موسوعة التفسير

سورةُ الزُّخرُفِ
الآيات (1-8)

ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ

غريب الكلمات:

أُمِّ الْكِتَابِ: أي: أصلِ الكِتابِ، وهو اللَّوحُ المحفوظُ، وأُمُّ كلِّ شَيءٍ أصلُه [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 395)، ((تفسير ابن جرير)) (20/ 546)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/ 6622)، ((البسيط)) للواحدي (20/ 8)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 344). .
أَفَنَضْرِبُ: أي: نُمسِكُ ونَترُكُ، يُقالُ: ضَرَبتُ عنه وأضرَبتُ عنه، أي: تَركتُه وأمسكتُ عنه، وأصلُ الضَّرْبِ: إيقاعُ شَيءٍ على شَيءٍ [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 395)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/397)، ((البسيط)) للواحدي (20/9)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 505)، ((تفسير القرطبي)) (16/63)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 344). قال الهَرَوي: (والأصلُ في ذلك -ضَرَبتُ عنه الذِّكرَ-: أنَّ الرَّاكِبَ إذا رَكِبَ دابَّةً فأراد أن يَصرِفَه عن جِهتِه ضَرَبه بعصاه؛ لِيَعدِلَه عن جِهتِه إلى الجِهةِ الَّتي يريدُها؛ فوُضِعَ الضَّربُ مَوضِعَ الصَّرفِ والعَدلِ). ((الغريبين في القرآن والحديث)) (4/1119). ويُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (12/15). وقال البِقاعي: (الحاصِلُ أنَّ الضَّربَ إيقاعُ شَيءٍ على آخَرَ بقُوَّةٍ، فمُجَرَّدُه مُتعَدٍّ إلى واحدٍ، فإنْ عُدِّيَ إلى آخَرَ بـ «عن» ضُمِّنَ معنى الصَّرفِ، وإذا زِيدَت همزةُ النَّقلِ فقيل: أضرَبْتُ عنه، أفادَت الهَمزةُ قَصْرَ الفِعلِ، وأفهَمَت إزالةَ الضَّربِ). ((نظم الدرر)) (17/383). .
صَفْحًا: أي: إعراضًا، يُقالُ: صَفَحتُ عن فُلانٍ: إذا أعرَضتَ عنه، والأصلُ في ذلك أنَّك مُوَلِّيه صَفْحةَ عُنُقِك، وأصلُ (صفح): يدُلُّ على عَرضِ الشَّيءِ وجانبِه [8] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 395)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 305)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/293)، ((المفردات)) للراغب (ص: 486)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 344)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 372)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (6/539). .
بَطْشًا: أي: قُوَّةً، والبَطْشُ: الأخذُ بعُنفٍ، وأصلُ (بطش): يدُلُّ على أخذِ الشَّيءِ بقَهرٍ وقُوَّةٍ وغَلَبةٍ [9] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/262)، ((المفردات)) للراغب (ص: 129). .
مَثَلُ الْأَوَّلِينَ: أي: ذِكرُ حالِهم، ووصْفُ عِقابِهم، وكيفيَّةُ إهلاكِهم، وأصلُ (مثل): يدُلُّ على مُناظَرةِ الشَّيءِ لِلشَّيءِ [10] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/ 296)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (6/ 1725)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 344)، ((تفسير ابن جزي)) (2/ 254). قال الشنقيطي: (وقولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي: صِفتُهم الَّتي هي إهلاكُهم المُستأصلُ بسببِ تكذيبِهم الرُّسُلَ. وقولُ مَن قال: مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي: عقوبتُهم وسُنَّتُهم- راجعٌ في المعنى إلى ذلك). ((أضواء البيان)) (7/ 83). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ
قَولُه: صَفْحًا: في نَصبِه أوجُهٌ؛ أحَدُها: أنَّه مَفعولٌ مُطلَقٌ نائِبٌ عن المَصدرِ، فهو مُلاقيه في المَعنى؛ فالضَّربُ هنا بمعنى الصَّفحِ، فكأنَّه قال: أنترُكُ تَذكيرَكم إعراضًا عنكم. كما يُقالُ: هو يَدَعُه تَركًا؛ لأنَّ معنى يَدَعُه: يَتركُه. الثَّاني: أنَّه مَنصوبٌ على الحالِ مِن الفاعِلِ، أي: صافِحِينَ، كما تقولُ: جاء زيدٌ مَشْيًا، أي: ماشِيًا. الثَّالِثُ: أن يكونَ مَفعولًا مِن أجْلِه، أي: أفنَضرِبُ عنكم الذِّكرَ ونَرفَعُه صفحًا وإعراضًا عنكم. الرَّابعُ: أن يكونَ مَنصوبًا على الظَّرفِ، بمعنى: أفنُنَحِّيه عنكم جانِبًا. والصَّفحُ على ذلك بمعنى الجانِبِ، مِن قَولِهم: نَظَرَ إليه بصَفْحِ وَجهِه، أي: بجانِبِ وَجهِه.
والمصدَرُ المُؤَوَّلُ أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ في مَحَلِّ نَصبٍ على نَزعِ الخافِضِ (اللَّامِ)، أو في محَلِّ جرٍّ بحَرفِ جَرٍّ مَحذوفٍ مُتعَلِّقٍ بـ (نَضرِبُ)، أي: أفنَضرِبُ... لِأَنْ كُنتُم [11] يُنظر: ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/65)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/572)، ((معترك الأقران في إعجاز القرآن)) للسيوطي (2/ 574)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (25/64)، ((المجتبى من مشكل إعراب القرآن)) للخراط (3/1146). .

المعنى الإجمالي:

ابتدأَ اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بقَولِه: حم، وهما مِن الحروفِ المُقطَّعةِ الَّتي تأتي لبيانِ إعجازِ هذا القرآنِ، ثمَّ أقسَمَ اللهُ تعالى بالكِتابِ المُبِينِ لِكُلِّ شَيءٍ على أنَّه جَعَل هذا الكِتابَ قُرآنًا عَربيًّا؛ لعَلَّ العِبادَ يَفهَمونَ مَعانيَه ويَتدَبَّرونَه، وأنَّ هذا القُرآنَ في اللَّوحِ المحفوظِ عِندَه تعالى، ذو عُلُوٍّ وذُو حِكمةٍ وإحكامٍ، فلا لَبسَ فيه ولا زَيغَ.
ثمَّ قال تعالى مُنكِرًا على المُشرِكينَ: أفنَترُكُ إنزالَ القُرآنِ إعراضًا عنكم؛ لِأَنْ كنتُم -أيُّها المُشرِكونَ- قَومًا مُسرِفينَ على أنفُسِكم في الكُفرِ والعِصيانِ؟!
 ثمَّ يقولُ الله تعالى مسلِّيًا لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم في تكذيبِ مَن كَذَّبه: وما أكثَرَ الأنبياءَ الَّذين أرسَلَهم اللهُ تعالى في الأُمَمِ السَّابِقةِ، فما أتاهم نبيٌّ إلَّا استَهزَؤوا به! فأهلَكْناهم وقد كانوا أشَدَّ قُوَّةً مِن كُفَّارِ قَومِك -يا محَمَّدُ-؛ فلن نَعجِزَ كذلك عن إهلاكِهم إنِ استَمَرُّوا على كُفرِهم واستِهزائِهم، وقد مضى مَثَلُ أولئك المكَذِّبينَ فهَلَكوا وصاروا عِبرةً ونَكالًا لِمَن بَعدَهم.

تفسير الآيات:

حم (1).
هذانِ الحَرفانِ اللَّذانِ افتُتِحَت بهما هذه السُّورةُ وغيرُها مِن الحروف المقطَّعةِ الَّتي تأتي لبيانِ إعجازِ القرآنِ؛ حيثُ تُظهِرُ عجْزَ الخَلْقِ عن مُعارَضتِه بمِثلِه، معَ أنَّه مركَّبٌ مِن هذه الحروفِ العربيَّةِ الَّتي يَتحدَّثونَ بها [12] يُنظر ما تقدَّم في تفسيرِ سُورةِ البَقَرةِ (1/64) مِن هذا ((التَّفسير المحرَّر)). .
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2).
أي: أُقسِمُ بالكِتابِ المُوَضِّحِ لكُلِّ ما يَحتاجُ إليه العِبادُ [13] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/61)، ((تفسير الخازن)) (4/105)، ((تفسير ابن كثير)) (7/218)، ((تفسير السعدي)) (ص: 762)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/159)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 30). .
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3).
أي: إنَّا جعَلْنا القُرآنَ بلِسانٍ عَربيٍّ؛ لعلَّكم تَفهَمونَ مَعانيَه وتَتدَبَّرونَه [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/545)، ((تفسير ابن عطية)) (5/45)، ((تفسير القرطبي)) (16/61)، ((تفسير ابن كثير)) (7/218)، ((تفسير السعدي)) (ص: 762)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/160، 161)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 32). قال القرطبي: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: تَفهَمونَ أحكامَه ومعانيَه، فعلى هذا القَولِ يَكونُ خاصًّا للعَرَبِ دونَ العَجَمِ [أي: في توجيهِ الخِطابِ، وليس المرادُ عُمومَ البَعثةِ كما لا يخفى]. قاله ابنُ عيسى. وقال ابنُ زَيدٍ: المعنى: لعَلَّكم تتفَكَّرونَ، فعلى هذا يكونُ خِطابًا عامًّا للعَرَبِ والعَجَمِ). ((تفسير القرطبي)) (16/61). وقال ابنُ تيميَّةَ: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا أي: تكَلَّمْنا به عَرَبيًّا، وأنزَلْناه عربيًّا، وكذلك فسَّره السَّلَفُ، كإسحاقَ بنِ راهَوَيهِ، وذكره عن مُجاهِدٍ، قال: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا قُلْناه عربيًّا، ذكره ابنُ أبي حاتم في تفسيرِه عن إسحاقَ بنِ راهَوَيهِ، قال: ذُكِرَ لنا عن مُجاهِدٍ وغيرِه مِن التَّابِعينَ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا: إنَّا قُلْناه ووصَفْناه. وذكرَه عن أحمدَ بنِ حنبلٍ عن الأشْجَعيِّ عن سُفْيانَ الثَّوْريِّ، في قَولِه جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا: بَيَّنَّاه قُرآنًا عَربيًّا). ((مجموع الفتاوى)) (16/386، 387). .
كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2].
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4).
أي: وإنَّ القُرآنَ في اللَّوحِ المَحفوظِ عِندَنا ذو عُلُوٍّ في محَلِّه وقَدْرِه وشَرَفِه، وذو حِكمةٍ وإحكامٍ؛ فلا يَعتَريه اختِلافٌ ولا اضطِرابٌ، وليس فيه نَقْصٌ، ولا لَبْسَ فيه ولا زَيْغَ [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/546)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/405)، ((تفسير ابن كثير)) (7/218)، ((تفسير السعدي)) (ص: 762)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 43، 44). .
كما قال تعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] .
وقال سُبحانَه: إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة: 77 - 80] .
وقال عز وجل: بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 21، 22].
وقال تبارك وتعالى: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس: 11 - 16].
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أوضَحَ اللهُ تعالى عَظيمَ حالِ الكِتابِ، وجَليلَ نِعمتِه به؛ أردَفَ ذلك بذِكرِ سَعةِ عَفوِه، وجميلِ إحسانِه إلى عبادِه، ورَحمتِهم بكتابِه، مع إسرافِهم وقَبيحِ مُرتَكَبِهم [16] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/382). .
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5).
القراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:
في قولِه تعالى: أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ قِراءتانِ:
1- قراءةُ إِن بكسرِ الهمزةِ، وهي شرطيَّةٌ على معنى الاستِقبالِ، أي: إنْ تَكونوا مُسرِفينَ نَضرِبْ عنكم الذِّكرَ [17] قرأ بها: نافعٌ، وحمزةُ، والكِسائيُّ، وأبو جعفرٍ، وخلَفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/368). ويُنظر لمعاني هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/361)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 320)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 644)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/574). .
2- قراءةُ أَنْ بفتحِ الهمزةِ، والمعنى: بأنْ أسرَفْتُم. أو: لِأنْ أسرفْتُم [18] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/368). ويُنظر لمعاني هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/361)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 320)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 644)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/574). .
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5).
أي: أفنَترُكُ إنزالَ القُرآنِ إعراضًا عنكم، ونُهمِلُكم فلا نأمُرَكم ولا نَنهاكم؛ مِن أجْلِ أنَّكم -أيُّها المُشرِكونَ- قَومٌ مُعرِضونَ عن أمرِ اللهِ تعالى، مُجاوِزونَ له [19] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 970)، ((تفسير السمعاني)) (5/91)، ((تفسير البغوي)) (4/154)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/384)، ((تفسير السعدي)) (ص: 762)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/163)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 48، 49). وممَّن ذهب إلى هذا المعنى المذكورِ في الجُملةِ: الواحديُّ، والسمعاني، والبغوي، والبِقاعي، والسعدي، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: المصادر السابقة. قال ابن الجوزي: (وفي المرادِ بالذِّكْرِ قَولانِ؛ أحدُهما: أنَّه ذِكْرُ العَذابِ، فالمعنى: أفنُمْسِكُ عن عذابِكم ونَترُكُكم على كُفرِكم؟! وهذا معنى قَولِ ابنِ عَبَّاسٍ، ومُجاهِدٍ، والسُّدِّيِّ. والثَّاني: أنَّه القُرآنُ، فالمعنى: أفنُمْسِكُ عن إنزالِ القُرآنِ؛ مِن أجْلِ أنَّكم لا تُؤمِنونَ به؟! وهو معنى قَولِ قَتادةَ، وابنِ زَيدٍ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/73). واختار ابنُ جريرٍ القَولَ الأوَّلَ، فقال: (وأَولى التَّأويلينِ في ذلك بالصَّوابِ تأويلُ من تأوَّلَه: أفنَضرِبُ عنكم العذابَ فنَترُكَكم ونُعرِضَ عنكم؛ لِأنْ كُنتُم قَومًا مُسرِفينَ لا تُؤمِنونَ برَبِّكم؟! وإنَّما قُلْنا ذلك أَولى التَّأويلَينِ بالآيةِ؛ لأنَّ اللهَ تبارك وتعالى أتْبَعَ ذلك خبَرَه عن الأُمَمِ السَّالِفةِ قبْلَ الأُمَّةِ الَّتي توَعَّدَها بهذه الآيةِ في تكذيبِها رُسُلَها، وما أحَلَّ بها مِن نِقمتِه؛ ففي ذلك دليلٌ على أنَّ قَولَه: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا وَعيدٌ منه للمُخاطَبينَ به مِن أهلِ الشِّركِ؛ إذ سَلَكوا في التَّكذيبِ بما جاءهم عن اللهِ رَسولُهم مَسلَكَ الماضِينَ قَبْلَهم). ((تفسير ابن جرير)) (20/550). ويُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6624). وقال ابنُ عطية: (قَولُه تعالى: صَفْحًا ... يحتمِلُ أن يكونَ بمعنى العَفوِ والغَفْرِ للذَّنْبِ، فكأنَّه يقولُ: أفنَترُكُ تَذكيرَكم وتخويفَكم عَفوًا عنكم، وغَفْرًا لإجرامِكم؛ إذ كُنتُم أو مِن أجْلِ أن كُنتُم قومًا مُسرِفينَ؟! أي: هذا لا يَصلُحُ...؛ ويحتمِلُ قَولُه: صَفْحًا أن يكونَ بمعنى: مَغفولًا عنه، أي: نَترُكُه يَمُرُّ، لا تُؤخَذونَ بقَبولِه ولا بتدَبُّرِه، ولا تُنَبَّهونَ عليه ...). ((تفسير ابن عطية)) (5/46). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/618). ؟!
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى إسرافَهم في الإعراضِ عن الإصغاءِ لِدَعوةِ القُرآنِ؛ أعقَبَه بكَلامٍ مُوَجَّهٍ إلى الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ تَسليةً عَمَّا يُلاقيه منهم في خِلالِ الإعراضِ مِن الأذى والاستِهزاءِ، بتذكيرِه بأنَّ حالَه في ذلك حالُ الرُّسُلِ مِن قَبلِه، وسُنَّةُ اللهِ في الأُمَمِ- ووَعدًا للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم بالنَّصرِ على قَومِه، بتذكيرِه بسُنَّةِ اللهِ في الأُمَمِ المكَذِّبةِ رُسُلَهم [20] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/165). ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (9/360). .
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6).
أي: وما أكثَرَ الأنبياءَ الَّذين أرسَلَهم اللهُ تعالى في الأُمَمِ الماضيةِ لِدَعوةِ أقوامِهم إلى الحَقِّ [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/552)، ((تفسير القرطبي)) (16/63)، ((تفسير السعدي)) (ص: 762). .
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7).
أي: وفما يأتي نَبيٌّ إلى قَومٍ إلَّا كانوا يَسخَرونَ منه [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/552)، ((تفسير القرطبي)) (16/63)، ((تفسير ابن كثير)) (7/219)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/386). قال ابن جرير: (يَستَهزِئونَ سُخريةً منهم به كاستِهزاءِ قَومِك بك -يا مُحمَّدُ. يقولُ: فلا يَعْظُمَنَّ عليك ما يَفعَلُ بك قَومُك، ولا يَشُقَّنَّ عليك؛ فإنَّهم إنَّما سَلَكوا في استهزائِهم بك مَسلَكَ سُلَّافِهم، ومِنهاجَ أئمَّتِهم الماضينَ مِن أهلِ الكُفرِ باللهِ). ((تفسير ابن جرير)) (20/552). !
فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8).
فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا.
أي: فأهلَكْنا أولئك المُستَهزِئينَ بالرُّسُلِ، ولم يَقدِروا على الامتِناعِ مِن عَذابِ اللهِ، وقد كانوا أشَدَّ قُوَّةً مِن كُفَّارِ مَكَّةَ المُكَذِّبينَ بمُحَمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فلن نَعجِزَ كذلك عن إهلاكِهم إنِ استَمَرُّوا على باطِلِهم [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/552)، ((تفسير القرطبي)) (16/63)، ((تفسير ابن كثير)) (7/219)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/166)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/82). قال البقاعي: (أَشَدَّ مِنْهُمْ أي: مِن قُرَيشٍ الَّذين يَستَهزِئونَ بك بَطْشًا مِن جِهةِ العَدِّ والعُدَدِ والقُوَّةِ والجَلَدِ، فما ظنُّهم بأنفُسِهم وهم أضعَفُ منهم، إن تمادَوا في الاستِهزاءِ برَسولِ اللهِ الأعلى؟!). ((نظم الدرر)) (17/387). .
كما قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ [ق: 36] .
وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ.
أي: ووقَعَ إهلاكُ اللهِ للأُمَمِ الماضيةِ؛ بسَبَبِ تَكذيبِهم رُسُلَهم، واستِهزائِهم بهم؛ فصاروا عِبرةً ونَكالًا لِمَن بَعدَهم، ومِثالًا يَرتَدِعُ به غَيرُهم؛ فلْيَحذَرْ كُفَّارُ هذه الأمَّةِ أن يَسيروا سِيرتَهم، ويَسلُكوا في الباطِلِ طَريقتَهم؛ فيُصيبَهم مِثلُ ما أصابَهم [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/552)، ((تفسير ابن عطية)) (5/46)، ((تفسير الرازي)) (27/619)، ((تفسير ابن كثير)) (7/219)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/387)، ((تفسير السعدي)) (ص: 763)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/167)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/83). .
كما قال تعالى: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أنَّ التَّأمُّلَ في القُرآنِ -وهو تَحديقُ ناظرِ القَلبِ إلى معانيه، وجَمعُ الفِكرِ على تَدَبُّرِه وتَعَقُّلِه- هو المقصودُ بإنزالِه، لا مُجرَّدَ تلاوتِه بلا فَهمٍ ولا تَدَبُّرٍ [25] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/449). .
2- قال الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الرُّسُلُ تُبَيِّنُ للنَّاسِ ما أُنزِلَ إليهم مِن رَبِّهم، وعليهم أن يُبَلِّغوا النَّاسَ البلاغَ المُبِينَ، والمطلوبُ مِن النَّاسِ أن يَعقِلوا ما بَلَّغه الرُّسُلُ، والعَقلُ يتضَمَّنُ العِلمَ والعَمَلَ؛ فمَن عَرَف الخيرَ والشَّرَّ فلم يتَّبِعِ الخيرَ ويَحذَرِ الشَّرَّ لم يكُنْ عاقِلًا؛ ولهذا لا يُعَدُّ عاقِلًا إلَّا مَن فَعَل ما يَنفَعُه، واجتَنَب ما يَضُرُّه، فالمجنونُ الَّذي لا يُفَرِّقُ بيْنَ هذا وهذا قد يُلقي نَفْسَه في المهالِكِ، وقد يَفِرُّ مِمَّا يَنفَعُه [26] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/108). .
3- في قَولِه تعالى: لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أنَّ القرآنَ عليٌّ، وهذا يدُلُّ على أنَّ مَن تمسَّكَ بهذا القرآنِ فله العُلُوُّ، كقوله سُبحانَه وتعالى: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ [محمد: 35] ، وشاهدُ هذا الواقعُ: فلَمَّا كانتِ الأُمَّةُ الإسلاميَّةُ متمسِّكةً بالإسلامِ كان لها العُلُوُّ والظُّهورُ، وملَكتْ به مَشارِقَ الأرضِ ومَغارِبَها [27] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 45). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إطلاقُ اسمِ الكِتابِ على القُرآنِ، باعتِبارِ أنَّ اللهَ أنزَلَه لِيُكتَبَ، وأنَّ الأُمَّةَ مأمورون بكتابتِه، وإن كان نُزولُه على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لفظًا غيرَ مَكتوبٍ، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّه سيُكتَبُ في المصاحِفِ [28] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/160). .
2- قَولُ الله تعالى: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ أقسَمَ بالكِتابِ المُبِينِ، وأطلَقَ ولم يَذكُرِ المُتعلَّقَ؛ لِيَدُلَّ على أنَّه مُبِينٌ لكُلِّ ما يَحتاجُ إليه العِبادُ مِن أُمورِ الدُّنيا والدِّينِ والآخِرةِ [29] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 762). والقاعدةُ: أنَّ حذفَ المتعلَّقِ يفيدُ العُمومَ النِّسْبيَّ. يُنظر: ((قواعد التفسير)) للسبت (ص: 597). .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا أنَّ كَوْنَ القُرآنِ باللُّغةِ العرَبيَّةِ مَنقَبةٌ كُبرى للعَرَبِ؛ حيثُ نَزَلَ بلُغَتِهم [30] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 38). .
4- في قَولِه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ العَقلُ هنا بمعنى الفَهمِ، ففيه أنَّ الحُجَّةَ لا تكونُ إلَّا بالفَهمِ، فمَن بَلَغَه القُرآنُ بغيرِ اللُّغةِ العربيَّةِ ولم يَفْهَمْ منه شَيئًا؛ فلا تَقومُ عليه الحُجَّةُ، ومَن بَلَغَه باللُّغةِ العربيَّةِ وهو لا يَفهَمُها؛ فإنَّها لا تَقومُ عليه الحُجَّةُ، ويدُلُّ لهذا قَولُه عزَّ وجلَّ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] ، فالحُجَّةُ لا تقومُ على العِبَادِ إلَّا بفَهمِها ومَعرِفةِ معناها [31] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 39، 102). .
5- قَولُ الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فيه سُؤالٌ: إن قيل: الجَعلُ هو الخَلقُ، فلِمَ لَمْ يَقُلْ: (قُلْناه) أو (أنزَلْناه)؟
الجوابُ: الجَعلُ يأتي بمعنى القَولِ أيضًا، كقَولِه تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ [النحل: 57] ، وقَولِه: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا [32] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 511، 512). [إبراهيم: 30] .
وأيضًا فإنَّ (جعَلَ) إذا كان بمعنى (خلَقَ) يَتعدَّى إلى مفعولٍ واحدٍ؛ كقولِه تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] ، وقولِه تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء: 30، 31]. وإذا تعدَّى إلى مَفعولَينِ لم يكُنْ بمعنى خلَقَ، قال تعالى: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة: 224]، وقال تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ [الحجر: 91] ، وقال تعالى: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [الإسراء: 29] ، وقال تعالى: وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ [الإسراء: 39] ، وقال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف: 19] ، ونظائرُه كثيرةٌ. فكذا قولُه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا [33] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (1/ 182). .
6- في قَولِه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ دَلالةٌ على وُجوبِ فَهمِ القرآنِ على ما يقتَضيه ظاهِرُه باللِّسانِ العَربيِّ؛ إلَّا أنْ يَمنَعَ منه دَليلٌ شَرعيٌّ [34] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (3/295). ويُنظر أيضًا: ((الموافقات)) للشاطبي (2/ 101-104) و(4/ 266)، ((الاعتصام)) للشاطبي (2/ 47 - 52). .
7- في قَولِه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إنعامُ اللهِ على عبادِه؛ لأنَّ اللِّسانَ العَرَبيَّ أكمَلُ الألسِنةِ، وأحسَنُها بيانًا للمَعاني؛ فنُزولُ الكتابِ به أعظَمُ نعمةً على الخَلقِ مِن نُزولِه بغيرِه، وهو إنَّما خُوطِبَ به أوَّلًا العَرَبُ؛ لِيَفهَموه، ثمَّ مَن يَعلَمُ لُغَتَهم يَفهَمُه كما فَهِمُوه، ثمَّ مَن لم يَعلَمْ لُغتَهم تَرجَمَه له مَن عَرَفَ لُغتَهم، وكان إقامةُ الحُجَّةِ به على العَرَبِ أوَّلًا، والإنعامُ به عليهم أوَّلًا؛ لِمَعرفتِهم بمعانيه قبْلَ أن يَعرِفَه غَيرُهم [35] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيميَّة (2/69). .
8- في قَولِه تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا عنايةُ اللهِ تبارك وتعالى بهذا القُرآنِ، وهذا يدُلُّ على شَرَفِه؛ حيثُ جَعَله عندَه في أُمِّ الكِتابِ [36] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 45). .
9- سُئِلَ عَطاءُ بنُ أبي رَباحٍ عن القَدَرِ، فتلا قولَ اللهِ تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ، وقال: (هو الكِتابُ الَّذي كتَبَه قبْلَ أن يَخلُقَ السَّمَواتِ والأرضَ، وفيه أنَّ فِرعَونَ مِن أهلِ النَّارِ، وفيه: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] ) [37] يُنظر: ((سنن الترمذي)) (2155)، ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 232) وعزاه لابن أبي حاتم. .
10- قولُه: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا فيه إشعارٌ باقتِضاءِ الحِكمةِ تَوَجُّهَ الذِّكرِ إليهم ومُلازَمَتَه لهم كأنَّه يَتَهافَتُ عليهم [38] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/40). .
11- في قَولِه تعالى: وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ أنَّ اللهَ تعالى أقام الحُجَّةَ على جميعِ الخَلقِ، ويُؤيِّدُ هذا قَولُه تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [39] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 55). [فاطر: 24] .
12- في قَولِه تعالى: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ بيانُ شدَّةِ صبرِ الرُّسُلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ حيثُ إنَّهم يُستهزَأُ بهم؛ وهم صابِرونَ حتَّى يأتيَ أمْرُ اللهِ [40] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 58). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
- في قَولِه: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ في جَعْلِ المُقسَمِ به القُرآنَ بوَصْفِ كَونِه مُبينًا، وجَعْلِ جَوابِ القَسَمِ أنَّ اللهَ جَعَله مُبينًا؛ تَنويهٌ خاصٌّ بالقُرآنِ؛ إذ جَعَل سُبحانَه المُقسَمَ به هو المُقسَمَ عليه، وهذا ضَربٌ عَزيزٌ بَديعٌ؛ لأنَّه يُومِئُ إلى أنَّ المُقسَمَ على شَأنِه بَلَغ غايةَ الشَّرفِ؛ فإذا أراد المُقسِمُ أن يُقسِمَ على ثُبوتِ شَرَفٍ له، لم يَجِدْ ما هو أَولَى بالقَسَمِ به؛ للتَّناسُبِ بيْنَ القَسَمِ والمُقسَمِ عليه [41] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/335، 236)، ((تفسير البيضاوي)) (5/86)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/95)، ((تفسير أبي حيان)) (9/358)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/159)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/61، 62). .
- وأقسَمَ سبُحانه بالكِتابِ المُبينِ -وهو القُرآنُ- على أنَّ القُرآنَ جَعَله اللهُ عربيًّا واضِحَ الدَّلالةِ؛ فهو حَقيقٌ بأنْ يُصَدِّقوا به لو كانوا غَيرَ مُكابِرينَ، ولَكِنَّهم بمُكابَرَتِهم كانوا كمَن لا يَعقِلون. وفي القَسَمِ بالقُرآنِ تَنويهٌ بشَأنِه، وهو تَوكيدٌ لِمَا تَضَمَّنه جَوابُ القَسَمِ؛ إذ ليس القَسَمُ هنا برافِعٍ لتَكذيبِ المُنكرِينَ؛ إذ لا يُصَدِّقون بأنَّ المُقسِمَ هو اللهُ تعالى؛ فإنَّ المُخاطَبَ بالقَسَمِ هم المُنكِرونَ؛ بدَليلِ قولِه: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وتَفريعِ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا [الزخرف: 5] عليه [42] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/39)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/159). .
- وتَوكيدُ الجوابِ بـ (إنَّ) في قولِه: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ زِيادةُ تَوكيدٍ للخبرِ أنَّ القُرآنَ مِن جَعْلِ اللهِ تعالَى [43] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/159). .
- والإخبارُ عن الكِتابِ بأنَّه قُرآنٌ مُبالَغةٌ في كَونِ هذا الكتابِ مَقروءًا، أي: مُيَسَّرًا لأَنْ يُقرَأَ؛ لقَولِه: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ [القمر: 17]؛ فحَصَل بهذا الوَصفِ أنَّ الكتابَ المُنَزَّلَ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جامِعٌ لوَصفَينِ: كَونُه كتابًا، وكَونُه مَقروءًا على ألْسِنةِ الأُمَّةِ، وهذا ممَّا اختُصَّ به كِتابُ الإسلامِ [44] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/160). .
- والمَقصودُ بوَصفِ الكِتابِ بأنَّه عربيٌّ غَرَضانِ؛ أَحَدُهُما: التَّنويهُ بالقُرآنِ، ومَدحُه بأنَّه مَنسوجٌ على مِنوالِ أَفصَحِ لُغَةٍ. وثانيهما: التَّورُّكُ على المعانِدينَ مِن العَرَبِ حينَ لم يَتأثَّروا بمَعانيه؛ بأنَّهم كمَنْ يَسمَعُ كلامًا بلُغَةٍ غيرِ لُغَتِه، وهذا تَأْكيدٌ لِمَا تَضمَّنَه الحَرفانِ المُقَطَّعانِ المُفتَتَحةُ بهما السُّورةُ مِن معنى التَّحَدِّي؛ بأنَّ هذا كِتابٌ بلُغَتِكُم، وقد عَجَزْتُم عن الإتيانِ بمِثلِه [45] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/161). .
- وفي ابتداءِ جُملةِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ بحَرفِ (لَعلَّ) تَعريضٌ بأنَّهم أهمَلوا التَّدبُّرَ في هذا الكِتابِ، وأنَّ كَمالَه في البيانِ والإفصاحِ يَستَأْهِلُ العِنايةَ به لا الإعراضَ عنه؛ فقولُه: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ مُشعِرٌ بأنَّهم لم يَعقِلوا، والمعنى: أنَّا يَسَّرْنا فَهْمَه عليكم لَعلَّكم تَعقِلون، فأعرَضْتُم ولم تَعقِلوا مَعانِيَه؛ لأنَّه قد نَزَل مِقدارٌ عَظيمٌ لو تَدَبَّروه لَعَقَلوا؛ فهذا الخَبَرُ مُستَعمَلٌ في التَّعريضِ على طَريقةِ الكِنايةِ [46] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/161، 162). .
2- قولُه تعالَى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ هذه الجُملةُ إمَّا عَطْفٌ على جُملَةِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] داخِلةٌ في حُكمِها؛ ففي الإقسامِ بالقُرآنِ على عُلُوِّ قَدرِه عِندَهُ تعالَى بَراعةٌ بَديعةٌ، وإيذانٌ بأنَّه مِن عُلُوِّ الشَّأنِ بحيثُ لا يَحتاجُ في بَيانِه إلى الاستِشهادِ عليهِ بالإقسامِ بغَيرهِ؛ بل هُو بذاتِه كافٍ في الشَّهادةِ على ذلك مِن حَيثُ الإقسامُ به، كَما أنَّه كافٍ فيها مِن حيثُ إعجازُه، ورَمْزٌ إلى أنَّه لا يَخطِرُ بالبالِ عندَ ذِكرِه شَيءٌ آخَرُ أَولى منه بالإقسامِ به. وإمَّا أنْ تكونَ مُستأنَفةً مُقرِّرةً لعُلُوِّ شأنِه الَّذي أَنبأَ عنه الإقسامُ به، على مِنهاجِ الاعتِراضِ في قَولِه: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [47] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/39)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/162). [الواقعة: 76] .
- وتَأْكيدُ الكَلامِ بـ (إنَّ) لِرَدِّ إنكارِ المُخاطَبينَ؛ إذ كَذَّبوا أنْ يكونَ القُرآنُ مُوحًى به مِن اللهِ سُبحانه [48] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/162). .
- وقولُه: لَدَيْنَا ظرْفٌ مُستقَرٌّ [49] الظَّرْفُ المُستقَرُّ -بفتحِ القافِ-: سُمِّيَ بذلك؛ لاستِقرارِ الضَّميرِ فيه بَعْدَ حذْفِ عامِلِه، وهو الفِعلُ (استقرَّ)، ولأنَّه حينَ يصيرُ خبرًا مثلًا يَنتقِلُ إليه الضَّميرُ مِن عامِلِه المحذوفِ ويَستقِرُّ فيه؛ وبسببِ هذَينِ الأمْرَينِ استحقَّ عاملُه الحذفَ وُجوبًا. فإذا أُلغِيَ الضَّميرُ فيه سُمِّيَ ظرفًا لَغوًا؛ لأنَّه فَضلةٌ لا يُهتَمُّ به، وسُمِّيَ أيضًا «اللَّغوُ» لَغوًا؛ لأنَّ وُجودَه ضئيلٌ. فقولُك: كان في الدَّارِ زَيدٌ، أي: كان مُستقِرًّا في الدَّارِ زيدٌ؛ فالظَّرفُ مُستقَرٌّ فيه، ثمَّ حُذِف الجارُّ، كما يُقالُ: المحصولُ للمَحصولِ عليه، ولم يُستحسَنْ تقديمُ الظَّرفِ اللَّغوِ، وهو ما ناصِبُه ظاهِرٌ؛ لأنَّه -إذَنْ- فَضلةٌ؛ فلا يُهتمُّ به، نحو: كان زَيدٌ جالسًا عندَك. يُنظر: ((شرح الرضي على الكافية)) (4/210)، ((موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب)) لخالد الأزهري (ص: 82)، ((النحو الوافي)) لعباس حسن (2/ 446، 447). هو حالٌ مِن ضَميرِ (إنَّه)، أو مِن أُمُّ الْكِتَابِ، والمَقصودُ: زِيادةُ تَحقيقِ الخَبَرِ، وتَشريفُ المُخبَرِ عنه [50] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/162، 163). .
3- قولُه تعالَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ لَمَّا استَهزَؤوا بكِتابِ الله، واستَخَفُّوا به لِيَدفَعُوه عن أنفُسِهم عِنادًا؛ فوَصَف الكتابَ أوَّلًا بقَولِه: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا، وثانيًا بقَولِه: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ، عقَّب ذلك كلَّه مُنكِرًا عليهم بقَولِه: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ الآيةَ؛ يعني: أنَّه في عالَمِ الشَّهادةِ عَرَبيٌّ فَصيحٌ بَليغٌ، عَجَزَ عن الإتيانِ بمِثلِه الجِنُّ والإنسُ، مُحتَوٍ على أسرارٍ ومَعانٍ إذا تفكَّر فيها أُولُو الألبابِ حَصَلوا على البَحرِ الخِضَمِّ وكُنوزِ الحِكَمِ، وأنَّه في عالَمِ الغَيبِ لَدى المَلِكِ ذي الجَبَروتِ عَلِيُّ المَرتَبةِ رَفيعُ الشَّأنِ؛ فإذا كان كذلك وجَبَ أنْ يُشَرَّفَ قَدرُه، ويُعَظَّمَ شَأنُه، ويَتغَلغَلَ صِيتُه في كلِّ مَدَرٍ ووَبَرٍ، أفبِسَبَبِكُم نَترُكُه مُهمَلًا ونَضرِبُ عنكم ذِكرَه صَفحًا؟! كلَّا [51] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/102)، ((تفسير أبي السعود)) (8/40). .
- والاستِفهامُ في قولِه: أَفَنَضْرِبُ إنكارِيٌّ، أي: لا يَجوزُ أنْ نَضرِبَ عنكمُ الذِّكرَ صَفحًا مِن جرَّاءِ إسرافِكُم [52] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/163)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/60). .
- والفاءُ في قَولِه: أَفَنَضْرِبُ للعَطفِ على مَحذوفٍ، تَقديرُه: أَنُهمِلُكم فنَضرِبَ عنكم الذِّكرَ؛ إنكارًا لأَنْ يَكونَ الأمرُ على خِلاِف ما قَدَّم مِن إنزالِه الكِتابَ وجَعْلِه قُرآنًا عربيًّا؛ لِيَعقِلوه ويَعمَلوا بمُوجَبِه [53] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/237)، ((تفسير أبي السعود)) (8/40)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/60). .
وقيل: الفاءُ لتَفريعِ الاستِفهامِ الإنكارِيِّ على جُملةِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 3] ، أي: أَتَحسَبون أنَّ إعراضَكُم عمَّا نَزَل مِن هذا الكِتابِ يَبعَثُنا على أنْ نَقطَعَ عنكم تَجَدُّدَ التَّذكيرِ بإنزالِ شَيءٍ آخَرَ مِن القُرآنِ؟! فلمَّا أُريدَت إعادةُ تَذكيرِهم -وكانوا قد قُدِّمَ إليهم مِن التَّذكيرِ ما فيه هَدْيُهم لو تَأَمَّلوا وتَدَبَّروا، وكانت إعادةُ التَّذكيرِ لهم مَوسومةً في نَظَرِهم بقِلَّةِ الجَدوَى- بَيَّنَ لهم أنَّ استِمرارَ إعراضِهم لا يكونُ سببًا في قَطعِ الإرشادِ عنهم؛ لأنَّ اللهَ رحيمٌ بهم، مُريدٌ لصَلاحِهم، لا يَصُدُّه إسرافُهم في الإنكارِ عن زِيادةِ التَّقدُّمِ إليهم بالمَواعِظِ والهَديِ [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/163). .
- وقولُه: الذِّكْرَ مُظهَرٌ وُضِعَ مَقامَ المُضمَرِ مِن غَيرِ لَفظِه السَّابِقِ -فقولُه: قُرْآَنًا عَرَبِيًّا في معنَى الذِّكرِ-؛ إشعارًا بالعِلِّيَّةِ [55] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/102). .
- قَولُه: أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ هو في الحَقيقةِ عِلَّةٌ مُقتَضِيةٌ لِتَركِ الإعراضِ عنهم؛ لأنَّهم كانوا مُنهَمِكينَ في الإسرافِ مُصِرِّينَ عليه، والمعنى: إنَّ حالَكُم وإنِ اقتَضَى تَخلِيَتَكُم وشَأنَكُم حتَّى تَموتُوا على الكُفرِ والضَّلالةِ، وتَبقَوا في العَذابِ الخالِدِ، لَكِنَّا -لِسَعةِ رَحمَتِنا- لا نَفعَلُ ذلك، ولا نَترُكُ تَذكيرَكُم بسَبَبِ كَونِكم مُسرِفينَ، بلْ لا نَزالُ نُعيدُ التَّذكيرَ رحمةً بكم، ونَهدِيكُم إلى الحقِّ بإرسالِ الرَّسولِ الأمينِ، وإنزالِ الكِتابِ المُبينِ [56] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/237)، ((تفسير أبي حيان)) (9/360)، ((تفسير أبي السعود)) (8/40)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/164). .
- وعلى قِراءةِ: إِنْ كُنْتُمْ، إنْ قيل: كيفَ استَقام معنى (إنِ) الشَّرطِيَّةِ المُفيدَةِ للشَّكِّ، وقد كانوا في الحَقيقةِ مُسرِفينَ على البَتِّ. قيل: هو مِن الشَّرطِ الَّذي يَصدُرُ عن المُدِلِّ بصِحَّةِ الأَمرِ، المُتَحَقِّقِ لثُبوتِه، وفي هذا استِجهالٌ لهم في أنَّهم مع مَعرِفَتِهم أنَّ القُرآنَ عربيٌّ مُبينٌ، وقد أبان طُرُقَ الهُدَى مِن طُرُقِ الضَّلالةِ، وأبانَ ما تَحتاجُ إليه الأُمَّةُ في أبوابِ الدِّيانةِ؛ فرَّطوا فيه مِثلَ تَفريطِ مَن لم يَعرِفْ ذلك وشكَّ فيه [57] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/237)، ((تفسير البيضاوي)) (5/86)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/102)، ((تفسير أبي حيان)) (9/360)، ((تفسير أبي السعود)) (8/40)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/164). .
وقيل: الإتيانُ بـ (إن) في قولِه: أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ لقصدِ تنزيلِ المخاطبينَ المعلومِ إسرافُهم منزلةَ مَن يشكُّ في إسرافِه؛ لأنَّ توفُّرَ الأدلَّةِ على صدقِ القرآنِ مِن شأنِه أنْ يُزيلَ إسرافَهم، وفي هذا ثقةٌ بحقيةِ القرآنِ، وضربٌ مِن التوبيخِ على إمعانِهم في الإعراضِ عنه [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/ 164). .
- وأيضًا على قِراءةِ إِنْ كُنْتُمْ فالجزاءُ -أي: جوابُ الشَّرْطِ- محذوفٌ؛ ثِقةً بدَلالةِ ما قبْلَه عليه [59] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/86)، ((تفسير أبي السعود)) (8/40). .
- وإقحامُ قَوْمًا قبْلَ مُسْرِفِينَ؛ للدَّلالَةِ على أنَّ هذا الإسرافَ صارَ طَبعًا لهم، وبه قِوامُ قَومِيَّتِهم [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/164). .
- والمرادُ بالمُسرِفينَ: المُستهزِئون بآياتِ اللهِ وكِتابِه؛ لقَولِه بعدَه: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ؛ فإنَّه تَهديدٌ مُرَتَّبٌ عليه [61] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/102). .
4- قولُه تعالَى: وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ كلامٌ مُوَجَّهٌ إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ تَسلِيةً عمَّا يُلاقِيه مِن الأَذَى والاستِهزاءِ، ووَعدٌ له بالنَّصرِ على قَومِه، وجَعَل للتَّسليةِ المَقامَ الأوَّلَ مِن هذا الكَلامِ بقَرينةِ العَدلِ عن ضَميرِ الخِطابِ إلى ضَميرِ الغَيبةِ في قَولِه: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ، ويَتضَمَّنُ ذلك تَعريضًا بزَجرِهم عن إسرافِهِم في الإعراضِ عن النَّظَرِ في القُرآنِ [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/165). . وأيضًا فقولُه: وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ ... إلى آخِرِ الآياتِ، تقريرٌ لِمَا قَبْلَه ببَيانِ أنَّ إسرافَ الأُمَمِ السَّالِفةِ لم يَمْنَعْهُ تعالى مِن إرسالِ الأنبياءِ إليهم [63] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/40). .
- قولُه: وَكَمْ أَرْسَلْنَا (كم) اسمٌ دالٌّ على عَددٍ كَثيرٍ مُبهَمٍ، والدَّاعي إلى اجتِلابِ اسمِ العَدَدِ الكَثيرِ (كم): أنَّ كَثرةَ وُقوعِ هذا الحُكمِ أَدخَلُ في زَجرِهم عن مِثلِه، وأَدخَلُ في تَسلِيةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتَحصيلِ صَبرِه؛ لأنَّ كَثرةَ وُقوعِه تُؤذِنُ بأنَّه سُنَّةٌ لا تَتخلَّفُ، وذلك أزجَرُ وأَسلَى [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/165). .
- وجُملةُ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا تَفريعٌ وتَسَبُّبٌ عن جُملةِ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ، وضَميرُ أَشَدَّ مِنْهُمْ عائِدٌ إلى قَوْمًا مُسْرِفِينَ الَّذين تقدَّم خِطابُهم؛ فعَدَل عن استِرسالِ خِطابِهم إلى تَوجيهِه إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ الغَرَضَ الأهَمَّ مِن هذا الكلامِ هو تَسلِيةُ الرَّسولِ ووَعْدُه بالنَّصرِ، ويَستَتبِعُ ذلك التَّعريضَ بالَّذين كذَّبوه؛ فإنَّهُم يَبلُغُهم هذا الكَلامُ، وكان سُبحانه مُقبلًا عليهم بالخِطابِ في قَولِه: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ، فأَعرَضَ عنهُم إلى إخبارِ الغائِبِ في قَولِه: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا، وتَغييرُ أُسلوبِ الإضمارِ تَبعًا لتَغيِيرِ المُواجَهةِ بالكَلامِ لا يُنافي اعتِبارَ الالْتِفاتِ في الضَّميرِ [65] وذلك لأنَّ مَناطَ الالْتِفاتِ هو اتِّحادُ مَرجِعِ الضَّميرَينِ مع تَأَتِّي الاقتِصارِ على طَريقةِ الإضمارِ الأُولى، وهل تَغييرُ تَوجيهِ الكَلامِ إلَّا تَقويةٌ لمُقتَضى نَقلِ الإضمارِ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/166). ، ولا تَفوتُ النُّكتةُ الَّتي تَحصُلُ مِن الالْتِفاتِ، وهي تَجديدُ نَشاطِ السَّامِعِ، بل تَزدادُ قوَّةً بازدِيادِ مُقتَضَياتِها [66] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/360)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/166). .
- وفي قَولِه: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وصَفَهم بأشَدِّيَّةِ البَطشِ؛ لإثباتِ حُكمِهم لِهَؤلاءِ بطَريقِ الأولَوِيَّةِ، وانتَصَب بَطْشًا على التَّمييزِ لنِسبةِ الأشَدِّيَّةِ [67] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/40)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/166). .
- والَّذين (همْ أَشَدُّ بَطْشًا مِن كفَّارِ مكَّةَ): هم الَّذين عُبِّرَ عنهم بالأوَّلِينَ، ووُصِفوا بأنَّهم يَستَهزِئونَ بمَن يَأتيهِم مِن نبيٍّ، وهذا تَرتيبٌ بَديعٌ في الإيجازِ؛ لأنَّ قَولَه: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا يَقتَضي كَلامًا مَطوِيًّا، تَقديرُه: فلا نَعجِزُ عن إهلاكِ هؤلاءِ المُسرِفينَ، وهم أقَلُّ بطشًا [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/166). .
- قولُه: وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي: سَلَفَ في القُرآنِ في غَيرِ مَوضِعٍ منه ذِكرُ قِصَّتِهم وحالِهم العَجيبةِ الَّتي حقُّها أنْ تَسيرَ مَسِيرَ المَثَلِ، وهذا وَعدٌ لرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ووَعيدٌ لهم بمِثلِ ما جَرَى على الأوَّلينَ [69] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/237)، ((تفسير البيضاوي)) (5/87)، ((تفسير أبي السعود)) (8/40). .
- وقيل: مَثَلُ الْأَوَّلِينَ: حالُهُم العَجيبةُ، ومعنى (مَضى): انقَرَض، أي: ذَهَبوا على بَكرةِ أبيهِم، فمُضِيُّ المَثَلِ كِنايةٌ عن استِئصالِهم؛ لأنَّ مُضِيَّ الأحوالِ يكونُ بمُضِيِّ أصحابِها؛ فهو في معنى قَولِه تعالى: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا [70] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/167). [الأنعام: 45] .
- وذِكرُ الْأَوَّلِينَ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لِتَقَدُّمِ قَولِه: فِي الْأَوَّلِينَ [الزخرف: 6] ، ووَجْهُ إظهارِه: أن يَكونَ الإخبارُ عنهم صَريحًا وجارِيًا مَجرَى المَثَلِ [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/167). .