موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيات (41-43)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ

غريب الكلمات:

خِفَافًا وَثِقَالًا: أي: خَفَّتْ عليكم الحَركةُ أو ثَقُلَت، مُوسِرينَ أو مُعسِرينَ، شبابًا أو شُيوخًا، والخِفافُ جمعُ خفيفٍ. والثقالُ: جمعُ ثقيلٍ، والخَفيفُ: بإزاءِ الثَّقيلِ، وأصلُ (ثقل): ضِدُّ الخِفَّةِ [736] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 187)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/382)، ((المفردات)) للراغب (ص: 174، 288)، ((لسان العرب)) لابن منظور (9/79)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 139)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/535).
عَرَضًا قَرِيبًا: أي: غَنيمةً حاضِرةً، سَهْلةَ التَّناوُلِ، والعَرَضُ: ما لا يكونُ له ثباتٌ، والعَرَضُ: طَمَعُ الدُّنيا، قليلًا كان أو كثيرًا، وسُمِّيَ به؛ لأنَّه يُعْرِضُ، أي: يُريكَ عُرضَه [737] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/476)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 333)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/276)، ((المفردات)) للراغب (ص: 560)، ((غريب القرآن)) لقاسم الحنفي (ص: 91) .
سَفَرًا قَاصِدًا: أي: مَوضعًا قريبًا سَهْلًا غيرَ شاقٍّ [738] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/476)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 333)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/82)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 225)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 139). .
الشُّقَّةُ: أي: السَّفَرُ البَعيدُ المَسافةِ، والناحيةُ التي تلحَقُك المشَقَّةُ في الوصولِ إليها، وأصل (شقق): يدلُّ على انصداعٍ في الشَّيءِ [739] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 187)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/170، 171)، ((المفردات)) للراغب (ص: 459)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 225)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 139). .

المعنى الإجمالي:

يأمُرُ اللهُ المؤمنينَ أن يَخرُجوا لجِهادِ الكُفَّارِ مُسرِعينَ، سواءٌ كانوا خِفافًا أم ثِقالًا، وأن يُجاهدوا بأموالِهم وأنفُسِهم؛ لإعلاءِ كَلِمةِ الله تعالى؛ فإنَّ ذلك خيرٌ لهم إن كانوا يَعلَمونَ.
ثمَّ يُخاطِبُ اللهُ نَبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا له: لو كان ما تدعُو إليه المُنافِقينَ المُتخَلِّفينَ عن غَزوِ الرُّومِ، غنيمةً حاضرةً سهلةَ التَّناوُلِ، وسَفَرًا سَهلًا لِمَوضعٍ قَريبٍ- لَخَرجوا معك، لكِنْ طالَتْ عليهم مسافةُ السَّفَرِ لِغَزوِ الرُّومِ، فتَرَكوا المَسيرَ معك لِشدَّةِ المشَقَّةِ، وسَيَحلِفونَ لك- يا محمَّدُ- كذبًا فيَقولون: والله لو استَطَعْنا الخُروجَ معكم لَخَرجْنا، يُهلِكونَ أنفُسَهم، واللهُ يعلَمُ أنَّهم كاذِبونَ.
عفا اللهُ عنك- يا مُحمَّدُ- على إذنِك لهؤلاءِ المُنافِقينَ حين استأذَنُوك للتخَلُّفِ عن الخُروجِ معك، لأيِّ شَيءٍ أذِنْتَ لهم؟ كان ينبغي ألَّا تأذَنَ لهم حتى تعلَمَ الصَّادِقينَ في أنَّ لهم عذرًا، وتَعلَمَ الكاذبينَ الذين لا عُذرَ لهم.

تفسير الآيات:

انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا وبَّخ اللهُ تعالى المُؤمِنينَ على التَّثاقُلِ عَن النَّفْرِ لَمَّا استنفَرَهم الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتوعَّدَ تعالى مَن لا ينفِرُ مع الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قفَّى عليه ببيانِ حُكمِ النَّفيرِ العامِّ، وأتبَعَه بهذا الأمرِ الجَزمِ، الذي يُوجِبُ القِتالَ على كلِّ فَردٍ مِن الأفرادِ بما استطاع، ولا يُعذَر فيه أحَدٌ بالتخَلُّفِ عن الإقدامِ، وتَركِ طاعةِ الإمامِ [740] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/55)، ((تفسير أبي حيان)) (5/422)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/397). ، فقال تعالى:
انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً.
أي: اخرُجوا- أيُّها المُؤمِنونَ- إلى جهادِ الكُفَّارِ [741] قال ابنُ كثيرٍ: (أمَرَ اللهُ تعالى بالنَّفيرِ العامِّ مع الرَّسولِ- صلواتُ الله وسلامُه عليه- عامَ غَزوةِ تبوك؛ لقتالِ أعداءِ الله من الرُّومِ الكَفَرةِ مِن أهلِ الكِتابِ). ((تفسير ابن كثير)) (4/156). ويُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/535). مُسرِعينَ، سواءٌ خَفَّ عليكم الجِهادُ وسَهُلَ، أم ثقُلَ وصَعُبَ، سواءٌ كُنتُم شبابًا أم شُيوخًا، أغنياءَ أم فُقَراءَ، أقوياءَ أم ضُعَفاءَ، نَشيطينَ أم كُسالى، فارغينَ مِن الشُّغُلِ أم مَشغولينَ [742] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/474)، ((تفسير الماوردي)) (2/365)، ((البسيط)) للواحدي (10/446، 447)، ((تفسير ابن عطية)) (3/37)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/262)، ((تفسير الرازي)) (16/55)، ((تفسير القرطبي)) (8/150)، ((تفسير ابن كثير)) (4/156)، ((تفسير الشوكاني)) (2/414)، ((تفسير السعدي)) (ص: 338)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/206، 207)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/534، 535). قال الجصَّاص: (معلومٌ في اعتقادِ جَميعِ المُسلِمينَ أنَّه إذا خاف أهلُ الثُّغورِ مِن العَدُوِّ، ولم تكن فيهم مقاوَمةٌ لهم، فخافوا على بلادِهم وأنفُسِهم وذرارِيِّهم: أنَّ الفَرضَ على كافَّةِ الأمَّةِ أن يَنفِرَ إليهم مَن يكُفُّ عادِيَتَهم عن المسلمينَ، وهذا لا خِلافَ فيه بين الأمَّةِ؛ إذ ليس مِن قَولِ أحدٍ مِن المسلمينَ إباحةُ القُعودِ عنهم، حتى يستبيحوا دماءَ المُسلمين، وسَبْيَ ذراريِّهم). ((أحكام القرآن)) (3/146-147). وقال القرطبي: (إذا تعيَّنَ الجِهادُ بِغَلَبةِ العَدُوِّ على قُطرٍ مِن الأقطارِ... وجب على جميعِ أهلِ تلك الدَّارِ أن ينفِروا ويَخرُجوا إليه خِفافًا وثِقالًا، شبابًا وشُيوخًا، كلٌّ على قَدرِ طاقَتِه، مَن كان له أبٌ بغَيرِ إذنِه، ومَن لا أبَ له، ولا يتخَلَّف أحدٌ يقدِرُ على الخروجِ، مِن مقاتِل أو مُكثِّرٍ. فإنْ عجَزَ أهلُ تلك البَلدةِ عن القيامِ بعَدُوِّهم، كان على مَن قارَبَهم وجاوَرَهم أن يخرُجوا على حسَبِ ما لَزِمَ أهلَ تلك البلدةِ، حتى يعلموا أنَّ فيهم طاقةً على القيامِ بهم ومُدافَعتِهم، وكذلك كلُّ مَن عَلِمَ بِضَعفِهم عن عَدُوِّهم، وعَلِمَ أنَّه يُدرِكُهم ويُمكِنُه غِياثُهم، لَزِمَه أيضًا الخروجُ إليهم، فالمُسلِمونَ كُلُّهم يدٌ على مَن سواهم، حتى إذا قام بدَفعِ العَدُوِّ أهلُ النَّاحيةِ التي نزل العدوُّ عليها واحتَلَّ بها؛ سقَطَ الفَرضُ عن الآخرينَ، ولو قارب العدُوُّ دارَ الإسلامِ ولم يَدخُلوها، لَزِمَهم أيضًا الخروجُ إليه، حتى يَظهَرَ دِينُ الله، وتُحمى البَيضةُ، وتُحفَظَ الحَوزةُ، ويُخزى العَدُوُّ، ولا خلافَ في هذا). ((تفسير القرطبي)) (8/151، 152). .
كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التوبة: 38] .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا استُنفِرْتُم فانفِرُوا )) [743] رواه البخاري (3077)، ومسلم (1353). .
وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ.
أي: ابذُلوا جُهدَكم واستَفرِغوا وُسْعَكم- أيُّها المؤمنونَ- في إنفاقِ أموالِكم في تجهيزِ الغُزاةِ، والإعدادِ للجِهادِ، وقتالِ الكُفَّارِ بأنفُسِكم؛ لإعلاءِ كَلِمةِ الله عزَّ وجلَّ [744] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/475)، ((تفسير الألوسي)) (5/295)، ((تفسير السعدي)) (ص: 338)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/207). قال الجصاص: (أوجَبَ فَرضَ الجهادِ بالمالِ والنَّفسِ جَميعًا: فمَن كان له مالٌ وهو مريضٌ أو مُقعَدٌ، أو ضعيفٌ لا يصلُحُ للقتالِ؛ فعليه الجهادُ بمالِه بأن يُعطِيَه غَيرَه فيَغزوَ به، كما أنَّ مَن له قوَّةٌ وجَلَدٌ، وأمكَنَه الجهادُ بنَفسِه؛ كان عليه الجهادُ بنَفسِه- وإن لم يكن ذا مالٍ ويَسارٍ- بعد أن يجِدَ ما يُبَلِّغُه، ومن قَوِيَ على القتالِ وله مالٌ؛ فعليه الجهادُ بالنَّفسِ والمال، ومن كان عاجزًا بنَفسِه مُعدِمًا؛ فعليه الجِهادُ بالنُّصحِ لله ولِرَسولِه، بِقَولِه تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّه وَرَسُولِه [التوبة: 91] ). ((أحكام القرآن)) (3/151). ويُنظر: ((البسيط)) للواحدي (10/449)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (5/537)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/64). .
عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((جاهدُوا المُشرِكينَ بأموالِكم وأنفُسِكم وألسِنَتِكم )) [745] أخرجه أبو داود (2504)، واللفظ له، والنسائي (3096)، وأحمد (13638). صححه ابن حزم في ((أصول الأحكام)) (1/27)، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (114)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (417/18)، والألباني في ((صحيح أبي داود)) (2504). .
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ.
أي: أمْرُكم بالنَّفيرِ، وأمْرُكم بالجِهادِ بالأموالِ والأنفُسِ، فيه خيرٌ عظيمٌ لكم- أيُّها المُؤمِنونَ- في دُنياكم وآخِرَتِكم، وهو خيرٌ لكم مِن مَتاعِ الدُّنيا، إن كُنتُم تَعلَمونَ حقًّا شَرَفَ الجِهادِ، وفَضلَ المُجاهدينَ [746] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/475، 476)، ((البسيط)) للواحدي (10/449)، ((تفسير ابن عطية)) (3/37)، ((تفسير الرازي)) (16/56)، ((تفسير ابن كثير)) (4/158)، ((تفسير الشوكاني)) (2/414)، ((تفسير السعدي)) (ص: 338)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/207، 208). .
كما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216] .
وقال سبحانه: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه بِأَمْوَالِهمْ وَأَنْفُسِهمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهدِينَ بِأَمْوَالِهمْ وَأَنْفُسِهمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:95-96] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَرَسُولِه وَتُجَاهدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّه وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف: 10 - 13] .
وعن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((جاهدُوا في سبيلِ الله؛ فإنَّ الجِهادَ في سبيلِ الله بابٌ مِن أبوابِ الجنَّةِ، يُنَجِّي اللهُ به مِنَ الهَمِّ والغَمِّ )) [747] أخرجه أحمد (22699)، وابن أبي عاصم في ((الجهاد)) (1/133)، والحاكم في ((المستدرك)) (2404). صحَّح إسنادَه الحاكمُ، وقال ابنُ كثير في ((التفسير)) (4/5): حسنٌ عظيمٌ، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/275): أحدُ أسانيدِ أحمدَ وغيره ثقاتٌ، وصحَّحه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (1941): بمجموعِ طرقِه. .
وعن سهلِ بنِ سَعدٍ السَّاعديِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((رِباطُ يَومٍ في سبيلِ الله خَيرٌ مِن الدُّنيا وما عليها، وموضِعُ سَوطِ أحَدِكم من الجنَّةِ خَيرٌ مِن الدُّنيا وما عليها، والرَّوحةُ يَروحُها العَبدُ في سبيلِ اللهِ أو الغَدوةُ، خَيرٌ مِن الدُّنيا وما عليها )) [748] رواه البخاري (2892) واللفظ له، ومسلم (1881). .
وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما مِن أحَدٍ يَدخُلُ الجنَّةَ، يُحِبُّ أن يرجِعَ إلى الدُّنيا، وأنَّ له ما على الأرضِ مِن شَيءٍ، غيرُ الشَّهيدِ؛ فإنَّه يتمَنَّى أن يرجِعَ، فيُقتَلَ عَشرَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا يَرى من الكَرامةِ )) [749] رواه البخاري (2817)، ومسلم (1877) واللفظ له. .
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بالغَ اللهُ تعالى في تَرغيبِهم في الجِهادِ في سبيلِ الله، وكان قد ذَكَرَ قَولَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ؛ عاد إلى تقريرِ كَونِهم مُتَثاقِلينَ، وبيَّنَ أنَّ أقوامًا- مع كلِّ ما تقَدَّمَ مِن الوعيدِ، والحَثِّ على الجهادِ- تخلَّفوا في غَزوةِ تَبوك [750] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/56). ، فقال تعالى:
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ.
أي: لو كان- يا مُحمَّدُ- ما تدعُو إليه المُنافِقينَ المُتَخلِّفينَ عن غَزْوِ الرُّومِ، غنيمةً حاضِرةً سَهلةَ التَّناوُلِ، وسفَرًا سَهلًا لِمَوضعٍ قَريبٍ- لَخَرجوا معك؛ طمَعًا في متاعِ الحياةِ الدُّنيا [751] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/476)، ((البسيط)) للواحدي (10/450، 451)، ((تفسير ابن عطية)) (3/38)، ((تفسير القرطبي)) (8/153)، ((تفسير ابن كثير)) (4/158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 338)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/208). .
وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ.
أي: ولكنْ طالَتْ عليهم مَسافةُ السَّفرِ لِغَزوِ الرُّومِ، فتَرَكوا المَسِيرَ معك؛ لشِدَّةِ المشَقَّةِ [752] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/476)، ((البسيط)) للواحدي (10/451)، ((تفسير ابن عطية)) (3/38)، ((تفسير ابن كثير)) (4/158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 338)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/209). قال القرطبي: (المرادُ بذلك كلِّه: غَزوةُ تَبُوك). ((تفسير القرطبي)) (8/154). .
وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ.
أي: وسيَحلِفُ لك- يا مُحمَّدُ- هؤلاءِ المُنافِقونَ، فيقولونَ كاذِبينَ: والله لو أطَقْنا الخُروجَ معكم في الغَزْوِ- بوجودِ المالِ والمراكِبِ، وقُوَّةِ البَدَنِ- لخَرَجْنا معكم لِقتالِ الرُّومِ [753] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/476)، ((تفسير ابن عطية)) (3/38)، ((تفسير القرطبي)) (8/154)، ((تفسير ابن كثير)) (4/158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 338)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/209). قال ابن تيميَّةَ: (هؤلاءِ هم المُنافِقونَ، بلا ريبٍ ولا خِلافٍ). ((الصارم المسلول)) (ص: 36). .
يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ.
أي: يُوجِبُ المنافِقونَ لأنفُسِهم غضَبَ الله وعِقابَه؛ بسبَبِ نِفاقِهم، وحَلِفِهم بالله تعالى كاذِبينَ، وتخَلُّفِهم عن الجِهادِ [754] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/476، 477)، ((البسيط)) للواحدي (10/452)، ((تفسير ابن عطية)) (3/38)، ((تفسير القرطبي)) (8/154)، ((تفسير السعدي)) (ص: 338)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/209). .
وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.
أي: واللهُ يعلَمُ أنَّ المُنافِقينَ- في اعتذارِهم عن القُعودِ، وحَلِفِهم- كاذِبونَ؛ لأنَّهم كانوا قادِرينَ على الخُروجِ لِلقتالِ، ولكِنَّهم قَعَدوا عنه؛ لِنِفاقِهم، وزُهدِهم في الخَيرِ [755] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/477)، ((البسيط)) للواحدي (10/452، 453)، ((تفسير ابن عطية)) (3/38)، ((تفسير الرازي)) (16/57)، ((تفسير القرطبي)) (8/154). .
عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بكَّتَهم على وجهِ الإعراضِ؛ لأجلِ التخَلُّفِ والحَلِفِ عليه كاذِبًا؛ أقبَلَ إليه صلَّى الله عليه وسلَّم بالعتابِ في لذيذِ الخِطابِ على الاسترسالِ في اللِّينِ لهم والائتلافِ، وأخْذِ العَفوِ وتَرْكِ الخِلافِ إلى هذا الحَدِّ، فقال مُؤذِنًا بأنَّهم ما تخلَّفوا إلَّا بإذنِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لأعذارٍ ادَّعَوها كاذبينَ فيها، كما كَذَبوا في هذا الحَلِف [756] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/481). :
عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ.
أي: سامَحَك اللهُ وغَفَرَ لك- يا مُحمَّدُ- على إذْنِك لِهؤلاءِ المُنافِقينَ، الذين استَأذَنوك في التخَلُّفِ عن الخُروجِ معك، لأيِّ شَيءٍ أذِنْتَ للمُنافِقينَ أن يتخَلَّفوا عن المَسِيرِ معك لِغَزوِ الرُّومِ [757] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/478)، ((البسيط)) للواحدي (10/454، 455)، ((تفسير ابن عطية)) (3/38)، ((تفسير السعدي)) (ص: 338)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/210). قال الواحدي: (قال قتادةُ وعمرُو بنُ ميمون: «اثنان فعَلَهما رسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولم يُؤمَرْ فيهما بشيءٍ: إذنُه للمُنافقين، وأخْذُه الفِداءَ مِن الأُسارى، فعاتبه الله كما تَسمَعونَ»... قال أهلُ المعاني: وهذا يدلُّ على أنَّه فعَلَ ما لم يؤذَنْ له فيه؛ لأنَّه لا يُقالُ: لِمَ فَعَلْتَ: فيما أُذِنَ له في فِعْلِه). ((البسيط)) (10/455). وقال ابنُ عاشور: (استأذَنَ فريقٌ مِن المنافقينَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أن يتخلَّفوا عن الغزوةِ؛ منهم عبدُ الله بنُ أُبيٍّ ابنُ سَلولَ، والجَدُّ بنُ قيس، ورفاعةُ بنُ التَّابوتِ، وكانوا تِسعةً وثلاثين، واعتذروا بأعذارٍ كاذبةٍ، وأذِنَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِمَن استأذَنَه؛ حَملًا للنَّاسِ على الصِّدقِ؛ إذ كان ظاهرُ حالِهم الإيمانَ، وعِلمًا بأنَّ المُعتَذرينَ إذا أُلجِؤوا إلى الخُروجِ لا يُغْنونَ شَيئًا، كما قال تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا [التوبة: 47] ). ((تفسير ابن عاشور)) (10/210). ؟!
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ.
أي: كان ينبغي لك- يا مُحمَّدُ- عندما استأذَنَك المتخَلِّفونَ عن المَسيرِ معك لجِهادِ الرُّومِ، ألَّا تأذَنَ لأحدٍ منهم [758] قال الشنقيطي: (قولُه تعالى: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ هذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ على أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له الإذنُ لِمَن شاء، وقَولُه تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ يُوهمُ خلافَ ذلك. والجوابُ ظاهرُ: وهو أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له الإذنُ لِمَن شاء من أصحابِه الذين كانوا معه على أمرٍ جامعٍ، كصلاةِ جُمعةٍ أو عيدٍ أو جماعةٍ، أو اجتماعٍ في مشورةٍ، ونحو ذلك، كما بيَّنَه تعالى بقَولِه: وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَرَسُولِه فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النور: 62] وأمَّا الإذنُ في خُصوصِ التخَلُّفِ عن الجهادِ، فهو الذي بيَّنَ اللهُ لرسولِه أنَّ الأَوْلى فيه ألَّا يُبادِرَ بالإذنِ، حتى يتبيَّنَ له الصَّادقُ في عُذرِه من الكاذبِ، وذلك في قَولِه تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ فظهَرَ أنْ لا مُنافاةَ بين الآياتِ، والعِلمُ عند الله تعالى). ((دفع إيهام الاضطراب)) (ص: 170-171). حتى تعلَمَ الصَّادِقينَ الذينَ لهم عُذرٌ في تخلُّفِهم، فتعذِرَهم، وتعلَمَ الكاذِبينَ الذين لا عُذرَ لهم، وإنما تخَلَّفوا نِفاقًا وشَكًّا في دينِ الله [759] وهو قولُ ابنِ جريرٍ، والواحديِّ، والبغويِّ، والزمخشريِّ، والشوكانيِّ، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/478)، ((البسيط)) للواحدي (10/455)، ((تفسير البغوي)) (2/354)، ((تفسير الزمخشري)) (2/274)، ((تفسير الشوكاني)) (2/417)، ((تفسير السعدي)) (ص: 338). وقيل: إنَّ معنَى الآيةِ: أنَّه كانَ يَنْبغي لك- يا محمدُ- عندما استأْذَنك المتخلِّفون عن المسيرِ معك لجهادِ الرُّوم أن لا تأذنَ لأحدٍ منهم؛ مِن أجلِ أن تعلمَ الصَّادقَ منهم مِن الكاذبِ، فإنَّ المُنافِقين كانوا مُصرِّين على القعودِ عن الغزوِ، سواء أذِنت لهم، أم لم تأذَنْ، وهو قولُ ابنِ عطية، وأبي حيان، وابنِ كثير، والقاسمي، ومحمد رشيد رضا، وابنِ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/39)، ((تفسير أبي حيان)) (5/427)، ((تفسير ابن كثير)) (4/159)، ((تفسير القاسمي)) (5/423)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/401)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/210). قال أبو حيان: (قوله: الَّذِينَ صَدَقُوا أي: في استئذانِك. وأنَّك لو لم تأذنْ لهم خرجوا معك. وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ: يريدُ في أنَّهم استأذنوك يُظهرون لك أنَّهم يقفون عندَ حدِّك وهم كذبةٌ، وقد عزَموا على العصيانِ أذِنت لهم أو لم تأذنْ). ((تفسير أبي حيان)) (5/427). .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّه لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ في هذا إشارةٌ إلى ذَمِّهم بِسُفولِ الهمَمِ، ودَناءَةِ الشِّيَم؛ بالعَجزِ والكَسَل، والنَّهَم والثِّقَل، وإلى أنَّ هذا الدِّينَ مَتينٌ، لا يحمِلُه إلَّا ماضي الهَمِّ، صادِقُ العَزمِ [760] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/480). .
2- حُبُّ المنافِعِ الماديَّةِ، والرَّغبةُ فيها، لاصِقٌ بِطَبعِ الإنسانِ، وناهيك بها إذا كانت سَهلةَ المأخَذِ، قَريبةَ المَنالِ، وكان الرَّاغِبُ فيها مِن غَيرِ المُوقِنينَ بالآخِرةِ، وما فيها من الأجرِ العَظيمِ، قال الله تعالى: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهمُ الشُّقَّةُ [761] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/401). !
3- قَولُ الله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ... فيه دلالةٌ على وجوبِ الاحترازِ عن العَجَلةِ، ووجوبِ التثبُّتِ والتأنِّي، وتَركِ الاغترارِ بِظواهرِ الأمورِ، والمُبالغةِ في التفحُّصِ، حتى يُمكِنَه أن يعامِلَ كُلَّ فَريقٍ بما يستحِقُّه مِن التَّقريبِ أو الإبعادِ [762] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/59). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا استدَلَّ بها من أوجَبَ النَّفيرَ على كلِّ أحدٍ، عند الحاجةِ وهُجومِ الكُفَّارِ [763] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:140). .
2- قَولُ الله تعالى: وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه فيه دليلٌ على أنَّه كما يجِبُ الجِهادُ في النَّفسِ، يجِبُ الجهادُ في المال، حيث اقتضَتِ الحاجةُ ودَعَت لذلك [764] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:338). .
3- قال الله تعالى: وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه قال أهلُ العِلمِ: هذا يدُلُّ على أنَّ المُوسِرَ يجِبُ عليه الجِهادُ بالمالِ، إذا عجَزَ عن الجهادِ ببَدَنِه؛ لِزَمانةٍ أو عِلَّةٍ، فوجوبُ الجِهادِ بالمالِ كوُجوبِ الجِهادِ بالبَدَنِ على الكفايةِ [765] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (10/449). .
4- قال اللهُ تعالى: وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه قد أمَرَ اللهُ بكِلَا الأمرَينِ، فمن استطاعَهما معًا وجَبَا عليه، ومن لم يستَطِعْ إلَّا واحدًا منهما، وجَبَ عليه الذي استطاعَه منهما [766] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/207). .
5- قَولُ الله تعالى: وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اختيارُ فِعلِ (العلم) دون (الإيمان) مثلًا؛ للإشارةِ إلى أنَّ مِن هذا الخَيرِ ما يَخفى، فيَحتاجُ مُتطلِّبُ تَعيينِ شُعَبِه إلى إعمالِ النَّظَرِ، والعِلمِ [767] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/208). .
6- الجهادُ بالنَّفسِ في قَولِه تعالى: وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه يشمَلُ جِهادَ اللِّسانِ وجِهادَ اليَدِ، بل قد يكونُ جهادُ اللِّسانِ أقوى منه، كما قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((جاهدُوا المُشرِكينَ بأيديكم وألسِنَتِكم وأموالِكم )) [768] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 206). والحديث أخرجه أبو داود (2504)، والنسائي (3096) واللفظ له، وأحمد (12268) من حديث أنس رضي الله عنه. قال ابنُ حزمٍ في ((أصول الأحكام)) (1/27): في غايةِ الصحةِ، وصحَّح إسنادَه النوويُّ في ((رياض الصالحين)) (437)، وصحَّحه ابنُ دقيقِ العيد في ((الاقتراح)) (114)، وقال ابنُ عبد الهادي في ((المحرر)) (286): إسنادُه على رسمِ مسلمٍ، وقال الشوكانيُّ في ((نيل الأوطار)) (8/27): رجالُه رجالُ الصحيحِ، وصحَّحه ابنُ بازٍ في ((مجموع فتاواه)) (4/296)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (3096). .
7- قال الله تعالى: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّه لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ في هذه الآيةِ دَلالةٌ على أنَّ تعمُّدَ اليمينِ الفاجرةِ، يُفضِي إلى الهَلاكِ [769] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/209). .
8- قولُ الله تعالى: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّه لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ أخبَرَ عنهم أنَّهم سيَحلِفونَ، وهذا إخبارٌ عن غَيبٍ يقَعُ في المستقبَلِ، والأمرُ لَمَّا وقع كما أخبَرَ، كان هذا إخبارًا عن الغَيبِ، فكان مُعجِزًا [770] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/57). ، ودليلًا على نبوَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقد جاؤُوا فحَلَفوا كما أخبَرَ أنَّه سيكونُ منهم [771] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (10/452). .
9- قَولُ الله تعالى: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّه لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ فيه دليلٌ على أنَّ قَولَه: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا إنَّما يتناوَلُ مَن كان قادِرًا متمَكِّنًا؛ إذ لو لم تكُنِ الاستطاعةُ مُعتبَرةً في ذلك التَّكليفِ، لَمَا أمكَنَهم جعلُ عَدمِ الاستطاعةِ عُذرًا في التخَلُّفِ [772] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (10/99). .
10- قولُ الله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ استدَلَّ به من قال بجَوازِ الاجتهادِ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه لو أَذِنَ لهم عن وحيٍ، لم يُعاتَبْ، واستدَلَّ بها من قال: إنَّ اجتِهادَه قد يُخطِئُ، ولكِنْ يُنَبَّهُ عليه بسُرعةٍ [773] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:140). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
قولُه: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فيه تَخصيصُ الأموالِ والأَنْفُسِ بالذِّكْرِ؛ إذ ذلك وَصْفٌ لأَكْمَلِ ما يكونُ مِنَ الجِهادِ وأَنْفعِهِ عِنْدَ اللهِ، فحَضَّ على كَمالِ الأوصافِ، وقُدِّمتِ الأموالُ على الأنفسِ؛ إذ هي أولُ مَصرفٍ وَقْتَ التَّجهيزِ [774] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/423). ، ولأنَّ الجهادَ بالأموالِ أقلُّ حضورًا بالذهنِ عندَ سماعِ الأمرِ بالجهاد، فكان ذكرُه أهمَّ بعدَ ذكرِ الجهادِ مجملًا [775] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/207). ، ولأنَّ الناسَ يُقاتلون دونَ أموالِهم؛ فإنَّ المجاهدَ بالمالِ قد أخرَج مالَه حقيقةً لله، والمجاهدُ بنفسِه لله يرجو النجاةَ، لا يُوافِقُ أنَّه يُقتلُ في الجهادِ؛ ولهذا أكثرُ القادرينَ على القتالِ يهونُ على أحدِهم أن يُقاتلَ، ولا يهونُ عليه إخراجُ مالِه [776] يُنظر: ((منهاج السنة)) لابن تيمية (8/230). .
قولُه: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فيه إبهامُ خَيْرٌ وتَنْكيرُه؛ لقَصْدِ تَوقُّعِ خيرِ الدُّنيا والآخِرةِ مِنْ شُعَبٍ كثيرةٍ [777] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/208-209). .
واسْمُ الإشارةِ ذَلِكُمْ وما فيه مِنْ معنى البُعْدِ؛ للإيذانِ ببُعْدِ مَنْزلتِه في الشَّرَفِ [778] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/67). .
2- قوله تعالى: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
قوله تعالى: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ اسْتئنافٌ لابْتِداءِ الكلامِ على حالِ المُنافِقينَ وغزوةِ تَبوكَ، حين تَخلَّفوا واسْتأذَنَ كثيرٌ مِنْهُم في التَّخلُّفِ، واعْتَلُّوا بِعَلَلٍ كاذِبةٍ، وهو ناشئٌ عن قولِه: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [779] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/208). .
وفي قولِه: لَوْ كانَ عَرَضًا قَرِيبًا... فيه صَرْفٌ للخِطابِ عنهم، وتوجيهٌ له إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ تعديدًا لِما صدَر عنهم مِنَ الهَنَاتِ قولًا وفعلًا على طريقِ المُباثَّةِ- أي: الإظهارِ-، وبيانًا لِدَناءةِ هِممِهم، وسائرِ رَذائلِهم [780] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/67). .
قولُه: وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ فيه تَعديةُ الفِعل بَعُدتْ بحَرْفِ (عَلَى)؛ لتَضمُّنِه معنى (ثَقُلت)؛ ولذلك حَسُن الجمعُ بين فِعلِ بَعُدتْ وفاعلِه (الشُّقَّة) مع تَقارُب معنييهما، فكأنَّه قيل: ولكن بَعُد منهم المكانُ؛ لأنَّه شُقَّةٌ، فثَقُل عليهم السَّفرُ؛ فجاءَ الكلامُ مُوجزًا [781] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/209). .
قولُه: لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ في تَقييدِ الخُروجِ بالمَعيَّةِ إشعارٌ بأنَّ أَمْرَ الغَزْوِ لا يُهِمُّهُم ابْتِداءً، وأنَّهم إنَّما يَخْرجونَ- لو خَرَجوا إجابةً لاسْتِنفارِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- خُروجَ النَّاصِرِ لغيرِهِ [782] يُنظر:  ((تفسير ابن عاشور)) (10/209). .
3- قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ
قوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ في إلْقاءِ العِتابِ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصِيغةِ الاسْتِفهامِ عَنِ العِلَّةِ: إيماءٌ إلى أنَّه ما أَذِنَ لهم إلَّا لسببٍ تأوَّلَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورجا منه الصَّلاحَ على الجُمْلةِ، وهذا مِن صِيَغِ التَّلطُّفِ في اللَّومِ [783] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/210). .
وفي تَصديرِ فاتحةِ الخِطابِ ببِشارةِ العفوِ دونَ ما يُوهِمُ العِتابَ: مُراعاةٌ لجانبِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتعهدٌ له بحُسْنِ المفاوضةِ، ولُطْفِ المُراجَعةِ [784] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/69). ، وأيضًا في افْتِتاحِ العِتابِ بالإعلامِ بالعفوِ إكرامٌ عظيمٌ، ولَطافةٌ شريفةٌ؛ حيثُ أخْبَرَه تعالى بالعَفوِ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَبْلَ أنْ يُباشِرَه بالعِتابِ، وفي هذا الافْتِتاحِ كِنايةٌ عَنْ خِفَّةِ مُوجِبِ العِتابِ؛ لأنَّهُ بمَنْزلةِ أنْ يُقال: ما كان يَنْبغي [785] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/210). ، قال مُورِّق العجليُّ رضي الله عنه: سَمِعْتُم بمعاتبةٍ أحسَنَ من هذه، بدأ بالعَفوِ قبل المُعاتَبةِ، فقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [786] يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (4/210). .
قولُه: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ في زِيادةِ لَكَ بعد قولِه: يَتَبَيَّنَ: زِيادةُ مُلاطفةٍ بأنَّ العِتابَ ما كان إلَّا عَن تَفريطٍ في شيءٍ يَعودُ نفعُه إليه [787] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/211). .
وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ في تَغييرِ الأسلوبِ، حيثُ عبَّر عن الفريقِ الأَوَّلِ بالموصول الَّذِينَ وصِلتُه فعلٌ دالٌّ على الحُدوثِ صَدَقُوا، وعبَّر عن الفريقِ الثَّاني باسم الفاعلِ الْكاذِبِينَ المفيدِ للدَّوامِ؛ وذلِك للإيذانِ بأنَّ ما ظَهَر مِن الأوَّلين صِدقٌ حادِثٌ في أمرٍ خاصٍّ، غيرُ مُصحِّحٍ لدُخولِهم في زُمرةِ الصادِقين، وأنَّ ما صدَر مِن الآخَرين وإنْ كان كَذِبًا حادثًا مُتعلِّقًا بأمرٍ خاصٍّ، لكنَّه أمرٌ جارٍ على عادتِهم المستمرَّةِ، ناشئٌ عن رُسوخِهم في الكذِب [788] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/68). .
وفيه أيضًا إسْنادُ التَّبيُّنِ إلى الأوَّلينَ الَّذِينَ صَدَقُوا وتَعليقُ العِلْمِ بالآخِرينَ الْكاذِبِينَ- مع أنَّ مَدارَ الإسنادِ والتَّعلُّقِ أولًا وبالذَّاتِ هو وَصْفُ الصِّدْقِ والكَذِبِ-؛ لأنَّ المَقْصِدَ هو العِلْمُ بكِلَا الفريقينِ باعْتِبارِ اتِّصافِهما بوَصْفَيْهِما المَذكورينِ، ومُعامَلتِهِما بحَسَبِ اسْتِحقاقِهِما، لا العِلْمُ بوَصْفيهِما بِذَاتَيْهِما، أو باعْتِبارِ قيامِهِما بمَوْصوفَيْهِما [789] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/68- 69). .