلامُ جُملتَينِ أخبر في إحداهما عن المؤمنينَ باللهِ ورُسلِه أنَّهم هم الصِّدِّيقونَ، والإيمانُ التَّامُّ يَستلزِمُ العِلمَ والعمَلَ والدَّعوةَ إلى الله بالتَّعليمِ والصَّبرِ عليه، وأخبر في الثَّانيةِ أنَّ الشُّهداءَ عندَ ربِّهم لهم أجرُهم ونورُهم، ومرتبةُ الصِّدِّيقينَ فوقَ مرتبةِ الشُّهداءِ؛ ولهذا قدَّمَهم عليهم... وقيل: إنَّ الكلامَ كلَّه جملةٌ واحدةٌ، وأخبر عن المؤمنينَ بأنَّهم هم الصِّدِّيقونَ والشُّهداءُ عندَ ربِّهم، وعلى هذا فالشُّهداءُ هم الَّذين يَستَشْهِدُهم اللهُ على النَّاسِ يومَ القيامةِ، وهو قولُه تعالى: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] ، وهم المؤمنونَ، فوصَفَهم بأنَّهم صِدِّيقونَ في الدُّنيا وشُهداءُ على النَّاسِ يومَ القيامةِ، ويكونُ الشُّهداءُ وصْفًا لجملةِ المؤمنينَ الصِّدِّيقينَ. وقيل: الشُّهداءُ هم الَّذين قُتِلوا في سبيلِ الله، وعلى هذا القولِ يَترجَّحُ أن يكونَ الكلامُ جُملتَينِ، ويكونَ قولُه: وَالشُّهَدَاءُ مُبتدَأً خبرُه ما بعْدَه؛ لأنَّه ليس كلُّ مؤمنٍ صِدِّيقٍ شهيدًا في سبيلِ الله. ويُرجِّحُه أيضًا أنَّه لو كان الشُّهداءُ داخلًا في جملةِ الخبَرِ عن المؤمنينَ لَكان قولُه تعالى: لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ داخلًا أيضًا في جملةِ الخبرِ عنهم، ويكونُ قد أخبر عنهم بثلاثةِ أشياءَ؛ أحدُها: أنَّهم هم الصِّدِّيقونَ، والثَّاني: أنَّهم هم الشُّهداءُ، والثَّالثُ: أنَّ لهم أجْرَهم ونورَهم، وذلك يَتضَمَّنُ عطفَ الخبَرِ الثَّاني على الأوَّلِ، ثمَّ ذِكْرَ الخبرِ الثَّالثِ مجرَّدًا عن العطفِ، وهذا كما تقولُ: زَيدٌ كريمٌ وعالِمٌ له مالٌ. والأحسَنُ في هذا تَناسُبُ الأخبارِ بأنْ تُجَرِّدَها كلَّها مِن العطفِ، أو تَعطِفَها جميعًا فتقولُ: زَيدٌ كريمٌ عالِمٌ له مالٌ، أو كريمٌ وعالِمٌ وله مالٌ، فتأمَّلْهُ. ويُرجِّحُه أيضًا أنَّ الكلامَ يَصيرُ جُمَلًا مُستقِلَّةً قد ذُكِر فيها أصنافُ خلْقِه السُّعداءُ، وهم الصِّدِّيقونَ والشُّهداءُ والصَّالِحونَ، وهم المَذكورونَ فى الآيةِ، وهم المُتصَدِّقونَ الَّذين أقرَضوا اللهَ قرضًا حسَنًا، فهؤلاء ثلاثةُ أصنافٍ، ثمَّ ذكَر الرُّسلَ في قولِه تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ [الحديد: 25] ). ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 351، 352). وجوَّز ابنُ عاشور أن يكونَ قولُه: وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ عَطفًا على الصِّدِّيقُونَ، أي: وهم الشُّهَداءُ، قال: (قيل: معنى كَونِهم شُهَداءَ: أنَّهم شُهَداءُ على الأُمَمِ يَومَ الجزاءِ؛ قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] ، فالشَّهادةُ تكونُ بمعنى الخبَرِ بما يُثبِتُ حَقًّا يُجازَى عليه بخَيرٍ أو شَرٍّ ...)، وجوَّز أيضًا أن يكونَ قَولُه: وَالشُّهَدَاءِ مُبتدَأً، وجُملةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ خبرًا عن المبتدَأِ، ويكونَ المرادُ الشُّهداءَ في سبيلِ الله. ثمَّ قال: (والمَعْنَيانِ مِن الشُّهداءِ ممكنٌ الجمْعُ بيْنَهما، فتُحمَلُ الآيةُ على إرادتِهما على طريقةِ استعمالِ المُشتركِ في مَعنيَيْهِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/397، 398). ويُنظر: ((تفسير الألوسي)) (14/183، 184). قال ابنُ جزي: (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ هذا خبرٌ عن الشهداءِ خاصَّةً إنْ كان مبتدأً، أو خبرٌ عن المؤمنينَ إنْ كان الشهداءُ معطوفًا، ونورُهم هو النُّورُ الذي يكونُ لهم يومَ القيامةِ، حسَبَما ذكَره في هذه السُّورةِ، وقيل: هو عبارةٌ عن الهدَى والإيمانِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/347). ونسَب ابنُ عطيةَ كونَ هذا النُّورِ حقيقةً إلى جمهورِ المفسرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/266). وقال الزمخشري بناءً على أنَّ الشهداءَ معطوفٌ: (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ أى: مثلُ أجرِ الصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ، ومثلُ نورِهم). ((تفسير الزمخشري)) (4/478). ويُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/ 188)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/399). .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ سُبحانَه حالَ المُؤمِنينَ؛ أتْبَعَه بذِكرِ حالِ الكافِرينَ [343] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/463). .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ.
أي: والَّذين كَفَروا باللهِ ورُسُلِه، وكَذَّبوا بآياتِ القُرآنِ الدَّالَّةِ على الحَقِّ: أولئك مُلازِمونَ للنَّارِ الشَّديدةِ التَّوَقُّدِ [344] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/416)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/285، 286)، ((تفسير السعدي)) (ص: 840)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/400). .
الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:
1- مِن آياتِ القرآنِ تأثيرُه على القَلبِ؛ فإنَّ الإنسانَ إذا قَرَأَه بتدبُّرٍ فإنَّه يُلَيِّنُ القَلبَ، ويُوَجِّهُ الإنسانَ إلى ربِّه، ويُوجِدُ طَعمًا عَجيبًا للإيمانِ؛ قال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، وقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [345] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/542). [الزمر: 23] .
2- في قَولِه تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ توبيخٌ وعِتابٌ لِمَن سَمِعَ هذا السَّماعَ ولم يُحْدِثْ له في قَلبِه صَلاحًا ورِقَّةً وخُشوعًا [346] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (2/469). .
3- في قَولِه تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ أنَّ قَسْوةَ القَلبِ، وطُولَ الأَمَدِ، والتَّسويفَ: هي العوامِلُ الأساسيَّةُ للغَفلةِ وإيثارِ الدُّنيا، وأنَّ الخَشْيةَ والذِّكْرَ: هي العوامِلُ الأساسيَّةُ لإيثارِ الآخِرةِ [347] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (8/506). .
4- في قَولِه تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ الحَثُّ على الاجتِهادِ على خُشوعِ القَلبِ لله تعالى ولِما أنزَلَه مِنَ الكِتابِ والحِكْمةِ، وأنْ يتذَكَّرَ المُؤمِنونَ المواعِظَ الإلهيَّةَ والأحكامَ الشَّرعيَّةَ كُلَّ وَقتٍ، ويُحاسِبوا أنفُسَهم على ذلك [348] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 840). .
5- في قَولِه تعالى: أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ الإرشادُ إلى وَسيلةِ الإنابةِ إلى اللهِ تعالى، والحَثُّ على تعَهُّدِ النَّفْسِ بالمَوعِظةِ، والتَّذكيرُ بالإقبالِ على القُرآنِ وتدَبُّرِه، وكَلامِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ في اللَّجَأِ إلى كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نجاةً، وفي المَفزَعِ إليهما عِصْمةً، وقد قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَثَلُ ما بَعَثَني اللهُ به مِنَ الهُدى والعِلمِ كمَثَلِ الغَيثِ الكَثيرِ أصاب أرضًا، فكان منها نَقِيَّةٌ قَبِلَت الماءَ، فأنبَتَت الكَلَأَ والعُشْبَ، وكانت منها أجادِبُ أمسَكَت الماءَ، فنَفَع اللهُ بها النَّاسَ، فشَرِبوا وسَقَوا وزَرَعوا، وأصاب منها طائِفةً أُخرى إنَّما هي قِيعانٌ لا تُمسِكُ ماءً ولا تُنبِتُ كَلَأً؛ فذلك مَثَلُ مَن فَقُه في دِينِ اللهِ، ونَفَعَه ما بعَثَني اللهُ به، فعَلِمَ وعلَّم، ومَثَلُ مَن لم يَرفَعْ بذلك رأسًا، ولم يقبَلْ هُدى اللهِ الَّذي أُرسِلْتُ به)) [349] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/394). والحديثُ الأخير رواه البخاريُّ (79)، ومسلمٌ (2282) واللَّفظُ له. .
6- في قَولِه تعالى: وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ دليلٌ على أنَّ المرءَ مَمنوعٌ مِن التَّشَبُّهِ والاقتِداءِ بمَن لا يَكونُ مَرضِيَّ الفِعَالِ، وأنَّه إنِ اقتدى به في فِعلٍ بعَينِه لم يَصِرْ بجَميعِ الصِّفاتِ مِثلَه؛ فليَعتبِرِ المُنْكِرُ على مَن شَبَّهَ المُشْمَئِزِّينَ مِن دَعوةِ الدَّاعي في الأحكامِ إلى القُرآنِ، بالمُنافِقينَ والكافِرينَ، وإنْ لم يكُنْ مُنافِقًا ولا كافِرًا بهذا؛ لِيَردَعَه عنِ استِعظامِ ما ليس بعَظيمٍ مِن المُشَبِّهِ، بل فِعْلُ المُشْمَئِزِّ بالتَّشبيهِ بالقَومِ عظيمٌ لو عَقَله [350] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/223، 224). .
7- في قَولِه تعالى: وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ النَّهيُ عن التَّشبُّهِ بالَّذين أُوتوا الكتابَ في عدَمِ خشوعِ قُلوبِهم، والتَّحذيرُ للمؤمنينَ -بعدَ أن يَطولَ الزَّمانُ- مِن أنْ يَقعوا فيما وقَع فيه أهلُ الكِتابِ [351] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/392). .
8- في قَولِه تعالى: وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ أنَّ الإنسانَ يَنبغي له أنْ يُحافِظَ على العَمَلِ، وأَلَّا يَتكاسَلَ، وأَلَّا يَدَعَه، بل يَستَمِرُّ على ما هو عليه [352] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/241). .
9- قسوةُ القلوبِ: شِدَّتُها وصلابتُها حتَّى لا يَدخُلَ فيها خَيرٌ؛ لأنَّ ذا الشَّيءَ القاسيَ ليس بقابِلٍ لِدُخولِ شيءٍ فيه، فقلوبُهم صُلْبةٌ شديدةٌ نابيةٌ عن الخَيرِ، لا يَدخُلُها وَعْظٌ، ولا يَنْجِعُ فيها خَيرٌ، والسَّبَبَ الَّذي قَسَت به قُلوبُ أهلِ الكِتابِ نَهى اللهُ عن ارتِكابِه المُسلِمينَ في قَولِه تعالى: وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [353] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/153). .
10- في قَولِه تعالى: فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ أنَّ قَسوةَ القَلبِ وطُولَ الأَمَلِ يُساعِدُ على الكُفرِ والتَّمادي في الباطِلِ [354] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (9/93). .
11- في قَولِه تعالى: فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ أنَّه يَتَوَلَّدُ مِن طُولِ الأمَلِ الكَسَلُ عنِ الطَّاعةِ، والتَّسويفُ بالتَّوبةِ، والرَّغبةُ في الدُّنيا، والنِّسيانُ للآخِرةِ، والقَسوةُ في القَلبِ؛ لأنَّ رِقَّتَه وصَفاءَه إنَّما يَقَعُ بتَذكيرِ الموتِ والقَبرِ، والثَّوابِ والعِقابِ، وأهوالِ القيامةِ [355] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/237). .
12- في قَولِه تعالى: فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ دليلٌ على أنَّ إهمالَ الرِّعايةِ مُبْلٍ للادِّكارِ في قُلوبِ المُؤمنِينَ، وتَعاهُدَها مُجَدِّدٌ له؛ والقَسوةَ مُتوَلِّدةٌ مِن طولِ الأملِ، وإدمانِ الزَّلَلِ [356] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/224). .
13- في قَولِه تعالى: وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ أنَّ القُلوبَ تَحتاجُ في كُلِّ وَقتٍ إلى أن تُذَكَّرَ بما أنزَلَه اللهُ، وتُناطَقَ بالحِكْمةِ، ولا يَنبغي الغَفلةُ عن ذلك؛ فإنَّ ذلك سَبَبٌ لِقَسوةِ القَلبِ، وجُمودِ العَينِ [357] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 840). .
14- أسبابُ القَسوةِ كَثيرةٌ؛ منها: كثرةُ الكلامِ بغيرِ ذِكرِ اللهِ، ونَقضُ العَهدِ مع اللهِ تعالى، وكثرةُ الضَّحِكِ، وكَثرةُ الأكلِ ولا سيَّما إن كان مِنَ الشُّبُهاتِ أو الحرامِ، وكثرةُ الذُّنوبِ.
وأمَّا مُزيلاتُ القَسوةِ فمُتعَدِّدةٌ أيضًا؛ فمنها: كثرةُ ذِكرِ اللهِ الَّذي يَتَواطأُ عليه القَلبُ واللِّسانُ، والأصلُ في إزالةِ قَسوةِ القُلوبِ بالذِّكرِ قَولُه تعالى: الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] ، وقَولُه تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23] ، وقال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ. ومنها: الإحسانُ إلى اليَتامى والمساكينِ. ومنها: كثرةُ ذِكرِ الموتِ. ومنها: زيارةُ القُبورِ بالتَّفَكُّرِ في حالِ أهلِها ومَصيرِهم. ومنها: النَّظَرُ في ديارِ الهالِكينَ، والاعتِبارُ بمَنازلِ الغابِرينَ. ومنها: أكلُ الحلالِ [358] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/261) فما بعدها. .
15- قال اللهُ تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ، قولُه: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ أي: في الأعمالِ؛ فقُلوبُهم فاسِدةٌ، وأعمالُهم باطِلةٌ، كما قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة: 13] ، أي: فَسَدتْ قُلوبُهم فقَسَتْ، وصار مِن سَجِيَّتِهم تحريفُ الكَلِمِ عن مَواضِعِه، وتَرَكوا الأعمالَ الَّتي أُمِروا بها، وارتَكَبوا ما نُهُوا عنه؛ ولهذا نَهى اللهُ تعالى المُؤمنينَ أن يَتشَبَّهوا بهم في شَيءٍ مِنَ الأُمورِ الأصليَّةِ والفَرعيَّةِ [359] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/20). .
16- في قَولِه تعالى: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ العدالةُ التَّامَّةُ في حُكْمِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ حيثُ لم يُعَمِّمْ، وهذا هو الواجِبُ على مَن تَحَدَّثَ عن قَومٍ؛ أنْ يُبَيِّنَ الواقِعَ؛ لأنَّ بَعضَ النَّاسِ إذا رأى مِن قومٍ زَيغًا في بَعضِهم عَمَّمَ الحُكْمَ على الجَميعِ، والواجِبُ العَدْلُ، فإنْ كان الأكثَرُ هم الفاسِقينَ، فقُلْ: «أكثَرُهم»، وإنْ كان كثيرٌ منهم فاسِقينَ فعَبِّرْ بالكَثيرِ، على حَسَبِ ما تَقتَضيه الحالُ؛ لأنَّ الواجِبَ أنْ يَقومَ الإنسانُ بالعَدلِ ولو على نَفْسِه أو والِدَيه والأقرَبِينَ [360] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 390). .
17- بعدَ ذِكْرِ أصنافِ السُّعَداءِ ذَكَرَ -سُبحانَه- الأشقياءَ، وهم نَوعانِ: كُفَّارٌ، ومُنافِقونَ؛ فقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ، وذَكَرَ المُنافِقينَ في قَولِه تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد: 13] ، فهؤلاء أصنافُ العالَمِ كلُّهم، وتَرَك سُبحانَه وتعالى ذِكْرَ المُخَلِّطِ صاحِبِ الشَّائِبَتينِ، على طريقةِ القُرآنِ في ذِكْرِ السُّعَداءِ والأشقياءِ دونَ المُخَلِّطِينَ غالِبًا؛ لِسِرٍّ اقتَضَتْه حِكْمتُه سُبحانَه وتعالى؛ فلْيَحْذَرْ صاحِبُ التَّخليطِ؛ فإنَّه لا ضَمانَ له على اللهِ، ولا هو مِن أهلِ وَعْدِه المُطْلَقِ، ولا يَيأسْ مِن رَوْحِ اللهِ؛ فإنه ليس مِن الكُفَّارِ الَّذين قُطِعَ لهم بالعَذابِ، ولكِنَّه بيْنَ الجَنَّةِ والنَّارِ، واقفٌ بيْن الوَعدِ والوَعيدِ؛ كلٌّ مِنهما يَدْعُوه إلى مُوجبِه؛ لأنَّه أَتَى بسَبَبِه [361] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 352). !
18- مِن وُجوهِ الاعتِبارِ في النَّظَرِ إلى الأرضِ الَّتي أحياها اللهُ بَعْدَ مَوتِها في فَصلِ الرَّبيعِ بما ساق إليها مِن قَطْرِ السَّماءِ: أنَّه يُرجَى مِن كَرَمِه أنْ يُحْييَ القُلوبَ المَيِّتةَ بالذُّنوبِ وطُولِ الغَفلةِ، بسَماعِ الذِّكرِ النَّازِلِ مِنَ السَّماءِ، وإلى ذلك الإشارةُ بقَولِه تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ إلى قَولِه تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا؛ ففيه إشارةٌ إلى أنَّ مَن قَدَر على إحياءِ الأرضِ بعْدَ مَوتِها بوابِلِ القَطْرِ فهو قادِرٌ على إحياءِ القُلوبِ المَيِّتةِ القاسيةِ، بالذِّكرِ؛ عسى لمحةٌ مِن لَمَحاتِ عَطْفِه ونَفحةٌ مِن نَفَحاتِ لُطفِه، وقد صَلَحَ مِنَ القُلوبِ كُلُّ ما فَسَد [362] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 317). !
فمَن أحسَّ بقسوةٍ في قلبِه فليُهْرَعْ إلى ذكرِ الله تعالى وتلاوةِ كتابِه يَرجِعْ إليه حالُه، كما أشار إليه قولُه عزَّ وجلَّ: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا فهو تمثيلٌ لإحياءِ القلوبِ القاسيةِ بالذِّكرِ والتِّلاوةِ بإحياءِ الأرضِ الميتةِ بالغيثِ؛ للتَّرغيبِ في الخشوعِ، والتَّحذيرِ عن القساوةِ [363] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (14/181). . ففي ذِكْرِه تعالى لهذه الآيةِ: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا بعْدَ الَّتي قبْلَها تنبيهٌ على أنَّه تعالى كما يُحيي الأرضَ بعْدَ مَوتِها، كذلك يُلينُ القلوبَ بالإيمانِ بعْدَ قَسوتِها مِن الذُّنوبِ والمعاصي [364] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/6). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ رَدٌّ على المُرْجِئةِ؛ إذِ المُخاطَبون المُوَبَّخونَ بهذا قد كان لهم -لا مَحالةَ- حَظٌّ في الخُشوعِ قبْلَ استِبطائِهم وتَقريعِهم؛ إذْ لو لم يَكُنْ لهم حَظٌّ فيه -وإنْ قَلَّ- ما كانوا مُؤمِنينَ، فهُم ما التُمِس مِنهم إلَّا زيادةٌ في خُشوعِهم الَّذي بقَليلِه استَحقُّوا اسمَ الإيمانِ قبْلَ أنْ يُطالَبوا بكَثيرِه [365] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/223). .
2- قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ في قَولِه تعالى: مِنَ الْحَقِّ إشارةٌ إلى أنَّ غَيرَ هذا الذِّكرِ دَخَله الدَّخيلُ، وأمَّا هذا فثابِتٌ ثباتًا لا يَقدِرُ أحَدٌ على إزالتِه [366] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/279). .
3- في قَولِه تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ المقصودُ التَّحذيرُ، لا أنَّهم تلَبَّسوا بذلك ولم يأْنِ لهم الإقلاعُ عنه. والتَّحذيرُ مُنصَبٌّ إلى ما حدث لأهلِ الكتابِ مِن قَسوةِ القُلوبِ بَعْدَ طُولِ الأمَدِ عليهم في مُزاوَلةِ دِينِهم، أي: فلْيَحذَرِ الَّذين آمَنوا مِن أن يكونوا مِثْلَهم على حِدْثانِ عَهْدِهم بالدِّينِ. وليس المقصودُ عُذْرَ الَّذين أُوتوا الكِتابَ بطُولِ الأمَدِ عليهم؛ لأنَّ طُولَ الأمَدِ لا يكونُ سَبَبًا في التَّفريطِ فيما طال فيه الأمَدُ، بل الأمرُ بالعَكسِ، ولا قُصِد تَهوينُ حُصولِه للَّذين آمَنوا بعدَ أن يَطُولَ الأمَدُ؛ لأنَّ ذلك لا يتعَلَّقُ به الغَرَضُ قبْلَ طُولِ الأمَدِ، وإنَّما المقصودُ النَّهيُ عن التَّشبُّهِ بالَّذين أُوتوا الكتابَ في عدَمِ خُشوعِ قُلوبِهم، ولكنَّه يُفيدُ تَحذيرَ المؤمِنينَ بعْدَ أنْ يَطولَ الزَّمانُ مِن أنْ يَقَعوا فيما وقَعَ فيه أهلُ الكِتابِ، ويَستتبِعُ ذلك الإنباءَ بأنَّ مُدَّةَ المسلِمينَ تَطولُ قريبًا أو أكثَرَ مِن مدَّةِ أهلِ الكتابِ الَّذين كانوا قبْلَ البَعثةِ؛ فإنَّ القُرآنَ مَوعِظةٌ للعُصورِ والأجيالِ [367] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/391، 392). .
4- في قَولِه تعالى: وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ التَّنديدُ التَّامُّ باليَهودِ والنَّصارى؛ لأنَّها قَسَتْ قُلوبُهم لَمَّا طال عليهم الأمَدُ [368] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 390). .
5- في قَولِه تعالى: فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ إشارةٌ إلى أنَّ أَوَّلَ الأُمَّةِ خَيرٌ مِن آخِرِها، وأخشَعُ قُلوبًا؛ وذلك لقُرْبِهم مِن عَهْدِ الرِّسالةِ، وقد صَحَّ بذلك الحديثُ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْني، ثُمَّ الَّذين يَلُونَهم، ثُمَّ الَّذين يَلُونَهم )) [369] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 390). والحديث أخرجه البخاريُّ (2652)، ومسلمٌ (2533) من حديثِ عبدِالله بنِ مسعودٍ رضيَ الله عنه. .
6- في قَولِه تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ إشارةٌ إلى أنَّ عَدَمَ الخُشوعِ في أوَّلِ الأمرِ يُفضي إلى الفِسقِ في آخِرِ الأمرِ [370] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/461). !
7- قال اللهُ تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فإنَّ الآياتِ تدُلُّ العُقولَ على العِلمِ بالمَطالِبِ الإلهيَّةِ، والَّذي أحيا الأرضَ بعْدَ مَوتِها قادِرٌ على أن يُحييَ الأمواتَ بعدَ مَوتِهم، فيُجازيَهم بأعمالِهم، والَّذي أحيا الأرضَ بعْدَ مَوتِها بماءِ المطَرِ قادِرٌ على أنْ يُحييَ القُلوبَ المَيِّتةَ بما أنزَلَه مِنَ الحَقِّ على رَسولِه، وهذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّه لا عَقْلَ لِمَن لم يَهْتَدِ بآياتِ اللهِ، ولم يَنْقَدْ لشَرائِعِ اللهِ تعالى [371] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 840). .
8- عُمَّالُ الآخرةِ على قِسْمَينِ: منهم مَن يَعمَلُ على الأجرِ والثَّوابِ، ومنهم مَن يَعمَلُ على المَنزلةِ والدَّرَجةِ، فهو يُنافِسُ غيْرَه في الوَسيلةِ والمنزلةِ عندَ اللهِ تعالى، ويُسابِقُ إلى القُرْبِ منه، وقد ذَكَرَ اللهُ تعالى النَّوعَينِ في قَولِه تعالى: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ، فهؤلاء أصحابُ الأُجورِ والثَّوابِ، ثمَّ قال: وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ فهؤلاء أصحابُ المَنزلةِ والقُرْبِ [372] يُنظر: ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 69). .
9- قال اللهُ تعالى: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا إلى آخِرِ السِّياقِ؛ هذه الآياتُ جَمَعَت أصنافَ الخَلْقِ: المتصَدِّقينَ، والصِّدِّيقِينَ، والشُّهداءَ، وأصحابَ الجَحيمِ؛ فالمُتصَدِّقونَ: الَّذين كان جُلُّ عَمَلِهم الإحسانَ إلى الخَلْقِ، وبَذْلَ النَّفعِ إِليهم بغايةِ ما يُمكِنُهم، خُصوصًا بالنَّفعِ بالمالِ في سَبيلِ اللهِ. والصِّدِّيقونَ: هم الَّذين كَمَّلوا مَراتِبَ الإيمانِ، والعَمَلِ الصَّالحِ، والعِلمِ النَّافِعِ، واليَقينِ الصَّادِقِ. والشُّهَداءُ: هم الَّذين قاتَلوا في سَبيلِ اللهِ لإعلاءِ كَلِمةِ اللهِ، وبَذَلوا أنفُسَهم وأموالَهم فقُتِلوا. وأصحابُ الجَحيمِ: هم الكُفَّارُ الَّذين كَذَّبوا بآياتِ اللهِ. وبَقِيَ قِسمٌ ذَكَرَهم اللهُ تعالى في سورةِ فاطِرٍ -في قَولِه تعالى: وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [فاطر: 32] - وهم المُقتَصِدونَ الَّذين أدَّوُا الواجِباتِ، وتَرَكوا المُحَرَّماتِ إلَّا أنَّهم حَصَل منهم تقصيرٌ بَبعضِ حُقوقِ اللهِ وحُقوقِ عِبادِه؛ فهؤلاء مآلُهم الجنَّةُ، وإن حَصَلَ لهم عُقوبةٌ ببَعضِ ما فَعَلوا [373] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 840). .
10- في قَولِه تعالى: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ سُؤالٌ: لِماذا عَبَّرَ اللهُ تعالى بالقَرضِ، وهو الغَنيُّ سُبحانَه وتعالى؟
الجوابُ: يقولُ هذا جلَّ وعلا؛ لِيُبَيِّنَ أنَّ أجْرَهم مَضمونٌ كما أنَّ القرضَ مَضمونٌ، وسَيَرُدُّ عليه الحَسَنةَ بعَشْرِ أمثالِها إلى سَبْعِمئةِ ضِعْفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، لكنْ كيف تكونُ الواحِدةُ بعَشَرةٍ وهي رِبًا في القَرْضِ؟
الجوابُ: أوَّلًا: لا رِبَا بيْنَ العَبدِ وبيْنَ رَبِّه.
ثانيًا: القَرْضُ إذا أعطاك المقترِضُ شيئًا بدونِ شرْطٍ فهو حَلالٌ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم استَقرَضَ بَكْرًا -والبَكْرُ يعني بَعيرًا صغيرًا- وردَّ خَيرًا منه، وقال: ((إنَّ خَيْرَكم أحسَنُكم قَضاءً )) [374] أخرجه البخاريُّ (2390)، ومسلمٌ (1601) من حديث أبي هريرةَ رضيَ الله عنه. وأخرجه مسلم (1600) من حديث أبي رافع رضيَ الله عنه. ؛ ولهذا عبارةُ الفُقَهاءِ: «كلُّ شَرطٍ جَرَّ نَفعًا للمُقْرِضِ فهو رِبًا»، ولم يقولوا: كلُّ زيادةٍ [375] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 393). !
11- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ دليلٌ على أنَّ الخُلودَ في النَّارِ مَخصوصٌ بالكُفَّارِ؛ مِن حيثُ إنَّ التَّركيبَ يُشعِرُ بالاختِصاصِ، والصُّحبةَ تدُلُّ على المُلازَمةِ عُرفًا، وأمَّا غَيرُهم مِنَ العُصاةِ فدُخولُهم فيها ليس على وَجهِ الصُّحبةِ الدَّالَّةِ على المُلازَمةِ [376] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/188)، ((تفسير الشربيني)) (4/210). .
12- يُستفادُ مِن قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أنَّ الكُفْرَ قد يَصحَبُه التَّكذيبُ، وقد لا يَصحَبُه؛ ولهذا أحيانًا يَذكُرُ اللهُ الكُفرَ فقط؛ مِثلُ قَولِه تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران: 131] ، وأحيانًا يَذكُرُ التَّكذيبَ فقط؛ قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ [الزمر: 32] ، وأحيانًا يَقْرِنُ بَيْنَهما؛ وذلك لأنَّ كُلًّا منهما قد يكونُ وَحْدَه مُوجِبًا للخُلُودِ في النَّارِ، فإذا اجتَمَعا جميعًا صار ذلك أشدَّ وأعظَمَ. والعياذُ باللهِ [377] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/162). .
13- قَولُه: وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا: المرادُ بالآياتِ هنا الآياتُ الشَّرعيَّةُ، والكونيَّةُ؛ فمَن أنكَرَ رُبوبيَّةَ اللهِ تعالى وخَلْقَه للمَخلوقاتِ، وتصرُّفَه في الكَونِ؛ فهذا مكذِّبٌ بالآياتِ الكَونيَّةِ، وقد يُقِرُّ بذلك، لكنَّه يَكْفُرُ ويُكَذِّبُ بالآياتِ الشَّرعيَّةِ، ويُعرِضُ عن طاعةِ اللهِ تعالى [378] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/159). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ استِئنافٌ ناعٍ عليهم تَثاقُلَهم في أُمورِ الدِّينِ، ورَخاوةَ عَقدِهم فيها، واستِبطاءٌ لانتِدابِهم لِما نُدِبوا إليهِ بالتَّرغيبِ والتَّرهيبِ [379] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/208). .
- قولُه: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ الاستِفهامُ مُستعمَلٌ في الإنكارِ، أي: إنكارِ نفْيِ اقترابِ وقْتِ فِعْلِ الفعلِ، ويَجوزُ أنْ يكونَ الاستفهامُ للتَّقريرِ على النفْيِ [380] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/390). .
- والمقصودُ مِن قولِه: لِلَّذِينَ آَمَنُوا إمَّا بعضٌ منهم رُبَّما كانوا مُقصِّرينَ عن جُمهورِ المؤمنينَ يومَئذٍ بمكَّةَ، فأراد اللهُ إيقاظَ قُلوبِهم بهذا الكلامِ المُجمَلِ، على عادةِ القرآنِ وأقوالِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في التَّعريضِ، وإمَّا أنْ يكونَ تَحريضًا للمؤمنينَ على مُراقَبةِ ذلك، والحذَرِ مِن التَّقصيرِ [381] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/390). .
- وقَدَّم الخُشوعَ بالذِّكْرِ على الخُشوعِ بما نَزَل مِنَ القُرآنِ؛ لأنَّ الخُشوعَ والخَوفَ والخَشْيةَ لا تَحصُلُ إلَّا عِندَ ذِكرِ اللهِ تعالى، فأمَّا حُصولُها عِندَ سَماعِ القُرآنِ فذلك مِن أجْلِ اشتِمالِ القُرآنِ على ذِكرِ اللهِ تعالى [382] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/461). .
- ويَجوزُ أنْ يكونَ الوَصْفانِ في قولِه: لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ للقرآنِ؛ تَشريفًا له بأنَّه ذِكرُ اللهِ، وتَعريفًا لنفْعِه بأنَّه نزَلَ مِن عندِ اللهِ، وأنَّه الحقُّ [383] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/477)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/391). .
- ويَجوزُ أنْ تُجعَلَ (لا) في قولِه: وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حرْفَ نَهْيٍ، ويُعلَّقَ النَّهيُ بالغائبِ التِفاتًا [384] الالتفاتُ: هو نقْلُ الكلامِ مِن أُسلوبٍ إلى أُسلوبٍ آخَرَ؛ استِدرارًا للسَّامعِ، وتَجديدًا لنشاطِه، وصِيانةً لخاطرِه مِن الملالِ والضَّجرِ بدوامِ الأُسلوبِ الواحدِ على سمْعِه؛ كالانتِقالِ مِن الخِطابِ إلى الغَيبةِ، أو تَغييرِ ضَميرِ المُتكلِّمِ نفْسِه: تارةً يَجعلُه تاءً على جِهةِ الإخبارِ عن نفْسِه، وتارةً يجَعلُه كافًا، فيَجعَلُ نفْسَه مُخاطَبًا، وتارةً يَجعلُه هاءً، فيُقيمُ نفْسَه مُقامَ الغائبِ. وشرْطُه أنْ يكونَ الضَّميرُ في المتنقَّلِ إليه عائدًا في نفْسِ الأمرِ إلى المُلتَفَتِ عنه. وللمُتَكلِّمِ والخِطابِ والغَيبةِ مَقاماتٌ، والمشهورُ: أنَّ الالتفاتَ هو الانتقالُ مِن أحدِها إلى الآخَرِ بعدَ التَّعبيرِ بالأوَّلِ. وهذا النَّوعُ قد يختصُّ مواقعُه بلِطائفِ مَعانٍ قَلَّما تتَّضِحُ إلَّا لأفرادِ البُلغاءِ، أو للحُذَّاقِ المَهرَةِ في هذا الفنِّ والعُلماءِ النَّحاريرِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 200، 201)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/314). ، أو المرادُ: أبْلِغْهم ألَّا يَكونوا [385] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/392). .
- وفاءُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ لتَفريعِ طُولِ الأمَدِ على قَسْوةِ القلوبِ مِن عدَمِ الخُشوعِ، فهذا التَّفريعُ خارجٌ عن التَّشبيهِ الَّذي في قولِه: كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ، ولكنَّه تَنبيهٌ على عاقِبةِ ذلك التَّشبيهِ؛ تَحذيرًا مِن أنْ يُصيبَهم مِثلُ ما أصابَ الَّذين أُوتوا الكتابَ مِن قبْلُ [386] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/392). .
- وجُملةُ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ اعتِراضٌ في آخِرِ الكلامِ [387] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/392). .
2- قولُه تعالَى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
- قولُه: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، افتِتاحُ الكلامِ بفِعلِ الأمْرِ اعْلَمُوا يُؤْذِنُ بأنَّ ما سيُلْقى جَديرٌ بتَوجُّهِ الذِّهنِ بكُلِّيَّتِه إليه، وهو هنا يُشيرُ إلى أنَّ الكلامَ الَّذي بعْدَه له مَغزًى عَظيمٌ غيرُ ظاهرٍ؛ وذلك أنَّه أُرِيدَ به تَمثيلُ حالِ احتِياجِ القُلوبِ المُؤمِنةِ إلى ذِكرِ اللهِ بحالِ الأرضِ المَيتةِ في الحاجةِ إلى المطَرِ، وحالِ الذِّكرِ في تَزكيةِ النُّفوسِ واستِنارتِها بحالِ الغَيثِ في إحياءِ الأرضِ الجَدْبةِ، ودلَّ على ذلك قولُه بعْدَه: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ؛ وإلَّا فإنَّ إحياءَ اللهِ الأرضَ بعْدَ مَوتِها بما يُصِيبُها مِن المطَرِ لا خَفاءَ فيه؛ فلا يَقْتضي أنْ يُفتتَحَ الإخبارُ عنه بمِثلِ اعْلَمُوا إلَّا لأنَّ فيه دَلالةً غيرَ مألوفةٍ، وهي دَلالةُ التَّمثيلِ؛ فالجُملةُ بمَنزِلةِ التَّعليلِ لجُملةِ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ إلى قولِه: فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد: 16] ؛ لِما تَتضمَّنُه تلك مِن التَّحريضِ على الخُشوعِ لذِكرِ اللهِ، ولكنَّ هذه بمَنزلةِ العِلَّةِ؛ ففُصِلَت ولم تُعطَفْ [388] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/478)، ((تفسير البيضاوي)) (5/188)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/246)، ((تفسير أبي حيان)) (10/108)، ((تفسير أبي السعود)) (8/ 209)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/393، 394)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/469، 470). .
- والخِطابُ في قولِه: اعْلَمُوا للمُؤمنِينَ، على طَريقةِ الالْتِفاتِ، إقْبالًا عليهم؛ للاهتِمامِ [389] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/394). .
- وقولُه: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ استِئنافٌ بَيانيٌّ لجُملةِ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا؛ لأنَّ السَّامعَ قولَه: أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا يَتطلَّبُ مَعرفةَ الغرَضِ مِن هذا الإعلامِ، فيكونُ قولُه: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ جَوابًا عن تَطلُّبِه، أي: أعلَمْناكم بهذا تَبْيينًا للآياتِ [390] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/394). .
- وأيضًا قولُه: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يُفيدُ بعُمومِه مُفادَ التَّذييلِ للآياتِ السَّابقةِ مِن أوَّلِ السُّورةِ؛ فالتَّعريفُ في الْآَيَاتِ للاستِغراقِ [391] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/394، 395). .
- وقولُه: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ رَجاءٌ وتَعليلٌ، أي: بيَّنَّا لكم لأنَّكم حالُكم كحالِ مَن يُرْجى فَهْمُه، والبَيانُ عِلَّةٌ لفَهمِه [392] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/395). .
3- قولُه تعالَى: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ
- قولُه: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا مِن عَطْفِ المرادِفِ في المعْنى؛ لِمَا في المعطوفِ مِن تَشبيهِ فِعْلِهم بقرْضٍ للهِ؛ تَنويهًا بالصَّدقاتِ [393] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/396). .
- وعُطِفَ وَأَقْرَضُوا -وهو جُملةٌ- على الْمُصَّدِّقِينَ -وهو مُفرَدٌ-؛ لأنَّ المفردَ في حُكْمِ الفعلِ؛ حيثُ كانتِ اللَّامُ في معْنى الموصولِ؛ فقُوَّةُ الكلامِ: إنَّ الَّذين اصَّدَّقوا واللَّائي تَصدَّقْنَ وأقْرَضوا على التَّغليبِ، ووَجْهُ العُدولِ عن تَماثُلِ الصِّلتَينِ فلم يَقُلْ: (إنَّ المُصَّدِّقينَ والمُقرِضينَ)؛ هو تَصويرُ معْنى كَونِ التَّصدُّقِ إقراضًا للهِ. وقيل: وَالْمُصَّدِّقَاتِ اعتراضٌ على سَبيلِ الاستِطرادِ؛ فإنَّ المُصَّدِّقاتِ لو لمْ تُذكَرْ لَكانتْ مُندرِجةً تحتَ الْمُصَّدِّقِينَ على سَبيلِ التَّغليبِ، كما أنَّ قولَه: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ عامٌّ في الرِّجالِ والنِّساءِ؛ فذِكرُ وَالْمُصَّدِّقَاتِ لِمَزيدِ التَّقريرِ. وقيل: إنَّ (المُصَّدِّقاتِ) ليسَ بعطفٍ على الْمُصَّدِّقِينَ، بل هُو مَنصوبٌ على الاختِصاصِ، كأنَّه قيلَ: إنَّ المُصَّدِّقينَ على العُموم تَغليبًا، وأخصُّ المُصَّدِّقاتِ مِن بيْنِهم، كما تقولُ: إنَّ الَّذين آمنوا -ولا سيَّما العلماءِ منهم- وعمِلُوا الصَّالِحاتِ لهم كذا، لكنْ لا على أنَّ مَدارَ التَّخصيصِ مَزيدُ استِحقاقِهنَّ لمُضاعَفةِ الأجْرِ، كما في المثالِ المذكورِ، بل زِيادةُ احتياجِهنَّ إلى التَّصدُّقِ، الدَّاعيةُ إلى الاعتِناءِ بِحَثِّهنَّ على التَّصدُّقِ [394] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/478)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/247)، ((تفسير أبي السعود)) (8/209)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/396)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/468). .
4- قولُه تعالَى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
- في جمْعِ لَفظِ وَرُسُلِهِ تَعريضٌ بأهلِ الكتابِ الَّذين قالوا: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النساء: 150] ، فاليهودُ آمَنوا باللهِ وبمُوسى، وكَفَروا بعِيسى وبمحمَّدٍ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، والنَّصارى آمَنوا باللهِ وبعِيسَى، ثُمَّ كفَروا فعَبدوه، وكفَروا بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمُؤمِنونَ آمَنوا برُسلِ اللهِ كلِّهم؛ ولذلك وُصِفوا بأنَّهم الصِّدِّيقونَ [395] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/397). .
- وأيضًا جمَعَ الرُّسلَ؛ لأنَّ مَن آمَن باللهِ، وبجَميعِ ما يجِبُ أنْ يُؤمِنَ به مِن صِفاتِه وأفعالِه، وبجَميعِ ما يُضافُ ويُنسَبُ إليهم؛ يكونُ مُفرِطًا في الصِّدْقِ؛ لكَثرةِ ما صدَّقَ به [396] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/249). .
- وفي قولِه: أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ جِيءَ باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ المشارَ إليهم استَحَقُّوا ما يَرِدُ بعدَ اسمِ الإشارةِ مِن أجْلِ الصِّفاتِ الَّتي قبْلَ اسمِ الإشارةِ. وما فيهِ مِن معْنى البُعدِ معَ قُربِ العَهدِ بالمشارِ إليه؛ للتَّنويهِ بشأْنِهم [397] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/248)، ((تفسير أبي السعود)) (8/210)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/397). .
- وضَميرُ الفصْلِ (هُم) للقَصْرِ، وهو قصْرٌ إضافيٌّ [398] القصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه، أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وتردُّدِه؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ يدورُ حولَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويستدلُّ عليها بالقرائنِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكة الميداني (1/525). ، أي: همُ الصِّدِّيقونَ لا الَّذين كذَّبوا بعضَ الرُّسلِ، وهذا إبطالٌ لأنْ يكونَ أهلُ الكتابِ صِدِّيقينَ؛ لأنَّ تَصديقَهم رسولَهم لا جَدْوى له؛ إذ لم يُصدِّقوا برِسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [399] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/248)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/397). .
- و(الصِّدِّيقُ) -بتَشديدِ الدَّالِ- مُبالَغةٌ في المُصَدِّقِ [400] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/188)، ((تفسير أبي السعود)) (8/210)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/397). .
- قولُه: وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ يَجوزُ أنْ يكونَ عطْفًا على الصِّدِّيقُونَ عطْفَ المفرَدِ على المفرَدِ؛ فهو عطْفٌ على الخبَرِ، أي: وهم الشُّهداءُ، فتَكونَ جُملةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ استِئنافًا بَيانيًّا نشَأَ عن وصْفِهم بتَينِكَ الصِّفتَينِ؛ فإنَّ السَّامعَ يَترقَّبُ ما هو نَوالُهم مِن هذَينِ الفضْلَينِ. وقيل: معنَى كونِهم شُهداءَ: أنَّهم شهداءُ على الأُممِ يومَ الجزاءِ. ويجوزُ أنْ يكونَ قولُه: وَالشُّهَدَاءُ مُبتدأً، وجُملةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ خبرًا عن المُبتدأِ، ويكونَ العطْفُ مِن عطْفِ الجُمَلِ، فيُوقَفَ على قولِه: الصِّدِّيقُونَ، فيكونَ انتِقالًا مِن وصْفِ مَزيَّةِ الإيمانِ باللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى وَصْفِ مَزيَّةِ فَريقٍ منهم استَأْثروا بفَضيلةِ الشَّهادةِ في سَبيلِ اللهِ، وهذا مِن تَتمَّةِ قولِه: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلى قولِه: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10] ؛ فإنَّه لَمَّا نوَّه بوعْدِ المُؤمنينَ المُصَدِّقينَ المَعْفِيينَ مِن قولِه: وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ ... [الحديد: 8] إلخ، فأَوفاهم حقَّهم بقولِه: وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ؛ أقبَلَ على وعْدِ الشُّهداءِ في سَبيلِ الله، الَّذين تَضمَّنَ ذِكرَهم قولُه: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الحديد: 10] الآياتِ، فالشُّهداءُ إذنْ هم المَقتولونَ في الجهادِ في سَبيلِ اللهِ، ويمكِنُ الجمْعُ بيْن معْنيي الشُّهداءِ، على طَريقةِ استِعمالِ المُشتركِ في مَعْنيَيه [401] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/398). .
- قيل: سمَّاهم شُهداءَ تَغليبًا، أو المرادُ لهم أجْرُ الشُّهداءِ، وإلَّا فبَعضُهم لم يُقتَلْ حتَّى يكونَ شَهيدًا [402] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 552). . وذلك على أنَّ وَالشُّهَدَاءُ معطوفٌ.
- ومعْنى إضافةِ أجْرٍ ونُورٍ إلى ضَميرِهم في قوله: لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ أنَّه أجْرٌ يُعرَّفُ بهم، ونُورٌ يُعرَّفُ بهم، وإذ قد كان مُقْتضَى الإضافةِ أنْ تُفيدَ تَعريفَ المضافِ بنِسبتِه إلى المضافِ إليه، وكان الأجرُ والنُّورُ غيرَ مَعلومَينِ للسَّامعِ؛ كان في الكلامِ إبهامٌ يُكنَّى به عن أجْرٍ ونُورٍ عَظيمَينِ، فهو كِنايةٌ عن التَّنويهِ بذلك الأجْرِ وذلك النُّورِ، أي: أجرٌ ونُورٌ لا يُوصَفانِ إلَّا بأجْرِهم ونُورِهم، أي: أجرٌ ونورٌ لائقانِ بمقامِهم، مع ضَميمةِ ما أفادَتْه العِنْديَّةُ الَّتي في قولِه: عِنْدَ رَبِّهِمْ مِن معْنى الزُّلْفى والعِنايةِ بهم، المُفيدِ عَظيمَ الأجْرِ والنُّورِ [403] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/398، 399). .
- ويَجوزُ أنْ يكونَ ضَميرَا أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ عائدَينِ إلى لَفظَيِ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ، أو إلى لَفظِ (الشُّهَدَاءُ) خاصَّةً، بمعْنى الصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ ممَّن كانوا قبْلَهم مِن الأُمَمِ، ومعْنى الصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ حينَئذٍ مُغايرٌ للمعْنى السَّابقِ بالعمومِ والخُصوصِ على طَريقةِ الاستِخدامِ في الضَّميرِ، وطَريقةِ التَّشبيهِ البليغِ في حمْلِ الخبرِ على المُبتدَأِ في قولِه: لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ، بتَقديرِ: لهم مِثلُ أجْرِهم ونُورِهم، ولا تأْويلَ في إضافةِ الأجرِ والنُّورِ إلى الضَّميرَينِ بهذا المَحملِ؛ فإنَّ تَعريفَ المضافِ بيِّنٌ؛ لأنَّه قد تَقرَّر في عِلمِ النَّاسِ ما وُعِدَ به الصِّدِّيقونَ والشُّهداءُ مِن الأمَمِ الماضيةِ، وفائدةُ التَّشبيهِ على هذا الوجْهِ تَصويرُ قوَّةِ المُشبَّهِ وإنْ كان أقوى مِن المُشبَّهِ به؛ لأنَّ للأحوالِ السَّالفةِ مِن الشُّهرةِ والتَّحقُّقِ ما يُقرِّبُ صُورةَ المُشبَّهِ عندَ المخاطَبِ [404] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/478)، ((تفسير أبي السعود)) (8/210)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/399). .
- قولُه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ تَتميمٌ [405] التَّتميم: مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ من الكلام نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللَّبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ. ومِن أمثلةِ التَّتميمِ قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العزةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 127)، ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 217)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/332، 333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/49 - 51) و(1/240، 241). اقتَضاهُ ذِكرُ أهلِ مَراتبِ الإيمانِ والتَّنويهُ بهِم، فأُتْبِعَ ذلك بوَصْفِ أضْدادِهم؛ لأنَّ ذلك يَزيدُ التَّنويهَ بهم بأنَّ إيمانَهم أنْجاهم مِن الجَحيمِ [406] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/249)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/399، 400). .
- ولَفظُ بِآَيَاتِنَا جمْعٌ مُضافٌ يُفيدُ الاستِغراقَ، فيَتناوَلُ جَميعَ آياتِ اللهِ المُختلِفةِ الأنواعِ، ومُكذِّبُها يكونُ مُفْرِطًا في الكذِبِ؛ لكثرةِ ما كذَّبَ به [407] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/249). .
- والمُرادُ بالَّذين كَفَروا باللهِ وكذَّبوا بالقُرآنِ: ما يَشملُ المُشرِكينَ واليهودَ والنَّصارَى، على تَفاوُتٍ بيْنَهم في درَكاتِ الجحيمِ. وفي استِحضارِهم بتَعريفِ اسمِ الإشارةِ مِن التَّنبيهِ على أنَّهم جَديرون بذلك مِن أجْلِ الكفْرِ والتَّكذيبِ، ولم يُؤْتَ في خبَرِهم بضَميرِ الفَصلِ؛ إذ لا يُظَنُّ أنَّ غيرَهم أصحابُ الجحيمِ [408] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/400). .
- وفي التَّعبيرِ عنهم بـ أَصْحَابُ مُضافٍ إلى الْجَحِيمِ: دَلالةٌ على شِدَّةِ مُلازمتِهم للجحيمِ [409] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/400). .
- وفي الآيةِ احتباكٌ [410] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ ذكَرَ الصِّدِّيقيَّةَ -وما معها- أوَّلًا دليلًا على أضْدادِها ثانيًا، والجحيمَ ثانيًا دليلًا على النَّعيمِ أولًا. وسرُّه أنَّ الأوَّلَ أعظمُ في الكرامةِ، والثَّانيَ أعظمُ في الإهانةِ [411] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/286). .