موسوعة التفسير

سُورةُ النَّجْمِ
الآيات (1-18)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ

غريب الكلمات:

هَوَى: أي: سَقَط، والهُوِيُّ: سُقوطٌ مِن عُلْوٍ إلى سُفْلٍ، وأصلُه يدُلُّ على خُلُوٍّ وسُقوطٍ [11] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 430)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 468)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/15)، ((المفردات)) للراغب (ص: 849)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 394). .
غَوَى: أي: اعتَقَد باطِلًا، وتجاوَز الحَقَّ، وأصلُ (غوي): يدُلُّ على خِلافِ الرُّشدِ [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/555)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/399)، ((المفردات)) للراغب (ص: 620)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 673). .
الْهَوَى: أي: ما تَميلُ إليه النَّفْسُ، والهَوى: مَيلُ النَّفْسِ إلى الشَّهوةِ، قيل: سُمِّي بذلك؛ لأنَّه يَهوِي بصاحِبِه في الدُّنيا إلى كلِّ داهيةٍ، وفي الآخرةِ إلى الهاوِيةِ، وأصلُه يدُلُّ على خُلُوٍّ وسُقوطٍ [13] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 134)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/15)، ((المفردات)) للراغب (ص: 849)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 211). .
وَحْيٌ: الوَحْيُ هو كُلُّ ما ألْقَيْتَه إلى غَيْرِكَ حتَّى عَلِمه كيفَ كانَ: إمَّا بإرسالِ رسولٍ، أو بإلهامٍ، أو بكتابةٍ، أو بإشارةٍ، يُقالُ: وحَى إليه بالكلامِ وَحْيًا، وأوْحَى يُوحِي إيحاءً، وأصلُه: إعلامٌ في خفاءٍ [14] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/93)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (6/1978)، ((البسيط)) للواحدي (5/250)، ((تفسير الشوكاني)) (1/620). .
مِرَّةٍ: أي: قُوَّةٍ وشِدَّةٍ، وأصلُ المِرَّةِ: مِن أمرَرْتُ الحَبلَ، أي: شَدَدتُ فَتْلَه [15] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 427)، ((البسيط)) للواحدي (21/12)، ((المفردات)) للراغب (ص: 763)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 375)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 394). .
فَاسْتَوَى: أي: اعتَدَل واستقامَ على صُورتِه الحَقيقيَّةِ، وهو جِبريلُ عليه السَّلامُ، أو ارتَفَع وعلا، وأصلُ (سوي): يدُلُّ على استِقامةٍ واعتِدالٍ بيْنَ شَيئَينِ [16] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 427)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/112)، ((المفردات)) للراغب (ص: 439)، ((تفسير النسفي)) (3/390). .
بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى: أي: أُفُقِ السَّماءِ الَّذي هو أعلَى مِنَ الأرضِ. وقيل: أُفُقِ مَشرِقِ الشَّمسِ، والأُفُقُ: ناحِيةُ السَّماءِ، وأصلُ (أفق): يدُلُّ على تباعُدِ ما بيْنَ أطرافِ الشَّيءِ [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/13)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/114)، ((البسيط)) للواحدي (21/15)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 375)، ((تفسير القرطبي)) (17/82)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 155)، ((تفسير السعدي)) (ص: 818). .
فَتَدَلَّى: أي: دَنا وقَرُبَ، والتَّدَلِّي: هو النُّزولُ إلى الشَّيءِ حتَّى يَقرُبَ منه، وأصلُ (دلي): يدُلُّ على مُقارَبةِ الشَّيءِ ومُداناتِه [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/13)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/293)، ((المفردات)) للراغب (ص: 317)، ((تفسير البغوي)) (7/402)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 375)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 319). .
قَابَ قَوْسَيْنِ: أي: قَدْرَ قَوسَينِ، والقَوسُ: ما يُرمَى به. وقيل: قَدْرَ ذِراعَينِ، والقَوسُ: الذِّراعُ يُقاسُ بها كُلُّ شَيءٍ، وهذا إشارةٌ إلى تأكيدِ القُربِ، وأصلُه: أنَّ الحليفَينِ مِنَ العَرَبِ كانا إذا أرادا عَقْدَ الصَّفاءِ والعَهدِ خَرَجا بقَوسَيهما فألصَقَا بَيْنَهما؛ يُريدانِ بذلك أنَّهما مُتظاهِرانِ يُحامي كُلُّ واحِدٍ مِنهما عن صاحِبِه [19] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 428)، ((تفسير ابن جرير)) (22/16)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 379)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/40، 46)، ((المفردات)) للراغب (ص: 687)، ((تفسير البغوي)) (7/402)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 394). .
الْفُؤَادُ: أي: القلبُ، سُمِّيَ بذلك لحرارَتِه، أو لتَوقُّدِه، وأصلُ (فأد): يدُلُّ على حُمَّى وشِدَّةِ حرارةٍ [20] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/469)، ((المفردات)) للراغب (ص: 646). .
أَفَتُمَارُونَهُ: أي: أفتُجادِلونَه، والامتِراءُ والمُماراةُ: المحاجَّةُ فيما فيه مِريَةٌ، أي: ترَدُّدٌ، وأصلُ (مري): يدُلُّ على صَلابةٍ في شَيءٍ؛ لأنَّ المِراءَ كَلامٌ فيه بَعضُ الشِّدَّةِ [21] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 428)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/314)، ((المفردات)) للراغب (ص: 766)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 375)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 394)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 320). .
نَزْلَةً: أي: مَرَّةً، وأصلُ (نزل): يدُلُّ على هُبوطِ شَيءٍ ووُقوعِه [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/28)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/417)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 376)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 916، 917). .
سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى: أي: شَجَرةِ نَبْقٍ عَظيمةٍ فَوقَ السَّماءِ السَّابِعةِ، والمُنَتَهى: أي: الانتِهاءِ، وقِيلَ لها سِدرةُ المُنتهَى؛ لانتِهاءِ عِلمِ كُلِّ عالِمٍ مِنَ الخَلقِ إليها، أو لانتِهاءِ ما يَصعَدُ مِن تحتِها، ويَنزِلُ مِن فَوقِها إليها، وقيل غيرُ ذلك [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/33، 35)، ((البسيط)) للواحدي (21/30)، ((النهاية)) لابن الأثير (2/353)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/100). .
جَنَّةُ الْمَأْوَى: أي: الجنَّةُ الَّتي يَأوي ويَرجِعُ إليها المؤمِنونَ يومَ القيامةِ. وقيل: هي عن يَمينِ العَرشِ تأوي إليها أرواحُ الشُّهَداءِ، والمَأْوَى: مَكانُ كُلِّ شَيءٍ ومَرجِعُه الَّذي يعودُ إليه، وأصلُ (أوي): يدُلُّ على التَّجمُّعِ [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/40)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/151)، ((البسيط)) للواحدي (21/32)، ((المفردات)) للراغب (ص: 103)، ((تفسير القرطبي)) (17/96)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/101). .
زَاغَ: أي: عَدَلَ ومالَ، والزَّيغُ: المَيلُ عنِ القَصْدِ، وأصلُ (زيغ): يدُلُّ على مَيلٍ [25] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 428)، ((تفسير ابن جرير)) (22/43)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/40)، ((المفردات)) للراغب (ص: 387)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 376)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/102). .
طَغَى: أي: زادَ وتَجاوَزَ، وأصلُ الطُّغيانِ: يدُلُّ على مُجاوَزةِ الحَدِّ [26] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 428)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/412)، ((المفردات)) للراغب (ص: 520)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 376)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 287). .

المعنى الإجمالي:

افتتَح الله تعالى هذه السُّورةَ بهذا القَسَمِ العظيمِ؛ بالقسَمِ بالنَّجْمِ إذا سَقَطَ على أنَّه ما حادَ رسولُ اللهِ محمَّدٌ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- عن الحَقِّ -يا مَعْشَرَ قُرَيشٍ-، وما كان غاوِيًا مُتَّبِعًا لِهَواه، وما يَصدُرُ كَلامُه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- عن هَوًى في نَفْسِه؛ فما نُطْقُه في الدِّينِ إلَّا وَحْيٌ يُوحِيه اللهُ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى جانبًا مِن صفاتِ جبريلَ عليه السَّلامُ، فيقولُ: وقد علَّم مُحمَّدًا -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- هذا القُرآنَ جِبريلُ -عليه السَّلامُ- الشَّديدُ القُوَى، ذو الجِسمِ القَوِيِّ السَّالمِ مِنَ النَّقصِ، الجَميلُ ظاهِرًا وباطِنًا.
فارتَفَع جِبريلُ وعلا في السَّماءِ على صُورتِه الحَقيقيَّةِ، وهو في ناحيةِ السَّماءِ العُليا، ثمَّ اقتَرَب جِبريلُ مِن مُحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وتدَلَّى إليه؛ لِيُوحِيَ إليه ما شاء اللهُ، فكان مِقدارُ قُربِ جِبريلَ مِن مُحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قَدْرَ قَوسَينِ، أو هو أقرَبُ، فأوحى جِبريلُ إلى عبدِ اللهِ مُحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ما أوحاه إليه مِنَ اللهِ تعالى، وما كَذَب قَلبُ مُحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ما رآه ببَصَرِه.
ثمَّ يوبِّخُ الله تعالى المشركينَ على تكذيبِهم للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فيقولُ: أفتُجادِلونَه -يا كُفَّارَ قُرَيشٍ- على ما أخبَرَكم برُؤيتِه ليلةَ الإسراءِ؟! ولقد رأَى محمَّدٌ جِبريلَ مرَّةً أُخرى على صُورتِه الحَقيقيَّةِ الَّتي خلَقَه اللهُ عليها عندَ شَجَرةِ نَبْقٍ عَظيمةٍ في السَّماءِ، تُسمَّى سِدْرةَ المنتهَى، عِندَ هذه الشَّجَرةِ جنَّةُ المأوى، وقد رأى محمَّدٌ جِبريلَ حينَ غَشِيَ سِدْرةَ المُنتَهى ما غَشِيَها مِن أمْرِ اللهِ تعالى، فما مالَ بَصَرُ مُحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يَمينًا ولا شِمالًا، ولا تجاوَزَ الحدَّ الَّذي رآه، ولقد رأى محمَّدٌ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لَيلةَ الإسراءِ والمعراجِ الآياتِ الكُبرى مِن آياتِ رَبِّه!

تفسير الآيات:

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1).
أي: أُقسِمُ بالنَّجْمِ إذا سَقَط [27] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/195)، ((تفسير الشوكاني)) (5/125، 126)، ((تفسير السعدي)) (ص: 818)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/89-91). قال ابن الجوزي: (قولُه تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى هذا قسَمٌ. وفي المرادِ بالنَّجمِ خمسةُ أقوالٍ: أحدُها: أنَّه الثُّرَيَّا، رواه العَوْفيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ، وابنُ أبي نَجيحٍ عن مُجاهِدٍ. قال ابنُ قُتَيْبةَ: والعربُ تُسمِّي الثُّريَّا -وهي ستَّةُ أنجُمٍ- نَجمًا. وقال غيرُه: هي سبعةٌ؛ فستَّةٌ ظاهرةٌ، وواحدٌ خفيٌّ يمتحِنُ به النَّاسُ أبصارَهم. والثَّاني: الرُّجومُ مِن النُّجومِ، يعني ما يُرمى به الشَّياطينُ، رواه عِكْرِمةُ عن ابنِ عبَّاسٍ. والثَّالثُ: أنَّه القرآنُ، نزَل نُجومًا متفرِّقةً، قاله عطاءٌ عن ابنِ عبَّاسٍ، والأعمشُ عن مجاهِدٍ. وقال مجاهِدٌ: كان يَنزِلُ نُجومًا؛ ثلاثَ آياتٍ، وأربعَ آياتٍ، ونحوَ ذلك. والرَّابعُ: نجومُ السَّماءِ كُلُّها، وهو مَرويٌّ عن مجاهدٍ أيضًا. والخامسُ: أنَّها الزُّهَرةُ، قاله السُّدِّيُّ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/183). ويُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 427). القولُ الأوَّلُ: أنَّ المرادَ بالنَّجمِ في الآيةِ: الثُّرَيَّا، فالمعنى: أُقسِمُ بالثُّرَيَّا إذا سقَطَت. وممَّن اختاره: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/5، 7). وممَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، ومجاهِدٌ في روايةٍ عنه، وسُفْيانُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/5)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/640). وتقدَّم أنَّ العربَ تُسمِّي الثُّريَّا نَجمًا، وتُطلِقُ اسمَه عليها خاصَّةً وإن كانت في العددِ نُجومًا. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/134)، ((الوسيط)) للواحدي (4/192). القولُ الثَّاني: أنَّ المرادَ: القَسَمُ بالنُّجومِ الَّتي تُرمَى بها الشَّياطينُ الَّذين يَستَرِقونَ السَّمعَ. وقد استظهَرَ ابنُ القَيِّمِ هذا القَولَ ورَجَّحه، وذكَرَ ابنُ كثيرٍ أنَّ له اتِّجاهًا. يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 244، 245)، ((تفسير ابن كثير)) (7/442). وممَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، والحسَنُ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/135)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 244). قال ابن القيِّم: (ويكونُ سُبحانَه قد أقسَمَ بهذه الآيةِ الظَّاهِرةِ المُشاهَدةِ الَّتي نصَبها الله سُبحانَه آيةً وحِفظًا للوَحيِ مِنِ استِراقِ الشَّياطينِ له، على أنَّ ما أتى به رسولُه حقٌّ وصدقٌ، لا سبيلَ للشَّيطانِ ولا طريقَ له إليه، بل قد حُرِسَ بالنَّجمِ إذا هوى؛ رَصدًا بيْنَ يدَيِ الوحيِ، وحرسًا له. وعلى هذا فالارتِباطُ بيْنَ المُقْسَمِ به والمقسَمِ عليه في غايةِ الظُّهورِ، وفي المقسَمِ به دليلٌ على المقسَمِ عليه). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 244). القولُ الثَّالثُ: أنَّ المرادَ بالنَّجمِ إذا هوى: القُرآنُ إذا نَزَل على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ؛ لأنَّه نَزَل مُنَجَّمًا، أي: مُفَرَّقًا. ومِمَّن ذهب إلى هذا القَولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والفرَّاءُ، والواحديُّ، والشنقيطيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/159)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/94)، ((الوسيط)) للواحدي (4/192)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/463، 464). قال الواحدي: (أُنزِلَ نُجومًا مُتفَرِّقةً على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عِشرينَ سَنةً، والمرادُ بالنَّجمِ: القُرآنُ، سُمِّيَ نَجمًا؛ لِتَفريقِه في النُّزولِ، والعَرَبُ تُسَمِّي التَّفريقَ تَنجيمًا، والمُفَرَّقَ مُنَجَّمًا). ((الوسيط)) (4/192). وممَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، والضَّحَّاكُ، ومجاهدٌ في روايةٍ عنه، والكلبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/6)، ((تفسير الثعلبي)) (9/135)، ((تفسير البغوي)) (4/300). القولُ الرَّابعُ: أنَّ المرادَ: جَميعُ النُّجومِ في السَّماءِ. وممَّن اختاره: أبو عُبَيْدةَ، واستظهَرَ هذا القَولَ: السَّمعانيُّ، ذاهِبًا إلى أنَّ النَّجمَ هنا بمعنى الجَمعِ، فالمعنى: أُقسِمُ بنُجومِ السَّماءِ إذا غابت وغارت. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/235)، ((تفسير السمعاني)) (5/283). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن جرير)) (22/7). قال السَّمعانيُّ: (عُبِّر عنها باسمِ الجِنْسِ، وهذا أظهَرُ الأقاويلِ؛ لأنَّه يُطابقُ اللَّفظَ مِن كلِّ وجهٍ. ويجوزُ أن يُذكَرَ النَّجْمُ بمعنى النُّجومِ). ((تفسير السمعاني)) (5/283). قال الألوسي: (وأظهَرُ الأقوالِ القولُ بأنَّ المرادَ بالنَّجمِ جِنسُ النَّجمِ المعروفِ؛ فإنَّ أصْلَه اسمُ جِنسٍ لكلِّ كوكبٍ، وعلى القولِ بالتَّعيينِ فالأظهَرُ القَولُ بأنَّه الثُّرَيَّا). ((تفسير الألوسي)) (14/45). وقال ابنُ عطية: (قال الحَسَنُ ومَعْمَرُ بنُ المُثنَّى [أبو عُبَيْدةَ] وغَيرُهما: النَّجْمُ هنا: اسمُ جِنسٍ، أرادوا النُّجومَ إذا هَوَت، واختَلَف قائِلو هذه المقالةِ في معنى هَوَى؛ فقال جمهورُ المُفَسِّرينَ: هوى إلى الغُروبِ، وهذا هو السَّابِقُ إلى الفَهمِ مِن كَلامِ العَرَبِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/195). ويُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/235). وقال الشَّوكاني: (ومعنَى هُوِيِّهِ: سُقوطُه مِن علْوٍ، يُقالُ: هَوَى النَّجمُ يَهْوِي هُوِيًّا: إذا سَقَط مِن علْوٍ إلى سُفْلٍ، وقيل: غروبُه، وقيل: طلوعُه، والأوَّلُ أولَى، وبه قال الأصمعيُّ وغيرُه). ((تفسير الشوكاني)) (5/126). وقال السعدي: (يُقسِمُ تعالى بالنَّجمِ عند هُوِيِّه، أي: سُقوطِه في الأُفُقِ في آخِرِ اللَّيلِ عندَ إدبارِ اللَّيلِ وإقبالِ النَّهارِ؛ لأنَّ في ذلك مِن آياتِ اللهِ العَظيمةِ ما أوجَبَ أن أَقسَم به). ((تفسير السعدي)) (ص: 818). وقال ابن الجوزي: (على قولِ مَن قال: النَّجمُ: الثُّرَيَّا، يكونُ هَوَى بمعنى: غابَ. ومَن قال: هو الرُّجومُ، يكونُ هُوِيُّها في رمْيِ الشَّياطينِ. ومَن قال: القرآن، يكونُ معنى هَوَى: نزَل. ومَن قال: نجومُ السَّماءِ كُلُّها، ففيه قَولانِ؛ أحدُهما: أنَّ هُوِيَّها أن تغيبَ. والثَّاني: أن تَنتثِرَ يومَ القيامةِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/183). .
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2).
أي: ما حادَ صاحِبُكم محمَّدٌ -يا قُرَيشُ- عن الحَقِّ، وما زالَ عن اعتِقادِه والإيمانِ به، وما صار غاوِيًا مُتَّبِعًا لِهَواه، بل هو مُهْتَدٍ في عِلْمِه، راشِدٌ في عَمَلِه [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/7، 8)، ((تفسير الزمخشري)) (4/418)، ((تفسير القرطبي)) (17/84)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيميَّة (2/13)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 245)، ((تفسير ابن كثير)) (7/442)، ((تفسير السعدي)) (ص: 818)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/464). قال ابنُ جرير: (قَولُه: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ جَوابُ قَسَمِ وَالنَّجْمِ). ((تفسير ابن جرير)) (22/8). .
كما قال الله تعالى: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يس: 3، 4].
وقال تبارك وتعالى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف: 43].
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان قد يكونُ مع الهُدى مُصادَفةً، قال: وَمَا يَنْطِقُ أي: يُجاوِزُ نُطقُه فَمَه في وَقتٍ مِن الأوقاتِ لا في الحالِ ولا في الاستِقبالِ، نُطقًا ناشِئًا عَنِ الْهَوَى [29] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/42). .
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3).
أي: وما يَصدُرُ كَلامُ مُحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- عن هَوًى في نَفْسِه [30] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/8)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 247)، ((تفسير ابن كثير)) (7/443)، ((تفسير السعدي)) (ص: 818)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/93). .
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4).
أي: ما نُطقُ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الدِّينِ إلَّا وَحْيٌ يُوحِيه اللهُ إليه، فيَتَّبِعُه في نَفْسِه، ويُبَلِّغُه لِغَيرِه دونَ زيادةٍ أو نَقصٍ [31] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/8)، ((تفسير ابن عطية)) (5/196)، ((تفسير ابن كثير)) (7/443)، ((تفسير السعدي)) (ص: 818)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/465)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 206). قال الشنقيطي: (قَولُه تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى معناه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُبَلِّغُ عن اللهِ إلَّا شَيئًا أوحى اللهُ إليه أن يُبَلِّغَه، فمَن يَقولُ: إنَّه شِعرٌ أو سِحرٌ أو كِهانةٌ أو أساطيرُ الأوَّلينَ- هو أكذَبُ خَلقِ اللهِ وأكفَرُهم). ((أضواء البيان)) (7/465). وحكى ابنُ عطيَّةَ الإجماعَ على أنَّ المرادَ به القرآنُ. ومِمَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والخازنُ، وابنُ جُزَي، والقاسميُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/159)، ((تفسير ابن جرير)) (22/8)، ((تفسير ابن عطية)) (5/196)، ((تفسير الخازن)) (4/203)، ((تفسير ابن جزي)) (2/316)، ((تفسير القاسمي)) (9/58)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 206). وقيل: المرادُ: نُطقُه في الدِّينِ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ. وممَّن ذهب إلى هذا: الثعلبيُّ، والبغويُّ، وهو ظاهِرُ اختيارِ ابنِ كثير، واختاره ابنُ القيِّم، والعُلَيمي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/136)، ((تفسير البغوي)) (4/301)، ((تفسير ابن كثير)) (7/443)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 247-249)، ((تفسير العليمي)) (6/434)، ((تفسير الشوكاني)) (5/126). قال ابنُ القيِّم: (قال: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى فأعاد الضَّميرَ على المصدَرِ المفهومِ مِن الفِعلِ، أي: ما نُطقُه إلَّا وَحيٌ يُوحى، وهذا أحسَنُ مِن قَولِ مَن جَعَل الضَّميرَ عائدًا إلى القُرآنِ؛ فإنَّه يَعُمُّ نُطقَه بالقُرآنِ والسُّنَّةِ، وأنَّ كِلَيهما وَحيٌ يُوحى). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 247-249). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 818). وقال البِقاعي: (إِنْ أي: ما هُوَ أي: الَّذي يَتكلَّمُ به مِن القرآنِ وبيانِه، وكل أقوالِه وأفعالِه، وأحوالِه إِلَّا وَحْيٌ أي: مِن الله تعالى). ((نظم الدرر)) (19/43). وذهب ابنُ عاشور إلى أنَّ نَفيَ النُّطقِ عن هَوًى يَقتضي نَفيَ جِنسِ ما يَنطِقُ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن الاتِّصافِ بالصُّدورِ عن هوًى، سواءٌ كان القُرآنَ أو غيرَه مِن الإرشادِ النَّبويِّ بالتَّعليمِ والخطابةِ والمَوعِظةِ والحِكمةِ، ولكِنَّ القُرآنَ هو المقصودُ؛ لأنَّه سَبَبُ هذا الرَّدِّ عليهم. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/93). وقال ابن عاشور: (النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَنطِقُ بغيرِ القُرآنِ عن وَحيٍ... وقد يَنطِقُ عن اجتِهادٍ، كأمْرِه بكَسرِ القُدورِ الَّتي طُبِخَت فيها الحُمُرُ الأهليَّةُ، فقيل له: أوْ نُهرِيقُها ونَغسِلُها؟ فقال: «أوْ ذاك» [البخاري (4196)، ومسلم (1802)]). ((تفسير ابن عاشور)) (27/94). ويُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/464، 465). .
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الوَحيُ ظاهِرًا فيما بواسِطةِ المَلَكِ؛ تشَوَّف السَّامِعُ إلى بَيانِ ذلك؛ فقال مُبَيِّنًا له بأوصافِه؛ لأنَّ ذلك أضخَمُ في حَقِّه، وأعلَى لِمِقدارِه [32] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/44). :
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5).
أي: علَّم مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذا القُرآنَ جِبريلُ -عليه السَّلامُ- الشَّديدُ القُوى [33] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/8، 9)، ((تفسير القرطبي)) (17/85)، ((تفسير ابن كثير)) (7/444)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/465). وقد حكى الإجماعَ على أنَّ المرادَ هنا: جِبريلُ عليه السَّلامُ: الماوَرْديُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/391)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/95). وقال القرطبي: (قَولُه تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى يعني: جِبريلَ عليه السَّلامُ، في قَولِ سائِرِ المفَسِّرينَ سِوى الحَسَنِ؛ فإنَّه قال: هو اللهُ عزَّ وجلَّ). ((تفسير القرطبي)) (17/85). قال السعدي: (شَدِيدُ الْقُوَى أي: شَديدُ القُوَّةِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ، قَوِيٌّ على تنفيذِ ما أمَرَه اللهُ بتَنفيذِه، قَويٌّ على إيصالِ الوَحيِ إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومَنْعِه مِنِ اختِلاسِ الشَّياطينِ له، أو إدخالِهم فيه ما ليس منه، وهذا مِن حِفظِ اللهِ تعالى لِوَحْيِه؛ أنْ أرسَلَه مع هذا الرَّسولِ القَوِيِّ الأمينِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 818). .
كما قال تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة: 97].
وقال سُبحانَه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء: 192 - 194] .
وقال عزَّ شَأنُه: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 19 - 21] .
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6).
ذُو مِرَّةٍ.
أي: إنَّ جِبريلَ ذو جِسمٍ قَويٍّ صَحيحٍ، سالمٍ مِنَ النَّقصِ، حَسَنُ الخَلْقِ، جَميلٌ ظاهِرًا وباطِنًا [34] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/10، 11)، ((تفسير ابن عطية)) (5/196)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (4/1377)، ((تفسير ابن كثير)) (7/444)، ((تفسير السعدي)) (ص: 818)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/465). قال الماوَرْدي: (ذُو مِرَّةٍ فيه خَمسةُ أوجُهٍ: أحدُها: ذو مَنظَرٍ حَسَنٍ. الثَّاني: ذو غَناءٍ. الثَّالِثُ: ذو قُوَّةٍ ... الرَّابعُ: ذو صِحَّةٍ في الجِسمِ وسَلامةٍ مِنَ الآفاتِ. الخامِسُ: ذو عَقلٍ). ((تفسير الماوردي)) (5/391، 392). ومِمَّن قال بأنَّ المعنى: ذو قُوَّةٍ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجَّاجُ، والسمرقندي، والثعلبي، والواحدي، والسمعاني، وابن عطية. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/159)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/70)، ((تفسير السمرقندي)) (3/359)، ((تفسير الثعلبي)) (9/136)، ((الوسيط)) للواحدي (4/193)، ((تفسير السمعاني)) (5/285)، ((تفسير ابن عطية)) (5/196). وممَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: مجاهدٌ، وقَتادةُ في روايةٍ عنه، والحسَنُ، وابنُ زَيدٍ، وسُفيانُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/10)، ((تفسير الماوردي)) (5/392)، ((تفسير ابن كثير)) (7/444). ومِمَّن قال بأنَّ المعنى: ذو صِحَّةٍ في الجِسمِ، وسَلامةٍ مِنَ الآفاتِ والعاهاتِ: ابنُ جرير. وأرجَعَ هذا إلى معنى القُوَّةِ؛ فإنَّه قال: (الِجسمُ إذا كان كذلك مِنَ الإنسانِ كان قَوِيًّا). ((تفسير ابن جرير)) (22/11). قال ابنُ القيِّمِ: (الأظهَرُ: أنَّ المِرَّةَ هي الصِّحَّةُ والسَّلامةُ مِنَ الآفاتِ والعاهاتِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ، وذلك يَستلزِمُ كَمالَ الخْلِقةِ وحُسْنَها وجَمالَها؛ فإنَّ العاهةَ والآفةَ إنَّما تكونُ مِن ضَعفِ الخِلْقةِ والتَّركيبِ، فهى قُوَّةٌ وصِحَّةٌ تتضَمَّنُ جَمالًا وحُسنًا. واللهُ أعلَمُ). ((إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان)) (2/129). بيْنَما اختار في موضِعٍ آخَرَ أنَّ المرادَ بالمِرَّةِ: المنظَرُ البَهِيُّ الجَميلُ. يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) (4/1377). وممَّن قال مِن السَّلَفِ: إنَّ المرادَ: ذو مَنظَرٍ حَسَنٍ: ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/10)، ((تفسير الماوردي)) (5/392)، ((تفسير ابن كثير)) (7/444). وذهب ابنُ كثيرٍ إلى أنَّه لا تنافيَ بيْنَ قولِ مَن قال: إنَّ المعنى: ذو قوَّةٍ، وقولِ مَن قال: المعنى: أنَّه ذو منظرٍ حسَنٍ؛ فجِبريلُ عليه السَّلامُ ذو مَنظَرٍ حَسَنٍ، وذو قُوَّةٍ شديدةٍ. وممَّن اختار هذا القولَ: السعديُّ -وزاد جمالَ الباطنِ- وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/444)، ((تفسير السعدي)) (ص: 818)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 207). وقيل: ذو حَصافةٍ في عَقْلِه ورَأيِه. وممَّن اختاره: البيضاويُّ، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/157)، ((تفسير أبي السعود)) (8/155). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (27/95). .
فَاسْتَوَى.
أي: فارتَفَع جِبريلُ وعلا في السَّماءِ على صُورتِه الحَقيقيَّةِ [35] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (5/70)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/305)، ((الوسيط)) للواحدي (4/193)، ((تفسير الزمخشري)) (4/419)، ((تفسير القرطبي)) (17/86-88)، ((تفسير ابن كثير)) (7/444). قال السمعاني: (قَولُه: فَاسْتَوَى أَي: فاستوى جِبريلُ في أُفُقِ السَّماءِ على صُورتِه الَّتي خُلِقَ فيها. وكذا قَولُ ابنِ مَسعودٍ، وابنِ عَبَّاسٍ، ومُجاهدٍ، وقَتادةَ، وعَلْقَمةَ، ومُرَّةَ بنِ شَراحِيلَ، وأكثرِ أهلِ التَّفسيرِ. وعن الحسَنِ البَصرِيِّ: أنَّه اللهُ تعالى). ((تفسير السمعاني)) (5/285). وقد ذهب الفَرَّاءُ، وابنُ قُتَيْبةَ، وابنُ جرير، ومَكِّيُّ بنُ أبي طالبٍ، والبغويُّ، والرَّسْعَنيُّ، والخازنُ: إلى أنَّ المعنى: فاستوى جِبريلُ ومحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالأُفُقِ الأعلى. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/95)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 427)، ((تفسير ابن جرير)) (22/11، 12)، ((الهداية)) لمكي (11/7143)، ((تفسير البغوي)) (4/301)، ((تفسير الرسعني)) (7/464)، ((تفسير الخازن)) (4/203). قال ابنُ جرير: (وذلك لَمَّا أُسرِيَ برَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استوى هو وجِبريلُ عليهما السَّلامُ بمَطلِعِ الشَّمسِ الأعلى، وعَطَفَ الأعلى، وعَطَف بقَولِه: وَهُوَ على ما في قَولِه: فَاسْتَوَى مِن ذِكرِ -أي: ضَميرِ- محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأكثَرُ كَلامِ العَرَبِ إذا أرادوا العَطفَ في مِثلِ هذا الموضِعِ أن يُظهِروا كِنايةَ المعطوفِ عليه، فيقولوا: استوى هو وفُلانٌ، وقلَّما يقولونَ: استوى وفُلانٌ). ((تفسير ابن جرير)) (22/11، 12). وقد ضعَّف الزَّجَّاجُ، والواحِديُّ وغيرُهما أن يكونَ المعنى فاستوى أي: جِبريلُ ومحمَّدٌ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/70)، ((البسيط)) للواحدي (21/14). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (7/444). وقَولُه: فَاسْتَوَى أي: علا؛ لأنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ، فيُلْقِي الوَحْيَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّم، ثمَّ يَصعَدُ إلى السَّماءِ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 207، 208). وقيل: فاستقام على صورةِ نفْسِه الحقيقيَّةِ، دُونَ الصُّورةِ الَّتي كان يتمثَّلُ بها كلَّما هبَطَ بالوحْيِ. قاله الزمخشريُّ، وتَبِعه البَيضاويُّ، والنَّسَفي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/419)، ((تفسير البيضاوي)) (5/157)، ((تفسير النسفي)) (3/390). .
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7).
أي: وجِبريلُ في ناحيةِ السَّماءِ العُليا [36] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (5/70)، ((الوسيط)) للواحدي (4/193)، ((تفسير القرطبي)) (17/88)، ((تفسير ابن كثير)) (7/444)، ((تفسير الشوكاني)) (5/127)، ((تفسير الألوسي)) (14/48). ذهب أكثَرُ المُفَسِّرينَ؛ منهم: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، وابنُ أبي زَمَنين، والزمخشريُّ، إلى تخصيصِ الأُفُقِ الأعلى المذكورِ في الآيةِ بجِهةِ مَشرِقِ الشَّمسِ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/159)، ((تفسير ابن جرير)) (22/11)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/70)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/306)، ((تفسير الماوردي)) (5/392)، ((تفسير الزمخشري)) (4/419)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/184). قال الواحدي: (قال مقاتِلٌ وَهُوَ يعني: جِبريلَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى يعني: مِن قِبَلِ المَطلِعِ. وقال الكَلبيُّ: يعني مَطلِعَ الشَّمسِ، وهذا قَولُ الجَميعِ في الأُفُقِ الأعلى. يعني: أُفُقَ المَشرِقِ). ((البسيط)) (21/15). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، والحسَنُ، ومجاهدٌ، والكلبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/13)، ((البسيط)) للواحدي (21/15)، ((تفسير ابن كثير)) (7/444)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/644).  وقال الواحدي: (والمرادُ بالأعلى: جانِبُ المَشرِقِ، وهو فَوقَ جانِبِ المَغرِبِ، في صَعيدِ الأرضِ لا في الهواءِ). ((الوسيط)) (4/193). وذهب ابنُ عَطيَّةَ إلى أنَّه لا دليلَ على تخصيصِه بجهةِ المَشرِقِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/197). قال السعدي: (أي: أُفُقِ السَّماءِ الَّذي هو أعلى مِنَ الأرضِ، فهو مِنَ الأرواحِ العُلويَّةِ الَّتي لا تنالُها الشَّياطينُ، ولا يتمَكَّنونَ مِنَ الوُصولِ إليها). ((تفسير السعدي)) (ص: 818). .
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8).
أي: ثمَّ اقتَرَب جِبريلُ مِن مُحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وتدَلَّى إليه، فاقتَرَب منه أكثَرَ حِينَ هَبَط إليه مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ؛ لِيُوحِيَ إليه ما شاء اللهُ [37] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/13)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (4/194)، ((تفسير القرطبي)) (17/88)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/300-302)، ((تفسير ابن كثير)) (7/445)، ((تفسير السعدي)) (ص: 819). وممَّن ذهب إلى هذا المعنى المذكورِ في الجُملةِ: ابنُ جرير، والواحديُّ، والقرطبي، وابن القيم، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. قال ابنُ عطية: (اختلَف النَّاسُ إلى مَن استَند قولُه: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى؛ فقال الجُمهورُ: استَنَد إلى جِبريلَ عليه السَّلامُ، أي: دنا إلى محمَّدٍ في الأرضِ عندَ حِرَاءٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/197). وقال ابنُ كثير: (هذه الرُّؤيةُ لجِبريلَ لم تكُنْ ليلةَ الإسراءِ، بل قَبْلَها، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الأرضِ، فهَبَط عليه جِبريلُ عليه السَّلامُ، وتدلَّى إليه، فاقتَرَب منه وهو على الصُّورةِ الَّتي خلَقَه اللهُ عليها، له سِتُّمئةِ جَناحٍ، ثمَّ رآه بعدَ ذلك نَزلةً أُخرى عندَ سِدرةِ المُنتَهى، يعني: لَيلةَ الإسراءِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/445). وقال البِقاعي: (هذه النَّزْلةُ -واللهُ أعلَمُ- كانت على هذا التَّقديرِ في أوَّلِ الوَحيِ لَمَّا كان بحِراءٍ، وفَرِقَ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فرَجَع تَرجُفُ بَوادِرُه، وقال: زَمِّلوني زَمِّلوني). ((نظم الدرر)) (19/46). وقال أيضًا: (فَتَدَلَّى... أي: أُنزِلَ إليه نُزولًا هو فيه كالمتدَلِّي إليه بحَبلٍ، فوَصَل إليه ولم ينفَصِلْ عن محَلِّه مِنَ الأُفُقِ الأعلى؛ لِما له مِن القُوَّةِ والاستِحكامِ؛ قال البَيضاوي: فإنَّ التَّدَلِّيَ هو استِرسالٌ مع تعَلُّقٍ، كتَدَلِّي الثَّمَرةِ). ((نظم الدرر)) (19/45). ويُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/157). وممَّن قال مِن السَّلَفِ: إنَّ المرادَ هو جِبريلُ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، والحَسَنُ، وقَتادةُ، والرَّبيعُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/14(، ((تفسير الثعلبي)) (9/137). وقيل: الضَّميرُ يعودُ إلى اللهِ تعالى، وأنَّ المعنى: أنَّ اللهَ تعالى اقتَرَب مِنَ النَّبيِّ لَيلةَ الإسراءِ والمعراجِ إلى السَّماءِ السَّابِعةِ. وممَّن قال بذلك: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/160). وممَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/14). أمَّا ما جاء في ((صحيحِ البُخاريِّ)) (7517) مِن تصريحٍ بنِسبةِ ذلك إلى اللهِ؛ فقد قال ابنُ رَجَبٍ: (وفي روايةِ شَريكِ بنِ أبي نَمِرٍ، عن أنَسٍ: «ثمَّ علا به فَوقَ ذلك بما لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، حتَّى جاء سِدْرةَ المنتهَى، ودنا الجبَّارُ رَبُّ العِزَّةِ فتَدَلَّى، فكان قابَ قَوسَينِ أو أَدنى، فأوحى فيما يُوحِي خَمسينَ صَلاةً على أمَّتِك كلَّ يَومٍ ولَيلةٍ». وقد تفَرَّد شَريكٌ بهذه الألفاظِ في هذا الحديثِ، وهي ممَّا أُنكِرَت عليه فيه). ((فتح الباري)) لابن رجب (2/318). قال ابنُ حَجَرٍ: (قال الخَطَّابي: إنَّ الَّذي وقَع في هذه الرِّوايةِ مِن نِسبةِ التَّدَلِّي للجَبَّارِ عزَّ وجَلَّ مخالِفٌ لعامَّةِ السَّلَفِ والعُلَماءِ وأهلِ التَّفسيرِ مَن تقَدَّم منهم ومَن تأخَّر. قال: والَّذي قِيلَ فيه ثلاثةُ أقوالٍ؛ أحَدُها: أنَّه دنا جِبريلُ مِن مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتدَلَّى: أي: تقَرَّبَ منه. وقيل: هو على التَّقديمِ والتَّأخيرِ، أي: تدَلَّى فَدَنَا؛ لأنَّ التَّدَلِّيَ بسَبَبِ الدُّنُوِّ. الثَّاني: تدَلَّى له جِبريلُ بعدَ الانتِصابِ والارتِفاعِ حتَّى رآه متدَلِّيًا كما رآه مُرتَفِعًا، وذلك مِن آياتِ اللهِ؛ حيثُ أَقدَرَه على أن يتدَلَّى في الهواءِ مِن غَيرِ اعتِمادٍ على شيءٍ، ولا تمسُّكٍ بشَيءٍ. الثَّالِثُ: دنا جِبريلُ فتَدَلَّى محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ساجِدًا لرَبِّه تعالى؛ شُكرًا على ما أعطاه. قال: وقد رُوِيَ هذا الحديثُ عن أنَسٍ مِن غَيرِ طَريقِ شَريكٍ، فلم يُذكَرْ فيه هذه الألفاظُ الشَّنيعةُ، وذلك مِمَّا يُقَوِّي الظَّنَّ أنَّها صادِرةٌ مِن جِهةِ شَريكٍ. انتهى). ((فتح الباري)) لابن حجر (13/484). ويُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (4/2353). .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، في قَولِه تعالى: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى قالت: ((ذاكَ جِبريلُ، كان يأتيه في صُورةِ الرَّجُلِ، وإنَّه أتاه هذه المرَّةَ في صُورتِه الَّتي هي صُورتُه؛ فسَدَّ الأُفُقَ !)) [38] رواه البخاري (3234) واللَّفظُ له، ومسلم (177). .
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9).
أي: فكان مِقدارُ مَسافةِ قُربِ جِبريلَ مِن مُحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قَدْرَ قَوسَينِ، أو هو أقرَبُ إليه مِن ذلك [39] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/15)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/71)، ((الوسيط)) للواحدي (4/193)، ((تفسير الزمخشري)) (4/420)، ((تفسير ابن عطية)) (5/197، 198)، ((تفسير ابن كثير)) (7/446، 447)، ((تفسير السعدي)) (ص: 819)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/97، 98). قال ابنُ كثير: (قَابَ قَوْسَيْنِ أي: بقَدْرِهما إذا مُدَّا. قاله مجاهِدٌ، وقَتادةُ. وقد قيل: إنَّ المرادَ بذلك بُعْدُ ما بيْنَ وَتَرِ القَوسِ إلى كَبِدِها). ((تفسير ابن كثير)) (7/446). وقال ابن عثيمين: (قَولُه: أَوْ أَدْنَى بمعنى «بلْ»، أي: بلْ هو أدنى مِن ذلك). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 208). وقال ابنُ كثير: (قَولُه: أَوْ أَدْنَى... هذه الصِّيغة تُستَعمَلُ في اللُّغةِ لإثباتِ المُخبَرِ عنه، ونَفيِ ما زاد عليه، كقَولِه تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة: 74] ، أي: ما هي بألْيَنَ مِن الحِجارةِ، بل هي مِثلُها أو تَزيدُ عليها في الشِّدَّةِ والقَسوةِ، وكذا قَولُه: يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء: 77]، وقَولُه: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 147]، أي: ليسُوا أقَلَّ منها، بل هم مِئةُ ألْفٍ حَقيقةً، أو يَزيدونَ عليها. فهذا تحقيقٌ للمُخبَرِ به، لا شَكٌّ ولا ترَدُّدٌ؛ فإنَّ هذا ممتَنِعٌ هاهنا، وهكذا هذه الآيةُ: فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى). ((تفسير ابن كثير)) (7/446، 447). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/98). وقال ابن القيِّم: (أخبَر سُبحانَه عن مسافةِ هذا القُربِ بأنَّه قَدْرُ قَوسَينِ أو أدنى مِن ذلك، وليس هذا على وَجهِ الشَّكِّ، بل تحقيقٌ لقَدْرِ المسافةِ، وأنَّها لا تَزيدُ عن قَوسَينِ البتَّةَ...، وهذا المعنى أحسَنُ وألطَفُ وأدَقُّ مِن قَولِ مَن جَعَلَ «أو» في هذه المواضِعِ بمعنى «بل»، ومِن قَولِ مَن جَعَلَها للشَّكِّ بالنِّسبةِ إلى الرَّائي، وقَولِ مَن جَعَلَها بمعنى الواوِ؛ فتَأمَّلْه). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 250). !
عن أبي إسحاقَ الشَّيْبانيِّ، قال: ((سألتُ زِرَّ بنَ حُبَيْشٍ عن قَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ: فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، قال: أخبَرَني ابنُ مَسعودٍ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأى جِبريلَ له سِتُّمِئةِ جَناحٍ)) [40] رواه البخاري (3232)، ومسلم (174) واللَّفظُ له. .
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10).
أي: فأوحى جِبريلُ إلى عبدِ اللهِ مُحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ما أوحاه إليه مِنَ اللهِ تعالى [41] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/21)، ((تفسير الزمخشري)) (4/420)، ((تفسير القرطبي)) (17/91)، ((تفسير الشوكاني)) (5/128)، ((تفسير السعدي)) (ص: 819)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 208). قال ابنُ كثير: (معناه: فأوحى جِبريلُ إلى عبدِ اللهِ مُحمَّدٍ ما أوحى، أو: فأوحى اللهُ إلى عَبدِه مُحمَّدٍ ما أوحى بواسِطةِ جِبريلَ، وكِلا المعنَيَينِ صَحيحٌ). ((تفسير ابن كثير)) (7/448). .
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ كَذَّبَ بتَشديدِ الذَّالِ، بمعنى: أنَّ فُؤادَ محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يُكَذِّبِ الَّذي رأى، ولم يَشُكَّ فيه، ولم يُنكِرْه، بل جعَلَه حَقًّا وصِدقًا. وقيل: المعنى: ما كَذَّب صاحِبُ الفؤادِ ما رأَى [42] قرأ بها هشامٌ عن ابنِ عامرٍ، وأبو جعفرٍ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/379). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (22/26، 27)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 685)، ((تفسير القرطبي)) (17/93). .
2- قِراءةُ كَذَبَ بتَخفيفِ الذَّالِ، أي: ما كذَبَ فؤادُ مُحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فيما رأى بعَينِه؛ فقد رأى الحَقَّ. وقيل: ما كَذَب فؤادُ مُحمَّدٍ محمَّدًا الَّذي رأى، ولكِنَّه صَدَقَه [43] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/379). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (22/27)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/37)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 685). .
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11).
أي: ما كَذَب قَلبُ مُحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ما رآه ببَصَرِه، بل صَدَقَه، وتحَقَّقَه وعَلِمَه يَقينًا [44] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/21، 22)، ((تفسير ابن عطية)) (5/198)، ((تفسير القرطبي)) (17/92)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/362)، ((تفسير السعدي)) (ص: 819)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 209). قال ابنُ الجوزي: (في الَّذي رأى قَولانِ: أحدُهما: أنَّه رأى ربَّه عزَّ وجَلَّ. قاله ابنُ عبَّاسٍ، وأنسٌ، والحسَنُ، وعِكْرِمةُ. والثَّاني: أنَّه رأى جِبريلَ في صورتِه الَّتي خُلِقَ عليها. قاله ابنُ مسعودٍ، وعائِشةُ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/186). ونَسَب ابنُ عطيَّةَ القَولَ الثَّانيَ إلى جمهورِ العُلَماءِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/198). قال الواحدي: (قال ابنُ عبَّاسٍ: رأى محمَّدٌ رَبَّه بفُؤادِه، ولم يَرَه بعَينِه. ويكونُ ذلك على أنَّ اللهَ تعالى جَعَل بَصَرَه في فؤادِه، أو خَلَق لفُؤادِه بَصَرًا، حتَّى رأى رَبَّه رُؤيةً غَيرَ كاذِبةٍ، كما ترى بالعَينِ. ومَذهَبُ جماعةٍ مِن المفَسِّرينَ: أنَّه رآه بعَينِه، وهو قَولُ أَنَسٍ، وعِكْرِمةَ، والحَسَنِ، وكان يَحلِفُ باللهِ لقد رأى محمَّدٌ رَبَّه. فكُلُّ هؤلاء أثبَتوا رُؤيةً صَحيحةً؛ إمَّا بالعَينِ، وإمَّا بالفُؤادِ، ومَذهَبُ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ وعائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنهما في هذه الآيةِ: أنَّه رأى جِبريلَ في صُورتِه الَّتي خُلِقَ عليها). ((الوسيط)) (4/195). وقال ابنُ كثير: (ومَن روى عنه بالبَصَرِ فقد أغرَبَ؛ فإنَّه لا يَصِحُّ في ذلك شَيءٌ عن الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، وقَولُ البغَويِّ في تفسيرِه: وذهب جماعةٌ إلى أنَّه رآه بعَينِه، وهو قَولُ أَنَسٍ والحَسَنِ وعِكْرِمةَ: فيه نظَرٌ). ((تفسير ابن كثير)) (7/448). ويُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/304). وقال ابنُ تيميَّةَ: (وأمَّا «الرُّؤيةُ» فالَّذي ثبت في الصَّحيحِ عن ابنِ عَبَّاسٍ أنَّه قال: «رأى محمَّدٌ رَبَّه بفُؤادِه مَرَّتينِ»، وعائِشةُ أنكَرَت الرُّؤيةَ؛ فمِنَ النَّاسِ مَن جمَع بيْنَهما، فقال: عائِشةُ أنكَرَت رُؤيةَ العَينِ، وابنُ عبَّاسٍ أثبَتَ رُؤيةَ الفُؤادِ. والألفاظُ الثَّابتةُ عن ابنِ عَبَّاسٍ هي مُطلَقةٌ أو مُقيَّدةٌ بالفُؤادِ؛ تارةً يقول: رأى محمَّدٌ رَبَّه، وتارةً يقولُ: رآه محمَّدٌ. ولم يَثبُتْ عن ابنِ عبَّاسٍ لَفظٌ صَريحٌ بأنَّه رآه بعَينِه... وليس في الأدِلَّةِ ما يقتضي أنَّه رآه بعَينِه، ولا ثَبَت ذلك عن أحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ، ولا في الكِتابِ والسُّنَّةِ ما يدُلُّ على ذلك، بل النُّصوصُ الصَّحيحةُ على نَفْيِه أدَلُّ). ((مجموع الفتاوى)) (6/509، 510). وقال الكرماني: (يحتَمِلُ أنَّ المَرئيَّ ما فَسَّره اللهُ تعالى بقَولِه: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى؛ ولهذا قال: مَا يَرَى، ولم يقُلْ: «مَن رأى»). ((تفسير الكرماني)) (2/1154). وقال ابنُ عاشور: (الأظهَرُ أنَّ هذا ردٌّ لتكذيبٍ مِنَ المُشرِكينَ فيما بلَغَهم مِن الخَبَرِ عن رُؤيةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَلَكَ جبريلَ، وهو الَّذي يُؤذِنُ به قَولُه بَعدُ: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى). ((تفسير ابن عاشور)) (27/98). .
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: أَفَتَمْرُونَهُ بفَتحِ التَّاءِ، وإسكانِ الميمِ، مِن غيرِ ألفٍ، بمعنى: أفتَجْحَدونَه [45] قرأ بها حمزةُ، والكِسائيُّ، وخلَفٌ، ويعقوبُ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/379). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (22/27)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/37)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 685). ؟
2- قِراءةُ: أَفَتُمَارُونَهُ بضَمِّ التَّاءِ، وفَتحِ المَيمِ، وألِفٍ بعْدَها، بمعنى: أفتُجادِلونَه [46] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/379). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (22/27)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/37)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 685). وقال القرطبي: (المعنيانِ مُتداخِلانِ؛ لأنَّ مُجادَلتَهم جُحودٌ. وقيل: إنَّ الجُحودَ كان دائِمًا منهم، وهذا جِدالٌ جَديدٌ). ((تفسير القرطبي)) (17/93). ؟
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12).
أي: أفتُجادِلونَ مُحمَّدًا -يا كُفَّارَ قُرَيشٍ- على ما أخبَرَكم أنَّه رآه لَيلةَ الإسراءِ [47] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/28)، ((تفسير السمعاني)) (5/289)، ((تفسير ابن عطية)) (5/199)، ((النبوات)) لابن تيمية (1/532). قال الواحدي: (قال عامَّةُ المفَسِّرينَ وأهلُ التَّأويلِ: أَفَتُمَارُونَهُ أفتُجادِلونَه). ((البسيط)) (21/27). ؟
كما قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا [الإسراء: 1] .
وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13).
أي: ولقد رأى محمَّدٌ جِبريلَ مرَّةً أُخرى على صُورتِه الحَقيقيَّةِ الَّتي خلَقَه اللهُ عليها [48] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/28)، ((الوسيط)) للواحدي (4/197)، ((تفسير السمعاني)) (5/289)، ((تفسير القرطبي)) (17/94)، ((تفسير ابن كثير)) (7/451، 453). نسَب السمرقنديُّ والشوكانيُّ هذا المعنى المذكورَ إلى جُمهورِ المفَسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/360)، ((تفسير الشوكاني)) (5/128). قال الثعلبي: (وذلك أنَّ جِبريلَ رآه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على صُورتِه الَّتي خُلِقَ عليها مَرَّتَينِ: مَرَّةً بالأُفُقِ الأعلى في الأرضِ، ومَرَّةً عندَ سِدرةِ المُنتهى في السَّماءِ، وهذا قَولُ عائِشةَ وأكثَرِ العُلَماءِ، وهو الاختيارُ؛ لأنَّه قَرَن الرُّؤيةَ بالمكانِ، فقال: عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ولأنَّه قال: نَزْلَةً أُخْرَى). ((تفسير الثعلبي)) (9/142). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عائشةُ، وابنُ مسعودٍ، وأبو هُرَيرةَ، ومجاهِدٌ، والرَّبيعُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/28)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/649). وقد ذهب مُقاتِلُ بنُ سُلَيمانَ إلى أنَّ المعنى: ولقد رأى محمَّدٌ رَبَّه بقَلبِه مرَّةً أُخرى. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/160). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/32). قال ابنُ كثيرٍ: (وقَولُه: وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى هذه هي المرَّةُ الثَّانيةُ الَّتي رأى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيها جِبريلَ على صُورتِه الَّتي خَلَقَه اللهُ عليها، وكانت لَيلةَ الإسراءِ، وابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما كان يُثبِتُ الرُّؤيةَ لَيلةَ الإسراءِ، ويَستَشهِدُ بهذه الآيةِ. وتابَعَه جماعةٌ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ، وقد خالفَه جماعاتٌ مِنَ الصَّحابةِ رَضِي اللهُ عنهم والتَّابِعينَ وغَيرِهم). ((تفسير ابن كثير)) (7/451) بتصرف. .
عن مَسروقٍ، قال: قلْتُ: يا أُمَّ المؤمنينَ، أَنْظِريني، ولا تُعْجِليني، ألَمْ يَقُلِ اللهُ عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: 23] ، وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى؟ فقالت: أنا أوَّلُ هذه الأمَّةِ سَأل عن ذلك رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: ((إنَّما هو جِبريلُ، لم أرَهُ على صورتِه الَّتي خُلِق عليها غيرَ هاتَينِ المرَّتَينِ، رأيْتُه مُنهَبِطًا مِن السَّماءِ، سادًّا عِظَمُ خَلْقِه ما بيْنَ السَّماءِ إلى الأرضِ !)) [49] أخرجه مسلم (177). .
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14).
أي: رأى محمَّدٌ جِبريلَ عندَ شَجَرةِ نَبْقٍ عَظيمةٍ في السَّماءِ تُسمَّى سِدرةَ المنتهَى [50] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/33، 35)، ((تفسير الشوكاني)) (5/128، 129)، ((تفسير السعدي)) (ص: 819). قال أبو السعود: (والمُنْتهى مَوضِعُ الانتِهاءِ أو الانتِهاءُ، كأنَّها في مُنْتَهى الجنَّةِ. وقيلَ: إليها يَنْتهي عِلمُ الخلائقِ وأعمالُهم، ولا يَعلَمُ أحدٌ ما وراءَها. وقيل: يَنتهي إليها أرواحُ الشُّهداءِ. وقيل: يَنتهي إليها ما يَهبِطُ مِن فَوقِها، ويَصعَدُ مِن تَحتِها). ((تفسير أبي السعود)) (8/156). قال ابنُ جرير: (الصَّوابُ مِنَ القَولِ في ذلك أن يُقالَ: إنَّ معنى المُنتَهى الانتِهاءُ، فكأنَّه قال: عندَ سِدرةِ الانِتهاءِ. وجائِزٌ أن يكونَ قيل لها سِدرةُ المُنتَهى؛ لانتهاءِ عِلمِ كُلِّ عالِمٍ مِنَ الخَلقِ إليها، كما قال كَعبٌ. وجائِزٌ أن يكونَ قيل ذلك لها؛ لانتِهاءِ ما يَصعَدُ مِن تَحتِها، ويَنزِلُ مِن فَوقِها إليها، كما رُوِيَ عن عبدِ اللهِ [أي: ابن مسعود]. وجائِزٌ أن يكونَ قيل ذلك كذلك؛ لانتِهاءِ كلِّ مَن خلا مِنَ النَّاسِ على سُنَّةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليها. وجائِزٌ أن يكونَ قيل لها ذلك؛ لجَميعِ ذلك، ولا خبَرَ يَقطَعُ العُذرَ بأنَّه قيل ذلك لها لبَعضِ ذلك دونَ بَعضٍ، فلا قَولَ فيه أصَحُّ مِنَ القَولِ الَّذي قال رَبُّنا جَلَّ ثناؤُه، وهو أنَّها سِدرةُ المُنتَهى). ((تفسير ابن جرير)) (22/35). ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/395، 396). ومِمَّن قال: إنَّها سمِّيت بذلك؛ لأنَّه يَنتهي إليها ما يَنزِلُ مِن عندِ اللهِ، وما يَصعَدُ إليه مِن الأرضِ: ابنُ القيِّم، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 65)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 211). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 819). وممَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: عبدُ الله بنُ مسعودٍ، والضَّحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/34)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/650). وممَّن قال: إنَّها سُمِّيَت بذلك؛ لأنَّه إليها يَنتهي عِلمُ الخَلقِ، وما وراءَها لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ عزَّ وجَلَّ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والثعلبيُّ، والواحديُّ، وابنُ عطيَّة. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/160)، ((تفسير الثعلبي)) (9/142)، ((الوسيط)) للواحدي (4/197)، ((تفسير ابن عطية)) (5/199). وممَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وكعبُ الأحبارِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/ 33)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/649). وجمَع البِقاعي بيْنَ هذينِ القَولينِ السَّابِقَينِ، فقال: (ويَنتَهي إليها عِلمُ الخلائِقِ، وينتهي إليها ما يَعرُجُ مِن تحتٍ وما يَنزِلُ مِن فَوقٍ، فيُتلَقَّى هنالِكَ). ((نظم الدرر)) (19/53). قال الشربيني: (إضافةُ السِّدْرةِ إلى المُنتَهَى تَحتَمِلُ وُجوهًا: أحدُها: إضافةُ الشَّيءِ إلى مكانِه، كقَولِك: أشجارُ بَلدةِ كذا... فالمُنتهى حينَئذٍ مَوضِعٌ لا يتعدَّاه مَلَكٌ،... قال كَعبٌ:... إليها يَنتهي عِلمُ الخلائِقِ، وما خَلْفَها غَيبٌ لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ تعالى. وقيل: يَنتهي إليها ما هَبَط مِن فَوقِها، ويَصعَدُ مِن تَحتِها، وقال كَعبٌ: تنتهي إليها الملائِكةُ والأنبياءُ. وقال الرَّبيعُ: تنتهي إليها أرواحُ المؤمِنينَ. وثانيها: إضافةُ المِلْكِ إلى مالِكِه، كقَولِك: دارُ زَيدٍ، وشَجَرُ زَيدٍ، وحينَئذٍ المُنتهَى فيه محذوفٌ تقديرُه: سِدرةُ المُنتهَى إليه. قال اللهُ تعالى: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم: 42]، فالمنتهى إليه هو اللهُ تعالى، وإضافةُ السِّدْرةِ إليه حينَئذٍ كإضافةِ البَيتِ إليه للتَّشريفِ والتَّعظيمِ. وثالِثُها: إضافةُ المحَلِّ إلى الحالِّ فيه، كقَولِك: كِتابُ الفِقهِ، وعلى هذا فالتَّقديرُ: سِدرةٌ عِندَها مُنتهى العُلومِ، فتُتَلَقَّى هناك). ((تفسير الشربيني)) (4/126). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/244). .
عن أَنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال -كما في قِصَّةِ الإسراءِ والمِعراجِ-: ((... ثمَّ ذَهَبَ بي إلى السِّدرةِ المُنتَهى، وإذا وَرَقُها كآذانِ الفِيَلةِ، وإذا ثَمَرُها كالقِلالِ، فلمَّا غَشِيَها مِن أمرِ اللهِ ما غَشِيَ تغَيَّرَت، فما أحَدٌ مِن خَلقِ اللهِ يَستطيعُ أن يَنعَتَها؛ مِن حُسنِها، فأوحى اللهُ إلَيَّ ما أوحى !)) [51] رواه البخاريُّ (3887)، ومسلمٌ (162) واللَّفظُ له. .
وفي حديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ، عن مالِكِ بنِ صَعصَعةَ رَضِيَ اللهُ عنهما -في قِصَّةِ الإسراءِ والمِعراجِ- قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((... فأتَيْنا السَّماءَ السَّابِعةَ، قيلَ: مَن هذا؟ قيل: جِبريلُ، قيلَ: مَن معك؟ قيل: محمَّدٌ. قيل: وقد أُرسِلَ إليه؟ مَرحَبًا به، ولَنِعْمَ المجيءُ جاءَ! فأتيتُ على إبراهيمَ فسَلَّمْتُ عليه، فقال: مَرحَبًا بك مِنِ ابْنٍ ونَبيٍّ، فرُفِعَ ليَ البَيتُ المعمورُ، فسألتُ جِبريلَ، فقال: هذا البَيتُ المَعمورُ، يُصَلِّي فيه كُلَّ يَومٍ سَبعونَ ألْفَ ملَكٍ، إذا خَرَجوا لم يَعودوا إليه آخِرَ ما عليهم! ورُفِعَت لي سِدرةُ المُنتهى، فإذا نَبِقُها كأنَّه قِلالُ هَجَرَ، ووَرَقُها كأنَّه آذانُ الفُيو لِ)) [52] رواه البخاريُّ (3207) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (164). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((لَمَّا أُسرِيَ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم انتُهِيَ به إلى سِدْرةِ المُنتَهى، وهي في السَّماءِ السَّادِسةِ، إليها يَنتَهي ما يُعرَجُ به مِنَ الأرضِ، فيُقبَضُ منها، وإليها ينتَهي ما يُهبَطُ به مِن فَوقِها، فيُقبَضُ منها )) [53] رواه مسلم (173). ذهب أكثَرُ العُلَماءِ -كما نَسَبه إليهم القاضي عِياضٌ وصَحَّحه- إلى أنَّ سِدرةَ المنتهى في السَّماءِ السَّابعةِ لا السَّادسةِ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) للقاضي عياض (1/525). وذهب القُرطبيُّ والنَّوويُّ إلى الجَمعِ بيْن الرِّوايةِ المرفوعةِ عن أنَسٍ الَّتي فيها أنَّ سِدرةَ المُنتَهى في السَّماءِ السَّابعةِ، والرِّوايةِ الموقوفةِ عن ابنِ مَسعودٍ الَّتي فيها أنَّها في السَّماءِ السَّادسةِ: بأنَّ سِدْرةَ المُنتهى أصلُها في السَّماءِ السَّادسةِ، وأعلاها في السَّماءِ السَّابعةِ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/95)، ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (3/2). .
عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15).
أي: عِندَ شَجَرةِ سِدْرةِ المُنتَهى الجنَّةُ الَّتي يَأوي ويَصيرُ إليها المُؤمِنونَ يومَ القيامةِ [54] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/291)، ((تفسير الزمخشري)) (4/421)، ((تفسير ابن جزي)) (2/317، 318)، ((تفسير الألوسي)) (14/50)، ((تفسير السعدي)) (ص: 819)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/101)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 211). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المرادَ: الجنَّةُ الَّتي وعَدها الله عبادَه، ويأْوي إليها المؤمنونَ يومَ القيامةِ: السمعانيُّ، والزمخشري، وابنُ جُزَي، والألوسي، والسعدي، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: المرادُ: الجنَّةُ الَّتي تأوي إليها أرواحُ الشُّهَداءِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا القَولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والفَرَّاءُ، وابنُ جرير، ونسَبَه الواحديُّ إلى أكثَرِ المفَسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/160)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/97)، ((تفسير ابن جرير)) (22/40)، ((البسيط)) للواحدي (21/32). وقال ابنُ عطيَّةَ: (قال قَتادةُ وابنُ عبَّاسٍ بخِلافٍ: هي جنَّةٌ يأوي إليها أرواحُ الشُّهَداءِ والمؤمِنينَ، وليست بالجنَّةِ الَّتي وُعِدَ بها المؤمِنونَ؛ جَنَّةَ النَّعيمِ، وهذا يحتاجُ إلى سَنَدٍ، وما أراه يَصِحُّ عن ابنِ عبَّاسٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/199). وقيل: هي الجنَّةُ الَّتي تأوي إليها الملائكةُ. وممَّن اختاره: العُلَيمي. يُنظر: ((تفسير العليمي)) (6/438). قال الواحدي: (قوله تعالى: عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى قال عَطاءٌ عن ابنِ عبَّاسٍ: يريدُ الجنَّةَ الَّتي يأوي إليها جِبريلُ والملائكةُ). ((البسيط)) (21/32).  وقال جلالُ الدِّين المحلِّي: (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى تأوي إليها الملائكةُ وأرواحُ الشُّهداءِ والمتَّقينَ). ((تفسير الجلالين)) (ص: 701). وقال ابنُ عاشور: (جَنَّةُ الْمَأْوَى: الجنَّةُ المعروفةُ بأنَّها مأوى المتَّقينَ؛ فإنَّ الجنَّةَ مُنتهى مراتِبِ ارتِقاءِ الأرواحِ الزَّكيَّةِ، وفي حديثِ الإسراءِ بعد ذِكرِ سِدرةِ المُنتهى: «ثمَّ أُدْخِلتُ الجنَّةَ»). ((تفسير ابن عاشور)) (27/101). .
كما قال تعالى: أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 19] .
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16).
أي: رأى محمَّدٌ جِبريلَ حينَ غَشِيَ سِدْرةَ المُنتَهى ما غَشِيَها مِن أمْرِ اللهِ تعالى [55] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/40)، ((تفسير ابن عطية)) (5/200)، ((تفسير ابن كثير)) (7/454)، ((تفسير السعدي)) (ص: 819). قال ابن عطية: (مَا يَغْشَى معناه: مِن قُدرةِ اللهِ، وأنواعِ الصِّفاتِ الَّتي يختَرِعُها لها، وذلك مُبهَمٌ على جِهةِ التَّفخيمِ والتَّعظيمِ. وقال مجاهِدٌ: تُبَدَّلُ أغصانُها دُرًّا وياقوتًا ونحوَه. وقال ابنُ مسعودٍ ومَسروقٌ ومجاهِدٌ: ذلك جَرادٌ مِن ذَهَبٍ كان يَغشاها... وقال الرَّبيعُ وأبو هُرَيرةَ: «كان تَغشاها الملائِكةُ كما تَغشى الطَّيرُ الشَّجَرَ»، وقيل غيرُ هذا ممَّا هو تكَلُّفٌ في الآيةِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أبهَمَ ذلك وهم يريدونَ شَرْحَه، وقد قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فغَشِيَها ألوانٌ لا أدري ما هي»). ((تفسير ابن عطية)) (5/200). وقال ابن كثير: (قوله تعالى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى:... في أحاديثِ الإسراءِ أنَّه غَشِيَتْها الملائكةُ مِثلَ الغِرْبانِ، وغَشِيَها نورُ الرَّبِّ، وغَشِيَها ألوانٌ ما أدري ما هي). ((تفسير ابن كثير)) (7/454). وقال السعدي: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى: أي: يَغْشاها مِن أمْرِ اللهِ شيءٌ عظيمٌ لا يَعلَمُ وصْفَه إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ). ((تفسير السعدي)) (ص: 819). !
وفي حديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ عن أبي ذَرٍّ الغِفاريِّ رَضِيَ اللهُ عنهما -في قِصَّةِ المِعراجِ- قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((... ثمَّ انطَلَق بي جِبريلُ حتى نأتيَ سِدْرةَ المُنتَهى، فغَشِيَها ألوانٌ لا أدري ما هي !)) [56] رواه البخاريُّ (349)، ومسلمٌ (163) واللَّفظُ له. .
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17).
أي: ما مالَ بَصَرُ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَمينًا ولا شِمالًا، ولا تجاوَزَ الحدَّ الَّذي رآه [57] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/43)، ((الوسيط)) للواحدي (4/198)، ((تفسير القرطبي)) (17/97، 98)، ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 263)، ((تفسير ابن كثير)) (7/454)، ((تفسير السعدي)) (ص: 819)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 212). قال ابنُ عطية: (قَولُه: وَمَا طَغَى معناه: ولا تجاوَزَ المَرئيَّ، بل وَقَع عليه وُقوعًا صَحيحًا، وهذا تحقيقٌ للأمرِ، ونَفيٌ لِوُجودِ الرَّيبِ عنه). ((تفسير ابن عطية)) (5/200). وقال ابنُ القيِّم: (قال ابنُ عبَّاسٍ: ما زاغ البَصَرُ يَمينًا ولا شِمالًا، ولا جاوزَ ما أُمِرَ به. وعلى هذا المفسِّرونَ؛ فنفى عن نبيِّه ما يَعرِضُ للرَّائي الَّذي لا أدَبَ له بيْنَ يدَيِ الملوكِ والعُظَماءِ مِنِ الْتِفاتِه يَمينًا وشِمالًا، ومُجاوَزةِ بَصَرِه لِما بيْنَ يدَيْه، وأخبَرَ عنه بكمالِ الأدَبِ في ذلك المقامِ وفي تلك الحَضرةِ؛ إذ لم يَلتفِتْ جانِبًا، ولم يَمُدَّ بَصَرَه إلى غيرِ ما أُرِيَ مِن الآياتِ، وما هناك مِن العجائِبِ، بل قام مقامَ العَبدِ الَّذي أوجب أدَبُه إطراقَه وإقبالَه على ما أُرِيَ دونَ التفاتِه إلى غَيرِه، ودونَ تطَلُّعِه إلى ما لم يَرَه، مع ما في ذلك من ثباتِ الجَأشِ، وسُكونِ القَلبِ وطُمأنينتِه، وهذا غايةُ الكمالِ. وزَيغُ البَصَرِ: التِفاتُه جانِبًا. وطُغيانُه: مَدُّه أمامَه إلى حيثُ يَنتهي؛ فنَزَّه في هذه السُّورةِ عِلْمَه عن الضَّلالِ، وقَصْدَه وعَمَلَه عن الغَيِّ، ونُطْقَه عن الهوى، وفُؤادَه عن تكذيبِ بَصَرِه، وبصَرَه عن الزَّيغِ والطُّغيانِ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 261، 262). ويُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/361، 362). وقال البِقاعي: (وَمَا طَغَى أي: تجاوَزَ الحَدَّ إلى ما لم يُؤذَنْ له فيه، مع أنَّ ذلك العالَمَ غَريبٌ عن بني آدَمَ، وفيه مِنَ العجائِبِ ما يُحَيِّرُ النَّاظِرَ! بل كانت له العِفَّةُ الصَّادِقةُ المتوسِّطةُ بيْنَ الشَّرَهِ والزَّهادةِ، على أتمِّ قوانينِ العَدلِ، فأثبَتَ ما رآه على حقيقتِه). ((نظم الدرر)) (19/53). .
لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانوا قد أنكَروا الإسراءَ إنكارًا لم يقَعْ لهم في غَيرِه مِثْلُه؛ زاد في تأكيدِه على وَجهٍ يَعُمُّ غَيرَه، فقال [58] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/54). :
لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18).
أي: لقد رأى محمَّدٌ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لَيلةَ الإسراءِ والمعراجِ مِن آياتِ رَبِّه وعجائِبِ مُلكِه الآياتِ الكُبرى [59] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/44)، ((تفسير البيضاوي)) (5/158)، ((تفسير ابن جزي)) (2/318)، ((تفسير ابن كثير)) (7/454)، ((تفسير السعدي)) (ص: 819)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/102)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 213). قال ابنُ الجوزي: (للمُفَسِّرينَ في المرادِ بما رأى مِنَ الآياتِ ثلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: أنَّه رأى رَفرَفًا أخضَرَ مِن الجنَّةِ قد سَدَّ الأُفُقَ. قاله ابنُ مسعودٍ. والثَّاني: أنَّه رأى جِبريلَ في صورتِه الَّتي يكونُ عليها في السَّمواتِ. قاله ابنُ زَيدٍ. والثَّالِثُ: أنَّه رأى مِن أعلامِ ربِّه وأدلَّتِه الأعلامَ والأدِلَّةَ الكبرى. قاله ابنُ جريرٍ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/187). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/44). قال القاسمي: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى يعني: المَلَكَ الَّذي عايَنَه، وأخبَره برسالتِه. وفيه غايةُ التَّفخيمِ لِمَقامِه، وأنَّه مِن الآياتِ الكُبَرِ). ((تفسير القاسمي)) (9/65). وممَّن قال مِن السَّلفِ إنَّه رأى جِبريلَ في صورتِه الَّتي يكونُ عليها في السَّمواتِ: عبدُ الله بنُ مسعودٍ في روايةٍ، وابنُ زَيدٍ، ومقاتلُ بنُ حَيَّانَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/46)، ((تفسير الثعلبي)) (9/144)، ((تفسير البغوي)) (4/307). قال ابنُ تيميَّةَ: (لأنَّ رُؤيةَ جِبريلَ هي مِن تمامِ نبُوَّتِه، وممَّا يُبَيِّنُ أنَّ الَّذي أتاه بالقُرآنِ مَلَكٌ لا شيطانٌ). ((النبوات)) (1/533). وقيل: المرادُ: ما رأَى لَيلةَ الإسراءِ مِن الآياتِ العِظامِ وعجائبِ الملكوتِ ممَّا لا يحيطُ به الوصفُ مِنَ السَّمَواتِ والجنَّةِ والنَّارِ، والملائكةِ والأنبياءِ، وغيرِ ذلك. ومِمَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: البيضاويُّ، والنسفي، والخازن، وابنُ جُزَي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/158)، ((تفسير النسفي)) (3/392)، ((تفسير الخازن)) (4/206)، ((تفسير ابن جزي)) (2/318)، ((تفسير الشوكاني)) (5/129)، ((تفسير السعدي)) (ص: 819). قال الألوسي: (رأى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ آياتٍ كُبرى لَيلةَ المعراجِ لا تُحصى، ولا تَكادُ تُستقصَى). ((تفسير الألوسي)) (14/52). .
قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا [الإسراء: 1] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى نفَى سُبحانَه عن رَسولِه الضَّلالَ المنافيَ للهُدى، والغَيَّ المنافيَ للرَّشادِ؛ فالهُدى في عِلمِه، والرَّشادُ في عَمَلِه، وهذان الأصلانِ هما غايةُ كَمالِ العَبدِ، وبهما سعادتُه وفَلاحُه، وبهما وَصَفَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم خُلَفاءَه، فقال: ((عليكم بسُنَّتي، وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيِّينَ مِن بَعْدِي)) [60] أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (17142)، من حديث العرباض ابن سارية رضي الله عنه. قال الترمذي: (حسَنٌ صحيحٌ)، وصحَّحه ابنُ عبدِ البَرِّ في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 1164)، والجورقاني في ((الأباطيل والمناكير)) (1/472)، وابنُ تيميَّةَ في ((مجموع الفتاوى)) (20/309)، وابنُ الملقِّن في ((البدر المنير)) (9/582). . فالرَّاشِدُ ضِدُّ الغاوي، والمَهدِيُّ ضِدُّ الضَّالِّ، وهو الَّذي زَكَت نفْسُه بالعِلمِ النَّافِعِ والعَمَلِ الصَّالحِ، وهو صاحِبُ الهُدى ودينِ الحَقِّ، ولا يَشتَبِهُ الرَّاشِدُ المَهدِيُّ بالضَّالِّ الغاوي إلَّا على أجهَلِ خَلقِ اللهِ، وأعماهم قلبًا، وأبعَدِهم مِن حقيقةِ الإنسانيَّةِ؛ فالنَّاسُ أربَعةُ أقسامٍ:
الأوَّلُ: ضالٌّ في عِلمِه، غاوٍ في قَصدِه وعَمَلِه، وهؤلاء شِرارُ الخَلقِ، وهم مُخالِفو الرُّسُلِ.
الثَّاني: مُهتَدٍ في عِلمِه، غاوٍ في قَصْدِه وعَمَلِه، وهؤلاء هم الأُمَّةُ الغَضَبيَّةُ ومَن تَشَبَّه بهم، وهو حالُ كُلِّ مَن عَرَف الحَقَّ ولم يَعمَلْ به.
الثَّالِثُ: ضالٌّ في عِلمِه، ولكِنَّ قَصْدَه الخَيرُ، وهو لا يَشعُرُ.
الرَّابِعُ: مُهتَدٍ في عِلمِه، راشِدٌ في قَصدِه، وهؤلاء وَرَثةُ الأنبياءِ، وهم وإن كانوا الأقَلِّينَ عَدَدًا، فهم الأكثَرونَ عندَ اللهِ قَدْرًا، وهم صَفوةُ اللهِ مِن عِبادِه، وحِزبُه مِن خَلْقِه [61] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 245). . فصلاحُ العبدِ في أنَّه يَعلَمُ الحقَّ ويَعمَلُ به، فمَن لم يَعلَمِ الحقَّ فهو ضالٌّ عنه، ومَن عَلِمَه فخالفَه واتَّبَعَ هواه فهو غاوٍ، ومَن عَلِمَه وعَمِلَ به كان مِن أُولي الأيدي عَمَلًا، ومِن أُولي الأبصارِ عِلمًا، وهو الصِّراطُ المستقيمُ الَّذي أمَرَنا اللهُ سُبحانَه في كلِّ صلاةٍ أنْ نَقولَ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 6، 7]، فالمغضوبُ عليهم: الَّذين يَعرِفونَ الحقَّ ولا يَتَّبِعونَه،كاليهودِ، والضَّالُّون: الَّذين يَعمَلونَ أعمالَ القُلوبِ والجَوارحِ بلا عِلمٍ،كالنَّصارى [62] يُنظر: ((حقوق آل البيت)) لابن تيمية (ص: 37). .
2- في قَولِه تعالى: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى أنَّ مَن لم يكُنْ رَشيدًا فهو إمَّا غاوٍ، وإمَّا ضالٌّ؛ فالغاوي مَن تَعَمَّدَ خِلافَ الحقِّ، والضَّالُّ مَن لم يَتعمَّدْ [63] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/344). .
3- في قَولِه تعالى: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى أي: ما زاغَ يَمْنةً ولا يَسْرةً عن مَقصودِه، وَمَا طَغَى أي: وما تجاوَزَ البَصَرُ، وهذا كمالُ الأدبِ منه صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه؛ أنْ قام مَقامًا أقامَه اللهُ فيه، ولم يَقصُرْ عنه، ولا تجاوَزَه، ولا حاد عنه. وهذا أكمَلُ ما يكونُ مِنَ الأدَبِ العَظيمِ الَّذي فاق فيه الأوَّلينَ والآخِرينَ؛ فإنَّ الإخلالَ يكونُ بأحَدِ هذه الأُمورِ: إمَّا ألَّا يَقومَ العَبدُ بما أُمِرَ به، أو يقومَ به على وَجهِ التَّفريطِ أو على وجهِ الإفراطِ، أو على وَجهِ الحَيدةِ يَمينًا وشِمالًا، وهذه الأمورُ كُلُّها مُنتَفِيَةٌ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [64] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 819). .
4- في قَولِه تعالى: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى أسرارٌ عَجيبةٌ، وهي مِن غوامِضِ الآدابِ اللَّائقةِ بأكمَلِ البَشَرِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ تواطأَ هناك بصَرُه وبَصيرتُه، وتوافَقَا وتصادَقَا؛ فما شاهدَه بصَرُه فالبصيرةُ مواطِئةٌ له، وما شاهَدَتْه بصيرتُه فهو أيضًا حقٌّ مَشهودٌ بالبَصرِ، فتواطأَ في حقِّه مَشهَدُ البَصَرِ والبَصيرةِ؛ ولهذا قال سُبحانَه وتعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى أي: ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رآه ببَصَرِه؛ ولهذا قرأَها أبو جعفرٍ: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى بتشديدِ الذَّالِ، أي: لم يُكَذِّبِ الفُؤادُ البصرَ، بل صَدَّقَه وواطأَه؛ لصِحَّةِ الفُؤادِ والبَصَرِ، أو استِقامةِ البَصيرةِ والبَصَرِ، وكَونِ المرئيِّ المُشاهَدِ بالبَصَرِ والبَصيرةِ حقًّا، وقَرَأَ الجمهورُ: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى بالتَّخفيفِ، وهو مُتَعَدٍّ، و مَا رَأَى مَفعولُه، أي: ما كَذَبَ قَلبُه ما رأَتْه عَيْناه، بل واطأَه ووافَقَه، فلِمُواطأةِ قلْبِه لقالَبِه، وظاهِرِه لباطنِه، وبَصَرِه لبصيرتِه: لم يَكْذِبِ الفُؤادُ البَصَرَ، ولم يَتجاوَزِ البَصَرُ حدَّه فيَطغى، ولم يَمِلْ عنِ المرئيِّ فيَزيغَ، بلِ اعتدلَ البصرُ نحوَ المرئيِّ، ما جاوزَه ولا مالَ عنه، كما اعتدلَ القلبُ في الإقبالِ على اللهِ، والإعراضِ عمَّا سِواه؛ فإنَّه أقبَلَ على اللهِ بكُلِّيَّتِه، وللقَلبِ زَيغٌ وطُغيانٌ، وكِلاهما مُنتَفٍ عن قَلبِه وبَصَرِه؛ فلم يَزِغْ قلبُه التِفاتًا عنِ اللهِ إلى غَيرِه، ولم يَطْغَ بمجاوزتِه مَقامَه الَّذي أُقيمَ فيه، وهذا غايةُ الكمالِ والأدبِ مع اللهِ الَّذي لا يَلحَقُه فيه سِواه؛ فإنَّ عادةَ النُّفوسِ إذا أُقيمَتْ في مقامٍ عالٍ رفيعٍ أنْ تَتطَلَّعَ إلى ما هو أعلَى منه وفَوْقَه، ألَا ترى أنَّ موسى صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا أُقيمَ في مقامِ التَّكليمِ والمُناجاةِ طَلَبت نَفْسُه الرُّؤيةَ؟! ونَبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا أُقيمَ في ذلك المقامِ وَفَّاه حقَّه، فلم يَلتَفِتْ بَصَرُه ولا قَلبُه إلى غيرِ ما أُقيمَ فيه البتَّةَ، ومِن أجْلِ هذا ما عاقَه عائِقٌ، ولا وَقَفَ به مُرادٌ حتَّى جاوزَ السَّمواتِ السَّبْعَ [65] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/361). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (7/454). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى أقسَمَ سُبحانَه بالنُّجومِ على صِحَّةِ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الوَحيِ الإلهيِّ -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ لأنَّ في ذلك مُناسَبةً عَجيبةً؛ فإنَّ اللهَ تعالى جَعَل النُّجومَ زِينةً للسَّماءِ، فكذلك الوَحيُ وآثارُه زينةٌ للأرضِ، فلولا العِلمُ الموروثُ عن الأنبياءِ لَكان النَّاسُ في ظُلمةٍ أشَدَّ مِنَ اللَّيلِ البَهيمِ [66] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 818). .
2- في قَولِه تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى إلى قَولِه تعالى: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى أنَّ المعراجَ الَّذي حَصَلَ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم كان بجسَدِه ورُوحِه؛ فالعبدُ -وكذلك الصَّاحبُ- لا يكونُ إلَّا في الرُّوحِ والجَسَدِ؛ فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُسرِيَ به بجَسَدِه ورُوحِه، وعُرِجَ به إلى السَّمَواتِ حتَّى بَلَغ مُستوًى بجَسَدِه ورُوحِه صلَّى الله عليه وسلَّم، ولو كان ذلك برُوحِه فقط ما أنكَرَت قُرَيشٌ ذلك؛ إذ إنَّ المناماتِ يَقَعُ منها شيءٌ كثيرٌ مِن جِنسِ هذا، ولكِنَّه كان صلَّى الله عليه وسلَّم قد أُسرِيَ به بجَسَدِه ورُوحِه، وعُرِجَ به إلى السَّمَواتِ كذلك [67] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (1/229). .
3- في قَولِه تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى بَيانُ أنَّ اللهَ عزَّ شأنُه أوجبَ اتِّباعَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يقولُه، وإنْ لم يكنْ مِن القُرآنِ، وأيضًا فرِسالتُه اقتَضَتْ صِدْقَه فيما يُخبِرُ به عنِ اللهِ تعالى مِن القُرآنِ وغيرِ القُرآنِ؛ فوَجَبَ بذلك تصديقُه فيما أخبَرَ به، وإنْ لم يكُنْ ذلك مِن القُرآنِ [68] يُنظر: ((شرح العقيدة الأصفهانية)) لابن تيمية (ص: 228). .
4- في قَولِه تعالى: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ سؤالٌ عن وَجهِ الجَمعِ مع قَولِه تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى: 7] ؟
 الجَوابُ: أنَّ المرادَ مِن قَولِه تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا أي: عمَّا أنت عليه الآنَ مِنَ الشَّريعةِ، فهداك إليها، بخِلافِ هذه الآيةِ [69] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/122). .
5- قَولُه تعالى: مَا ضَلَّ دليلٌ على كمالِ عِلمِه ومَعرفتِه، وأنَّه على الحَقِّ المُبينِ، وَمَا غَوَى دليلٌ على كمالِ رُشدِه، وأنَّه أبَرُّ العالَمينَ؛ فهو الكامِلُ في عِلمِه وفي عَمَلِه [70] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/40). . ففي ضِمنِ النَّفيِ الشَّهادةُ له بأنَّه على الهُدى والرَّشادِ [71] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 245). . فالمُقسَمُ عليه: تَنزيهُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الضَّلالِ في عِلمِه، والغَيِّ في قَصدِه، ويَلزَمُ مِن ذلك أن يكونَ مُهتديًا في عِلمِه، هاديًا حَسَنَ القَصدِ، ناصِحًا للأُمَّةِ، بعَكسِ ما عليه أهلُ الضَّلالِ مِن فَسادِ العِلمِ، وفَسادِ القَصدِ [72] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 818). . وإذا انتفَى عنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الجهلُ، وانتفَى عنه الغَيُّ؛ تبيَّنَ أنَّ منهجَه صلَّى الله عليه وسلَّم عِلْمٌ ورُشْدٌ؛ عِلْمٌ ضِدُّ الجهلِ وهو الضَّلالُ: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ، ورُشْدٌ ضِدُّ الغَيِّ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256] ، إذًا النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كلامُه حقٌّ، وشريعتُه حقٌّ؛ لأنها عن عِلْمٍ ورُشْدٍ [73] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 205). .
6- تولَّى الحقُّ سُبحانَه الرَّدَّ عن نبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى؛ أمَّا بقيَّةُ الأنبياءِ فدَفَعوا عن أنفُسِهم؛ قال سُبحانه عن نوحٍ -عليه السَّلامُ- وقومِه: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 60، 61]، وقال عن هودٍ -عليه السَّلامُ- وقومِه: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 66، 67]؛ فشَتَّانَ بيْنَ مَن دافَعَ عن نفْسِه، وبيْن مَن دافَعَ عنه ونَفَى عنه ربُّه [74] يُنظر: ((تفسير القشيري)) (1/543)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/42). .
7- في قَولِه تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى تَنزيهُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن النُّطقِ عن هَوًى، وهذا يقتَضي التَّنزيهَ عن أن يَفعَلَ أو يَحكُمَ عن هَوًى؛ لأنَّ التَّنَزُّهَ عن النُّطقِ عن هَوًى هو أعظَمُ مَراتِبِ الحِكمةِ [75] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/93). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى يُحتَجُّ به في جوازِ نَسخِ القُرآنِ وتَخصيصِه بالسُّنَّةِ [76] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 250). .
9- قَولُه تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى دَليلٌ على أنَّ كُلَّ ما سَنَّه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فبِوَحيٍ سَنَّه [77] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/200). .
10- في قَولِه تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، وقَولِه سُبحانَه: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]: أنَّ الأخْذَ بالسُّنَّةِ أخْذٌ بكِتابِ اللهِ تعالى [78] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (8/37). .
11- قَولُه تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى لم يَقُلْ: «وما ينطِقُ بالهَوى»؛ لأنَّ نُطقَه عنِ الهوى أبلَغُ؛ فإنَّه يتضَمَّنُ أنَّ نُطقَه لا يَصدُرُ عن هوًى، وإذا لم يَصدُرْ عن هوًى فكيف يَنطِقُ به؟! فتضَمَّنَ نفْيَ الأمْرَينِ: نفْيَ الهَوى عن مَصدَرِ النُّطقِ، ونَفْيَه عن نفْسِه؛ فنُطقُه بالحَقِّ، ومَصدَرُه الهُدَى والرَّشادُ، لا الغَيُّ والضَّلالُ [79] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 247). .
12- في قَولِه تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى سُؤالٌ: أنَّ هذه الآيةَ الكَريمةَ تدُلُّ بظاهِرِها على أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يجتَهِدُ في شَيءٍ، وقد جاءت آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ على أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رُبَّما اجتَهد في بَعضِ الأُمورِ، كما دلَّ عليه قَولُه تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] ، وقَولُه تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال: 67] . فما الجَوابُ؟
الجوابُ مِن وجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ معنى قَولِه تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى أي: في كُلِّ ما يُبَلِّغُه عن اللهِ تعالى إِنْ هُوَ أي: كُلُّ ما يُبَلِّغُه عن اللهِ تعالى إِلَّا وَحْيٌ مِنَ اللهِ تعالى؛ لأنَّه لا يقولُ على اللهِ شيئًا إلَّا بوَحيٍ منه تعالى، فالآيةُ رَدٌّ على الكُفَّارِ؛ حيث قالوا: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم افترى هذا القُرآنَ!
الثَّاني: أنَّه إنِ اجتَهَد فإنَّه إنَّما يجتَهِدُ بوَحيٍ مِنَ اللهِ يأذَنُ له به في ذلك الاجتِهادِ، وعليه فاجتِهادُه بوَحيٍ؛ فلا منافاةَ، ويدُلُّ لهذا الوَجهِ أنَّ اجتِهادَه في الإذنِ للمتخَلِّفينَ عن غَزوةِ تَبوكَ أَذِنَ اللهُ له فيه؛ حيثُ قال: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النور: 62] ، فلَمَّا أَذِنَ للمُنافِقينَ عاتَبَه بقَولِه: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة: 43] ؛ فالاجتِهادُ في الحقيقةِ إنَّما هو الإذنُ قبْلَ التَّبَيُّنِ، لا في مُطلَقِ الإذنِ؛ للنَّصِّ عليه.
 والَّذي يَظهَرُ أنَّ التَّحقيقَ في هذه المسألةِ: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رُبَّما فَعَل بَعضَ المسائِلِ مِن غَيرِ وَحيٍ في خُصوصِه، كإذْنِه للمُتخَلِّفينَ عن غَزوةِ تَبُوكَ قبْلَ أن يتبيَّنَ صادِقَهم مِن كاذِبِهم، وكأسْرِه لأُسارى بَدرٍ، وكأمْرِه بتَركِ تأبيرِ النَّخلِ [80] يُنظر ما أخرجه مسلمٌ (2361). ، وكقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لو استَقبَلْتُ مِن أمري ما استَدبَرْتُ ...)) الحديثَ [81] أخرجه البخاريُّ (1651)، ومسلمٌ (1216) مطوَّلًا مِن حديثِ جابرِ بنِ عبدِ الله رضيَ الله عنهما. . إلى غيرِ ذلك؛ وأنَّ معنى قَولِه تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى لا إشكالَ فيه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَنطِقُ بشَيءٍ مِن أجْلِ الهَوى، ولا يتكَلَّمُ بالهوى، وقَولُه تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى يعني: أنَّ كُلَّ ما يُبَلِّغُه عن اللهِ تعالى فهو وَحيٌ مِنَ اللهِ، لا بِهوًى ولا بكَذِبٍ ولا افتِراءٍ [82] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 223). .
13- في قَولِه تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى أنَّ السُّنَّةَ وَحيٌ مِنَ اللهِ تعالى لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما قال تعالى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء: 113] ، وأنَّه مَعصومٌ فيما يُخبِرُ به عن اللهِ تعالى وعن شَرعِه؛ لأنَّ كَلامَه لا يَصدُرُ عن هوًى، وإنَّما يَصدُرُ عن وَحيٍ يُوحَى [83] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 818). .
14- قَولُه تعالى: يُوحَى فائِدةُ المجيءِ بهذا الوَصفِ أنَّه ينفي المجازَ، أي: هو وَحيٌ حَقيقةً لا مُجرَّدُ تَسميةٍ، كقَولِك: هذا قَولٌ يُقالُ [84] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين (10/84)، ((تفسير ابن عادل)) (18/157). .
15- في قَولِه تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى فوائِدُ، وتَنبيهٌ على أُمورٍ:
الأوَّلُ: أنَّ مَدْحَ المعَلِّمِ مَدحٌ للمُتعَلِّمِ؛ فلو قال: «عَلَّمه جِبريلُ» ولم يَصِفْه، ما كان يحصُلُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَضيلةٌ ظاهِرةٌ.
الثَّاني: أنَّ فيه ردًّا عليهم حيثُ قالوا: أساطيرُ الأوَّلينَ سَمِعَها وَقتَ سَفَرِه إلى الشَّامِ! فقال: لم يُعَلِّمْه أحدٌ مِنَ النَّاسِ، بل مُعَلِّمُه شَديدُ القُوى، والإنسانُ خُلِقَ ضَعيفًا، وما أُوتيَ مِن العِلمِ إلَّا قَليلًا.
الثَّالثُ: فيه وُثوقٌ بقَولِ جِبريلَ عليه السَّلامُ؛ فقَولُه تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى جمَعَ ما يوجِبُ الوُثوقَ؛ لأنَّ قُوَّةَ الإدراكِ شَرطُ الوُثوقِ بقَولِ القائِلِ؛ لأنَّا إنْ ظَنَنَّا بواحِدٍ فَسادَ ذِهنٍ، ثمَّ نَقَل إلينا عن بعضِ الأكابِرِ مَسألةً مُشكِلةً؛ فلا نَثِقُ بقَولِه، ونقولُ: هو ما فَهِمَ ما قال. وكذلك قُوَّةُ الحِفظِ؛ حتَّى لا نَقولَ: أدرَكَها لكِنْ نَسِيَها. وكذلك قُوَّةُ الأمانةِ؛ حتَّى لا نَقولَ: حَرَّفَها وغَيَّرَها؛ فقال: شَدِيدُ الْقُوَى لِيَجمعَ هذه الشَّرائِطَ، فيَصيرَ كقَولِه تعالى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير: 20] إلى أن قال: أَمِينٍ [التكوير: 21] .
الرَّابِعُ: في تَسليةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهي مِن حيثُ إنَّه إذا عُلِّمَ مُحمَّدٌ بواسِطةِ جِبريلَ يكونُ هذا نَقصًا عن دَرجتِه، فقال: ليس كذلك؛ لأنَّه شَديدُ القُوى يَثبُتُ لِمُكالمتِنا، وأنتَ بَعدُ ما استَوَيتَ، فتَكونُ كموسى حيثُ خَرَّ، فكأنَّه تعالى قد عَلَّمَه بواسِطةٍ، ثمَّ عَلَّمَه مِن غيرِ واسِطةٍ، كما قال تعالى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [85] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/237). [النساء: 113] .
الخامسُ: أنَّه بقُوَّتِه يَمنَعُ الشَّياطينَ أن تَدنوَ مِن القُرآنِ، وأن يَنالوا منه شَيئًا، وأنْ يَزيدوا فيه أو يَنقُصوا منه، بل إذا رآه الشَّيطانُ هَرَبَ منه ولم يَقرَبْه.
السَّادسُ: أنَّه مُوالٍ لهذا الرَّسولِ الَّذي كذَّبتُموه، ومُعاضِدٌ له، ومُوادِدٌ له وناصِرٌ، كما قال تعالى: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] ، ومَن كان هذا القَويُّ وليَّه ومِن أنصارِه وأعوانِه ومُعَلِّمَه، فهو المَهديُّ المنصورُ، واللهُ هاديه وناصِرُه.
السَّابعُ: أنَّ مَن عادى هذا الرَّسولَ فقد عادى صاحِبَه ووليَّه جِبريلَ، ومَن عادى ذا القُوَّةِ والشِّدَّةِ فهو عُرضةٌ للهَلاكِ.
الثَّامنُ: أنَّه قادِرٌ على تنفيذِ ما أُمِرَ به؛ لقُوَّتِه، فلا يَعْجِزُ عن ذلك، مُؤَدٍّ له كما أُمِرَ به؛ لأمانتِه، فهو القَويُّ الأمينُ، وأحدُكم إذا انتَدبَ غيرَه في أمْرٍ مِن الأُمورِ لرسالةٍ أو وِلايةٍ أو وَكالةٍ أو غَيرِها فإنَّما يَنتدِبُ لها القويَّ عليه، الأمينَ على فِعلِه، وإنْ كان ذلك الأمرُ مِن أهمِّ الأُمورِ عندَه انتَدبَ له قويًّا أمينًا مُعَظَّمًا ذا مكانةٍ عندَه، مُطاعًا في النَّاسِ، كما وَصَفَ اللهُ عبْدَه جِبريلَ بهذه الصِّفاتِ، وهذا يدُلُّ على عَظَمةِ شأنِ المُرسِلِ والرَّسولِ والرِّسالةِ والمُرسَلِ إليه؛ حيثُ انتَدبَ له الكَريمَ القويَّ المَكِينَ عندَه، المُطاعَ في الملأِ الأعلى، الأمينَ حقَّ الأمينِ؛ فإنَّ الملوكَ لا تُرسِلُ في مُهمَّاتِها إلَّا الأشرافَ ذوي الأقدارِ والرُّتَبِ العاليةِ [86] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 121). !
16- في قَولِه تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى إلى آخرِ الآياتِ: أنَّ اللهَ تعالى وَصَفَ الملائِكةَ بصِفاتٍ تقتضي أنَّهم أحياءٌ ناطِقونَ خارِجونَ عن قُوى البَشَرِ، وعنِ العُقولِ والنُّفوسِ الَّتي تُثبِتُها الفلاسِفةُ؛ فعُلِمَ أنَّ الملائِكةَ الَّتي أخبرَتْ عنها الأنبياءُ ليسوا مُطابِقينَ لِمَا يقولُه هؤلاء الفلاسِفةُ [87] يُنظر: ((الصفدية)) لابن تيمية (1/199). !
17- دلَّ القرآنُ على أنَّ المرئيَّ في قَولِه تعالى: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى هو جِبريلُ وليس اللهَ تعالى؛ وذلك مِن وُجوهٍ:
أحدُها: أنَّه تعالى قال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، وهذا جِبريلُ الَّذي وَصَفَه اللهُ بالقُوَّةِ في سُورةِ (التَّكويرِ)، فقال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير: 19، 20].
الثَّاني: أنَّه تعالى قال: ذُو مِرَّةٍ، أي: حَسَنُ الخَلْقِ، وهو الكريمُ المذكورُ في (التَّكويرِ).
الثَّالثُ: أنَّه تعالى قال: فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، وهو ناحيةُ السَّماءِ العُليا، وهذا استِواءُ جِبريلَ بالأُفُقِ الأعلى، وأمَّا استِواءُ الرَّبِّ جلَّ جلالُه فعلى عَرشِه.
الرَّابعُ: أنَّه تعالى قال: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فهذا دُنُوُّ جِبريلَ وتدَلِّيه إلى الأرضِ حيث كان رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
الخامِسُ: أنَّه تعالى قال: وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، والمَرئيُّ عندَ السِّدْرةِ هو جِبريلُ قَطعًا، كما في حديث عائِشةَ رضيَ الله عنها [88] أخرجه مسلم (177). .
السَّادِسُ: أنَّ مُفَسَّرَ الضَّميرِ في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ رَآَهُ، وفي قَولِه: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، وفي قَولِه: فَاسْتَوَى، وفي قَولِه: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى: واحِدٌ؛ فلا يجوزُ أنْ يُخالَفَ بيْنَ المُفَسِّرِ والمُفَسَّرِ مِن غَيرِ دليلٍ.
السَّابِعُ: أنَّه سُبحانَه ذَكَر في هذه السُّورةِ الرَّسولَينِ الكَريمَينِ: المَلَكيَّ، والبَشَريَّ، ونَزَّه البَشَريَّ عن الضَّلالِ والغَوايةِ، ونَزَّه المَلَكيَّ عن أن يكونَ شَيطانًا قَبيحًا ضَعيفًا، بل هو قَويٌّ كريمٌ حَسَنُ الخَلْقِ، وهذا نظيرُ الوَصفِ المَذكورِ في سورةِ (التَّكويرِ) سَواءً.
الثَّامِنُ: أنَّه أخبَرَ هناك أنَّه رآه بالأُفُقِ المُبِينِ، وهاهنا أخبَرَ أنَّه رآه بالأُفُقِ الأعلى، وهو واحِدٌ وُصِفَ بصِفتَينِ؛ فهو مُبِينٌ، وهو أعلى؛ فإنَّ الشَّيءَ كلَّما عَلَا بانَ وظَهَرَ.
التَّاسِعُ: أنَّه تعالى قال: ذُو مِرَّةٍ، والمِرَّةُ: الخَلْقُ الحَسَنُ المُحْكَمُ، فأخبَرَ عن حُسْنِ خَلْقِ الَّذي عَلَّمَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ ساق الخبَرَ كلَّه عنه نَسَقًا واحِدًا.
العاشِرُ: أنَّه لو كان خبَرًا عن الرَّبِّ سُبحانَه تعالى لَكان القُرآنُ قد دَلَّ على أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأى رَبَّه سُبحانَه مرَّتَينِ: مرَّةً بالأُفُقِ، ومَرَّةً عندَ السِّدْرةِ، ومَعلومٌ أنَّ الأمرَ لو كان كذلك لم يَقُلِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي ذَرٍّ وقد سأله: ((هل رأيْتَ رَبَّك؟ فقال: نورٌ أَنَّى أَراه؟!)) [89] أخرجه مسلمٌ (178) من حديث أبي ذَرٍّ رضيَ الله عنه. ، فكيف يُخبِرُ القُرآنُ أنَّه رآه مرَّتَينِ، ثمَّ يَقولُ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنَّى أَراه؟!))، وهذا أبلَغُ مِن قَولِه: لم أَرَه؛ لأنَّه مع النَّفيِ يَقتَضي الإخبارَ عن عَدَمِ الرُّؤيةِ فقط، وهذا يتضَمَّنُ النَّفيَ وطَرَفًا مِنَ الإنكارِ على السَّائِلِ، كما إذا قال لرجُلٍ: هل كان كَيْتَ وكَيْتَ؟ فيقولُ: كيف يكونُ ذلك؟!
الحادِيَ عَشَرَ: أنَّه لم يَتقدَّمْ للرَّبِّ جلَّ جلالُه ذِكْرٌ يعودُ الضَّميرُ عليه في قَولِه تعالى: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، والَّذي يعودُ الضَّميرُ عليه لا يَصلُحُ له، وإنَّما هو لِعَبدِه.
الثَّانيَ عَشَرَ: أنَّه كيف يعودُ الضَّميرُ إلى ما لم يُذكَرْ، ويُترَكُ عَودُه إلى المذكورِ مع كَونِه أَولى به؟!
الثَّالِثَ عَشَرَ: أنَّه قد تقدَّم ذِكرُ صَاحِبُكُمْ، وأعاد عليه الضَّمائِرَ الَّتي تليقُ به، ثمَّ ذَكَر بعْدَه شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ [النَّجْم: 5، 6]، وأعاد عليه الضَّمائِرَ الَّتي تليقُ به، والخبَرُ كُلُّه عن هذينِ المُفَسَّرينِ، وهما الرَّسولُ المَلَكيُّ، والرَّسولُ البَشَريُّ.
الرَّابعَ عَشَرَ: أنَّهم لم يُمارُوه -صلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليه- على رُؤيةِ رَبِّه، ولا أخبَرَهم بها؛ لِتقَعَ مُماراتُهم له عليها، وإنَّما مارَوه على رُؤيةِ ما أخبَرَهم مِنَ الآياتِ الَّتي أراه اللهُ تعالى إيَّاها، ولو أخبَرَهم برؤية الرَّبِّ تعالى لَكانت مُماراتُهم له عليها أعظَمَ مِن مُماراتِهم على رُؤيةِ المَخلوقاتِ.
الخامسَ عَشَرَ: أنَّه سُبحانَه قَرَّرَ صِحَّةَ ما رآه الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنَّ مُماراتَهم له على ذلك باطِلةٌ، بقَولِه: لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النَّجْم: 18]، فلو كان المَرئيُّ هو الرَّبَّ سُبحانَه وتعالى، والمُماراةُ على ذلك منهم؛ لَكان تقريرُ تلك الرُّؤيةِ أَولى، والمَقامُ إليها أحوَجَ. واللهُ أعلمُ [90] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/300-302). .
18- قولُه تعالى: قَابَ قَوْسَيْنِ أصْلُه قابَيْ قوسٍ، أو قابَيْ قَوسيْنِ -بتَثنيةِ أحَدِ اللَّفظينِ؛ المُضافِ والمُضافِ إليه، أو كِلَيْهما-؛ فوقَعَ إفرادُ أحَدِ اللَّفظينِ أو كِلَيْهما تَجنُّبًا لثِقَلِ المُثنَّى، كما في قولِه تعالى: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم: 4] ، أي: قَلْباكُما [91] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/97). .
19- في قَولِه تعالى: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى دَلالةٌ على أنَّ وصْفَ الإنسانِ بالعُبوديَّةِ للهِ يُعَدُّ كَمالًا؛ لأنَّ العُبوديَّةَ للهِ هي حَقيقةُ الحُرِّيَّةِ، فمَن لم يَتعبَّدْ له كان عابِدًا لغَيرِه [92] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/362). .
20- في قَولِه تعالى: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى أنَّ مَقامَ العُبوديَّةِ أشرَفُ مَقاماتِ الخَلقِ؛ ولهذا سَمَّى اللهُ تعالى محمَّدًا -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في أشرَفِ مَقاماتِه وأعلاها بالعُبوديَّةِ، كما قال تعالى في صِفةِ لَيلةِ الإسراءِ: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1] ، وقال: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، وقال في حَقِّه في مَقامِ الدَّعوةِ: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: 19] ، وقال: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [93] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (5/177). [البقرة: 23] .
21- في قَولِه تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ثمَّ قال: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى دَلالةٌ على شِدَّةِ الوُصْلةِ والارتباطِ بينَ القَلبِ والبَصَرِ؛ ولهذا يَقرأُ الإنسانُ ما في قَلبِ الآخَرِ مِن عَينِه، وهذا كثيرٌ في كلامِ النَّاسِ: نَظْمِه ونَثْرِه [94] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/105). .
22- في قَولِه تعالى: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وقَولِه: لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى أنَّه لو كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم رأى ربَّه بعَينِه لَكان ذِكْرُ ذلك أَولى [95] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/510). .
23- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى إلى قَولِه تعالى: لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى أنَّ المِعراجَ كان يَقَظةً؛ فالآياتُ صريحةٌ في أنَّ بَصَرَه رأى ما رآه في الملَأِ الأعلى، وأنَّه ما زاغ بَصَرُه وما طَغى، وقد ثَبَتَ أنَّ جَنَّةَ المأوى وسِدرةَ المُنتَهى في السَّماءِ لا في الأرضِ، فإذا رأى بعَينِه ما هنالك امتنعَ أنْ يكونَ ذلك مَنامًا، ودلَّ ذلك على أنَّ جَسَدَه كان هُنالِك، ولكِنَّه سُبحانَه ذَكَرَ في سُورةِ (سُبحانَ): سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء: 1] ؛ لأنَّه مِمَّا ذُكِرَ له دلائِلُه وشواهِدُه؛ وذلك تَمهيدًا لِمَا أخبَرَ به عن رُؤيةِ ما رآه عندَ سِدرةِ المُنتَهى، والقُرآنُ يدُلُّ على ذلك؛ حيثُ قال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى [النَّجْم: 5 - 7]، كما قال في الآيةِ الأُخرى: وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: 23] ، ثمَّ قال في (النَّجمِ): وَلَقَدْ رَآَهُ أي: رأى الَّذي رآه بالأُفُقِ الأعلَى مرَّةً أُخرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [96] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (7/46). .
24- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى لَمَّا ذَكَر رؤيتَه لجِبريلَ عندَ سِدْرةِ المُنتَهَى استطردَ منها، وذَكَر أنَّ جَنَّةَ المأوَى عِندَها، وأنَّه يَغشاها مِن أمْرِه وخَلْقِه ما يَغشَى، وهذا مِن أحسَنِ الاستِطرادِ، وهو أسلوبٌ لطيفٌ جدًّا في القرآنِ، وهو نَوعانِ:
أحدُهما: أنْ يَستطرِدَ مِن الشَّيءِ إلى لازمِه، مِثلُ هذا، ومِثلُ قَولِه تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9] ، ثمَّ استطردَ مِن جوابِهم إلى قَولِه تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ [الزخرف: 10-13] ، وهذا ليس مِن جوابِهم، ولكنْ تقريرٌ له، وإقامةٌ للحُجَّةِ عليهم.
والنَّوعُ الثَّاني: أنْ يَستطرِدَ مِن الشَّخصِ إلى النَّوعِ، كقَولِه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المؤمنون: 12، 13] إلى آخرِه، فالأوَّلُ آدمُ، والثَّاني بَنُوه [97] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 262). .
25- في قَولِه تعالى: عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى سُؤالٌ: لِمَ اختِيرَت السِّدْرةُ لهذا الأمرِ دونَ غَيرِها مِنَ الشَّجَرِ؟
الجوابُ: قيل: لأنَّ السِّدْرةَ تَختَصُّ بثلاثةِ أوصافٍ: ظِلٌّ مديدٌ، وطَعمٌ لذيذٌ، ورائِحةٌ ذَكِيَّةٌ؛ فشابهت الإيمانَ الَّذي يَجمَعُ قَولًا وعَمَلًا ونِيَّةً؛ فظِلُّها بمنزِلةِ العَمَلِ لِتَجاوُزِه، وطَعمُها بمنزِلةِ النِّيَّةِ لكُمونِه، ورائحتُها بمنزلةِ القَولِ لظُهورِه [98] يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/396). .
26- قال الله تعالى: عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى أي: الجنَّةُ الجامِعةُ لكُلِّ نَعيمٍ، بحيث كانت مَحَلًّا تنتهي إليه الأماني، وتَرغَبُ فيه الإراداتُ، وتأوي إليها الرَّغَباتُ، وهذا دليلٌ على أنَّ الجَنَّةَ في أعلَى الأماكِنِ، وفَوقَ السَّماءِ السَّابِعةِ [99] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 819). . وفي الآيةِ دَليلٌ أيضًا على أنَّ الجنَّةَ مَخلوقةٌ، وموجودةٌ الآنَ، ومَن زَعَم أنَّها غَيرُ مَخلوقةٍ فهو كافِرٌ بهذه الآيةِ [100] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/291). ويُنظر أيضًا: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 15). .
27- في قَولِه تعالى: الْمَأْوَى يعني: المَصيرَ؛ مأوى مَن جَمعوا بيْنَ الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ، يأوُونَ إليها، ويَخلُدونَ فيها، وأمَّا النَّارُ فهي مأوى الكافِرينَ -والعِياذُ باللهِ-، وفي هذا دليلٌ واضِحٌ على أنَّ غايةَ الخلائِقِ -الجِنِّ والإنسِ- إمَّا إلى الجَنَّةِ، وإمَّا إلى النَّارِ، ولا ثالثَ لهما، فالجِنُّ والإنسُ إمَّا في النَّارِ، وإمَّا في الجَنَّةِ [101] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 211). .
28- يُستفادُ مِن قوله: الْمَأْوَى أنَّ القُبورَ ليست هي المَأوى والمَثوى؛ لأنَّ القبورَ مَمَرٌّ ومَعبَرٌ؛ إذ إنَّ وراءَ القُبورِ بَعْثًا [102] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 211). .
29- في قَولِه تعالى: لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى إشارةٌ إلى أنَّ آياتِ اللهِ عزَّ وجلَّ إمَّا كبيرةٌ، وإمَّا كُبرَى عُظمَى؛ لأنَّ «الكُبرَى» اسمُ تَفضيلٍ، ولا يقالُ: إنَّ مِن آياتِ اللهِ ما هو صغيرٌ؛ فالمِعْراجُ الَّذي حَصَل لا شَكَّ أنَّه مِن الآياتِ الكُبرى العَظيمةِ [103] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 214). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى أقسَمَ اللهُ تعالى بالنَّجمِ؛ لِما في خلْقِه مِن الدَّلالةِ على عَظيمِ قُدْرةِ اللهِ تعالَى [104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/90). .
- ومُناسَبةُ القَسَمِ بالنَّجْمِ إذا هَوَى: أنَّ الكلامَ مَسوقٌ لإثباتِ أنَّ القُرآنَ وحْيٌ مِن اللهِ مُنزَّلٌ مِن السَّماءِ، فشابَهَ حالُ نُزولِه الاعتباريِّ حالَ النَّجْمِ في حالةِ هُويِّه مُشابَهةً تَمثيليَّةً حاصلةً مِن نُزولِ شَيءٍ مُنيرٍ إنارةً مَعنويَّةً نازِلٍ مِن مَحلِّ رِفعةٍ مَعنويَّةٍ، شُبِّهَ بحالةِ نُزولِ نَجْمٍ مِن أعْلى الأفُقِ إلى أسْفلِه، وهو مِن تمثيلِ المعقولِ بالمحسوسِ، أو الإشارةُ إلى مُشابَهةِ حالةِ نُزولِ جِبريلَ مِن السَّمواتِ بحالةِ نُزولِ النَّجْمِ مِن أعلى مَكانِه إلى أسْفَلِه، أو بانقِضاضِ الشِّهابِ؛ تَشبيهُ مَحسوسٍ بمَحسوسٍ [105] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/91، 92). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وتَعريفُ (النَّجْم) باللَّامِ يَجوزُ أنْ يكونَ للجِنسِ. ويَحتمِلُ أنْ يكونَ تَعريفَ العَهْدِ، وأشهَرُ النُّجومِ بإطلاقِ اسمِ النَّجمِ عليه: الثُّريَّا؛ لأنَّهم كانوا يُوقِّتونَ بأزمانِ طُلوعِها مَواقيتَ الفُصولِ ونُضْجَ الثِّمارِ. وقيل: النَّجْمُ: الشِّعْرى اليَمانيَةُ، وهي العَبورُ، وكانتْ مُعظَّمةً عندَ العرَبِ، وعبَدَتْها خُزاعةُ [106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/89). .
- وفي ذِكْرِ إِذَا هَوَى احتِراسٌ مِن أنْ يَتوهَّمَ المشرِكون أنَّ في القسَمِ بالنَّجْمِ إقرارًا لعِبادةِ نَجْمِ الشِّعْرى؛ فإنَّ حالةَ الغُروبِ المُعبَّرَ عنها بالهُوِيِّ حالةُ انخفاضٍ ومَغيبٍ في تَخيُّلِ الرَّائي؛ لأنَّهم يَعُدُّون طُلوعَ النَّجمِ أَوْجًا لشَرَفِه، ويَعُدُّون غُروبَه حَضيضًا، وتلك اعتباراتٌ لهم تَخيليَّةٌ شائعةٌ بيْنَهم، فمِن النَّافعِ مَوعظةُ النَّاسِ بذلك؛ لأنَّه كافٍ في إقناعِهم وُصولًا إلى الحقِّ، فيَكونُ قولُه: إِذَا هَوَى إشعارًا بأنَّ النُّجومَ كلَّها مُسَخَّرةٌ لقُدْرةِ اللهِ تعالى، مُسيَّرةٌ في نِظامٍ أوجَدَها عليه، ولا اختيارَ لها، فليست أهْلًا لأنْ تُعبَدَ، فحصَلَ المَقصودُ مِن القسَمِ بما فيها مِن الدَّلالةِ على القُدرةِ الإلهيَّةِ، مع الاحتراسِ عن اعتقادِ عِبادتِها [107] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/91). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (28/233). .
- وفي الإقْسامِ بالنَّجْمِ إذا هَوى -على نَزاهتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عن شائبةِ الضَّلالِ والغَوايةِ- مِن البَراعةِ البَديعةِ وحُسْنِ المَوقعِ ما لا غايةَ وَراءَه؛ لأنَّ النَّجْمَ شأْنُه أنُ يَهتدِيَ بهِ السَّارِي إلى مَسالكِ الدُّنيا، كأنَّه قِيل: والنَّجْمِ الَّذي يَهتدِي به السَّابلةُ [108] السَّبيلُ: الطَّريقُ، وما وَضَح منه، والسَّابِلةُ: القومُ المُختَلفَةُ عليها في حوائِجِهم، جمعُ سَابِلٍ. يُنظر: ((العين)) للخليل (7/263)، ((تاج العروس)) للزبيدي (29/161، 162). إلى سَواءِ السَّبيلِ [109] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/154). .
2- قولُه تعالَى: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى فيه تَنْويهٌ بشأْنِ القُرآنِ، وتَنبيهٌ على مَناطِ اهتِدائِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ومَدارِ رَشادِه، كأنَّه قيلَ: والقُرآنِ الَّذي هو عَلَمٌ في الهِدايةِ إلى مَناهجِ الدِّينِ، ومَسالكِ الحقِّ؛ ما ضلَّ عنَها محمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وما غَوى [110] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/154). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- قولُه: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ لم يَقُلْ: ما ضَلَّ محمَّدٌ؛ تأكيدًا لإقامةِ الحُجَّةِ عليهم بأنَّه صاحِبُهم، وهم أعلَمُ الخَلقِ به وبحالِه وأقوالِه وأعمالِه، وأنَّهم لا يَعرِفونَه بكَذِبٍ ولا غَيٍّ ولا ضَلالٍ، ولا يَنقِمونَ عليه أمرًا واحِدًا قَطُّ، وقد نَبَّه على هذا المعنى بقَولِه تعالى: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ [المؤمنون: 69] ، وبقَولِه تعالى: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22] [111] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 246). ، فإيرادُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعُنوانِ صاحبيَّتِه صَاحِبُكُمْ؛ للإيذانِ بوُقوفِهم على تَفاصيلِ أحوالِه الشَّريفةِ، وإحاطتِهم خُبْرًا ببَراءتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ممَّا نُفِيَ عنه بالكُلِّيَّةِ، واتِّصافِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بغايةِ الهُدَى والرَّشادِ؛ فإنَّ طُولَ صُحبتِهم له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ومُشاهدَتَهم لِمَحاسنِ شُؤونِه العظيمةِ؛ مُقْتضيةٌ لذلكَ حتْمًا. وللتَّعريضِ بأنَّهم أهلُ بُهتانٍ؛ إذ هو بيْنَهم في بلَدٍ لا تَتعذَّرُ فيه إحاطةُ عِلمِ أهلِه بحالِ واحدٍ مُعيَّنٍ مَقصودٍ مِن بيْنِهم [112] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/154)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/92). . وأيضًا فإنَّه إذا كان صاحبَهم فإنَّ مقتضَى الصُّحبةِ أنْ يُصَدِّقُوه ويَنصروه؛ لا أنْ يكونوا أعداءً له [113] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 205). .
- وهذا ردٌّ مِن اللهِ تعالَى على المشرِكينَ، وإبطالٌ لقولِهم في النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّهم قالوا: مَجنونٌ، وقالوا: ساحِرٌ، وقالوا: شاعِرٌ، وقالوا في القُرآنِ: إنْ هذا إلَّا اختِلاقٌ، فالجنونُ مِن الضَّلالِ؛ لأنَّ المَجنونَ لا يَهْتدي إلى وَسائلِ الصَّوابِ، والكذِبُ والسِّحرُ ضَلالٌ وغَوايةٌ، والشِّعرُ المُتعارَفُ بيْنَهم غَوايةٌ [114] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/92، 93). .
- وقدْ ذُكِرَتِ الضَّلالةُ والغَوايةُ وهما غيرُ مُتَّحِدَتَينِ في المعْنى؛ إذ الضَّلالةُ ضِدُّ الهُدى، والغَوايةُ ضِدُّ الرُّشْدِ، أو المعْنى: ما ضلَّ في قولِه، ولا غَوَى في فِعلِه. وبتَقديرِ اتِّحادِهما يكونُ ذلك مِن بابِ التَّأكيدِ باللَّفظِ المُخالِفِ مع اتِّحادِ المعْنى [115] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 538). .
3- قولُه تعالَى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى عطْفٌ على جَوابِ القَسَمِ، وهذا وصْفُ كَمالٍ لِذاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: وما يَصدُرُ نُطقُه بالقُرآنِ -على قول- عن هَواهُ ورأْيِه أصلًا؛ فإنَّ المرادَ استِمرارُ نفْيِ النُّطقِ عن الهوَى، لا نفْيُ استِمرارِ النُّطقِ عنه [116] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/155)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/93). .
- و(ما) نافيةٌ، نَفَتْ أنْ يَنطِقَ عن الهَوى، ونفْيُ النُّطقِ عن هوًى يَقْتضي نفْيَ جِنسِ ما يَنطِقُ به عن الاتِّصافِ بالصُّدورِ عن هوًى، سواءٌ كان القرآنَ أو غيرَه مِن الإرشادِ النَّبويِّ بالتَّعليمِ والخَطابةِ، والمَوعظةِ والحِكمةِ، ولكنَّ القُرآنَ هو المَقصودُ؛ لأنَّه سَببُ هذا الرَّدِّ عليهم [117] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/93). .
4- قولُه تعالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى
- قولُه: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى استِئنافٌ بَيانيٌّ لجُملةِ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [118] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/94). [النَّجْم: 3].
- وضَميرُ هُوَ عائدٌ إلى المَنطوقِ به، المأخوذِ مِن فِعلِ يَنْطِقُ. ويَجوزُ أنْ يَعودَ الضَّميرُ إلى مَعلومٍ مِن سِياقِ الرَّدِّ عليهم؛ لأنَّهم زَعَموا في أقوالِهم المَردودةِ بقَولِه: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النَّجْم: 2]؛ زَعَموا القُرآنَ سِحرًا، أو شِعرًا، أو كِهانةً، أو أساطيرَ الأوَّلينَ، أو إفْكًا افتراهُ [119] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/94). !
- وجُملةُ يُوحَى مُؤكِّدةٌ لجُملةِ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، مع دَلالةِ المُضارِعِ على أنَّ ما يَنطِقُ به مُتجدِّدٌ وحْيُه غيرُ مُنقطِعٍ [120] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/155)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/95). .
- ومُتعلَّقُ يُوحَى مَحذوفٌ، تَقديرُه: إليه، أي: إلى صاحِبِكم [121] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/95). .
- وتُرِكَ فاعلُ يُوحَى لضرْبٍ مِن الإجمالِ الَّذي يَعقُبُه التَّفصيلُ؛ لأنَّه سيَرِدُ بعْدَه ما يُبيِّنُه مِن قولِه: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [122] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/95). [النَّجْم: 10].
- وجُملةُ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ... إلخ، مُستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا؛ لبَيانِ كَيفيَّةِ الوحْيِ [123] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/95). .
- وضَميرُ الغائبِ في عَلَّمَهُ عائدٌ إلى الوَحْيِ، أو إلى ما عادَ إليه ضَميرُ هُوَ مِن قولِه: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، وضَميرُ (هو) يَعودُ إلى القُرآنِ، وهو ضَميرٌ في مَحلِّ أحَدِ مَفعولَيْ (علَّم)، وهو المَفعولُ الأوَّلُ، والمفعولُ الثَّاني مَحذوفٌ، والتَّقديرُ: علَّمَه إيَّاهُ، يَعودُ إلى صَاحِبُكُمْ [النَّجْم: 2]. ويَجوزُ جَعْلُ هاءِ عَلَّمَهُ عائدًا إلى صَاحِبُكُمْ، والمَحذوفُ عائدٌ إلى وَحْيٌ؛ إبطالًا لقولِ المُشرِكين: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/95). [النحل: 103] .
- وشَدِيدُ الْقُوَى صِفةٌ لمَحذوفٍ يدُلُّ عليه ما يُذكَرُ بعْدُ ممَّا هو مِن شُؤونِ الملائِكةِ، أي: مَلَكٌ شَديدُ القُوى [125] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/418)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/95). .
- والمِرَّةُ: تُطلَقُ على قوَّةِ الذَّاتِ، وتُطلَقُ على مَتانةِ العقْلِ وأصالتِه. وتَخصيصُ جِبريلَ بهذا الوَصْفِ يُشعِرُ بأنَّه الملَكُ الَّذي يَنزِلُ بفُيوضاتِ الحِكمةِ على الرُّسلِ والأنبياءِ [126] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/95، 96). .
- وقوله: فَاسْتَوَى مُفرَّعٌ على ما تَقدَّمَ مِن قولِه: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى بطَريقِ التَّفسيرِ، والفاءُ لتَفصيلِ عَلَّمَهُ؛ فإنَّه إلى قولِه تعالى: مَا أَوْحَى بيانٌ لكيفيَّةِ التعليمِ، أي: فاستقامَ على صُورتِه الَّتي خلَقَه اللهُ تعالَى عليها دونَ الصُّورةِ الَّتي كانَ يَتمثَّلُ بها كلَّما هبَطَ بالوحْيِ. وقيلَ: استوَى بقُوَّتِه على ما جُعلَ له مِن الأمرِ [127] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/155)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/96). .
5- قولُه تعالَى: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى وصْفُ الأُفقِ بالأعْلى يُفيدُ أنَّه ناحيةٌ مِن جَوِّ السَّماءِ؛ وذُكِرَ هذا ليُرتَّبَ عليه قولُه: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [128] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/96). .
6- قولُه تعالَى: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى
- (ثُمَّ) عاطفةٌ على جُملةِ فَاسْتَوَى [النَّجْم: 6]، والتَّراخي الَّذي تُفيدُه (ثُمَّ) تراخٍ رُتبيٌّ؛ لأنَّ الدُّنوَّ إلى حيثُ يَبلُغُ الوحيُ هو الأهمُّ في هذا المقامِ، والدُّنوُّ: القُربُ، وإذ قدْ كان فِعلُ الدُّنوِّ قدْ عُطِفَ بحَرْفِ (ثُمَّ) على فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى؛ عُلِمَ أنَّه دنَا إلى العالَم الأرضيِّ، أي: أخَذَ في الدُّنوِّ بعدَ أنْ تلقَّى ما يُبلِّغُه إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [129] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/96). .
- و(تَدلَّى): انخفَضَ مِن عُلُوٍّ قَليلًا، أي: ينزِلُ مِن طَبقاتٍ إلى ما تحتَها كما يَتدَلَّى الشَّيءُ المُعلَّقُ في الهواءِ، بحيثُ لو رآهُ الرَّائي يَحسَبُه مُتدلِّيًا وهو ينزِلُ مِن السَّماءِ غيرَ مُنقَضٍّ [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/96). .
- قولُه: فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ فيه إيجازٌ بالحذْفِ، والتَّقديرُ: فكان مِقدارُ مَسافةِ قُربِه مِثلَ قابِ قَوسَيْنِ، فحُذِفَت هذه المُضافاتُ [131] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/420). .
- وأيضًا قولُه: فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ قيل: هو كِنايةٌ عن المُعاهَدةِ على لُزومِ الطَّاعةِ؛ لأنَّ الحَليفَينِ في عُرْفِ العربِ إذا تَحالَفا على الوفاءِ والصَّفاءِ، أَلْصَقا وتَرَيْ قَوسَيْهما [132] يُنظر: ((تفسير الزمخشري - حاشية ابن المنيِّر)) (4/420). .
- وحرْفُ (أوْ) في قولِه: أَوْ أَدْنَى للتَّخييرِ في التَّقديرِ، وهو مُستعمَلٌ في التَّقريبِ، أي: إنْ أراد أحدٌ تَقريبَ هذه المسافةِ، فهو مُخيَّرٌ بيْنَ أنْ يَجعَلَها قابَ قوسَينِ أو أدْنى، أي: لا أزيَدَ؛ إشارةً إلى أنَّ التَّقديرَ لا مُبالَغةَ فيه [133] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/157)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 539)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/98). .
7- قولُه تعالَى: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى
- تفرَّعَ قولُه: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى على قولِه: فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ المُفرَّعِ على المُفرَّعِ على قَولِه: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، وهذا التَّفريعُ هو المَقصودُ مِن البَيانِ، وما قبْلَه تَمهيدٌ له، وتَمثيلٌ لأحوالٍ عَجيبةٍ بأقرَبِ ما يَفهَمُه النَّاسُ؛ لقصْدِ بَيانِ إمكانِ تَلقِّي الوحْيِ عن اللهِ تعالى؛ إذ كان المشرِكون يُحِيلونه [134] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/98). .
- وضَميرُ أَوْحَى عائدٌ إلى اللهِ تعالى المَعلومِ مِن قولِه: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النَّجْم: 4]، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ، والمعْنى: فأَوحَى اللهُ إلى عَبْدِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذا كافٍ في هذا المَقامِ؛ لأنَّ المَقصودَ إثباتُ الإيحاءِ لإبطالِ إنكارِهم إيَّاهُ [135] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/98). .
- وقيل: قولُه: فَأَوْحَى، أي: جِبريلُ عليهِ السَّلامُ إِلَى عَبْدِهِ عبْدِ الله تعالَى، وإضمارُه قبْلَ الذِّكرِ لغايةِ ظُهورِه، وإنْ لم يَجْرِ لاسْمِه عزَّ وجل ذِكرٌ؛ لأنَّه لا يُلْبِسُ [136] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/420)، ((تفسير البيضاوي)) (5/158)، ((تفسير أبي السعود)) (8/156). .
- وإيثارُ التَّعبيرِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعُنوانِ عَبْدِهِ إظْهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لِمَا في اختِصاصِ الإضافةِ إلى ضَميرِ الجَلالةِ مِن التَّشريفِ [137] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/98). .
- في قولِه: مَا أَوْحَى إبهامٌ؛ لتَفخيمِ الوحْيِ الَّذي أُوحِيَ إليه وتعظيمِه، كأنَّه أعظَمُ مِن أنْ يُحيطَ به بَيانٌ، فأبْهَمَ الأمْرَ الَّذي أوحاهُ إلى عبْدِه وجعَلَه عامًّا، وذلك أبلَغُ؛ لأنَّ السَّامعَ يَذهَبُ وهمُه فيه كلَّ مَذهبٍ [138] يُنظر: ((تفسير الزمخشري - حاشية ابن المنيِّر)) (4/420)، ((تفسير البيضاوي)) (5/158)، ((تفسير أبي حيان)) (10/11)، ((تفسير الشوكاني)) (5/128)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/ 98)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/347). .
8- قولُه تعالَى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى اللَّامُ في قولِه: الْفُؤَادُ عِوَضٌ عن المُضافِ إليه، أي: فُؤادُه؛ وعليه فيكونُ تَفريعُ الاستِفهامِ في قولِه: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى استفهامًا إنكاريًّا؛ لأنَّهم مارَوْه. ويَجوزُ أنْ يكونَ قولُه: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى تأْكيدًا لمَضمونِ قَولِه: فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النَّجْم: 9]؛ فإنَّه يُؤذِنُ بأنَّه بمَرأًى مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لرفْعِ احتمالِ المجازِ في تَشبيهِ القُرْبِ، أي: هو قُرْبٌ حِسِّيٌّ، وليس مُجرَّدَ اتِّصالٍ رُوحانيٍّ [139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/98، 99). .
9- قولُه تعالَى: أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى
- قولُه: أَفَتُمَارُونَهُ مِن المُماراةِ، وهي المُلاحاةُ والمُجادَلةُ في الباطلِ، وتَعديةُ الفِعلِ فيهما بحرْفِ الاستِعلاءِ (علَى)؛ لتَضمُّنِه معْنى الغَلَبةِ، أي: هَبْكُم غالَبْتُموه على عِبادتِكم الآلهةَ، وعلى الإعراضِ عن سَماعِ القرآنِ، ونحْوِ ذلك؛ أتَغْلِبونه على ما رَأى ببصَرِه [140] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/420)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/99، 100). ؟!
- وفي قولِه: عَلَى مَا يَرَى عبَّر عن الماضِي بالمضارِعِ يَرَى؛ إشارةً إلى استِحضارِ هذا الشَّيءِ، وأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينَ أخْبَرَ به كأنَّما يَراهُ الآنَ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا حدَّثَ عن ماضٍ فرُبَّما يقولُ قائلٌ: لعلَّه نسِيَ فأخطأَ، ولكنْ إذا عبَّرَ بالمضارِعِ صارَ كأنَّه يَتحدَّثُ عن شَيءٍ هو يُشاهِدُه [141] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 209، 210). . وقيل: فيه إشارةٌ إلى ما يمكِنُ حدوثُه بعدُ [142] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/12). .
10- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، أي: إنْ كُنتُم تَجحَدون رُؤيتَه جِبريلَ في الأرضِ، فلقدْ رآهُ رُؤيةً أعظَمَ منها؛ إذ رآهُ في العالَمِ العُلويِّ مُصاحِبًا، فهذا مِن التَّرقِّي في بَيانِ مَراتبِ الوحْيِ، والعطفُ عطْفُ قِصَّةٍ على قِصَّةٍ، ابتُدِئَ بالأضْعَفِ، وعُقِّبَ بالأقْوى؛ فتأْكيدُ الكلامِ بلامِ القسَمِ وحرْفِ التَّحقيقِ مِن أجْلِ ما في هذا الخبَرِ مِن الغَرابةِ، مِن حيثُ هو قدْ رأَى جِبريلَ، ومِن حيثُ إنَّه عرَجَ به إلى السَّماءِ، ومِن الأهمِّيَّةِ مِن حيثُ هو دالٌّ على عَظيمِ مَنزلةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فضَميرُ الرَّفْعِ في رَآَهُ عائدٌ إلى صَاحِبُكُمْ [النَّجْم: 2]، وضَميرُ النَّصبِ عائدٌ إلى جِبريلَ، وفي ذلك إشعارٌ بأنَّ الرُّؤيةَ في هذه المرَّةِ كانت أيضًا بنُزولٍ ودُنُوٍّ [143] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/100). .
- وانتِصابُ نَزْلَةً على نزْعِ الخافضِ، أو على النِّيابةِ عن ظرْفِ المكانِ، أو على حذْفِ مُضافٍ بتَقديرِ: وقْتَ نَزلةٍ أُخرى، فتَكونُ نائبًا عن ظرْفِ الزَّمانِ [144] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/100). .
- وقوله: عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى مُتعلِّقٌ بـ رَآَهُ، وخُصَّت بالذِّكرِ رُؤيتُه عندَ سِدرةِ المُنتَهى؛ لعَظيمِ شرَفِ المكانِ بما حصَلَ عِندَه مِن آياتِ ربِّه الكُبْرى، ولأنَّها مُنتهَى العُروجِ في مَراتبِ الكَرامةِ [145] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/100). .
- وإضافةُ سِدْرَةِ إلى الْمُنْتَهَى يَجوزُ أنْ تكونَ إضافةً بَيانيَّةً. ويَجوزُ كونُها لتَعريفِ السِّدرةِ بمَكانٍ يُنْتهَى إليه لا يَتجاوَزُه أحدٌ؛ لأنَّ ما وراءَهُ لا تُطِيقُه المخلوقاتُ. أو إضافةُ المِلْكِ إلى المالِكِ على حذْفِ الجارِّ والمَجرورِ، أي: سِدرةُ المُنْتَهى إليهِ هو اللهُ عزَّ وجلَّ [146] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/156)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/101). .
11- قولُه تعالَى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ظرْفٌ مُستقَرٌّ [147] الظَّرْفُ المُستقَرُّ -بفتحِ القافِ-: سُمِّيَ بذلك؛ لاستِقرارِ الضَّميرِ فيه بَعْدَ حذْفِ عامِلِه، وهو الفِعلُ (استقرَّ)، ولأنَّه حينَ يصيرُ خبَرًا مثلًا يَنتقِلُ إليه الضَّميرُ مِن عامِلِه المحذوفِ ويَستقِرُّ فيه؛ وبسببِ هذَينِ الأمْرَينِ استحقَّ عاملُه الحذفَ وُجوبًا. فإذا أُلغِيَ الضَّميرُ فيه سُمِّيَ ظرفًا لَغوًا؛ لأنَّه فَضلةٌ لا يُهتَمُّ به، وسُمِّيَ أيضًا «اللَّغوُ» لَغوًا؛ لأنَّ وُجودَه ضئيلٌ. فقولُك: كان في الدَّارِ زَيدٌ، أي: كان مُستقِرًّا في الدَّارِ زَيدٌ؛ فالظَّرفُ مُستقَرٌّ فيه، ثمَّ حُذِف الجارُّ، كما يُقالُ: المحصولُ للمَحصولِ عليه، ولم يُستحسَنْ تقديمُ الظَّرفِ اللَّغوِ، وهو ما ناصِبُه ظاهِرٌ؛ لأنَّه -إذَنْ- فَضلةٌ؛ فلا يُهتمُّ به، نحو: كان زَيدٌ جالسًا عندَك. يُنظر: ((شرح الرضي على الكافية)) (4/210)، ((موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب)) لخالد الأزهري (ص: 82)، ((النحو الوافي)) لعباس حسن (2/446، 447). في مَوضعِ الحالِ مِن سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، أُرِيدَ به التَّنويهُ بما حفَّ بهذا المكانِ المُسمَّى سِدرةَ المُنْتهى مِن الجَلالِ والجَمالِ [148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/101). .
- وفي قولِه: مَا يَغْشَى إبهامٌ للتَّفخيمِ الإجماليِّ، وتَعظيمٌ وتَكثيرٌ لِمَا يَغْشاها، وأنَّه تَضيقُ عنه عِباراتُ الوصْفِ في اللُّغةِ؛ فقد عُلِمَ بهذه العِبارةِ أنَّ ما يَغشاها مِن الخلائقِ الدَّالَّةِ على عَظَمةِ اللهِ وجَلالِهِ أشياءُ لا يَكتَنِهُها النَّعتُ، ولا يُحيطُ بها الوصفُ [149] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/421)، ((تفسير أبي حيان)) (10/13)، ((تفسير أبي السعود)) (8/157)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/101). .
- وتأْخيرُ مَا يَغْشَى عن المَفعولِ؛ للتَّشويقِ إليهِ [150] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/157). .
- وصِيغةُ المُضارعِ مَا يَغْشَى لحِكايةِ الحالِ الماضيةِ؛ استِحضارًا لصُورتِها البَديعةِ، وللإيذانِ باستِمرارِ الغَشَيانِ بطَريقِ التَّجدُّدِ [151] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/157). .
12- قولُه تعالَى: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى
- جُملةُ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى مُعترِضةٌ، وهي في معْنى جُملةِ وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى إلى آخِرِها، أي: رأى جِبريلَ رُؤيةً لا خطَأَ فيها، ولا زِيادةَ على ما وُصِفَ، أي: لا مُبالَغةَ [152] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/101). .
13- قولُه تعالَى: لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى تَذْييلٌ، أي: رأى آياتٍ غيْرَ سِدرةِ المُنْتهَى، وجنَّةِ المأْوَى، وما غشِيَ السِّدرةَ مِن البَهجةِ والجَلالِ؛ رأى مِن آياتِ اللهِ الكُبْرى [153] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/102). .
- وفيه إيجازٌ بالحذْفِ، أي: واللهِ لقدْ رأَى ... [154] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/421). .
- قولُه: الْكُبْرَى صِفةُ آَيَاتِ رَبِّهِ، والمَرئيُّ مَحذوفٌ؛ لتَفخيمِ الأمْرِ وتَعظيمِه، كأنَّه قال: لقدْ رَأى مِن آياتِ ربِّه الكُبْرى أُمورًا عِظامًا لا يُحِيطُ بها الوصْفُ، والحذْفُ في مِثلِ هذا أبلَغُ وأهولُ؛ لأنَّ فيه تَفخيمًا لآياتِ اللهِ الكُبرى، وأنَّ فيها ما رآهُ، وفيها ما لمْ يَرَهُ [155] يُنظر: ((تفسير الزمخشري - حاشية ابن المنيِّر)) (4/421)، ((حاشية الطِّيبي على الكشاف)) (15/91)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (9 /350). .