موسوعة التفسير

سُورةُ النَّجْمِ
الآيات (19-25)

ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ

غريب الكلمات:

اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ: أصنامٌ مِن حِجارةٍ كانوا يَعبُدونَها، قيل: اشتَقُّوا اللَّاتَ مِنَ اللهِ، والعُزَّى مِنَ العَزيزِ، ومَناةَ مِن المنَّانِ. وقيل: اللَّاتُ: كان رجُلًا يَلُتُّ السَّوِيقَ ويُطعِمُه الحاجَّ، فلمَّا ماتَ عَكَفُوا على قَبرِه يَعبُدونَه، والعُزَّى: تأنيثُ الأعزِّ، ومَناةُ: قيل: سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّ دماءَ النَّسائِكِ تُمْنَى عندَها، أي: تُراقُ [156] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/51)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 81)، ((المفردات)) للراغب (ص: 564)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 122)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 395)، ((تفسير أبي السعود)) (8/158). .
ضِيزَى: أي: جائِرةٌ ناقِصةٌ عَوْجاءُ، وأصلُ (ضيز): يدُلُّ على اعوِجاجٍ [157] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 428)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 315)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/378)، ((البسيط)) للواحدي (21/48)، ((المفردات)) للراغب (ص: 513)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 395)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 580). .
تَمَنَّى: أي: اشتَهى وأمَّلَ، والتَّمَنِّي: تَشَهِّي حُصولِ الأمرِ المَرغوبِ فيه، وأصلُ (مني): يدُلُّ على تَقديرِ شَيءٍ ومنه التَّمَنِّي: لأنَّه أملٌ يُقدِّرُه [158] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/276)، ((المفردات)) للراغب (ص: 780)، ((تفسير القرطبي)) (17/104)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (39/562). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ الله تعالى عمَّا عليه المشركونَ مِن جهلٍ وسَفَهٍ، ويُبيِّنُ بُطلانَ عبادتِهم للأصنامِ، فيقولُ: أفرأيتُم -أيُّها المُشرِكونَ- اللَّاتَ والعُزَّى ومَناةَ الثَّالِثةَ الأُخرَى؛ تلك الأصنامَ الَّتي تَعبُدونَها مِن دونِ اللهِ، وتَزعُمونَ أنَّها بَناتٌ للهِ تعالى: أتَختارون الذُّكْرانَ لأنفُسِكم، وتَنسُبونَ للهِ تعالى الإناثَ اللَّاتي تَكرَهونَهنَّ ولا تَرضَونَ بهنَّ بناتٍ لكم؟! قِسْمتُكم تلك -أيُّها المُشرِكونَ- قِسْمةٌ جائِرةٌ ظالِمةٌ.
ثمَّ يقولُ تعالى منكِرًا عليهم ما ابتَدَعوه مِن الافتراءِ والكفرِ، مِن عبادةِ الأصنامِ وتسميتِها آلهةً: ما هذه الأسماءُ الَّتي سَمَّيتُم بها أصنامَكم إلَّا أسماءٌ لا حَقيقةَ لها، اختَرَعْتُموها أنتم وآباؤُكم وزَعمتُم أنَّها آلِهةٌ، وما أنزَل اللهُ تعالى بها مِن حُجَّةٍ ولا بُرهانٍ!
ما يتَّبِعُ المُشرِكونَ في عِبادتِهم تلك الأصنامَ إلَّا الظَّنَّ وما تَميلُ إليه أنفُسُهم مِنَ الباطِلِ، ولقد جاء أولئك المُشرِكينَ الهُدَى مِن رَبِّهم.
ثمَّ ينكِرُ تعالى على مَن زعَم أنَّه يحصُلُ له ما تمنَّى، ويُبيِّنُ أنَّه ليس للإنسانِ ما يَتمنَّاه ويَشتهيه؛ فالأمرُ كلُّه لله، فيقولُ: أمْ للإنسانِ ما يَتمنَّاه مِنَ الخَيرِ؟! فلِلَّهِ وَحْدَه الآخِرةُ والدُّنيا.

تفسير الآيات:

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ تعالى ما جاء به محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الهُدَى ودِينِ الحَقِّ، والأمرِ بعبادةِ اللهِ وتوحيدِه؛ ذَكَرَ بُطلانَ ما عليه المُشرِكونَ مِن عبادةٍ [159] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 819). .
وأيضًا لَمَّا قرَّرَ الرِّسالةَ أوَّلًا، وأتْبَعَه مِن ذِكرِ عَظَمةِ اللهِ وقُدرتِه الباهرةِ بذِكرِ التَّوحيدِ، والمنْعِ عن الإشراكِ باللهِ تعالى؛ وقَّفَهم على حَقارةِ مَعبوداتِهم، وهي الأوثانُ، وأنَّها ليستْ لها قُدرةٌ [160] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/14). .
وأيضًا لَمَّا قَرَّر الرِّسالةَ؛ ذَكَر ما ينبغي أن يَبتدِئَ به الرَّسولُ، وهو التَّوحيدُ، ومَنعُ الخَلقِ عن الإشراكِ، فقال [161] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/247). :
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20).
أي: أفرأيتُم -أيُّها المُشرِكونَ- اللَّاتَ والعُزَّى ومَناةَ الثَّالِثةَ الأُخرى، الَّتي تَعبُدونَها مِن دونِ اللهِ، وتَزعُمونَ أنَّها بَناتٌ للهِ تعالى [162] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/46)، ((الوسيط)) للواحدي (4/198، 199)، ((تفسير ابن عطية)) (5/200)، ((تفسير القرطبي)) (17/102)، ((تفسير الشوكاني)) (5/129)، ((تفسير السعدي)) (ص: 819)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 215). قال الشوكاني: (أَفَرَأَيْتُمُ أي: أَخبِرُوني عن الآلِهةِ الَّتي تَعبُدونَها مِن دُونِ اللهِ: هل لها قُدرةٌ تُوصَفُ بها؟ وهل أَوحَت إليكم شَيئًا كما أَوحى اللهُ إلى محمَّدٍ؟ أمْ هي جماداتٌ لا تَعقِلُ ولا تَنفَعُ؟). ((تفسير الشوكاني)) (5/129). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/72). وقال ابنُ كثير: (كانت اللَّاتُ صَخرةً بَيضاءَ مَنقوشةً، وعليها بيتٌ بالطَّائِفِ له أستارٌ وسَدَنةٌ، وحَولَه فِناءٌ مُعظَّمٌ عندَ أهلِ الطَّائِفِ، وهم ثَقيفٌ ومَن تابَعَها، يفتَخِرون بها على مَن عداهم مِن أحياءِ العرَبِ بعدَ قُرَيشٍ. قال ابنُ جرير: وكانوا قد اشتَقُّوا اسمَها مِنِ اسمِ اللهِ تعالى، فقالوا: اللَّاتَ، يَعْنونَ مُؤنَّثةً منه -تعالى اللهُ عن قَولِهم عُلُوًّا كَبيرًا-! وحُكِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ ومجاهدٍ والرَّبيعِ بنِ أنسٍ: أنَّهم قَرَؤُوا اللَّاتَّ بتشديدِ التَّاءِ، وفَسَّروه بأنَّه كان رجُلًا يَلُتُّ للحَجيجِ في الجاهِليةِ السَّويقَ، فلمَّا مات عكَفوا على قَبرِه فعَبَدوه... قال ابنُ جريرٍ: وكذا العُزَّى مِنَ العَزيزِ، وكانت شَجَرةً عليها بناءٌ وأستارٌ بنَخلةَ -وهي بيْنَ مكَّةَ والطَّائِفِ- كانت قُرَيشٌ يُعَظِّمونَها). ((تفسير ابن كثير)) (7/455). ويُنظر: ((كتاب الأصنام)) لهشام الكلبي (ص: 16، 17، 27)، ((تفسير ابن جرير)) (22/46)، ((الوسيط)) للواحدي (4/199).            وقال ابنُ كثير أيضًا: (وأمَّا مَناةُ فكانت بالمُشَلَّلِ -عندَ قُدَيدٍ بيْنَ مكَّةَ والمَدينةِ- وكانت خُزاعةُ والأَوسُ والخَزْرجُ في جاهليَّتِها يُعظِّمونَها، ويُهِلُّونَ منها للحَجِّ إلى الكعبةِ... وقد كانت بجزيرةِ العرَبِ وغَيرِها طواغيتُ أُخَرُ تُعظِّمُها العرَبُ كتعظيمِ الكعبةِ غيرُ هذه الثَّلاثةِ الَّتي نَصَّ عليها في كتابِه العزيزِ، وإنَّما أفرَد هذه بالذِّكرِ؛ لأنَّها أشهَرُ مِن غَيرِها). ((تفسير ابن كثير)) (7/456). ويُنظر: ((كتاب الأصنام)) لهشام الكلبي (ص: 13)، ((تفسير السعدي)) (ص: 819). وقال السعدي: (سَمَّوُا «اللَّاتَ» مِنَ «الإلهِ» المُستَحِقِّ للعبادةِ! و«العُزَّى» مِنَ «العزيزِ»، و «مَناةَ» مِنَ «المنَّانِ»؛ إلحادًا في أسماءِ اللهِ تعالى، وتجَرِّيًا على الشِّركِ به). ((تفسير السعدي)) (ص: 819). ؟
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21).
أي: أتختارونَ لأنفُسِكم -أيُّها المُشرِكونَ- صِنفَ الذُّكورِ مِنَ الأولادِ، فتُفَضِّلونَهم على الإناثِ، وتَنسُبونَ للهِ تعالى الإناثَ اللَّاتي تَكرهونَهنَّ ولا تَرضَونَ بهنَّ بناتٍ لكم؛ إذ زَعمتُم أنَّ تلك الأصنامَ بناتٌ للهِ [163] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/46)، ((تفسير القرطبي)) (17/102)، ((تفسير ابن كثير)) (7/458)، ((تفسير السعدي)) (ص: 820)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/106). ؟!
كما قال تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل: 57 - 59] .
وقال سُبحانَه: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ [الصافات: 149 - 153] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ [الزخرف: 16] .
تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22).
أي: قِسْمتُكم تلك -أيُّها المُشرِكونَ- قِسْمةٌ جائِرةٌ ظالِمةٌ مائِلةٌ عن الحَقِّ والصَّوابِ [164] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/51)، ((تفسير القرطبي)) (17/102)، ((تفسير ابن كثير)) (7/458)، ((تفسير السعدي)) (ص: 820)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 216). !
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23).
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ.
أي: ما هذه الأسماءُ الَّتي سَمَّيتُم بها أصنامَكم -اللَّاتَ والعُزَّى ومَناةَ- إلَّا أسماءٌ لا معانيَ تَحتَها، ولا حَقيقةَ لها، وإنَّما اختَرَعْتُموها أنتم وآباؤُكم، وزَعمتُم أنَّها آلِهةٌ، وادَّعيتُم أنَّها بناتُ اللهِ [165] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/54)، ((الوسيط)) للواحدي (4/200)، ((تفسير ابن عطية)) (5/201)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 216، 217). !
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ.
أي: ما أنزل اللهُ بذلك مِن حُجَّةٍ ولا بُرهانٍ يدُلُّ على ما زَعمتُم وادَّعيتُم بشَأنِها [166] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/54)، ((الوسيط)) للواحدي (4/200)، ((تفسير القرطبي)) (17/103)، ((تفسير ابن كثير)) (7/458). !
كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج: 71] .
وقال سُبحانَه: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الصافات: 154 - 157] .
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ.
أي: ما يتَّبِعُ المُشرِكونَ إلَّا الوَهمَ وما تَميلُ إليه أنفُسُهم مِنَ الباطِلِ، بلا عِلمٍ ويقينٍ، ولا حُجَّةٍ وبُرهانٍ [167] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/55)، ((تفسير القرطبي)) (17/103)، ((تفسير ابن كثير)) (7/458)، ((تفسير السعدي)) (ص: 820)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/110)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 217). قال ابنُ عطية: (الظَّنُّ: مَيلُ النَّفْسِ إلى أحدِ مُعتقَدَينِ مُتخالِفَينِ دونَ أن يكونَ مَيلُها بحُجَّةٍ ولا بُرهانٍ. وهوى الأنفُسِ: هو إرادتُها المَلذَّةَ لها، وإنَّما تَجِدُ هَوى النَّفْسِ أبدًا في تَركِ الأفضَلِ؛ لأنَّها مَجبولةٌ بطَبعِها على حُبِّ المَلاذِّ، وإنَّما يَردَعُها ويَسوقُها إلى حُسنِ العاقِبةِ: العَقلُ والشَّرعُ). ((تفسير ابن عطية)) (5/202). وقال الرَّسْعَني: (إِنْ يَتَّبِعُونَ في عبادتِها واعتقادِ إلاهيَّتها إِلَّا الظَّنَّ أي: الوَهْمَ). ((تفسير الرسعني)) (7/483). وقال ابن جُزَي: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ يعني: أنَّهم يقولون أقوالًا بغيرِ حُجَّةٍ؛ كقولِهم: إنَّ الملائكةَ بناتُ الله، وقولِهم: إنَّ الأصنامَ تَشفَعُ لهم، وغيرِ ذلك). ((تفسير ابن جزي)) (2/318). وقال الشوكاني: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي: ما يَتَّبِعونَ فيما ذُكِر مِن التَّسميةِ والعملِ بموجَبِها إلَّا الظَّنَّ الَّذي لا يُغْني مِن الحقِّ شيئًا). ((تفسير الشوكاني)) (5/132). .
كما قال تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [يونس: 66] .
وقال سُبحانَه: مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 20 - 22] .
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى.
أي: ولقد جاء أولئك المُشرِكينَ الهُدى مِن رَبِّهم؛ إذ أنزَلَ عليهم القُرآنَ وفيه الأمرُ بعِبادةِ اللهِ وَحْدَه، وبيانُ الحَقِّ مِنَ الباطِلِ [168] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/162)، ((تفسير ابن جرير)) (22/55)، ((الوسيط)) للواحدي (4/200)، ((تفسير ابن كثير)) (7/458)، ((تفسير السعدي)) (ص: 820). .
أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24).
أي: أم للإنسانِ ما يَتمنَّاه ويَشتَهيه مِنَ الخَيرِ [169] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/202)، ((تفسير القرطبي)) (17/104)، ((تفسير ابن كثير)) (7/458)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/61، 62)، ((تفسير السعدي)) (ص: 820)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 218). قال القرطبي: (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى أي: اشتهى، أي: ليس ذلك له. وقيل: لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى مِنَ البَنينَ، أي: يكونُ له دونَ البناتِ. وقيل: أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى مِن غيرِ جَزاءٍ، ليس الأمرُ كذلك. وقيل: أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى مِن النُّبُوَّةِ أن تكونَ فيه دونَ غَيرِه. وقيل: أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى مِن شَفاعةِ الأصنامِ). ((تفسير القرطبي)) (17/104). وقيل: المرادُ بالإنسانِ في الآيةِ: محمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والمعنى: أمِ اشتهى محمَّدٌ النُّبُوَّةَ، فأعطاه اللهُ إيَّاها؟ ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/56). وقال ابنُ عطيَّةَ مُعَقِّبًا على هذا القَولِ: (هذا لا تَقتَضيه الآياتُ، وإن كان اللَّفظُ يَعُمُّه). ((تفسير ابن عطية)) (5/202). وقيل: المعنى: أمْ للكافِرِ ما تمنَّى مِن شَفاعةِ الأصنامِ، وممَّن اختاره: الثعلبيُّ، والواحدي، والبغوي، والزمخشري، والخازن، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/147)، ((الوسيط)) للواحدي (4/200)، ((تفسير البغوي)) (4/310)، ((تفسير الزمخشري)) (4/424)، ((تفسير الخازن)) (4/209)، ((تفسير الشوكاني)) (5/132). وذهب مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ إلى أنَّ المرادَ: ما تمنَّى مِن أنَّ الملائكةَ تَشفَعُ لهم. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/162)، ((تفسير السمرقندي)) (3/362). وممَّن اختار العُمومَ -أي: ليس لأحدٍ ما يتمنَّى ويَشتهي، إنَّما الأمرُ كلُّه لله-: ابنُ عطية، والقرطبيُّ، وابنُ جُزَي، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/202)، ((تفسير القرطبي)) (17/104)، ((تفسير ابن جزي)) (2/319)، ((تفسير ابن كثير)) (7/458)، ((تفسير السعدي)) (ص: 820). قال ابنُ جُزَي: (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى «أم» هنا للإنكارِ، والإنسانُ هنا جِنسُ بني آدَمَ، أي: ليس لأحَدٍ ما يَتمَنَّى، بل الأمرُ بيَدِ اللهِ. وقيل: إنَّ الإشارةَ إلى ما طَمِعَ فيه الكُفَّارُ مِن شَفاعةِ الأصنامِ. وقيل: إلى قَولِ العاصي بنِ وائِلٍ: لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [مريم: 77] . وقيل: هو تمَنِّي بَعضِهم أن يكونَ نَبيًّا. والأحسَنُ حَملُ اللَّفظِ على إطلاقِه). ((تفسير ابن جزي)) (2/318). ؟!
كما قال تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 111] .
وقال سُبحانَه: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء: 123] .
فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى (25).
أي: فلِلَّهِ وَحْدَه مُلكُ الآخِرةِ والدُّنيا، وله وَحْدَه مُطلَقُ التَّصَرُّفِ فيهما؛ فيُعطي مَن يَشاءُ ما شاء، ويَمنَعُ مَن يشاءُ ما شاء؛ فالأمرُ كما يُريدُ الرَّحمنُ، لا كما يَتمنَّى الإنسانُ [170] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/56)، ((تفسير ابن عطية)) (5/202)، ((تفسير القرطبي)) (17/104)، ((تفسير ابن كثير)) (7/458)، ((تفسير الشوكاني)) (5/132)، ((تفسير السعدي)) (ص: 820)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/111، 112). .
كما قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران: 26، 27].
وقال سُبحانَه: وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى [الليل: 13].

الفوائد التربوية:

1- الظَّنُّ الَّذي لا يُعلَمُ رُجحانُه لا يجوزُ اتِّباعُه، وذلك هو الَّذي ذَمَّ اللهُ به مَن قال فيه: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، فهم لا يَتَّبِعونَ إلَّا الظَّنَّ، ليس عندَهم عِلْمٌ، ولو كانوا عالِمِينَ بأنَّه ظَنٌّ راجِحٌ لَكانوا قدِ اتَّبَعوا عِلمًا، ولم يَكونوا ممَّن لا يَتَّبِعُ إلَّا الظَّنَّ [171] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/120). !
2- في قَولِه تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ذَمُّ مَن أجاب داعيَ الجَهلِ والظُّلمِ [172] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/137). .
3- في قَولِه تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى أنَّ الشُّبهةَ والشَّهوةَ هما الأصلان اللَّذان ذَمَّ اللهُ مَن يَتَّبِعُهما، ويُحكِّمُهما على الوَحيِ الَّذي بَعَثَ اللهُ به أنبياءَه ورُسُلَه؛ فـ «الظَّنُّ»: الشُّبهةُ، و «ما تَهْوى الأنفُسُ»: الشَّهوةُ، والهُدى الَّذي جاءنا مِن ربِّنا مخالِفٌ لهذا وهذا [173] يُنظر: ((الكلام على مسألة السماع)) لابن القيم (ص: 74). .
4- قال الله تعالى: أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى اعلَمْ أنَّ الأُمنيَّةَ مَذمومةٌ، والإرادةَ مَحمودةٌ، والفَرقُ بيْنَهما أنَّ الأُمنيَّةَ شَهوةٌ لا يُصَدِّقُها العَمَلُ، والإرادةَ هي ما يُصَدِّقُه العَمَلُ [174] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/296). قال ابن القيِّم: (وممَّا يَنبغي أنْ يُعلَمَ أنَّ مَن رجَا شيئًا استلزَم رجاؤُه ثلاثةَ أمورٍ؛ أحدُها: محبَّةُ ما يَرجوه. الثَّاني: خَوفُه مِن فَواتِه. الثَّالثُ: سعيُه في تحصيلِه بحسَبِ الإمكانِ. وأمَّا رجاءٌ لا يُقارِنُه شيءٌ مِن ذلك فهو مِن بابِ الأمانيِّ، والرَّجاءُ شَيءٌ والأمانيُّ شيءٌ آخَرُ). ((الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)) (ص: 39). وقال أيضًا: (والفرقُ بيْنَ الرَّجاءِ والتَّمَنِّي أنَّ الرَّجاءَ يكونُ معَ بذْلِ الجهدِ واستِفراغِ الطَّاقةِ في الإتيانِ بأسبابِ الظَّفَرِ والفَوزِ، والتَّمَنِّيَ حَديثُ النَّفْسِ بحُصولِ ذلك معَ تَعطيل الأسبابِ الموصلةِ إليه). ((الروح)) (ص: 245). .
5- قال تعالى: أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى والمقصودُ إبطالُ نوالِ الإنسانِ ما يَتَمَنَّاه، وأنْ يَجعلَ ما يَتَمَنَّاه باعثًا عن أعمالِه ومُعْتَقَداتِه، بل عليه أنْ يَتطلَّبَ الحقَّ مِن دلائِلِه وعلاماتِه وإنْ خالَف ما يَتَمنَّاه، وهذا تأْديبٌ وتَرويضٌ للنُّفوسِ على تَحمُّلِ ما يُخالِفُ أهواءَها إذا كان الحقُّ مُخالِفًا للهَوى، وليَحمِلَ نفْسَه عليه حتَّى تَتخلَّقَ به [175] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/111). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى دَلالةٌ على أنَّ الأُنثى ناقِصةٌ بمُقتضى الخِلْقةِ والطَّبيعةِ، وأنَّ الذَّكَرَ أفضَلُ وأكمَلُ منها [176] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/25). ، فالذُّكورةُ قوَّةٌ وكمالٌ، والأنوثةُ ضَعفٌ خِلْقيٌّ جِبِلِّيٌّ، ونقصٌ خلْقيٌّ جبَلَ اللهُ هذا النَّوعَ مِن الإنسانِ عليه، وهو أمرٌ مُشاهَدٌ لا يُنكِرُه العقلاءُ [177] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/321) و(4/396). .
2- في قَولِه تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا دَلالةٌ على بُطلانِ قِصَّةِ الغَرانيقِ [178] يُنظر ما تقدَّم في تفسير سورة الحج، الآية (52). ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قرأَ بعْدَ ذلك هذه الآيةَ، فلو فرَضْنا أنَّه قال: «تلك الغَرانيقُ العُلَا»، ثمَّ أبطلَ ذلك بقَولِه: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا، فكيف يَفرَحُ المُشرِكونَ بعدَ هذا الإبطالِ والذَّمِّ التَّامِّ لأصنامِهم بأنَّها أسماءٌ بلا مُسَمَّياتٍ [179] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 162). أمَّا قِصَّةُ الغَرانيقِ فقد رُويت في سببِ نُزولِ قولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ ... [الحج: 52] ، وحاصلُها: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَرأَ بمكَّةَ: وَالنَّجْمِ، فلمَّا بَلَغَ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [النجم: 19، 20] أَلْقى الشَّيطانُ على لسانِه: تلك الغَرانيقُ العُلى، وإنَّ شَفاعتَهُنَّ لتُرتَجى! فقال المشركون: ما ذَكَرَ آلهتَنا بخَيرٍ قبْلَ اليَومِ، فسَجَد وسَجَدوا؛ فنزلتْ هذه الآيةُ. قال الشَّوكانيُّ: (لمْ يَصِحَّ شَيءٌ مِن هذا، ولا ثَبَتَ بوجْهٍ مِنَ الوُجوهِ، ومع عدَمِ صِحَّتِه -بل بُطلانِه- فقد دفَعَه المُحقِّقون بكِتابِ اللهِ سُبحانَه؛ قال اللهُ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 44 - 46]، وقولُه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم: 3] ، وقولُه: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ [الإسراء: 74] ، فنَفى المقارَبةَ للرُّكونِ، فضْلًا عن الرُّكونِ. قال البَزَّارُ: هذا حديثٌ لا نَعْلَمُه يُروى عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإسنادٍ مُتَّصِلٍ. وقال البَيهقيُّ: هذه القصَّةُ غيرُ ثابتةٍ مِن جهةِ النَّقلِ. ثمَّ أَخَذ يَتكلَّمُ أنَّ رُواةَ هذه القصَّةِ مَطعونٌ فيهم. وقال إمامُ الأئمَّةِ ابنُ خُزَيْمةَ: إنَّ هذه القصَّةَ مِن وضْعِ الزَّنادقةِ. قال القاضي عِياضٌ في الشِّفا: إنَّ الأُمَّةَ أجمَعَتْ فيما طريقُه البَلاغُ أنَّه معصومٌ فيه مِنَ الإِخبارِ عن شَيءٍ بخِلافِ ما هو عليه، لا قصْدًا ولا عَمْدًا ولا سَهْوًا ولا غلَطًا. قال ابنُ كثيرٍ: قد ذَكَر كثيرٌ مِنَ المُفسِّرين هاهنا قصَّةَ الغَرانيقِ، وما كان مِن رُجوعِ كثيرٍ مِنَ المُهاجِرينَ إلى أرضِ الحبشةِ ظَنًّا منهم أنَّ مُشْركي قُرَيشٍ قد أَسلَموا، ولكنَّها مِن طُرُقٍ كلُّها مُرسَلةٌ، ولمْ أَرَها مُسنَدةً مِن وجْهٍ صحيحٍ). ((تفسير الشوكاني)) (3/546). ويُنظر: ((مسند البزار)) (11/296)، ((الشفا بتعريف حقوق المصطفى)) للقاضي عياض (2/123). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (12/80)، ((تفسير ابن كثير)) (5/441)، ((نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق)) للألباني. ويُنظر ما تقدَّم في تفسير سورة الحج الآية (52). ؟!
3- في قَولِه تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ أنَّ هذه الآلهةَ وإن سُمِّيَت آلِهةً فما هي إلَّا أسماءٌ لا حَقيقةَ لها؛ فهي باطِلةٌ [180] يُنظر: ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (3/46). .
4- في قَولِه تعالى: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ المعنى: أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لم يُنزِلْ بها دَليلًا، وسُمِّيَ الدَّليلُ سُلطانًا؛ لأنَّ صاحِبَ الدَّليلِ معه سُلطةٌ يَعلُو بها على خَصْمِه، ومَن ليس له دليلٌ ليس له سُلطانٌ؛ فالسُّلطانُ يأتي بمعنى الحُجَّةِ -أي: الدَّليلِ-؛ لأنَّ مَن معه الدَّليلُ ذو سُلطةٍ على خَصْمِه [181] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 217). .
5- قال الله تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ لَمَّا كان الظَّنُّ قد يكونُ مُوافِقًا للحَقِّ مُخالِفًا للهَوى، قال: وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ [182] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/61). .
6- في قَولِه تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ أنَّ أكثرَ ما يَحمِلُ الإنسانَ على اتِّباعِ الظَّنِّ المُخطئِ هو هواه [183] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/241). .
7- في قَولِه تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ أنَّ مَنشَأَ الباطلِ هو مِن نَقْصِ العِلمِ، أو سُوءِ القَصدِ [184] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (7/174). .
8- قال تعالى: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى، قولُه: مِنْ رَبِّهِمُ فيه إشارةٌ إلى أنَّه لا يجوزُ تلقِّي الشَّريعةِ إلَّا مِن عندِ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى هو الرَّبُّ، والرَّبُّ هو الخالِقُ المالِكُ المُدَبِّرُ [185] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 218). .
9- قال تعالى: أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى أي: ليس للإنسانِ ما تمنَّى، وكثيرًا ما يَتَمَنَّى الإنسانُ شيئًا، بل ويسعَى في أسبابِه ولكنْ لا يحصُلُ؛ لأنَّ هناك مُدبِّرًا، وهو اللهُ عزَّ وجلَّ الَّذي بيدِه الأمرُ جلَّ وعلا؛ ولهذا قال: فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى، وفي ذلك إشارةٌ إلى رَدِّ صنيعِ هؤلاءِ المشركينَ الَّذين يَعبدونَ الأصنامَ، ويقولونَ: إنَّها تُقَرِّبُهم إلى اللهِ؛ وليس لهم ذلك! وأيضًا رَدٌّ لقولِهم: إنَّ للهِ البناتِ، ولهم البنينَ، وليس لهم ذلك، وهم وإنْ تَمنَّوْا ذلك وصار في مُخَيِّلَتِهم، فإنَّه لا يَحْصُلُ، وليس للإنسانِ ما تَمَنَّى [186] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 218). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى لَمَّا جَرَى في صِفةِ الوحْيِ ومُشاهَدةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جِبريلَ عليه السَّلامُ، ما دلَّ على شُؤونٍ جَليلةٍ مِن عَظَمةِ اللهِ تعالى، وشرَفِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وشرَفِ جِبريلَ عليه السَّلامُ؛ إذ وُصِفَ بصِفاتِ الكَمالِ، ومَنازلِ العِزَّةِ، كما وُصِفَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالعُروجِ في المَنازلِ العُلْيا -كان ذلك ممَّا يُثيرُ موازَنةَ هذه الأحوالِ الرَّفيعةِ بحالِ أعظَمِ آلهَتِهم الثَّلاثِ في زعْمِهم، وهي: اللَّاتُ، والعُزَّى، ومَناةُ الَّتي هي أحجارٌ مَقرُّها الأرضُ، لا تَملِكُ تَصرُّفًا، ولا يُعرَجُ بها إلى رِفعةٍ، فكان هذا التَّضادُّ جامِعًا خَياليًّا يَقْتضي تَعقيبَ ذِكرِ تلك الأحوالِ بذِكرِ أحوالِ هاتِه، فانتُقِلَ الكلامُ مِن غرَضِ إثباتِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُوحًى إليه بالقُرآنِ، إلى إبطالِ عِبادةِ الأصنامِ، ومَناطُ الإبطالِ قولُه: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ؛ فالفاءُ لتَفريعِ الاستِفهامِ وما بعْدَه على جُملةِ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى [النجم: 12] المُفرَّعةِ على جُملةِ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [187] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/102). [النجم: 11] .
- ولَمَّا كان المشركون مع عِبادتِهم لهذه الأصنامِ يقولونَ: إنَّ الملائكةَ وتلكَ الأصنامَ بناتُ اللهِ -تعالَى اللهُ عن ذلكَ عُلوًّا كبيرًا-؛ قِيل لهم تَوبيخًا وتبكيتًا: أَفَرَأَيْتُمُ ... إلخ [188] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/158). .
- والرُّؤيةُ في أَفَرَأَيْتُمُ يَجوزُ أنْ تكونَ بَصريَّةً، تَتعدَّى إلى مَفعولٍ واحدٍ، فلا تَطلُبُ مَفعولًا ثانيًا، ويكونَ الاستِفهامُ تَقريريًّا تَهكُّميًّا، أي: كيف ترَونَ اللَّاتَ والعُزَّى ومَناةَ بالنِّسبةِ لِما وُصِفَ في عَظَمةِ اللهِ تعالى، وشرَفِ مَلائكتِه، وشَرَفِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! وهذا تَهكُّمٌ بهم، وإبطالٌ لإلهيَّةِ تلك الأصنامِ بطَريقِ الفَحْوى، ودَليلُه العِيانُ، وتَكونَ جُملةُ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى [النجم: 21] استِئنافًا وارتقاءً في الرَّدِّ، أو بدَلَ اشتِمالٍ مِن جُملةِ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى؛ لأنَّ مَضمونَها ممَّا تَشتمِلُ عليه مَزاعِمُهم؛ كانوا يَزعُمون أنَّ اللَّاتَ والعُزَّى ومَناةَ بَناتُ اللهِ!
ويَجوزُ أنْ تكونَ الرُّؤيةُ عِلْميَّةً قَلبيَّةً، أي: أزَعَمْتُم اللَّاتَ والعُزَّى ومَناةَ؟! فحُذِفَ المَفعولُ الثَّاني اختصارًا، والتَّقديرُ: أزَعَمْتُموهنَّ بَناتِ اللهِ، أتَجْعَلون له الأُنثى وأنتُم تَبْتَغون الأبناءَ الذُّكورَ؟! ولدَلالةِ الحالِ عليه؛ فالمعْنى: عَقِيبَ ما سمِعْتُم مِن آثارِ كَمالِ عَظَمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ في مُلكِه ومَلكوتِه، وجَلالِه وجَبروتِه، وإِحكامِ قُدرتِه ونفاذِ أمْرِه في الملأِ الأَعْلى وما تحتَ الثَّرى وما بيْنَهما؛ رأيتُم هذهِ الأصنامَ -مع غايةِ حَقارتِها وقَماءتِها- بَناتٍ له تعالَى! وتَكونَ جُملةُ أَلَكُمُ الذَّكَرُ ... إلخ بَيانًا للإنكارِ، وارتقاءً في إبطالِ مَزاعِمِهم، أي: أتَجْعَلون للهِ البناتِ خاصَّةً وتَختصُّون أنفُسَكم بالبنينَ الذُّكورِ؟! وقولُه تعالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى يَشهَدُ به شَهادةً بيِّنةً؛ فإنَّه تَوبيخٌ مَبنيٌّ على التَّوبيخِ الأوَّلِ، وحيثُ كانَ مَدارُه تَفضيلَ جانبِ أنفُسِهم على جَنابِه تَعالى بنِسبتِهم إليه تَعالى الإناثَ مع اختيارِهم لأنفُسِهم الذُّكورَ، وجَبَ أنْ يكونَ مَناطُ الأولِ نفْسَ تلك النِّسبةِ؛ حتَّى يَتسنَّى بِناءُ التَّوبيخِ الثَّاني [189] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 539)، ((تفسير أبي السعود)) (8/158)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/102، 103). .
وقيل: لَمَّا كان فيما جَرَى مِن صِفةِ الوحْيِ ومَنازلِ الزُّلْفى الَّتي حَظِيَ بها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعَظَمةِ جِبريلَ: إشعارٌ بسَعةِ قُدرةِ اللهِ تَعالى وعَظيمِ مَلكوتِه، ممَّا يُسجِّلُ على المشرِكين في زَعْمِهم شُركاءَ للهِ أصنامًا مِثلَ اللَّاتِ والعُزَّى ومَناةَ، فسادَ زعْمِهم، وسَفاهةَ رأْيِهم -أُعقِبَ ذِكرُ دَلائلِ العَظَمةِ الإلهيَّةِ بإبطالِ إلهيَّةِ أصنامِهم بأنَّها أقلُّ مِن مَرتبةِ الإلهيَّةِ؛ إذ تلك أوهامٌ لا حَقائقَ لها، ولكنِ اخترَعَتْها مُخيَّلاتُ أهلِ الشِّركِ، ووَضَعوا لها أسماءً ما لها حَقائقُ، ففُرِّعَ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ... إلخ؛ فيَكونُ الاستِفهامُ تَقريريًّا إنكاريًّا، والرُّؤيةُ عِلْميَّةً، والمَفعولُ الثَّاني هو قولَه: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا، وتَكونُ جُملةُ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى إلخ مُعترِضةً بيْنَ المَفعولينِ؛ للارتقاءِ في الإنكارِ، أي: وزَعَمْتُموهنَّ بَناتٍ للهِ، أو وزَعَمْتُم الملائكةَ بَناتٍ للهِ! وهذه الوجوهُ غيرُ مُتنافيةٍ، فنَحمِلُها على أنَّ جميعَها مَقصودٌ في هذا المَقامِ. ويجوزُ جَعْلُ فِعلِ (أرأَيْتُم) -على اعتِبارِ الرُّؤيةِ عِلْميَّةً- مُعلَّقًا عن العَملِ؛ لوُقوعِ (إنْ) النَّافيةِ بعْدَه في قولِه: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا، وتُجعَلَ جُملةُ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى إلى قولِه: ضِيزَى اعتِراضًا [190] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/103، 104). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيثُ جاء هنا بالفاءِ حيث قال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وفي مَواضعَ بغيرِ الفاءِ، كما قال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأحقاف: 4] ، وقال: أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ [فاطر: 40] ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّه لَمَّا قدَّمَ مِن عَظَمةِ آياتِ اللهِ في مَلَكوتِه أنَّ رسولَ اللهِ إلى الرُّسلِ -الَّذي يسُدُّ الآفاقَ ببَعضِ أجْنحَتِه، ويُهلِكُ المدائنَ بشِدَّتِه وقوَّتِه- لا يُمكِنُه أنْ يَتعدَّى السِّدرةَ في مَقامِ جَلالِ اللهِ وعِزَّتِه؛ قال: أفرَأَيْتُم هذه الأصنامَ -مع ذِلَّتِها وحَقارتِها- شُركاءَ اللهِ مع ما تَقدَّمَ؟! فقال بالفاءِ -عَقِيبَ ما سمِعْتُم مِن عَظَمةِ آياتِ اللهِ تَعالى الكُبرى، ونَفاذِ أمْرِه في الملأِ الأعلى وما تحتَ الثَّرى-: فانْظُروا إلى اللَّاتِ والعُزَّى؛ تَعلَموا فسادَ ما ذَهبْتُم إليه، وعوَّلْتُم عليه [191] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/248). .
- اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ قيل: إنَّها مَنصوبةٌ بقولِه: أَفَرَأَيْتُمْ، وهي بمعْنى أخْبِروني، والمفعولُ الثَّاني الَّذي لها هو قولُه: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، ولم يَعُدْ ضَميرٌ مِن جُملةِ الاستِفهامِ على اللَّاتِ والعُزَّى ومَناةَ؛ لأنَّ قولَه: وَلَهُ الْأُنْثَى هو في معْنى: وله هذه الإناثُ، فأغْنى عن الضَّميرِ. وكانوا يَقولون في هذه الأصنامِ: هي بِناتُ اللهِ، فالمعْنى: ألَكمُ النَّوعُ المحبوبُ المستحسَنُ الموجودُ فيكم، وله النَّوعُ المذمومُ بزَعْمِكم؟! وهو المستثقَلُ. وحسَّنَ إبرازَ الْأُنْثَى كونُه نصًّا في اعتِقادِهم أنَّهنَّ إناثٌ، وأنَّهنَّ بَناتُ اللهِ تَعالى، وإنْ كان في لَحاقِ تاءِ التأنيثِ في (اللَّاتِ) وفي (مَناةَ)، وألِفِ التأنيثِ في (العُزَّى) ما يُشعِرُ بالتَّأنيثِ، لكنَّه قد يُسمَّى المُذَكَّرُ بالمؤنَّثِ، فكان في قولِه: الْأُنْثَى نصٌّ على اعتقادِ التَّأنيثِ فيها. وحسَّن ذلك أيضًا كونُه جاء فاصلةً؛ إذ لو أتَى ضَميرًا فكان التَّركيبُ (ألكمُ الذَّكَرُ وله هُنَّ)، لم تَقَعْ فاصلةً [192] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/16). قال أبو السعود: (وأمَّا ما قيلَ مِن أنَّ هذه الجملةَ مفعولٌ ثانٍ للرُّؤيةِ، وخلوها عن العائدِ إلى المفعولِ الأوَّلِ؛ لِما أنَّ الأصلَ: أخبِرونِي أنَّ اللَّاتَ والعُزَّى ومناةَ ألكُم الذَّكرُ وله هُنَّ، أي: تلك الأصنامُ، فوُضِعَ مَوضِعَ الأُنثى؛ لِمُراعاةِ الفواصلِ، وتحقيقِ مناطِ التَّوبيخِ- فمعَ ما فيه مِن التَّمَحُّلاتِ الَّتي ينبغي تنزيهُ ساحةِ التَّنزيلِ عن أمثالِها؛ يَقتَضِي اقتِصارَ التَّوبيخِ على ترجيحِ جانبِهم الحَقيرِ على جَنابِ اللهِ العزيزِ الجَليلِ، مِن غَيرِ تعَرُّضٍ للتَّوبيخِ على نِسبةِ الوَلَدِ إليه سُبحانَه). ((تفسير أبي السعود)) (8/158). .
- قوله: الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى صِفتانِ للتَّأكيدِ، أو الْأُخْرَى مِن التَّأخُّرِ في الرُّتبةِ، فقد وصَفَ مَناةَ بقولِه: الثَّالِثَةَ؛ لأنَّها أقلُّ بالرُّتبةِ مِن اللَّاتِ والعُزَّى؛ فقد كانتْ عِندَهم دونَهما في المَنزِلةِ، أمَّا الوصْفُ بقولِه: الْأُخْرَى فإنَّها تُقوِّي هذا المعْنى، وتَزيدُ في وَضاعتِها، وإلَّا لَقال: الأُخرياتِ. ويجوزُ أنْ تكونَ الأوَّليَّةُ والتَّقديمُ عِندَهم لِلَّاتِ والعُزَّى؛ فالتَّراخي المستفادُ مِن لَفظِ الْأُخْرَى بحسَبِ الزَّمانِ [193] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/423)، ((تفسير البيضاوي)) (5/159)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/94)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 540)، ((تفسير أبي السعود)) (8/158)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/354، 355). على أنَّ أبا حيَّان قد قال: (ولفظُ «آخَرَ» ومُؤنَّثُه «أُخرى» لم يُوضَعَا للذَّمِّ ولا للمدحِ، إنَّما يدُلَّان على معنى «غيْر»، إلَّا أنَّ مِن شرطهِما أنْ يكونَا من جِنس ما قبْلَهما. لو قلتَ: مررتُ برجُلٍ وآخَرَ، لم يدُلَّ إلَّا على معنى «غير»، لا على ذمٍّ ولا على مدحٍ). ((تفسيرِ أبي حيان)) (10/17). . وقيل: الْأُخْرَى صِفةٌ للعُزَّى، وإنَّما أخَّرها رِعايةً للفاصلةِ [194] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 539، 540). .
وقيل: فيه تَقديمٌ وتأخيرٌ، تَقديرُه: والعُزَّى الأُخْرى، ومَناةَ الثَّالثةَ الذَّليلةَ؛ وذلك لأنَّ الأُولى كانت وَثَنًا على صُورةِ آدميٍّ، والعُزَّى صُورةَ نَباتٍ، ومَناةَ صُورةَ صَخْرةٍ، فالآدميُّ أشرَفُ مِن النَّباتِ، والنَّباتُ أشرَفُ مِن الجَمادِ، فالجَمادُ مُتأخِّرٌ، ومَناةُ جَمادٌ؛ فهي في أُخرياتِ المراتبِ [195] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/17). .
وقيل: وصْفُ مَناةَ بالثَّالثةِ في قولِه: وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى؛ لأنَّها ثالثةٌ في الذِّكْرِ، وهو صِفةٌ كاشفةٌ [196] الصِّفةُ الكاشفةُ: هي الَّتي تُبيِّنُ الواقعَ، ولا تُقيِّدُ المَوصوفَ؛ لأنَّ الصِّفاتِ منها صِفةٌ مقيِّدةٌ تُخرِجُ ما سِواه، ومنها صفةٌ كاشِفةٌ تبيِّنُ حقيقةَ أمرِه، فهي خبرٌ عن المَوصوفِ عندَ التَّحقيقِ، تبيِّنُ ماهيَّةَ الشَّيءِ بأن تكونَ وصفًا لازمًا مختصًّا به. والصِّفةُ إذا كان لها مفهومٌ فهي مقيِّدةٌ، وإن لم يكن لها مفهومٌ فهي كاشِفةٌ، أي: مبيِّنةٌ للحقيقةِ، مثالُ ذلك: قولُه تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117] ، فقولُه: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ صفةٌ كاشفةٌ، ولا مفهومَ مخالفةٍ له، فلا يصحُّ لأحدٍ أن يقولَ: أمَّا مَن عبَدَ معه إلهًا آخَرَ له بُرهانٌ به فلا مانعَ مِن ذلك! لاستِحالةِ وُجودِ بُرهانٍ على عبادةِ إلهٍ آخَرَ معه، فقولُه: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ وصفٌ مطابقٌ للواقعِ؛ لأنَّهم يَدْعون معه غيرَه بلا بُرهانٍ، فذِكْرُ الوصفِ لموافقتِه الواقِعَ، لا لإخراجِ المفهومِ عن حُكمِ المنطوقِ، ومن ذلك قولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة: 61] ، وقولُه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] . يُنظر: ((الكليات)) للكفوي (ص: 545)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/364، 365)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 27)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/299، 314)، ((دراسات أصولية في القرآن الكريم)) للحفناوي (ص: 22). ، ووصْفُها بالأُخرى أيضًا صِفةٌ كاشفةٌ؛ لأنَّ كونَها ثالثةً في الذِّكرِ غيرَ المَذكورتينِ قبْلَها مَعلومٌ للسَّامعِ، فالحاصلُ مِن الصِّفتينِ تأْكيدُ ذِكْرِها؛ لأنَّ اللَّاتَ والعُزَّى عندَ قُريشٍ وعندَ جُمهورِ العرَبِ أشهَرُ مِن مَناةَ؛ لبُعْدِ مَكانِ مَناةَ عن بِلادِهم، ولأنَّ تَرتيبَ مَواقعِ بُيوتِ هذه الأصنامِ كذلك؛ فاللَّاتُ في أعْلى تِهامةَ بالطَّائفِ، والعُزَّى في وَسَطِها بنَخْلةَ بيْنَ مكَّةَ والطَّائفِ، ومَناةَ بالمُشلَّلِ بيْن مكَّةَ والمدينةِ، فهي ثالثةُ البِقاعِ [197] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/105). .
أو أنَّ قولَه: الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى جَرى على أُسلوبِ العرَبِ إذا أخبَروا عن مُتعدِّدٍ، وكان فيه مَن يُظَنُّ أنَّه غيرُ داخلٍ في الخبَرِ لعَظَمةٍ، أو تَباعُدٍ عن التَّلبُّسِ بمِثلِ ما تَلبَّسَ به نُظراؤه؛ أنْ يَختِموا الخبَرَ فيَقولوا: وفلانٌ هو الآخَرُ، ووَجْهُه هنا: أنَّ عُبَّادَ مَناةَ كَثيرون في قَبائلِ العرَبِ، فنَبَّه على أنَّ كَثرةَ عَبَدتِها لا يَزيدُها قوَّةً على بَقيَّةِ الأصنامِ في مَقامِ إبطالِ إلهيَّتِها. وكلُّ ذلك جارٍ مَجرى التَّهكُّمِ والتَّسفيهِ، والتَّوبيخِ والتَّبكيتِ لهم [198] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/17)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/105). .
2- قولُه تعالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى ارتِقاءٌ في الإبطالِ والتَّهكُّمِ والتَّسفيهِ والتَّوبيخِ، وهي مُجاراةٌ لاعتقادِهم أنَّ تلك الأصنامَ الثَّلاثةَ بَناتُ اللهِ، وأنَّ الملائكةَ بَناتُ اللهِ، أي: أجعَلْتُم للهِ البناتِ خاصَّةً وأنتم تَعلَمون أنَّ لكم أولادًا ذُكورًا وإناثًا، وأنَّكم تُفضِّلون الذُّكورَ وتَكرَهون الإناثَ، وقد خصَصْتُم اللهَ بالإناثِ دونَ الذُّكورِ، واللهُ أَولى بالفضْلِ والكَمالِ لو كُنتُم تَعلَمون؟! فكان في هذا زِيادةُ تَشنيعٍ لكُفْرِهم؛ إذ كان كُفْرًا وسَخافةَ عقْلٍ [199] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/158)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/106). .
- وتَقديمُ المَجرورينِ في جُملةِ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى؛ للاهتِمامِ بالاختصاصِ الَّذي أفادَتْه اللَّامُ اهتِمامًا في مَقامِ التَّهكُّمِ والتَّسفيهِ، على أنَّ في تَقديمِ وَلَهُ الْأُنْثَى إفادةَ الاختِصاصِ، أي: دونَ الذَّكَرِ [200] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/106). .
3- قولُه تعالَى: تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى تَعليلٌ للإنكارِ والتَّهكُّمِ المُفادِ مِن الاستفهامِ في أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى [النجم: 21] ، أي: قد جُرْتُم في القِسمةِ وما عدَلْتُم، فأنتمْ أحِقَّاءُ بالإنكارِ [201] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/106). .
- والإشارةُ بكلمةِ تِلْكَ إلى المَذكورِ باعتبارِ الإخبارِ عنه بلَفظِ قِسْمَةٌ؛ فإنَّه مُؤنَّثُ اللَّفظِ [202] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/106). .
- وإِذًا حرْفُ جَوابٍ أُرِيدَ به جَوابُ الاستِفهامِ الإنكاريِّ، أي: تَرتَّبَ على ما زعَمْتُم أنَّ ذلك قِسمةٌ ضِيزَى، أي: قسَمْتُم قِسمةً جائرةً [203] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/106). .
- قولُه: تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى فيه استِعمالُ كَلمةِ ضِيزَى، وهي لفظةٌ غريبةٌ، هي مِن أغربِ ما في القرآنِ، ومعَ ذلك فإنَّ حُسنَها في نظمِ الكلامِ مِن أغربِ الحُسنِ وأعجبِه؛ فهي لَفظةٌ في مَوضعِها لا يسُدُّ غيرُها مسَدَّها؛ فسُورةُ (النَّجمِ) كلُّها مَسجوعةٌ على حَرْفِ الياءِ اللَّيِّنةِ، فلمَّا ذكَرَ الأصنامَ وقِسمةَ الأولادِ، وما كان يَزعُمُه الكفَّارُ، قال: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى؛ فجاءت هذه اللَّفظةُ على الحرْفِ المَسجوعِ الَّذي جاءت السُّورة جميعُها عليه، هذا مِن النَّاحيةِ اللَّفظيَّةِ، أمَّا مِن ناحيةِ المعْنَى فإنَّها في مَعرِضِ الإنكارِ على العربِ المشركينَ؛ إذ ورَدت في ذِكرِ الأصنامِ، وزعمِهم في قِسمةِ الأولادِ، فكانت غرابةُ اللَّفظِ أشدَّ الأشياءِ مُلاءمةً لغرابةِ هذه القِسمةِ الَّتي أنكَرها، والغرَضُ تَهجينُ قَولِهم، وتفْنيدُ قِسمتِهم، والتَّشنيعُ عليها، وهذا مِن أعجَبِ ما ورَدَ في القرآنِ الكريمِ مِن مُطابَقةِ الألفاظِ لمُقْتضَى الحالِ [204] يُنظر: ((المثل السائر)) لابن الأثير (1/162)، ((إعجاز القرآن والبلاغة النبوية)) للرافعي (ص: 158)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/355، 356). .
4- قولُه تعالَى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى
- جُملةُ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ استِئنافٌ يَكُرُّ بالإبطالِ على مُعتقَدِهم مِن أصْلِه، بعْدَ إبطالِه بما هو مِن لَوازِمِه على مُجاراتِهم فيه؛ لإظهارِ اختلالِ مُعتقَدِهم، وفي هذه الجُملةِ احتِراسٌ؛ لئلَّا يَتوهَّمَ مُتوهِّمٌ إنكارَ نَسبتِهم البَناتِ للهِ، أنَّه إنكارٌ لتَخصيصِهم اللهَ بالبَناتِ، وأنَّ له أولادًا ذُكورًا وإناثًا، أو أنَّ مَصبَّ الإنكارِ على زعْمِهم أنَّها بناتٌ وليست ببَناتٍ، فيَكونُ كالإنكارِ عليهم في زعْمِهم الملائكةَ بَناتٍ [205] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/107). .
- والقَصْرُ في قولِه: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ قَصْرٌ إضافيٌّ [206] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، أي: هي أسماءٌ لا حَقائقَ عاقلةً مُتصرِّفةً كما تَزعُمون، وليس القصْرُ حَقيقيًّا؛ لأنَّ لِهاتِه الأصنامِ مُسمَّياتٍ، وهي الحِجارةُ أو البيوتُ الَّتي يَقصِدُونها بالعِبادةِ، ويَجعَلون لها سَدَنةً [207] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/107، 108). .
- وجُملةُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ تَعليلٌ لمعْنى القَصْرِ بطَريقةِ الاكتِفاءِ [208] الاكتفاءُ: هو أنْ يَقتضيَ المقامُ ذِكْرَ شيئَينِ بَيْنَهما تَلازُمٌ وارتباطٌ، فيُكتفَى بأحدِهما عن الآخَرِ؛ لنُكتةٍ بلاغيَّةٍ؛ ومثالُ ذلك قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل: 81] ؛ ففي قولِه: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ إيجازٌ بالحذفِ على سبيلِ الاكتفاءِ، إذِ التَّقْديرُ: تَقيكُمُ الحَرَّ والبَرْدَ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/118)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 335)، ((البلاغة العربية)) للميداني (2/48). ؛ لأنَّ كونَها لا حَقائقَ لها في عالَمِ الشَّهادةِ أمْرٌ مَحسوسٌ؛ إذ ليستْ إلَّا حِجارةً، وأمَّا كَونُها لا حَقائقَ لها مِن عالَمِ الغَيبِ؛ فلأنَّ عالَمَ الغَيبِ لا طَريقَ إلى إثباتِ ما يَحتوِيه إلَّا بإعلامٍ مِن عالِمِ الغَيبِ سُبحانَه، أو بدليلِ العقْلِ -فيما للعقلِ فيه إدراكٌ-، كدَلالةِ العالَمِ على وُجودِ الصَّانعِ وبعْضِ صِفاتِه، واللهُ لم يُخبِرْ أحدًا مِن رُسلِه بأنَّ للأصنامِ أرواحًا أو مَلائكةً، مِثلَ ما أخبَرَ عن حَقائقِ الملائكةِ والجنِّ والشَّياطينِ [209] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/108). .
- والسُّلطانُ: الحُجَّةُ، وعُبِّرَ عن الإخبارِ المُوحى به بفِعلِ أَنْزَلَ؛ لأنَّه إخبارٌ يَرِدُ مِن العالَمِ العُلويِّ؛ مِن اللهِ تعالى، وهذا كِنايةٌ عن انتفاءِ أنْ تكونَ عليها حُجَّةٌ؛ لأنَّ وُجودَ الحُجَّةِ يَستلزِمُ ظُهورَها، فنفْيُ إنزالِ الحُجَّةِ بها مِن بابِ: (على لاحِبٍ لا يُهتدَى بمَنارِه) [210] القائلُ هو امرُؤ القَيسِ. يُنظر: ((ديوان امرئ القيس)) (ص: 96). واللَّاحبُ: الطَّريقُ الواضحُ، ولم يُرِدْ أن فيه منارًا لا يُهتدَى به، ولكنَّه نفَى أن يكون به منارٌ. والمعنى: لا منارَ فيه فيُهتدَى به. يُنظر: ((خزانة الأدب)) للبغدادي (10/193). ، أي: لا مَنارَ له فيُهْتَدى به [211] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/108). .
- وأُكِّدَ نفْيُ إنزالِ السُّلطانِ بحرْفِ (مِن) الزَّائدةِ؛ لتَوكيدِ نفْيِ الجِنسِ [212] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/108). .
- قولُه: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى اسِتئنافٌ بَيانيٌّ؛ فضَميرُ يَتَّبِعُونَ عائدٌ إلى الَّذين كان الخِطابُ مُوجَّهًا إليهم، أُعقِبَ نفْيُ أنْ تَكونَ لهم حُجَّةٌ على الخَصائصِ الَّتي يَزعُمونها لأصنامِهم، أو على أنَّ اللهَ سمَّاهم بتلك الأسماءِ؛ بإثباتِ أنَّهم استَنَدوا فيما يَزعُمونَه إلى الأوهامِ، وما تُحِبُّه نُفوسُهم مِن عِبادةِ الأصنامِ ومَحبَّةِ سَدَنتِها ومَواكبِ زِيارتِها، وغُرورِهم بأنَّها تَسعَى في الوساطةِ لهم عندَ اللهِ تعالى بما يَرغَبونَه في حَياتِهم؛ فتلك أوهامٌ وأمانيُّ مَحبوبةٌ لهم يَعيشون في غُرورها [213] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/92)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/109). .
- وقولُه: يَتَّبِعُونَ تَحويلٌ عن خِطابِ المشرِكينَ الَّذي كان ابتِداؤُه مِن أوَّلِ السُّورةِ، وهو مِن ضُروبِ الالْتِفاتِ؛ فهذا الْتِفاتٌ مِن خِطابِ المُشرِكينَ إلى الغَيبةِ عنْهم؛ تحقيرًا لهم، وللإيذانِ بأنَّ تَعدادَ قَبائحِهم اقْتضَى الإعراضَ عنهم تَحقيرًا لشأْنِهم، وحِكايةَ جِناياتِهم لغيرِهم [214] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/159)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/97)، ((تفسير الألوسي)) (14/58)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/109)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/ 354). .
- وجِيءَ بالمُضارعِ في يَتَّبِعُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم سيَستَمِرُّونَ على اتِّباعِ الظَّنِّ وما تَهواهُ نُفوسُهم، وذلك يدُلُّ على أنَّهم اتَّبعوا ذلك مِن قبْلُ، بدَلالةِ لَحْنِ الخِطابِ أو فَحواهُ [215] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/109). .
- قولُه: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وقولُه بعْدَه: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم: 27، 28] فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ تكرَّرَ قولُه: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ في الآيتَينِ، واختَلفَ خِتامُهما؛ ووجْهُ ذلك: أنَّه لَمَّا قال قبْلُ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى، ثمَّ قال: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا، أي: سمَّيتُم هذه الأصنامَ آلهةً، والملائكةَ بناتِ اللهِ تَسميةً باطلةً لا حُجَّةَ لكم فيها؛ فلم يَحصُلْ لكم إلَّا ألفاظُها! فأمَّا المعاني؛ فإنَّكم تتَّبِعون فيها الظَّنَّ وهَوى النَّفْسِ، وما في الطَّبعِ مِن حُبِّ الإلفِ، وقد أتاكُم مِن ربِّكم ما يَثْنِيكم عنه إلى الرَّشادِ! ومَن جاءه مِن اللهِ الهُدى فترَكَهُ لاتِّباعِ الهَوى؛ فقد ضلَّ وهَوَى، فلمَّا كان الَّذي يَجذِبُهم إلى مَقالتِهم شَيئانِ: ظنٌّ وهَوًى؛ ذُكِرَا معًا ليُبيِّنَ صارِفَهم عن الحقِّ. ثمَّ قال: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا؛ فخصَّ الَّذين يقولونَ: الملائكةُ بناتُ اللهِ بالذِّكرِ تَوكيدًا لإلزامِه الحُجَّةَ عليهم، وأنَّهم يتَّبِعون الظَّنَّ بمَقالتِهم، والظَّنُّ لا يقومُ مَقامَ العلمِ، ولا يُغْني غَناءَه -والمرادُ بالحقِّ هاهنا هو العلمُ-؛ فوَصَفَ أنَّ الَّذي تَعتمِدونه لا يَجوزُ أنْ يُعتمَدَ؛ لأنَّه ظنٌّ، وبإزائِه عِلمٌ يُبطِلُه، وهُدًى مِن اللهِ تَعالى يَدفَعُه، ويَصرِفُ عنه إلى الحقِّ الَّذي لا مَهرَبَ منه، ومَن لم يَقبَلْه بعدَ وُضوحِ الحُجَّةِ له، فأعْرِضْ عنه، وهو قولُه: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا [النجم: 29]؛ ففي الآيةِ الأُولى ذَكَر صارفَهم عن الحقِّ، وداعِيَهم إلى الباطلِ؛ فبيَّن ما هو، وفي الثَّانيةِ طَعَن على هذا الصَّارفِ والدَّاعي إلى الباطلِ، وإثباتُ الشَّيءِ أوَّلٌ في العَقلِ، ووَصْفُه بأنَّه صحيحٌ أو سقيمٌ ثانٍ في الرُّتبةِ؛ فلذلك اختُصَّت الأُولى بما اختُصَّت، والثَّانيةُ بما تَبِعَها [216] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1222-1224). . وليس بتَكرارٍ؛ لأنَّ الأوَّلَ مُتَّصلٌ بعِبادتِهم اللَّاتَ والعُزَّى ومَناةَ، والثَّانيَ بعِبادتِهم الملائكةَ؛ والظَّنُّ فيها مَذمومٌ بقولِه: وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، أي: لا يقومُ مَقامَ العِلمِ [217] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 540). .
- وأصلُ الظَّنِّ الاعتِقادُ غيرُ الجازِمِ، ويُطلَقُ على العِلمِ الجازمِ إذا كان مُتعلِّقًا بالمُغيَّباتِ، وكَثُرَ إطلاقُه في القرآنِ على الاعتقادِ الباطلِ، وهو المُرادُ هنا؛ بقَرينةِ عطْفِ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ عليه، وهو كِنايةٌ عن الخطَأِ باعتبارِ لُزومِه له غالبًا، ومَناطُ الذَّمِّ في هذه الآيةِ هو قصْرُ اتِّباعِهم على ما تَهواهُ أنفُسُهم [218] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/109، 110). .
- والتَّعريفُ في الْأَنْفُسُ عِوَضٌ عن المُضافِ إليه، أي: وما تَهواهُ أنفُسُهم [219] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/110). .
- وعطْفُ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ على الظَّنَّ عطْفُ العِلَّةِ على المَعلولِ، أي: الظَّنَّ الَّذي يَبعَثُهم على اتِّباعِه أنَّه مُوافقٌ لِهَواهم وإلْفِهم [220] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/110). .
- قولُه: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى تَوبيخٌ لهم، والَّذي همْ عليه باطلٌ، واعتِراضٌ بيْنَ الجُملتَينِ، أي: يَفعَلونَ هذه القبائحَ، والهُدى قد جاءَهُم، فكانوا أَولى مَن يَقبَلُه ويَترُكُ عِبادةَ مَن لا يُجدي عِبادتُه [221] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/18). !
- قولُه: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى حالٌ مُقرِّرةٌ للتَّعجيبِ مِن حالِهم، أي: يَستمِرُّون على اتِّباعِ الظَّنِّ والهَوى في حالِ أنَّ اللهَ أرسَلَ إليهم رسولًا بالهُدى [222] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/110). !
- ولامُ القَسَمِ لتأْكيدِ الخبَرِ؛ للمُبالَغةِ فيما يَتضمَّنُه مِن التَّعجيبِ مِن حالِهم، كأنَّ المُخاطَبَ يشُكُّ في أنَّه جاءَهم ما فيه هُدًى مُقنِعٌ لهم مِن جِهةِ استِمرارِهم على ضَلالِهم استمرارًا لا يُظَنُّ مِثلُه بعاقلٍ [223] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/110). .
- والتَّعبيرُ عن الجَلالةِ بعُنوانِ رَبِّهِمُ؛ لزِيادةِ التَّعجيبِ مِن تَصامُمِهم عن سَماعِ الهُدى، مع أنَّه ممَّن تجِبُ طاعتُه، فكان ضَلالُهم مَخلوطًا بالعِصيانِ والتَّمرُّدِ على خالِقِهم [224] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/110). .
- والتَّعريفُ في الهُدَى؛ للدَّلالةِ على معْنى الكَمالِ، أي: الهُدى الواضحُ [225] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/110). .
5- قولُه تعالَى: أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى إضرابٌ انتقاليٌّ ناشئٌ عن قولِه: وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم: 23] ، والاستفهامُ المُقدَّرُ بعْدَ (أَمْ) إنكاريٌّ، وهذا مُتَّصِلٌ بقولِه تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [226] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/424)، ((تفسير البيضاوي)) (5/159)، ((تفسير أبي السعود)) (8/159)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/111)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/354). [النجم: 23] .
- وتَعريفُ الإنسانِ في قولِه: أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى تَعريفُ الجِنسِ، ووُقوعُه في حيِّزِ الإنكارِ المُساوي للنفْيِ جَعَله عامًّا في كلِّ إنسانٍ [227] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/18)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/111). .
- و(ما) المَوصولةُ في مَا تَمَنَّى بمَنزِلةِ المُعرَّفِ بلامِ الجِنسِ؛ فوُقوعُها في حيِّزِ الاستِفهامِ الإنكاريِّ الَّذي بمَنزلةِ النَّفْيِ يَقْتضي العُمومَ، أي: ما للإنسانِ شَيءٌ ممَّا تمنَّى، أي: ليس شَيءٌ جاريًا على إرادتِه، بلْ على إرادةِ اللهِ، وقد شمِلَ ذلك كلَّ هَوًى دَعاهم إلى الإعراضِ عن كَلامِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فشَمِلَ تَمنِّيَهم شَفاعةَ الأصنامِ، وهو الأهمُّ مِن أحوالِ الأصنامِ عِندَهم، وذلك ما يُؤذِنُ به قولُه بعْدَ هذا: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا [النجم: 26] الآيةَ، وتَمنِّيَهم أنْ يكونَ الرَّسولُ مَلَكًا، وغيرَ ذلك، نحْوَ قولِهم: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ، وقولِهم: بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [228] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/111). [يونس: 15] .
- وتَقدُّمُ المَجرورِ في لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى؛ لأنَّ مَحطَّ الإنكارِ هو أمْنيَّتُهم أنْ تَجرِيَ الأمورُ على حسَبِ أهْوائِهم، فلذلك كانوا يُعرِضون عن كلِّ ما يُخالِفُ أهواءَهُم، فتَقديمُ المَعمولِ هنا لإفادةِ القصْرِ، وهو قصْرُ قلْبٍ [229] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، أي: ليس ذلك مَقصورًا عليهم كما هو مُقْتضى حالِهم، فنُزِّلوا مَنزِلةَ مَن يَرَونَ الأمورَ تَجْري على ما يَتمنَّون، أي: بلْ أماني الإنسانِ بيَدِ اللهِ؛ يُعطي بعْضَها، ويَمنَعُ بعضَها، كما دلَّ عليه التَّفريعُ عقِبَه بقولِه: فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى [230] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/111، 112). .
6- قولُه تعالَى: فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى بعْدَ أنْ أُنكِرَ أنَّ للإنسانِ ما تَمنَّى، فُرِّعَ عليه أنَّ اللهَ مالِكُ الآخِرةِ والأُولى، أي: فهو يَتصرَّفُ في أحوالِ أهلِهما بحسَبِ إرادتِه، لا بحسَبِ تَمنِّي الإنسانِ، وهذا إبطالٌ لمُعتقَداتِ المُشرِكين، الَّتي منها يَقينُهم بشَفاعةِ أصْنامِهم [231] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/111). .
- وقولُه: فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى تعليلٌ لانتِفاءِ أنْ يكونَ للإنسانِ ما يَتمنَّاهُ حتْمًا؛ فإنَّ اختِصاصَ أُمورِ الآخرةِ والأُولى جَميعًا بهِ تعالى مُقْتضٍ لانتِفاءِ أنْ يكونَ للإنسانِ أمْرٌ مِن الأمورِ [232] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/159). .
- وتَقديمُ المَعمولِ هنا فَلِلَّهِ لإفادةِ القصْرِ، وهو قصْرُ قلْبٍ، أي: للهِ، لا للإنسانِ [233] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/112). .
- والمَقصودُ مِن ذِكرِ الآخرةِ والأُولى تَعميمُ الأشياءِ، وإنَّما قُدِّمَت الآخرةُ للاهتمامِ بها، والتَّنبيهِ إلى أنَّها الَّتي يجِبُ أنْ يكونَ اعتِناءُ المؤمنينَ بها؛ لأنَّ الخِطابَ في هذه الآيةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمسلمينَ، معَ ما في هذا التَّقديمِ مِن الرِّعايةِ للفاصلةِ [234] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/112). ، وأيضًا لأنَّ مُلْكَ اللهِ عزَّ وجلَّ في الآخرةِ يَظهَرُ أكثَرَ مِمَّا في الدُّنيا؛ فالدُّنيا فيها مُلوكٌ، وفيها رُؤساءُ، وفيها زُعَماءُ، يرى العامَّةُ أنَّ لهم تَدبيرًا، لكِنْ في الآخرةِ لا يُوجَدُ هذا يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [235] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 218). [غافر: 16] .
- وفي تَعَلُّقِ الفاءِ بالكلامِ وُجوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ تقديرَه: الإنسانُ إذا اختار معبودًا في دُنياه على ما تمنَّاه واشتهاه، فلِلَّهِ الآخِرةُ والأُولى، يُعاقِبُه على فِعلِه في الدُّنيا، وإنْ لم يُعاقِبْه في الدُّنيا فيُعاقِبُه في الآخِرةِ، وقَولُه تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ إلى قَولِه تعالى: لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ [النجم: 26] يكونُ مُؤَكِّدًا لهذا المعنى، أي: عِقابُهم يَقَعُ، ولا يَشفَعُ فيهم أحَدٌ، ولا يُغْنِيهم شَفاعةُ شافِعٍ.
الثَّاني: أنَّه تعالى لَمَّا بَيَّن أنَّ اتِّخاذَ اللَّاتِ والعُزَّى باتِّباعِ الظَّنِّ وهَوى الأنفُسِ، كأنَّه قَرَّره وقال: إنْ لم تَعلَموا هذا فلِلَّه الآخرةُ والأُولى، وهذه الأصنامُ ليس لها مِن الأمرِ شَيءٌ، فكيف يجوزُ الإشراكُ؟! وقَولُه تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ على هذا الوَجهِ جَوابُ كَلامٍ، كأنَّهم قالوا: لا نُشرِكُ باللهِ شَيئًا، وإنَّما هذه الأصنامُ شُفَعاؤُنا؛ فإنَّها صورةُ مَلائِكةٍ مُقَرَّبِينَ، فقال: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا [النجم: 26] .
الثَّالِثُ: هذه تسليةٌ، كأنَّه تعالى قال ذلك لنَبيِّه حيثُ بَيَّن رِسالتَه ووحدانيَّةَ اللهِ ولم يُؤمِنوا، فقال: لا تأْسَ؛ فلِلَّهِ الآخِرةُ والأُولى، أي: لا يُعجِزونَ اللهَ.
الرَّابعُ: هو ترتيبُ حَقٍّ على دليلِه. بيانُه هو أنَّه تعالى لَمَّا بَيَّن رِسالةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَولِه: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 4] إلى آخِرِه، وبَيَّن بَعضَ ما جاء به محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو التَّوحيدُ، قال: إذا عَلِمتُم صِدْقَ مُحمَّدٍ ببَيانِ رِسالةِ اللهِ تعالى، فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَكم عن الحَشرِ، فهو صادِقٌ.
الخامِسُ: هو أنَّ الكُفَّارَ كانوا يقولونَ عن المؤمنينَ: أهؤلاءِ أَهْدى مِنَّا؟ وقالوا: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف: 11] ، فقال تعالى: إنَّ اللهَ اختار لكم الدُّنيا، وأعطاكم الأموالَ، ولم يُعْطِ المؤمِنينَ بَعضَ ذلك الأمرِ، بل قُلتُم: لو شاء اللهُ لأغناهم، وتحَقَّقْتُم هذه القَضيَّةَ، فلِلَّهِ الآخِرةُ والأُولى، قُولُوا في الآخِرةِ ما قُلتُم في الدُّنيا؛ يَهدي اللهُ مَن يَشاءُ كما يُغْني اللهُ مَن يَشاءُ [236] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/253). .