موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيات (41-43)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ

غريب الكلمات:

خِفَافًا وَثِقَالًا: أي: خَفَّتْ عليكم الحَركةُ أو ثَقُلَت، مُوسِرينَ أو مُعسِرينَ، شبابًا أو شُيوخًا، والخِفافُ جمعُ خفيفٍ. والثقالُ: جمعُ ثقيلٍ، والخَفيفُ: بإزاءِ الثَّقيلِ، وأصلُ (ثقل): ضِدُّ الخِفَّةِ
عَرَضًا قَرِيبًا: أي: غَنيمةً حاضِرةً، سَهْلةَ التَّناوُلِ، والعَرَضُ: ما لا يكونُ له ثباتٌ، والعَرَضُ: طَمَعُ الدُّنيا، قليلًا كان أو كثيرًا، وسُمِّيَ به؛ لأنَّه يُعْرِضُ، أي: يُريكَ عُرضَه .
سَفَرًا قَاصِدًا: أي: مَوضعًا قريبًا سَهْلًا غيرَ شاقٍّ .
الشُّقَّةُ: أي: السَّفَرُ البَعيدُ المَسافةِ، والناحيةُ التي تلحَقُك المشَقَّةُ في الوصولِ إليها، وأصل (شقق): يدلُّ على انصداعٍ في الشَّيءِ .

المعنى الإجمالي:

يأمُرُ اللهُ المؤمنينَ أن يَخرُجوا لجِهادِ الكُفَّارِ مُسرِعينَ، سواءٌ كانوا خِفافًا أم ثِقالًا، وأن يُجاهدوا بأموالِهم وأنفُسِهم؛ لإعلاءِ كَلِمةِ الله تعالى؛ فإنَّ ذلك خيرٌ لهم إن كانوا يَعلَمونَ.
ثمَّ يُخاطِبُ اللهُ نَبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا له: لو كان ما تدعُو إليه المُنافِقينَ المُتخَلِّفينَ عن غَزوِ الرُّومِ، غنيمةً حاضرةً سهلةَ التَّناوُلِ، وسَفَرًا سَهلًا لِمَوضعٍ قَريبٍ- لَخَرجوا معك، لكِنْ طالَتْ عليهم مسافةُ السَّفَرِ لِغَزوِ الرُّومِ، فتَرَكوا المَسيرَ معك لِشدَّةِ المشَقَّةِ، وسَيَحلِفونَ لك- يا محمَّدُ- كذبًا فيَقولون: والله لو استَطَعْنا الخُروجَ معكم لَخَرجْنا، يُهلِكونَ أنفُسَهم، واللهُ يعلَمُ أنَّهم كاذِبونَ.
عفا اللهُ عنك- يا مُحمَّدُ- على إذنِك لهؤلاءِ المُنافِقينَ حين استأذَنُوك للتخَلُّفِ عن الخُروجِ معك، لأيِّ شَيءٍ أذِنْتَ لهم؟ كان ينبغي ألَّا تأذَنَ لهم حتى تعلَمَ الصَّادِقينَ في أنَّ لهم عذرًا، وتَعلَمَ الكاذبينَ الذين لا عُذرَ لهم.

تفسير الآيات:

انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا وبَّخ اللهُ تعالى المُؤمِنينَ على التَّثاقُلِ عَن النَّفْرِ لَمَّا استنفَرَهم الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتوعَّدَ تعالى مَن لا ينفِرُ مع الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قفَّى عليه ببيانِ حُكمِ النَّفيرِ العامِّ، وأتبَعَه بهذا الأمرِ الجَزمِ، الذي يُوجِبُ القِتالَ على كلِّ فَردٍ مِن الأفرادِ بما استطاع، ولا يُعذَر فيه أحَدٌ بالتخَلُّفِ عن الإقدامِ، وتَركِ طاعةِ الإمامِ ، فقال تعالى:
انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً.
أي: اخرُجوا- أيُّها المُؤمِنونَ- إلى جهادِ الكُفَّارِ مُسرِعينَ، سواءٌ خَفَّ عليكم الجِهادُ وسَهُلَ، أم ثقُلَ وصَعُبَ، سواءٌ كُنتُم شبابًا أم شُيوخًا، أغنياءَ أم فُقَراءَ، أقوياءَ أم ضُعَفاءَ، نَشيطينَ أم كُسالى، فارغينَ مِن الشُّغُلِ أم مَشغولينَ .
كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التوبة: 38] .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا استُنفِرْتُم فانفِرُوا )) .
وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ.
أي: ابذُلوا جُهدَكم واستَفرِغوا وُسْعَكم- أيُّها المؤمنونَ- في إنفاقِ أموالِكم في تجهيزِ الغُزاةِ، والإعدادِ للجِهادِ، وقتالِ الكُفَّارِ بأنفُسِكم؛ لإعلاءِ كَلِمةِ الله عزَّ وجلَّ .
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((جاهدُوا المُشرِكينَ بأموالِكم وأنفُسِكم وألسِنَتِكم )) .
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ.
أي: أمْرُكم بالنَّفيرِ، وأمْرُكم بالجِهادِ بالأموالِ والأنفُسِ، فيه خيرٌ عظيمٌ لكم- أيُّها المُؤمِنونَ- في دُنياكم وآخِرَتِكم، وهو خيرٌ لكم مِن مَتاعِ الدُّنيا، إن كُنتُم تَعلَمونَ حقًّا شَرَفَ الجِهادِ، وفَضلَ المُجاهدينَ .
كما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216] .
وقال سبحانه: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه بِأَمْوَالِهمْ وَأَنْفُسِهمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهدِينَ بِأَمْوَالِهمْ وَأَنْفُسِهمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:95-96] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَرَسُولِه وَتُجَاهدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّه وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف: 10 - 13] .
وعن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((جاهدُوا في سبيلِ الله؛ فإنَّ الجِهادَ في سبيلِ الله بابٌ مِن أبوابِ الجنَّةِ، يُنَجِّي اللهُ به مِنَ الهَمِّ والغَمِّ )) .
وعن سهلِ بنِ سَعدٍ السَّاعديِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((رِباطُ يَومٍ في سبيلِ الله خَيرٌ مِن الدُّنيا وما عليها، وموضِعُ سَوطِ أحَدِكم من الجنَّةِ خَيرٌ مِن الدُّنيا وما عليها، والرَّوحةُ يَروحُها العَبدُ في سبيلِ اللهِ أو الغَدوةُ، خَيرٌ مِن الدُّنيا وما عليها )) .
وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما مِن أحَدٍ يَدخُلُ الجنَّةَ، يُحِبُّ أن يرجِعَ إلى الدُّنيا، وأنَّ له ما على الأرضِ مِن شَيءٍ، غيرُ الشَّهيدِ؛ فإنَّه يتمَنَّى أن يرجِعَ، فيُقتَلَ عَشرَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا يَرى من الكَرامةِ )) .
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بالغَ اللهُ تعالى في تَرغيبِهم في الجِهادِ في سبيلِ الله، وكان قد ذَكَرَ قَولَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ؛ عاد إلى تقريرِ كَونِهم مُتَثاقِلينَ، وبيَّنَ أنَّ أقوامًا- مع كلِّ ما تقَدَّمَ مِن الوعيدِ، والحَثِّ على الجهادِ- تخلَّفوا في غَزوةِ تَبوك ، فقال تعالى:
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ.
أي: لو كان- يا مُحمَّدُ- ما تدعُو إليه المُنافِقينَ المُتَخلِّفينَ عن غَزْوِ الرُّومِ، غنيمةً حاضِرةً سَهلةَ التَّناوُلِ، وسفَرًا سَهلًا لِمَوضعٍ قَريبٍ- لَخَرجوا معك؛ طمَعًا في متاعِ الحياةِ الدُّنيا .
وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ.
أي: ولكنْ طالَتْ عليهم مَسافةُ السَّفرِ لِغَزوِ الرُّومِ، فتَرَكوا المَسِيرَ معك؛ لشِدَّةِ المشَقَّةِ .
وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ.
أي: وسيَحلِفُ لك- يا مُحمَّدُ- هؤلاءِ المُنافِقونَ، فيقولونَ كاذِبينَ: والله لو أطَقْنا الخُروجَ معكم في الغَزْوِ- بوجودِ المالِ والمراكِبِ، وقُوَّةِ البَدَنِ- لخَرَجْنا معكم لِقتالِ الرُّومِ .
يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ.
أي: يُوجِبُ المنافِقونَ لأنفُسِهم غضَبَ الله وعِقابَه؛ بسبَبِ نِفاقِهم، وحَلِفِهم بالله تعالى كاذِبينَ، وتخَلُّفِهم عن الجِهادِ .
وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.
أي: واللهُ يعلَمُ أنَّ المُنافِقينَ- في اعتذارِهم عن القُعودِ، وحَلِفِهم- كاذِبونَ؛ لأنَّهم كانوا قادِرينَ على الخُروجِ لِلقتالِ، ولكِنَّهم قَعَدوا عنه؛ لِنِفاقِهم، وزُهدِهم في الخَيرِ .
عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بكَّتَهم على وجهِ الإعراضِ؛ لأجلِ التخَلُّفِ والحَلِفِ عليه كاذِبًا؛ أقبَلَ إليه صلَّى الله عليه وسلَّم بالعتابِ في لذيذِ الخِطابِ على الاسترسالِ في اللِّينِ لهم والائتلافِ، وأخْذِ العَفوِ وتَرْكِ الخِلافِ إلى هذا الحَدِّ، فقال مُؤذِنًا بأنَّهم ما تخلَّفوا إلَّا بإذنِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لأعذارٍ ادَّعَوها كاذبينَ فيها، كما كَذَبوا في هذا الحَلِف :
عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ.
أي: سامَحَك اللهُ وغَفَرَ لك- يا مُحمَّدُ- على إذْنِك لِهؤلاءِ المُنافِقينَ، الذين استَأذَنوك في التخَلُّفِ عن الخُروجِ معك، لأيِّ شَيءٍ أذِنْتَ للمُنافِقينَ أن يتخَلَّفوا عن المَسِيرِ معك لِغَزوِ الرُّومِ ؟!
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ.
أي: كان ينبغي لك- يا مُحمَّدُ- عندما استأذَنَك المتخَلِّفونَ عن المَسيرِ معك لجِهادِ الرُّومِ، ألَّا تأذَنَ لأحدٍ منهم حتى تعلَمَ الصَّادِقينَ الذينَ لهم عُذرٌ في تخلُّفِهم، فتعذِرَهم، وتعلَمَ الكاذِبينَ الذين لا عُذرَ لهم، وإنما تخَلَّفوا نِفاقًا وشَكًّا في دينِ الله .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّه لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ في هذا إشارةٌ إلى ذَمِّهم بِسُفولِ الهمَمِ، ودَناءَةِ الشِّيَم؛ بالعَجزِ والكَسَل، والنَّهَم والثِّقَل، وإلى أنَّ هذا الدِّينَ مَتينٌ، لا يحمِلُه إلَّا ماضي الهَمِّ، صادِقُ العَزمِ .
2- حُبُّ المنافِعِ الماديَّةِ، والرَّغبةُ فيها، لاصِقٌ بِطَبعِ الإنسانِ، وناهيك بها إذا كانت سَهلةَ المأخَذِ، قَريبةَ المَنالِ، وكان الرَّاغِبُ فيها مِن غَيرِ المُوقِنينَ بالآخِرةِ، وما فيها من الأجرِ العَظيمِ، قال الله تعالى: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهمُ الشُّقَّةُ !
3- قَولُ الله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ... فيه دلالةٌ على وجوبِ الاحترازِ عن العَجَلةِ، ووجوبِ التثبُّتِ والتأنِّي، وتَركِ الاغترارِ بِظواهرِ الأمورِ، والمُبالغةِ في التفحُّصِ، حتى يُمكِنَه أن يعامِلَ كُلَّ فَريقٍ بما يستحِقُّه مِن التَّقريبِ أو الإبعادِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا استدَلَّ بها من أوجَبَ النَّفيرَ على كلِّ أحدٍ، عند الحاجةِ وهُجومِ الكُفَّارِ .
2- قَولُ الله تعالى: وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه فيه دليلٌ على أنَّه كما يجِبُ الجِهادُ في النَّفسِ، يجِبُ الجهادُ في المال، حيث اقتضَتِ الحاجةُ ودَعَت لذلك .
3- قال الله تعالى: وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه قال أهلُ العِلمِ: هذا يدُلُّ على أنَّ المُوسِرَ يجِبُ عليه الجِهادُ بالمالِ، إذا عجَزَ عن الجهادِ ببَدَنِه؛ لِزَمانةٍ أو عِلَّةٍ، فوجوبُ الجِهادِ بالمالِ كوُجوبِ الجِهادِ بالبَدَنِ على الكفايةِ .
4- قال اللهُ تعالى: وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه قد أمَرَ اللهُ بكِلَا الأمرَينِ، فمن استطاعَهما معًا وجَبَا عليه، ومن لم يستَطِعْ إلَّا واحدًا منهما، وجَبَ عليه الذي استطاعَه منهما .
5- قَولُ الله تعالى: وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اختيارُ فِعلِ (العلم) دون (الإيمان) مثلًا؛ للإشارةِ إلى أنَّ مِن هذا الخَيرِ ما يَخفى، فيَحتاجُ مُتطلِّبُ تَعيينِ شُعَبِه إلى إعمالِ النَّظَرِ، والعِلمِ .
6- الجهادُ بالنَّفسِ في قَولِه تعالى: وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه يشمَلُ جِهادَ اللِّسانِ وجِهادَ اليَدِ، بل قد يكونُ جهادُ اللِّسانِ أقوى منه، كما قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((جاهدُوا المُشرِكينَ بأيديكم وألسِنَتِكم وأموالِكم )) .
7- قال الله تعالى: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّه لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ في هذه الآيةِ دَلالةٌ على أنَّ تعمُّدَ اليمينِ الفاجرةِ، يُفضِي إلى الهَلاكِ .
8- قولُ الله تعالى: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّه لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ أخبَرَ عنهم أنَّهم سيَحلِفونَ، وهذا إخبارٌ عن غَيبٍ يقَعُ في المستقبَلِ، والأمرُ لَمَّا وقع كما أخبَرَ، كان هذا إخبارًا عن الغَيبِ، فكان مُعجِزًا ، ودليلًا على نبوَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقد جاؤُوا فحَلَفوا كما أخبَرَ أنَّه سيكونُ منهم .
9- قَولُ الله تعالى: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّه لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ فيه دليلٌ على أنَّ قَولَه: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا إنَّما يتناوَلُ مَن كان قادِرًا متمَكِّنًا؛ إذ لو لم تكُنِ الاستطاعةُ مُعتبَرةً في ذلك التَّكليفِ، لَمَا أمكَنَهم جعلُ عَدمِ الاستطاعةِ عُذرًا في التخَلُّفِ .
10- قولُ الله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ استدَلَّ به من قال بجَوازِ الاجتهادِ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه لو أَذِنَ لهم عن وحيٍ، لم يُعاتَبْ، واستدَلَّ بها من قال: إنَّ اجتِهادَه قد يُخطِئُ، ولكِنْ يُنَبَّهُ عليه بسُرعةٍ .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
قولُه: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فيه تَخصيصُ الأموالِ والأَنْفُسِ بالذِّكْرِ؛ إذ ذلك وَصْفٌ لأَكْمَلِ ما يكونُ مِنَ الجِهادِ وأَنْفعِهِ عِنْدَ اللهِ، فحَضَّ على كَمالِ الأوصافِ، وقُدِّمتِ الأموالُ على الأنفسِ؛ إذ هي أولُ مَصرفٍ وَقْتَ التَّجهيزِ ، ولأنَّ الجهادَ بالأموالِ أقلُّ حضورًا بالذهنِ عندَ سماعِ الأمرِ بالجهاد، فكان ذكرُه أهمَّ بعدَ ذكرِ الجهادِ مجملًا ، ولأنَّ الناسَ يُقاتلون دونَ أموالِهم؛ فإنَّ المجاهدَ بالمالِ قد أخرَج مالَه حقيقةً لله، والمجاهدُ بنفسِه لله يرجو النجاةَ، لا يُوافِقُ أنَّه يُقتلُ في الجهادِ؛ ولهذا أكثرُ القادرينَ على القتالِ يهونُ على أحدِهم أن يُقاتلَ، ولا يهونُ عليه إخراجُ مالِه .
قولُه: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فيه إبهامُ خَيْرٌ وتَنْكيرُه؛ لقَصْدِ تَوقُّعِ خيرِ الدُّنيا والآخِرةِ مِنْ شُعَبٍ كثيرةٍ .
واسْمُ الإشارةِ ذَلِكُمْ وما فيه مِنْ معنى البُعْدِ؛ للإيذانِ ببُعْدِ مَنْزلتِه في الشَّرَفِ .
2- قوله تعالى: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
قوله تعالى: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ اسْتئنافٌ لابْتِداءِ الكلامِ على حالِ المُنافِقينَ وغزوةِ تَبوكَ، حين تَخلَّفوا واسْتأذَنَ كثيرٌ مِنْهُم في التَّخلُّفِ، واعْتَلُّوا بِعَلَلٍ كاذِبةٍ، وهو ناشئٌ عن قولِه: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ .
وفي قولِه: لَوْ كانَ عَرَضًا قَرِيبًا... فيه صَرْفٌ للخِطابِ عنهم، وتوجيهٌ له إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ تعديدًا لِما صدَر عنهم مِنَ الهَنَاتِ قولًا وفعلًا على طريقِ المُباثَّةِ- أي: الإظهارِ-، وبيانًا لِدَناءةِ هِممِهم، وسائرِ رَذائلِهم .
قولُه: وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ فيه تَعديةُ الفِعل بَعُدتْ بحَرْفِ (عَلَى)؛ لتَضمُّنِه معنى (ثَقُلت)؛ ولذلك حَسُن الجمعُ بين فِعلِ بَعُدتْ وفاعلِه (الشُّقَّة) مع تَقارُب معنييهما، فكأنَّه قيل: ولكن بَعُد منهم المكانُ؛ لأنَّه شُقَّةٌ، فثَقُل عليهم السَّفرُ؛ فجاءَ الكلامُ مُوجزًا .
قولُه: لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ في تَقييدِ الخُروجِ بالمَعيَّةِ إشعارٌ بأنَّ أَمْرَ الغَزْوِ لا يُهِمُّهُم ابْتِداءً، وأنَّهم إنَّما يَخْرجونَ- لو خَرَجوا إجابةً لاسْتِنفارِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- خُروجَ النَّاصِرِ لغيرِهِ .
3- قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ
قوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ في إلْقاءِ العِتابِ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصِيغةِ الاسْتِفهامِ عَنِ العِلَّةِ: إيماءٌ إلى أنَّه ما أَذِنَ لهم إلَّا لسببٍ تأوَّلَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورجا منه الصَّلاحَ على الجُمْلةِ، وهذا مِن صِيَغِ التَّلطُّفِ في اللَّومِ .
وفي تَصديرِ فاتحةِ الخِطابِ ببِشارةِ العفوِ دونَ ما يُوهِمُ العِتابَ: مُراعاةٌ لجانبِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتعهدٌ له بحُسْنِ المفاوضةِ، ولُطْفِ المُراجَعةِ ، وأيضًا في افْتِتاحِ العِتابِ بالإعلامِ بالعفوِ إكرامٌ عظيمٌ، ولَطافةٌ شريفةٌ؛ حيثُ أخْبَرَه تعالى بالعَفوِ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَبْلَ أنْ يُباشِرَه بالعِتابِ، وفي هذا الافْتِتاحِ كِنايةٌ عَنْ خِفَّةِ مُوجِبِ العِتابِ؛ لأنَّهُ بمَنْزلةِ أنْ يُقال: ما كان يَنْبغي ، قال مُورِّق العجليُّ رضي الله عنه: سَمِعْتُم بمعاتبةٍ أحسَنَ من هذه، بدأ بالعَفوِ قبل المُعاتَبةِ، فقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ .
قولُه: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ في زِيادةِ لَكَ بعد قولِه: يَتَبَيَّنَ: زِيادةُ مُلاطفةٍ بأنَّ العِتابَ ما كان إلَّا عَن تَفريطٍ في شيءٍ يَعودُ نفعُه إليه .
وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ في تَغييرِ الأسلوبِ، حيثُ عبَّر عن الفريقِ الأَوَّلِ بالموصول الَّذِينَ وصِلتُه فعلٌ دالٌّ على الحُدوثِ صَدَقُوا، وعبَّر عن الفريقِ الثَّاني باسم الفاعلِ الْكاذِبِينَ المفيدِ للدَّوامِ؛ وذلِك للإيذانِ بأنَّ ما ظَهَر مِن الأوَّلين صِدقٌ حادِثٌ في أمرٍ خاصٍّ، غيرُ مُصحِّحٍ لدُخولِهم في زُمرةِ الصادِقين، وأنَّ ما صدَر مِن الآخَرين وإنْ كان كَذِبًا حادثًا مُتعلِّقًا بأمرٍ خاصٍّ، لكنَّه أمرٌ جارٍ على عادتِهم المستمرَّةِ، ناشئٌ عن رُسوخِهم في الكذِب .
وفيه أيضًا إسْنادُ التَّبيُّنِ إلى الأوَّلينَ الَّذِينَ صَدَقُوا وتَعليقُ العِلْمِ بالآخِرينَ الْكاذِبِينَ- مع أنَّ مَدارَ الإسنادِ والتَّعلُّقِ أولًا وبالذَّاتِ هو وَصْفُ الصِّدْقِ والكَذِبِ-؛ لأنَّ المَقْصِدَ هو العِلْمُ بكِلَا الفريقينِ باعْتِبارِ اتِّصافِهما بوَصْفَيْهِما المَذكورينِ، ومُعامَلتِهِما بحَسَبِ اسْتِحقاقِهِما، لا العِلْمُ بوَصْفيهِما بِذَاتَيْهِما، أو باعْتِبارِ قيامِهِما بمَوْصوفَيْهِما .