موسوعة التفسير

سورةُ النَّحلِ
الآيات (56-60)

ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ

غريب الكلمات :

كَظِيمٌ: أي: مُمسِكٌ على حُزنِه، لا يُظهِرُه، ولا يَشكوه، وأصلُ (كظم): يدلُّ على إمساكِ الشَّيءِ، وجَمعِه [624] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 221)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 391)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/184)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 248).
يَتَوَارَى: أي: يختفي ويتغَيَّبُ، وأصلُه مِن الوَراءِ، وهو جِهةُ الخَلفِ [625] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/257)، ((تفسير القرطبي)) (10/117)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 992)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/185). قال البقاعي: (يَتَوَارَى أي: يَسْتخفي بما يجعلُه في موضعٍ كأنَّه الوراءُ، لا اطلاعَ لأحدٍ عليه). ((نظم الدرر)) (11/184).                       .
هُونٍ: أي: هَوانٍ، وأصلُ (هون): يدلُّ على ذُلٍّ [626] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 244)، ((تفسير ابن جرير)) (14/257)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 495)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/21)، ((تفسير القرطبي)) (10/117). .
يَدُسُّهُ: أي: يُخفِيه ويَئِدُه، وأصلُ (دسس): يدُلُّ على دُخولِ الشَّيءِ تحت خَفاءٍ وسِرٍّ [627] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 244)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 512)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/256)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 261)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 992). .
الْمَثَلُ الْأَعْلَى: أي: الصفةُ العُلْيا، التي هي أعلَى مِن كلِّ صفةٍ، مِن تنزُّهِه عن الولدِ، وسائرِ ما لا يليقُ بجلالِه، وأصلُ (مثل): يَدُلُّ على مناظرةِ الشَّيءِ للشَّيءِ [628] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 20)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/296)، ((الوسيط)) للواحدي (3/68)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 196)، ((تفسير الرسعني)) (4/47). .

المعنى الإجمالي:

يخبرُ الله تعالى أنَّ المشركينَ يجعَلُون للأصنامِ التي اتَّخَذوها آلِهةً- وهي لا تعلَمُ شيئًا ولا تنفَعُ ولا تضُرُّ- حظًّا من أموالِهم التي رزَقَهم اللهُ إيَّاها- كالحَرْثِ والأنعامِ-؛ تقَرُّبًا إليها! ثم يتوعَّدُهم الله مقسمًا بذاتِه قائلًا: واللهِ لتُسألُنَّ- أيُّها المُشرِكون- يومَ القيامةِ عمَّا كنتُم تختَلِقونَه مِن الكَذِبِ عليه سُبحانَه. ويجعَلُونَ لله سُبحانَه البَناتِ، فيقولونَ: الملائِكةُ بناتُ الله- تنزَّه اللهُ عن قَولِهم- ولأنفُسِهم ما يحبُّونَ مِن البَنينَ! وإذا أُخبِرَ أحدُهم بولادةِ بِنتٍ له، اسودَّ وَجْهُه؛ كراهِيةً لِما سَمِعَ، وامتلأ غمًّا وحُزنًا، يَستَخفي مِن قَومِه كراهةَ أنْ يَلقاهم مُتلَبِّسًا بما ساءَه مِن الحُزنِ والعارِ؛ بسبَبِ البِنتِ التي وُلِدَت له، يتحَيَّرُ في أمرِ هذه المولودةِ: أيُبقِيها حَيَّةً على ذُلٍّ وهَوانٍ، أم يَدفِنُها حَيَّةً في التُّرابِ؟ ألا بِئسَ الحُكمُ الذي حَكَموه مِن جَعْلِ البناتِ- اللَّاتي لا يَرضَونَهنَّ لأنفُسِهم- لله، والذُّكورِ لهم!
للَّذينَ لا يُؤمِنونَ بالآخرةِ المثَلُ القَبيحُ مِن العَجزِ والحاجة، والعَيبُ والنَّقصُ؛ ولِلَّه الصِّفاتُ العُليا مِن الكَمالِ، والاستغناءِ عن خَلقِه، والتنزُّهِ عن الولدِ، وهو العزيزُ في مُلكِه، الحَكيمُ في تَدبيرِه.

تفسير الآيات:

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ بالدَّلائِلِ القاهِرةِ فَسادَ أقوالِ أهلِ الشِّركِ والتَّشبيهِ؛ شرح في هذه الآيةِ تفاصيلَ أقوالِهم، وبَيَّن فَسادَها وسَخافتَها [629] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/223). ، فقال تعالى:
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ.
أي: ويجعَلُ المُشرِكونَ للأصنامِ- التي لا يَعلَمونَ لها حَقًّا، ولا ضَرًّا ولا نَفعًا، ولا حُجَّةَ لهم في عِبادتِها- حظًّا مِمَّا رزَقْناهم من الأموالِ، كالحَرْثِ والأنعامِ؛ يتقَرَّبونَ بها إليها [630] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/253)، ((تفسير السمرقندي)) (2/277)، ((تفسير ابن عطية)) (3/401)، ((تفسير القرطبي)) (10/115)، ((تفسير ابن جزي)) (1/429)، ((تفسير أبي حيان)) (6/547).   قال ابنُ الجوزي: (في الذينَ لَا يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: أنَّهم الجاعِلونَ، وهم المُشرِكونَ، والمعنى: لِمَا لا يَعلَمونَ لها ضَرًّا ولا نَفعًا، فمفعولُ العلمِ مَحذوفٌ، وتقديرُه: ما قُلْنا، هذا قولُ مجاهدٍ وقتادةَ. والثاني: أنَّها الأصنامُ التي لا تعلَمُ شَيئًا، وليس لها حِسٌّ ولا معرفةٌ، وإنَّما قال: يَعْلَمُونَ؛ لأنَّهم لَمَّا نَحَلوها الفَهمَ، أجراها مجرى مَن يَعقِلُ على زَعْمِهم، قاله جماعةٌ مِن أهل المعاني). ((تفسير ابن الجوزي)) (2/565). وممن اختار القولَ الأولَ: ابنُ جريرٍ، وابنُ عطيةَ، والقرطبي، وأبو حيان، وابنُ عاشورٍ. ونسَبه الواحديُّ إلى عامةِ المفسِّرين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/253)، ((البسيط)) للواحدي (13/89)، ((تفسير ابن عطية)) (3/401)، ((تفسير القرطبي)) (10/115)، ((تفسير أبي حيان)) (6/547)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/181). وممن اختار القول الثاني: الواحدي، والسعدي. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (13/89-90)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 609)، ((تفسير السعدي)) (ص: 442). !
كما قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام: 136] .
تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ.
أي: واللهِ- أيُّها المُشرِكونَ- ليَسألنَّكم اللهُ يومَ القيامةِ عَمَّا كُنتُم تَختَلِقونَه في الدُّنيا مِن الكَذِب عليه، بادِّعائِكم أنَّه أمَرَكم بعبادةِ غَيرِه، وسيُعاقِبُكم على ذلك [631] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/254)، ((تفسير القرطبي)) (10/116)، ((تفسير ابن كثير)) (4/577). .
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57).
أي: ويَنسُبُ المُشرِكونَ لله البناتِ- إذ زَعَموا أنَّ الملائِكةَ بَناتُه تعالى- تنزَّه الله عن أن يكونَ له ذلك، ولهم ما يُحِبُّونَ، وهم الذُّكورُ [632] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/254، 255)، ((تفسير القرطبي)) (10/116)، ((تفسير ابن كثير)) (4/577، 578)، ((تفسير السعدي)) (ص: 443)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/182). !
كما قال تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 149 - 159] .
وقال سُبحانَه: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف: 16 - 18] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم: 21- 22] .
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58).
أي: وإذا أُخبِرَ أحدُ المُشرِكينَ- الذين يَجعَلونَ لله البَناتِ- بوِلادةِ بنتٍ له، يظَلُّ وَجهُه متغَيِّرًا؛ من كآبتِه وكراهِيَتِه الشَّديدةِ لذلك، قد امتلأ غمًّا وغَضَبًا وغَيظًا [633] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/255)، ((تفسير القرطبي)) (10/116)، ((تفسير ابن كثير)) (4/578)، ((تفسير السعدي)) (ص: 443)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/184). !
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59).
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ.
أي: يَختَفي عن أنظارِ قَومِه؛ مِن كَراهِيَتِه للبِنتِ، ومِمَّا يَلحَقُه مِن الحُزنِ والعارِ والحَياءِ [634] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/256، 257)، ((تفسير البغوي)) (3/83)، ((تفسير القرطبي)) (10/117). قال الواحدي: (قال المفسِّرونَ: كان الرَّجُلُ في الجاهليَّةِ إذا ضرَبَ امرأتَه المخاضُ توارى إلى أن يَعلَمَ ما يُولَدُ له، فإن كان ذكَرًا سُرَّ به وابتهَجَ، وإن كانت أنثى اكتأبَ لها وحَزِنَ، ولم يَظهَرْ للنَّاسِ أيَّامًا؛ يُدَبِّرُ كيف يَصنَعُ في أمرِها). ((البسيط)) (13/93). !
  أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ.
أي: يتحَيَّرُ ويترَدَّدُ بين أمرينِ: هل يُمسِكُها على هَوانٍ وذِلَّةٍ [635] قال الرازي: (وفي أنَّ هذا الهُونَ صِفةُ مَن؟ قولان: الأول: أنَّه صِفةُ المولودةِ، ومعناه: أنَّه يُمسِكُها عن هُونٍ منه لها. والثاني: قال عطاءٌ عن ابنِ عبَّاسٍ: إنَّه صِفةٌ للأبِ، ومعناه: أنَّه يُمسِكُها مع الرِّضا بهوانِ نَفسِه، وعلى رَغمِ أنْفِه). ((تفسير الرازي)) (20/225). ويُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (7/246). وممَّن اختار أنَّ الهوانَ هنا صِفةٌ للمولودةِ، أي: يُهينُها والِدُها ويُذِلُّها، كألَّا يُورِّثَها، ولا يَعتنيَ بها، ويُفَضِّلَ أولادَه الذُّكورَ عليها: الواحدي، وابنُ كثير، والقاسمي. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 610)، ((الوسيط)) للواحدي (3/67)، ((تفسير ابن كثير)) (4/578)، ((تفسير القاسمي)) (6/380). وممَّن اختار أنَّه صِفةٌ لوالِدِها، أي: يَستَبقيها على هَوانٍ يتحمَّلُه، وهَمٍّ يتجَلَّدُ له: ابنُ عطية. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/402). ، أم يُخفِيها في التُّرابِ بدَفنِها حَيَّةً [636] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/257)، ((تفسير القرطبي)) (10/117)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 78)، ((تفسير ابن كثير)) (4/578)، ((تفسير السعدي)) (ص: 443)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/185). ؟!
كما قال تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير: 8-9] .
أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.
أي: ألا بِئسَ الحُكمُ ما يَحكُمُ به هؤلاء المُشرِكونَ، في نِسبتِهم البناتِ- اللاتي لا يَرضَونَهنَّ لأنفُسِهم ويَكرَهونَهنَّ- إلى اللهِ، ونِسبتِهم البَنينَ الذين يُحِبُّونَهم إلى أنفُسِهم [637] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/118)، ((النبوات)) لابن تيمية (2/892)، ((تفسير ابن كثير)) (4/578). !
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ المُشرِكينَ تكَلَّموا بالباطِلِ في جانِبِه تعالى وجانِبِهم؛ بيَّنَ ما هو الحَقُّ في هذا المَقامِ، فقال تعالى- على تقديرِ الجوابِ لمن كأنَّه قال: فما يُقالُ في ذلك [638] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/185). -:
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ.
أي: لهؤلاءِ المُشرِكينَ- الذين لا يُصَدِّقونَ بالبَعثِ والثَّوابِ والعِقابِ- المثَلُ القَبيحُ، والعَيبُ والنَّقصُ [639] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/258)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (3/1030)، ((تفسير ابن كثير)) (4/578)، ((تفسير السعدي)) (ص: 443). .
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى.
أي: ولله الوَصفُ الأفضَلُ والأطيَبُ والأحسَنُ، مِن تَوحيدِه، وتنَزُّهِه عن الولَدِ، وأنَّ له جميعَ صِفاتِ الكَمالِ المُطلَقِ مِن جَميعِ الوُجوهِ [640] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/258)، ((تفسير القرطبي)) (10/119)، ((تفسير الخازن)) (3/83)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (3/1030)، ((تفسير ابن كثير)) (4/578)، ((تفسير السعدي)) (ص: 443). .
كما قال تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [الروم: 27] .
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أي: واللهُ ذو العِزَّةِ، القاهِرُ لكُلِّ شَيءٍ [641] قال ابنُ جريرٍ: (والله ذو العزةِ التي لا يمتنعُ عليه معها عقوبةُ هؤلاء المشركينَ- الذين وصَف صفتَهم في هذه الآياتِ- ولا عقوبةُ مَن أراد عقوبتَه على معصيتِه إيَّاه، ولا يتعذَّر عليه شيءٌ أراده وشاءه؛ لأنَّ الخلقَ خلقُه، والأمرَ أمرُه). ((تفسير ابن جرير)) (14/259). ، الحَكيمُ الذي يضَعُ الأشياءَ في موَاضِعِها اللَّائقةِ بها، بلا خَللٍ ولا خَطأٍ في تدبيرِه [642] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/259)، ((تفسير السعدي)) (ص: 443). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ عِظَةٌ لِمَن يتسخَّطُ قِسْمةَ اللهِ له في الإناثِ، ولا يُسَلِّمُ لِحُكمِه عليه، ولا تَطيبُ نَفْسُه به [643] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (2/75). ، فالتَّسَخُّطُ بالإناثِ مِن أخلاقِ الجاهِليَّةِ الذين ذَمَّهم اللهُ تعالى [644] يُنظر: ((تحفة المودود)) لابن القيم (ص: 21). .
2- قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وهو كُلُّ صِفةِ كَمالٍ، وكُلُّ كَمالٍ في الوُجودِ فاللهُ أحَقُّ به مِن غَيرِ أن يَستلزِمَ ذلك نقصًا بوَجهٍ، وله المَثَلُ الأعلى في قُلوبِ أوليائِه، وهو: التَّعظيمُ والإجلالُ، والمَحبَّةُ والإنابةُ والمَعرِفةُ [645] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:442). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ حُجَّةٌ على الجَهميَّةِ والمُعتَزِلةِ في اعتبارِهم الجَعلَ بمعنى الخَلقِ في كلِّ مَوضِعٍ، واستدلالِهم بذلك على خلقِ القرآنِ، فيُقالُ لهم: أخَلَقوا البَناتِ، ولهم البَنونَ في هذه الآيةِ؟ فإن قالوا: نعم، كفَروا برَبِّهم؛ حيث جعَلُوا معه خالِقًا سِواه، وإن قالوا: ليس الجَعلُ بمعنى الخَلقِ، رَجَعوا عن قَولِهم في الجَعلِ، وبطَلَت في الاحتجاجِ به على خَلقِ القُرآنِ [647] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (2/74). .
2- في قَولِه تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ إلى قَولِه: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى بيانُ أنَّ الربَّ الخالقَ أَولى بأنْ يُنَزَّهَ عن الأمورِ النَّاقِصةِ مِن النَّاسِ، فكيف يَجعَلونَ له ما يَكرَهونَ أن يكونَ لهم، ويَستَخْفونَ مِن إضافتِه إليهم، مع أنَّه واقِعٌ لا مَحالةَ، ولا يُنَزِّهونَه عن ذلك، ويَنفُونَه عنه، وهو أحَقُّ بنَفيِ المكروهاتِ المُنَقِّصاتِ منهم [648] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/302). ؟!
3- في قَولِه تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ إلى قَولِه: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى دَلالةٌ على أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يُستعمَلُ في حقِّه قِياسُ الأَولى، كما جاء بذلك القُرآنُ، وهو الطَّريقُ التي يَسلُكُها السَّلَفُ والأئِمَّةُ كأحمدَ وغيرِه مِن الأئمَّة، فكلُّ كمالٍ ثبتَ للمَخلوقِ، فالخالقُ أَولى به- إذا كان مُجَرَّدًا عن النَّقصِ-  وكلُّ نقصٍ يُنَزَّهُ عنه المَخلوقُ، فالخالقُ أَولى أنْ يُنَزَّهَ عنه [649] يُنظر: ((شرح العقيدة الأصفهانية)) لابن تيمية (ص: 86)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/81). ، فاللهُ تعالى له المثَلُ الأعلى، فلا يُضرَبُ له المثَلُ المُساوِي؛ إذا لا كُفْوَ ولا نِدَّ له، فضلًا عن أن يُضرَبَ له المثَلُ النَّاقِصُ، ولا يُكتَفى في حَقِّه بالمَثَلِ العالي، بل له المثَلُ الأعلى؛ إذ هو الأعلى سُبحانَه [650] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (7/388). .
4- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا لعَلَّه اختِيرَ لَفظُ (ظَلَّ) الذي معناه العَمَلُ نَهارًا- وإن كان المرادُ العُمومَ في النَّهارِ وغَيرِه- دَلالةً على شُهرةِ هذا الوَصفِ شُهرةَ ما يُشاهَدُ نَهارًا [651] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/184). .
5- لَمَّا كان المُشرِكونَ يُغَيِّبونَ المَوءُودةَ في الأرضِ على غيرِ هيْئةِ الدَّفنِ، عبَّرَ عنه تعالى بالدَّسِّ، فقال: أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [652] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/185). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فيه سؤالٌ: كيف أضاف المَثَلَ هنا إلى نَفسِه تعالى، وقد قال: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74] ؟
الجواب: أنَّ المَثَلَ الذي يَذكُرُه اللهُ حَقٌّ وصِدقٌ، والذي يَذكُرُه غَيرُه فهو الباطِلُ [653] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/226). . وفيه وجهٌ آخرُ: أنَّ قَولَه تعالى: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ، أي: الأمثالَ التي تُوجِبُ الأشباهَ والنَّقائِصَ، أي: لا تَضرِبوا لله مَثَلًا يَقتَضي نَقصًا، وتَشَبُّهًا بالخَلقِ. والمثَلُ الأعلى: أي: الصفةُ العُليا، ووَصفُه بما لا شَبيهَ له ولا نَظيرَ، جَلَّ وتعالى عمَّا يقولُ الظَّالِمونَ والجاحِدونَ عُلُوًّا كَبيرًا [654] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/181)، ((تفسير القرطبي)) (10/119). .
7- صِفاتُ اللهِ تعالى كُلُّها صِفاتُ كَمالٍ لا نَقْصَ فيها بوَجهٍ مِن الوُجوهِ، كالحياةِ، والعِلمِ، والقُدرةِ، والسَّمعِ، والبَصَرِ، والرَّحمةِ، والعِزَّة، والحِكمةِ، والعُلوِّ، والعَظَمةِ، وغيرِ ذلك. وممَّا دَلَّ على ذلك قَولُه تعالى: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالَآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ والمثَلُ الأعلى: هو الوَصفُ الأعلى [655] يُنظر: ((القواعد المثلى)) لابن عثيمين (ص: 18). .
8- اللهُ تعالى أثبَتَ لنَفسِه الصِّفاتِ إجمالًا وتَفصيلًا مع نَفيِ المُماثَلةِ، فقال تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل: 60] ، وقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] . وهذا يدُلُّ على أنَّ إثباتَ الصِّفاتِ لا يَستلزِمُ التَّمثيلَ، ولو كان يَستلزِمُ التَّمثيلَ لكان كلامُ اللهِ مُتناقِضًا [656] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (4/128). .
9- قَولُه تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فيه أنَّ كُلَّ صفةِ عَيْبٍ- كالعَمى، والصَّمَمِ، والخَرَسِ، والنَّومِ، والموتِ، ونحوِ ذلك- مَنفيَّةٌ عن اللهِ تعالى؛ فإنَّ ثُبوتَ المَثَلِ الأعلى له- وهو الوَصفُ الأعلى- يَستَلزِمُ انتفاءَ كلِّ صفةِ عَيبٍ [657] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (4/193). .
10- في قَولِه تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى دَلالةٌ على القاعدةِ: «لا يُوجَدُ في صِفاتِ اللهِ نفيٌ مُجَرَّدٌ»، والنَّفيُ المُجَرَّدُ ليس مَثلًا أعلى، المَثَلُ الأعلى، أي: الوصفُ الأعلى والأكمَلُ، والنفيُ المُجَرَّدُ عَدَمٌ، والعَدَمُ ليس بشَيءٍ، فضلًا عن أن يكونَ وصْفًا أعلى [658] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/499). !

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ
- قولُه: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ وَصَفَ النَّصيبَ بأنَّه ممَّا رزَقْناهم؛ لِتَشنيعِ ظُلمِهم؛ إذْ ترَكوا المنعِمَ فلَم يتَقرَّبوا إليه بما يُرْضيه في أموالِهم ممَّا أمَرَهم بالإنفاقِ فيه، كإعطاءِ المحتاجِ، وأنفَقوا ذلك في التَّقرُّبِ إلى أشياءَ موهومةٍ لم تَرزُقْهم شيئًا. ثمَّ وُجِّه الخِطابُ إليهم على طريقةِ الالْتِفاتِ؛ لِقَصدِ التَّهديدِ، ولا مانِعَ مِن الالْتفاتِ هنا؛ لِعَدمِ وُجودِ فاءِ التَّفريعِ، كما في قولِه تعالى: فَتَمَتَّعُوا [659] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/180). .
- قولُه: تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ في تَصْديرِ الجملةِ بالقَسَمِ، وصَرْفِ الكلامِ مِن الغَيبةِ إلى الخطابِ المنبِئِ عن كمالِ الغضَبِ- مِن شِدَّةِ الوعيدِ ما لا يَخْفَى [660] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/121). . وتصديرُ جملةِ التَّهديدِ والوَعيدِ بالقَسَمِ أيضًا؛ لتَحْقيقِه؛ إذِ السُّؤالُ الموعودُ به يَكونُ يومَ البَعْثِ، وهُم يُنكِرونه؛ فناسَب أن يُؤكَّدَ [661] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/180). . والقسَمُ بالتَّاءِ يَختصُّ بما يَكونُ المقسَمُ عليه أمرًا عَجيبًا ومُستغرَبًا؛ فالإتيانُ في القسَمِ هنا بحرفِ التَّاءِ مُؤْذِنٌ بأنَّهم يُسأَلون سُؤالًا عجيبًا بمِقْدارِ غَرابةِ الجُرْمِ المسؤولِ عنه [662] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/180). .
- وقال هنا: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ، وفي سورةِ الأنعامِ قال: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا [الأنعام: 136] ؛ فاقتَصَر هنا على ذِكْرِ ما جعَلوه لِشُركائِهم دونَ ما جعَلوه للهِ؛ وذلك لِمُناسَبةٍ حسَنةٍ؛ لأنَّ المقامَ هنا لِتَفصيلِ كُفْرانِهِمُ النِّعمةَ، بخِلافِ ما في سورةِ الأنعامِ؛ فهو مَقامُ تَعْدادِ أحوالِ جاهليَّتِهم، وإن كان كلُّ ذلك مُنكَرًا عليهم، إلَّا أنَّ بعضَ الكُفرِ أشَدُّ مِن بعضٍ [663] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/180). .
2- قوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ
- قولُه: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ اعتراضُ سُبْحَانَهُ؛ لِغَرَضِ التَّنزيهِ والتَّعظيمِ، وفيه الشَّناعةُ على مَن جعَل البَناتِ للهِ [664] يُنظر: ((البرهان)) للزركشي(3/57). . وقَدَّم قولَه: سُبْحَانَهُ على قولِه: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ؛ لِيَكونَ نَصًّا في أنَّ التَّنزيهَ عن هذا الجَعْلِ لِذاتِه، وهو نِسبةُ البُنوَّةِ للهِ، لا عَن جَعلِهم له خُصوصَ البَناتِ دونَ الذُّكورِ الَّذي هو أشَدُّ فَظاعةً، كما دلَّ عليه قولُه تعالى: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ؛ لأنَّ ذلك زيادةٌ في التَّفْظيعِ، فقولُه: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ جُملةٌ في موضعِ الحالِ، وتقديمُ الخبَرِ في الجملةِ؛ للاهتِمامِ بهِم في ذلك؛ على طَريقةِ التَّهكُّمِ [665] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/182- 183). . وهذا على أحدِ الأوجهِ الإعرابيةِ.
- واقتَصَر هنا على لفظِ الْبَنَاتِ الدَّالِّ على الذَّوَاتِ، واقتَصَر على أنَّهم يَشتَهون الأبناءَ، ولم يتَعرَّضْ إلى كَراهتِهِمُ البَناتِ، وإن كان ذلك مأخوذًا بالمفهومِ؛ لأنَّ ذلك درَجةٌ أخرى مِن كُفرِهم ستُخَصُّ بالذِّكرِ [666] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/183). .
3- قوله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ
- قولُه: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى الواوُ في قولِه: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى يجوزُ أن تَكونَ واوَ الحالِ، ويَجوزُ أن تَكونَ الجملةُ مُعترِضةً والواوُ اعتِراضيَّةً؛ اقْتَضى الإطالةَ بها أنَّها مِن تَفاريعِ شِرْكِهم؛ فهي لذلك جَديرةٌ بأن تَكونَ مقصودةً بالذِّكْرِ كأخَواتِها، وهذا أَوْلى مِن أن تُجعَلَ مَعطوفةً على جُملةِ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ الَّتي هي في مَوضعِ الحالِ؛ لأنَّ ذلك يُفِيتُ قَصْدَها بالعَدِّ، وهذا القَصدُ مِن مُقتضَياتِ المقامِ وإن كان مآلُ الاعتِبارَينِ واحِدًا في حاصلِ المعنى [667] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/183- 184). .
- قولُه: وَإِذَا بُشِّرَ المشهورُ أنَّ البِشارةَ أوَّلُ خَبرٍ يَسُرُّ، وهنا قد يُرادُ به مُطلَقُ الإخبارِ، أو تَغيُّرُ البَشرةِ، وهو القَدْرُ المشترَكُ بينَ الخبَرِ السَّارِّ أو المحزنِ، وفي هذا تقبيحٌ لِنِسبَتِهم إلى اللهِ- المنزَّهِ عن الولَدِ- البَناتِ، وأحدُهم أكرهُ الناسِ فيهنَّ، وأنفرُهم طبعًا عنهنَّ [668] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/548). . وقيل: لعَلَّه عبَّرَ عنه بهذا اللَّفظِ؛ تنبيهًا على تَعكيسِهم للأُمورِ، في جَعلِهم وسُرورِهم وحُزنِهم وغيرِ ذلك مِن أمْرِهم [669] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/184). .
- قوله: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ظَلَّ بمعنى صارَ، ويجوز أن يكونَ واردًا ومستعملًا في الآيةِ بمعناه الأصلىِّ، وهو اتِّصافُ الشَّيءِ بصِفةٍ نهارًا فقط؛ لأنَّ أكثرَ الوضعِ يتَّفقُ باللَّيلِ، فيَظلُّ نَهارَه مُغتمًّا عابسَ الوجهِ مِن الكآبةِ والحياءِ مِن الناسِ؛ فيُرادَ به الظلولُ نَهارًا؛ لقصدِ المبالغةِ في وصْفِهم [670] يُنظر: ((تفسير الزمخشري- مع الحاشية)) (2/591). .
- قولُه: مُسْوَدًّا اسْوِدادُ الوجهِ كِنايةٌ عن الاغْتِمامِ والتَّخْجيلِ [671] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/230)، ((تفسير أبي حيان)) (6/548)، ((تفسير أبي السعود)) (5/121). .
- وقوله: وَهُوَ كَظِيمٌ يَحتمِلُ أنْ يكونَ كَظِيمٌ للمُبالَغةِ، ويَحتمِلُ أنْ يكونَ بمعنى مَفعول (مَكظُوم) [672] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/548). .
4- قوله: يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ
- كانوا يَئِدونَ بَناتِهم، وذلك مِن أفظَعِ أعمالِ الجاهليَّةِ [673] يُنظر في تفصيلِ الكلامِ عن هذه العادةِ الجاهليةِ: ((المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام)) لجواد علي (9/88). ، وكانوا يَحسَبونَه حَقًّا للأبِ، فلا يُنكِرُها الجَماعةُ على الفاعِلِ؛ ولذلك سَمَّاه اللهُ (حُكمًا) بقَولِه تعالى: أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ، وأعلَنَ ذَمَّه بحَرفِ أَلَا؛ لأنَّه جَورٌ عَظيمٌ قد تمالَؤوا عليه، وخَوَّلوه للنَّاسِ ظُلمًا للمَخلوقاتِ، فأُسنِدَ الحُكمُ إلى ضَميرِ الجَماعةِ مع أنَّ الكَلامَ كان جاريًا على فِعلِ واحدٍ غَيرِ مُعَيَّنٍ؛ قضاءً لحقِّ هذه النُّكتةِ [674]  يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/185). .
- و(مِن) في قولِه: مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ للابتِداءِ المفيدِ مَعْنى التَّعليلِ، أي: يتَوارى مِن أجْلِ تلك البِشارةِ [675] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/185). .
- والتَّعبيرُ عن الإعلامِ بازْدِيادِ الأُنْثى بفِعْلِ بُشِّرَ في مَوضِعَين؛ لأنَّه كذلك في نفْسِ الأمرِ؛ إذِ ازْدِيادُ المولودِ نِعمةٌ على الوالِدِ؛ لِمَا يتَرقَّبُه مِن التَّأنُّسِ به ومِزاحِه والانتفاعِ بخِدْمتِه، وإعانتِه عندَ الاحتياجِ إليه، ولِمَا فيه مِن تَكثيرِ نَسْلِ القَبيلةِ الموجِبِ عِزَّتَها، وآصِرَةِ الصِّهرِ، ثمَّ إنَّ هذا مع كونِه بِشارةً في نَفْسِ الأمرِ فالتَّعبيرُ به يُفيدُ تَعريضًا بالتَّهكُّمِ بهم؛ إذْ يَعُدُّون البِشارةَ مُصيبةً، وذلك مِن تَحريفِهِمُ الحقائقَ، والتَّعريضُ مِن أقسامِ الكِنايةِ، والكِنايةُ تُجامِعُ الحقيقةَ [676] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/183- 184). .
5- قوله تعالى: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
- قولُه: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ فيه إضافةُ المَثَلِ إلى السُّوءِ؛ للبَيانِ [677] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/187). .
- قولُه: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النحل: 60] فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال في سورةِ (الرُّومِ): وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم: 27] ؛ فزِيدَ في آيةِ (الرُّومِ) قولُه: فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، ووجهُ ذلك أنَّ ذلك إنَّما جَرى بحسَبِ مُقتَضى المقصودِ في كلٍّ مِن الآيتَينِ؛ أمَّا آيةُ (النَّحلِ) فقد تَقدَّمها قولُه تعالى: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ [النحل: 60] ، فقُوبِلَ بحسَبِ التَّفصيلِ، ومُقتَضى التَّقابُلِ بقَولِه تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى؛ فتَطابَقَ الكلامُ وتَناسَب؛ مُوازَنةَ لفظٍ، وجَليلَ تَقابُلٍ، ولم يقَعْ قَبْلَها ذِكْرُ السَّمواتِ والأرضِ، فلم يَكُنْ لِيُناسِبَ ذلك ذِكرُهما بعدَه. وأمَّا آيةُ (الرُّومِ) فتَقدَّمَها قولُه عزَّ وجلَّ: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [الروم: 26] ، ثمَّ قال بَعدُ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [الروم: 27] ، ووُضوحُ التَّناسُبِ في هذا غيرُ مُحتاجٍ إلى زيادةِ بَيانٍ [678] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/300). .