موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيات (44-47)

ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ

غريب الكلمات:

وَارْتَابَتْ: أي: وشكَّت، والرَّيب: الشكُّ مع الخَوف، ومع تُهمَة المشكوكِ فيه، وتوهُّمُ أمْرٍ ما بالشَّيء [790] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/481)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/463)، ((المفردات)) للراغب (ص: 368)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 47). .
عُدَّةً: أي: أُهبةَ السَّفَرِ، وما يُعَدُّ مِن مالٍ وسِلاحٍ؛ من الإعدادِ الذي هو تَهيئةُ الشَّيءِ [791] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/482)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/29)، ((المفردات)) للراغب (ص: 550)، ((تفسير القرطبي)) (8/156). .
انْبِعَاثَهُمْ: أي: نُهوضَهم لِلْخُرُوجِ ومُضِيَّهم، وأصل (بعث): يدلُّ على إثارةِ الشَّيءِ، وتَوجِيهِه [792] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/482)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/266)، ((المفردات)) للراغب (ص: 132- 133)، ((تفسير القرطبي)) (8/156)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 202). .
فَثَبَّطَهُمْ: أي: ثقَّلَ عليهم الخروجَ، وحبَسَهم عنه؛ يُقالُ: ثبَّطَه المرضُ وأثبَطَه: إذا حبَسَه ومنَعَه، ولم يكَدْ يُفارِقُه [793] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/482)، ((المفردات)) للراغب (ص: 172)، (التبيان)) لابن الهائم (ص: 225)، ((غريب القرآن)) لقاسم الحنفي (ص: 91). .
خَبَالًا: أي: فَسادًا وشرًّا، وأصلُ (خبل): يدلُّ على فَسادٍ [794] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 109، 187)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 205)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/242)، ((المفردات)) للراغب (ص: 274)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 139)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 152)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 436). .
وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ: أي: سَعَوا، وأسرَعوا السَّيرَ وسْطَكم بالنَّميمةِ والفَسادِ؛ مِن الوَضعِ: وهو سُرعةُ السَّيرِ، والخِلالُ جَمعُ خَللٍ، وهو: الفُرجةُ بين الشَّيئينِ [795] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/483)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 187)، ((المفردات)) للراغب (ص: 290)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 139). .
يَبْغُونَكُمُ: أي: يَطْلبونَ لكم ما تُفتَنون به، وأصلُ (بغى): يدلُّ على طلبِ الشيءِ [796] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/484)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/271)، ((المفردات)) للراغب (ص: 136). .
الْفِتْنَةَ: أي: الشِّرْكَ، والكفرَ، وتُطلَق أيضًا على الشَّرِّ والعذابِ، وهي في الأصلِ: الاختِبارُ، والابتلاءُ، والامتِحانُ، مأخوذةٌ مِن الفَتْنِ: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جودتُه من رداءتِه [797] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 76، 101)، ((تفسير ابن جرير)) (11/485)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472 - 473)، ((المفردات)) للراغب (ص: 624)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 29، 139 - 140). .
سَمَّاعُونَ: أي: مُطيعونَ، قابِلونَ لكَلامِهم، أو عُيونٌ يتجَسَّسونَ لهم الأخبارَ، ويَنقِلونها إليهم، وأصل (سمع): يدلُّ على إيناسِ الشَّيءِ بالأذُنِ [798] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 261)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/102)، ((المفردات)) للراغب (ص: 425)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص:216)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص:182). .

المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قائلًا له: لا يستأذِنُك- يا مُحمَّدُ- الذين يُؤمِنونَ بالله وباليومِ الآخِرِ، في تَركِ جِهادِ الكُفَّارِ بأموالِهم وأنفُسِهم، واللهُ عليمٌ بالمتَّقينَ. إنَّما يستأذِنُك في القُعودِ والتخَلُّفِ عن جِهادِ الكُفَّارِ بأعذار ٍكاذبةٍ، المُنافِقونَ الذين لا يُؤمِنونَ بالله ولا باليَومِ الآخِرِ، وقد امتلأتْ قُلوبُهم شَكًّا، فهم في شَكِّهم يتحَيَّرونَ ويتذبذَبونَ، ولو أرادوا الخُروجَ لاستعَدُّوا له بتَجهيزِ ما يلزَمُ ذلك، لكِنَّ اللهَ كَرِهَ انطِلاقَهم مع المؤمِنينَ، فكَسَّلَهم عنه، وقيل لهم: اقعُدُوا مع القاعدينَ.
لو خرَجوا فيكم- أيُّها المُؤمِنونَ- فلن يزيدُوكم بخُروجِهم إلَّا شرًّا وفَسادًا، وإيقاعَ الاضطرابِ بينكم، ولأَسْرَعوا المشيَ بينَكم بالنَّميمةِ والبَغضاءِ، وفيكم- أيُّها المؤمنونَ- مَن يسمَعُ كَلامَهم، فيقبَلُه ويستجيبُ له ويطيعُه، واللهُ عليمٌ بالظَّالمينَ.

تفسير الآيات:

لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44).
لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ.
أي: لا يَستأذِنُك- يا محمَّدُ- أصحابُك المؤمنونَ بالله، وبالبَعثِ، والجزاءِ في الآخرةِ، في تَركِ جهادِ الكُفَّارِ بأموالِهم وأنفُسِهم، ولا يَطلُبونَ منك أن تأذَنَ لهم في الجِهادِ، بل يُبادِرونَ إليه؛ لشِدَّةِ رَغبَتِهم في الخَيرِ [799] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/480)، ((تفسير البيضاوي)) (3/82)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/438)، ((تفسير الخازن)) (2/368)، ((تفسير ابن كثير)) (4/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 338)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/211، 212). .
وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.
أي: واللهُ ذو علمٍ بهؤلاءِ المتَّقينَ، وبكُلِّ مَن يتَّقيه بامتثالِ أوامرِه، واجتنابِ نَواهيه، ومن ذلك المسارعةُ إلى جهادِ أعدائِه، وعَدمُ الاستئذانِ في تَرْكِه، وسيُجازيهم على تَقواهم له أعظَمَ الثَّوابِ [800] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/480)، ((تفسير أبي حيان)) (5/427)، ((تفسير أبي السعود)) (4/70)، ((تفسير الألوسي)) (5/301)، ((تفسير القاسمي)) (5/424)، ((تفسير السعدي)) (ص: 339)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/539). .
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى بيَّنَ هنا أنَّ هذا الاستِئذانَ لا يَصدُرُ إلَّا عند عدَمِ الإيمانِ بالله واليَومِ الآخِرِ، ثمَّ لَمَّا كان عدَمُ الإيمانِ قد يكونُ بسبَبِ الشَّكِّ فيه، وقد يكونُ بسبَبِ الجَزمِ والقَطعِ بِعَدَمِه- بيَّن تعالى أنَّ عدَمَ إيمانِ هؤلاءِ إنَّما كان بسبَبِ الشَّكِّ والرَّيبِ، فقال تعالى [801] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/60). :
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ.
أي: إنَّما يستأذِنُك- يا مُحمَّدُ- في القُعودِ والتخَلُّفِ عن جهادِ الكُفَّارِ بأعذارٍ كاذبةٍ، المُنافِقونَ الذين لا يُؤمِنونَ بالله تعالى، ولا بالبَعثِ والجَزاءِ في الآخرةِ، فلا يَرغَبونَ فيما عندَ الله تعالى، ولا يَخافونَ عَذابَه [802] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/480)، ((تفسير ابن كثير)) (4/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 339)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/212)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/540). قال الواحدي: (أجمَعوا على أنَّ هذا الاستئذانَ في القُعودِ عن الجِهادِ، وإخبارٌ أنَّ مَن فعَلَ ذلك غَيرُ مؤمِنٍ بالله). ((البسيط)) (10/460). .
وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ.
أي: وقد شكَّت قلوبُهم في صِحَّةِ الدِّينِ، وظُهورِ أمْرِه، فهم في شَكِّهم يتحَيَّرونَ، ويتَذَبذبونَ بين الإيمانِ والكُفرِ [803] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/480)، ((تفسير القرطبي)) (8/156)، ((تفسير ابن كثير)) (4/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 339)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/213)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/540، 541). .
كما قال تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء: 143] .
وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((مَثَلُ المُنافِقِ كمَثَلِ الشَّاةِ العائرةِ [804] الشَّاةُ العائِرةُ: أي: المتَرَدِّدةُ بين قَطيعَينِ، لا تدري أيَّهما تَتْبَعُ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/328). بين الغَنَمينِ؛ تَعيرُ [805] تَعيرُ (بفتح التاء): أي: تتردَّدُ وتذهَبُ. يُنظر: ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (1/130). إلى هذه مَرَّةً، وإلى هذه مَرَّةً )) [806] رواه مسلم (2784). .
وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (46).
وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً.
أي: ولو أراد المُنافِقونَ الخُروجَ معك- يا مُحمَّدُ- في غزوةِ تَبُوكَ، لتأهَّبُوا للخُروجِ، بإعدادِ ما يَحتاجُونَه مِن لوازِمِ السَّفَرِ والقِتالِ، لكِنَّهم تَرَكوا الاستعدادَ؛ لِرَغبَتِهم في التخَلَّفِ عن الجِهادِ [807] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/481، 482)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/450)، ((تفسير ابن كثير)) (4/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 339)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/214)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/542). .
وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ.
أي: ولكِنْ لم يُحِبَّ اللهُ تعالى انطلاقَ المُنافِقينَ معك- يا محمَّدُ- في تلك الغَزوةِ؛ لعِلْمِه أنَّ في خُروجِهم شرًّا وضررًا على المُؤمِنينَ [808] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/482)، ((البسيط)) للواحدي (10/461)، ((تفسير القرطبي)) (8/156)، ((المستدرك على مجموع الفتاوى لابن تيمية)) (1/78)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 102، 103)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/196)، ((تفسير ابن كثير)) (4/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 339)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/542). .
فَثَبَّطَهُمْ .
أي: فثقَّله عليهم، وكسَّلهم عنه [809] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/482)، ((البسيط)) للواحدي (10/462)، ((تفسير القرطبي)) (8/156)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 101، 102)، ((تفسير ابن كثير)) (4/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 339)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/215)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/543). قال السعدي: (فَثَبَّطَهُمْ قَدَرًا وقَضاءً، وإن كان قد أمَرَهم وحَثَّهم على الخُروجِ، وجعَلَهم مُقتَدرينَ عليه، ولكِنْ بحِكمَتِه ما أراد إعانَتَهم، بل خَذَلهم وثَبَّطَهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 339). .
وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ.
أي: وقيل [810] وهذا القولُ قولٌ قدريٌّ كونيٌّ، وممَّن اختار ذلك: ابنُ القَيِّم، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 102)، ((تفسير ابن كثير)) (4/159)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/215). قال الشنقيطي: (قِيلَ هنا: مَبنيٌّ للمَفعولِ حُذِفَ فاعِلُه، واختلَفَ العُلَماءُ في فاعِلِه المَحذوفِ، فقال بعضُ العلماء: قال بعضُهم لبعضٍ في سِرِّهم وباطِنِ أمْرِهم: اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ واستَأذِنُوه لِتَقعُدوا. وقال بعضُهم: أذِنَ لهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ وعلى هذا القَولِ فـ اقْعُدُوا هو الإذنُ. وبعضُهم يقولُ: قَولُه: مَعَ الْقَاعِدِينَ أَذِنَ لهم إذنًا صاحِبُه لا يرضى عنهم. والمرادُ بالقاعدينَ: الذين ليس مِن شَأنِهم الحُضور، كالصِّبيان والزَّمنَى والنِّساءِ، ونحوِ ذلك ممَّن ليس من شأنِه الخُروجُ للقِتالِ. وقال بعضُ العلماء: هو كونيٌّ قَدَريٌّ، اللهُ يقولُ للشَّيءِ: «كُنْ، فيكونُ» فقال: اقْعُدُوا فكان قُعودُهم، واختار هذا بعضُ العُلَماءِ). ((العذب النمير)) (5/543). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/40). : اقعُدُوا عن الجِهادِ مع الذينَ ليس من شَأنِهم النُّهوضُ والخُروجُ للقِتالِ، كالضُّعَفاءِ والمَرضى، والصِّبيانِ وغَيرِهم [811] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/482)، ((تفسير القرطبي)) (8/156)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 102)، ((تفسير ابن كثير)) (4/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 339)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/215). .
لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لـمَّا ذكَر الله تعالى أنَّه كرِه خروجَهم، وثبَّطهم؛ أخبَر سبحانَه عن الحكمةِ التي تتعلَّقُ بالمؤمنين في تثبيطِ هؤلاءِ عنهم، وبيَّن لِمَ كرِه خروجَهم، فقال [812] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 466)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 102). :
لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً.
أي: لو خرَجَ هؤلاءِ المُنافِقونَ في جُملَتِكم- أيُّها المُؤمِنونَ- لِغَزوِ الرُّومِ، فلن يَزيدُوكم بخُروجِهم شيئًا سِوى الشرِّ والفَسادِ، وإيقاعِ الاضطرابِ بَينكم [813] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/482)، ((البسيط)) للواحدي (10/464)، ((تفسير الرازي)) (16/64)، ((تفسير البيضاوي)) (3/83)، ((تفسير أبي حيان)) (5/429)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 102)، ((تفسير ابن كثير)) (4/160)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/216)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/543). قال الشَّوكاني: (قيل: هذا الاستثناءُ مُنقَطِعٌ، أي: ما زادوكم قُوَّةً، ولكِنْ طَلَبوا الخَبالَ. وقيل: المعنى: لا يزيدونَكم فيما تَردَّدونَ فيه من الرأيِ إلَّا خَبالًا، فيكون متَّصلًا. وقيل: هو استثناءٌ مِن أعَمِّ العامِّ، أي: ما زادوكم شيئًا إلَّا خبالًا، فيكون الاستثناءُ مِن قِسمِ المتَّصِل). ((تفسير الشوكاني)) (2/418). وقال الواحدي: (والمرادُ بالخَبالِ هاهنا: الاضطرابُ في الرأيِ، وذلك بتَزيينِ أمْرٍ لفَريقٍ، وتَقبيحِه عند فريقٍ؛ ليَختَلِفوا، فتفتَرِقَ كَلِمَتُهم ولا تنتَظِمَ، يقول: لو خَرَجوا لأفسَدُوا عليكم أمْرَكم). ((البسيط)) (10/464). .
ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ.
أي: ولأَسْرَعوا سَيْرَهم في الدُّخولِ والمَشيِ بينكم بالنَّميمةِ، وإفسادِ ذاتِ بَينِكم؛ لِتَفريقِ كَلِمتِكم، وإلقاءِ الأراجيفِ، وبَثِّ الإشاعاتِ لِتَثبيطِكم [814] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/483- 484)، ((البسيط)) للواحدي (10/468، 469، 472)، ((تفسير القرطبي)) (8/157)، ((تفسير ابن جزي)) (1/339)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (2/105) (5/262)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 102)، ((تفسير ابن كثير)) (4/160)، ((تفسير السعدي)) (ص: 339)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/544). .
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ .
أي: وفيكم- أيُّها المُؤمِنونَ- مَن يَسمَعُ كَلامَ المُنافِقينَ، فيقبَلُه، ويستجيبُ لهم، ويُطيعُهم [815] وهو قَولُ جُمهورِ المفَسِّرين، كما نسَبَه إليهم ابنُ عطيةَ، واختاره ابنُ تيميةَ، وابنُ القيِّم، وابنُ كثيرٍ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/41)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (25/129)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (5/262)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 102)، ((تفسير ابن كثير)) (4/160)، ((تفسير السعدي)) (ص: 339). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قتادةُ، وابنُ إسحاقَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/486)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/265). قال الرازي: (لا يمتَنِعُ فيمَن قَرُبَ عَهدُه بالإسلامِ أن يُؤثِّرَ قَولُ المنافقينَ فيهم، ولا يمتَنِعُ كَونُ بَعضِ النَّاسِ مَجبولينَ على الجُبنِ والفَشَلِ، وضَعفِ القَلبِ؛ فيُؤثِّرُ قولُهم فيهم، ولا يمتنِعُ أن يكونَ بعضُ المُسلِمينَ مِن أقارِبِ رُؤساءِ المُنافِقينَ، فيَنظرونَ إليهم بعَينِ الإجلالِ والتَّعظيمِ؛ فلهذا السَّبَبِ يُؤثِّرُ قَولُ هؤلاءِ الأكابِرِ من المنافقينَ فيهم). ((تفسير الرازي)) (16/64). وقيل: أي: وفيكم- أيُّها المؤمنونَ- جواسيسُ للمُنافقينَ، يَسْمعونَ لهم الأخبارَ، وينقلونَ إليهم أخبارَكم وأسراَركم. وهو قولُ مقاتلِ بنِ سليمانَ، وابنِ جريرٍ، والواحدي، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/173)، ((تفسير ابن جرير)) (11/486، 487)، ((البسيط)) للواحدي (10/474)، ((تفسير القرطبي)) (8/157). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: زيدُ بنُ أسلمَ، ومجاهدٌ، وابنُ زيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (6/1809)، ((تفسير ابن جرير)) (11/486)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/265). قال ابن عاشور: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي: في جماعةِ المُسلِمينَ، أي: مِن بينِ المُسلِمينَ سَمَّاعون لهم، فيجوزُ أن يكونَ هؤلاءِ السمَّاعونَ مُسلِمينَ يُصَدِّقونَ ما يسمعونَه مِن المنافقينَ، ويجوزُ أن يكونَ السمَّاعونَ مُنافِقينَ مَبثوثينَ بين المُسلِمينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (10/218). .
وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
أي: واللهُ عزَّ وجلَّ ذو علمٍ بأولئك المُنافِقينَ الظَّالِمينَ، وبمَن يقبَلُ كَلامَهم ويُطيعُهم، وبكُلِّ من يَظلِمُ نَفسَه ويَظلِمُ غَيرَه، بفِعْلِ ما ليس له فِعْلُه، لا يخفى عليه سُبحانَه شَيءٌ من ظواهرِهم وبواطِنِهم، وسيُجازيهم على أعمالِهم [816] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/487)، ((تفسير ابن عطية)) (3/41)، ((تفسير الرازي)) (16/64)، ((تفسير أبي السعود)) (4/71)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/549). قال أبو حيَّان: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ يعُمُّ كُلَّ ظالمٍ. ومعنى ذلك: أنَّه يُجازيه على ظُلمِه. واندرَجَ فيه من يقبَلُ كَلامَ المُنافِقينَ، ومن يؤدِّي إليهم أخبارَ المُؤمِنينَ، ومن تخلَّفَ عن هذه الغَزاةِ مِن المنافقينَ). ((تفسير أبي حيان)) (5/430). .
كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ [الأنعام: 58] .

الفوائد التربوية:

1- مَن ليس لهم إيمانٌ تامٌّ، ولا يقينٌ صادِقٌ؛ تقِلُّ رغبَتُهم في الخَيرِ، قال الله تعالى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ لذا جبَنوا عن القتالِ، واحْتاجوا أن يَسْتأذِنوا في تَركِ القتالِ [818] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 338). .
2- قال اللهُ تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا الخَبالُ: هو الإفسادُ الذي يُوجِبُ اختلافَ الرَّأيِ، وهو من أعظمِ الأمورِ التي يجِبُ الاحترازُ عنها في الحُروبِ؛ لأنَّه عند حُصولِ الاختلافِ في الرَّأي يحصُلُ الانهزامُ والانكسارُ على أسهَلِ الوُجوه [820] يُنظر: ((تفسير الرازي)) 16/64). .
3- في قَولِه تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً إشارةٌ إلى أنَّ ما يقومُ بالقَلبِ مِن تصديقٍ وحُبٍّ لله ورَسولِه وتعظيمٍ؛ لا بدَّ أنْ يظهرَ على الجوارِحِ- وكذلك بالعكسِ-؛ ولهذا يُستدَلُّ بانتفاءِ اللَّازمِ الظَّاهرِ على انتفاءِ الملزومِ الباطنِ، فإنَّ الإرادةَ التي في القَلبِ- مع القُدرةِ- تُوجبُ فِعْلَ المرادِ؛ فالسفرُ في غزوةٍ بعيدةٍ لا يكون إلَّا بِعُدَّةٍ [821] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/487). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهمْ يَتَرَدَّدُونَ فشَهدَ اللهُ على المنافِقينَ في هذه الآيةِ بأنَّهم لَيسُوا مؤمِنينَ، مع أنَّهم يُقِرُّونَ ظاهرًا بالإيمانِ، ففيه ردٌّ على الكَرَّاميَّةِ في قَولِهم: الإيمانُ هو مُجرَّدُ الإقرارِ [823] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/60). .
2- قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهمْ يَتَرَدَّدُونَ يدلُّ على أنَّ الشَّاكَّ المُرتابَ، غيرُ مُؤمِنٍ بالله تعالى [824] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/60). .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ إخبارٌ مِن الله تعالى بأنَّ المؤمنَ لا يستأذِنُ الرسولَ في تَركِ الجهادِ، وإنَّما يستأذِنُه الذي لا يؤمِنُ، والتاركُ مِن غيرِ استئذانٍ أَوْلى بهذا الوَصفِ [825] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/438). .
4- طبيعةُ الكافرينَ بالله واليومِ الآخِرِ تقتضي كراهَتَهم للجِهادِ؛ لأنَّهم يَرَونَ بذْلَ المالِ للجِهادِ مَغْرمًا، يُفَوِّتُ عليهم بعضَ منافِعِهم به، ولا يَرجُونَ عليه ثوابًا، كما يرجو المُؤمِنون، ويَرَونَ الجهادَ بالنَّفسِ آلامًا ومتاعِبَ وتعَرُّضًا للقَتلِ، الذي ليس بعده حياةٌ عندهم؛ يُبَيِّنُ ذلك قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ [826] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/405). .
5- عُدِّيَ التردُّدُ في قَولِه تعالى: فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ بأداةِ (في)؛ للدَّلالةِ على انغماسِ صاحِبِه في هذا الرَّيبِ [827] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/40). .
6- قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهمْ يَتَرَدَّدُونَ، إنَّما أضاف الشَّكَّ والارتيابَ إلى القَلبِ؛ لأنَّه محَلُّ المعرفةِ والإيمانِ، فإذا داخَلَه الشَّكُّ كان ذلك نِفاقًا [828] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/618). .
7- قَولُ الله تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِين ختَمَ الآيةَ بِقَولِه: وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ للتَّنبيه على ذَمِّهم، وإلحاقِهم بالنِّساءِ والصِّبيانِ والعاجِزينَ، الذينَ شَأنُهم القُعودُ في البُيوتِ، وهم القاعِدونَ والخالِفونَ [829] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/62). .
8- قَولُه تعالى: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا ثبَّطَ سُبحانه أعداءَه عن مُتابعةِ رَسولِه، واللَّحاقِ به؛ غَيرةً، فغار سُبحانَه على نَبيِّه وأصحابِه أن يَخرُجَ بينهم المُنافِقونَ فيَسعَوْا بينهم بالفِتنةِ، فثبَّطَهم وأقعَدَهم عنهم [830] يُنظر: ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 305). .
9- قَولُ الله تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُم إن قيل: عَلِمَ اللهُ أنَّ المُنافِقينَ لو خرَجُوا مع المؤمنينَ للجِهادِ، ما زادُوهم إلَّا خَبالًا وفَسادًا، ولأَوضَعوا خِلالَهم، وأسْرَعوا في السَّعيِ بينهم بالنَّميمةِ، فكيف أمَرَهم بالخُروجِ مع المُؤمِنينَ؟! فالجوابُ: أنَّه إنَّما أمَرَهم بالخُروجِ مع المُؤمِنينَ؛ لإلزامِهم الحجَّةَ، ولإظهارِ نِفاقِهم [831] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:230). .
10- عُدِّيَ السَّماعُ باللَّامِ في قَولِه تعالى: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ؛ لأنه مُضَمَّنٌ معنى القَبولِ والطَّاعةِ، كما في قَولِ المصلِّي: (سمِعَ اللهُ لِمَن حمِدَه) أي: استجابَ لِمَن حمِدَه، وكذلك سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي: مُطيعونَ لهم [832] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (25/129). وهذا على أحدِ أوجُهِ التأويلِ للآيةِ.

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
قولُه: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا... فيه وَجْهٌ لَطيفٌ من البَلاغةِ، وإيضاحُه: أنَّ الاسْتِئذانَ يَسْتلزِمُ شَيئينِ مُتضادَّينِ، ويجوزُ أنْ يُقالَ: اسْتأذَنتُ في كذا، واسْتأذنتُ في تَرْكِ كذا؛ فلمَّا كان شأنُ المؤمنينَ الرَّغبةَ في الجِهادِ كان المذكورُ مع اسْتئذانِ المؤمنِينَ في الآيةِ أَنْ يُجَاهِدُوا دونَ (ألَّا يُجاهدوا)؛ إذ لا يَليقُ بالمؤمنينَ الاسْتِئذانُ في ترْكِ الجِهادِ؛ فإذا انتَفَى أنْ يَسْتأذنوا في أن يُجاهِدوا ثبَت أنهم يُجاهِدونَ دونَ اسْتِئذانٍ [833] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/211- 212). وقال: (وهذا مِن لطائفِ بلاغةِ هذِه الآية التي لم يُعرِّجْ عليها المفسِّرون، وتَكلَّفوا في إقامةِ نَظْمِ الآيةِ). .
وفي قولِهِ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا... تَنبيهٌ على أنَّه كان يَنبغي أن يُسْتَدلَّ باسْتِئذانِهم على حالِهم، ولا يُؤذَنَ لهم؛ فالخُلَّصُ من المؤمنينَ يُبادِرونَ إلى الجِهادِ مِن غَيرِ تَوقُّفٍ على الإذنِ، فضلًا عن أنْ يَسْتأذِنوكَ في التَّخلُّفِ، وحيثُ اسْتأذَنَكَ هؤلاءِ في التخلُّف كان ذلك علامةً للتَّأني في أَمْرِهم، بل دليلًا على نِفاقِهم [834] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/69). .
وجُمْلَةُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ مُعترِضةٌ؛ لفائدةِ التَّنبيهِ على أنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ على أسرارِ المؤمنينَ؛ إذْ هُمُ المرادُ بالمُتَّقينَ [835] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/212). ، وفيه أيضًا شهادةٌ لهم بالانْتِظامِ في زُمرةِ المتَّقينَ، وعِدَةٌ لهم بأَجْزلِ الثَّوابِ، وتَقريرٌ لمضمونِ ما سَبَقَ، كأنَّهُ قيل: واللهُ عليمٌ بأنَّهُمْ كَذَلِكَ، وإشعارٌ بأنَّ ما صَدرَ عنُهم مُعلَّلٌ بالتَّقوى [836] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/70). .
وفي هذِه الآيةُ تَعييرٌ للمُنافِقينَ، وطَعْنٌ عليهم بيِّنٌ [837] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/39). .
2- قوله تعالى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ
قولُه: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... مُستأنَفَةٌ استئنافًا بيانيًّا نَشَأ عن تَبرئةِ المؤمنينَ مِن أنْ يَسْتأذنوا في الجِهادِ، ببيانِ الذين شأنُهم الاسْتِئذانُ في هذا الشَّأنِ، وأنَّهم الذين لا يُؤمنونَ باللهِ واليومِ الآخِرِ في باطِنِ أمْرِهم؛ لأنَّ انْتِفاءَ إيمانِهم يَنْفي رَجاءَهم في ثوابِ الجِهادِ؛ فلذلك لا يُعرِّضونَ أَنْفُسَهم له [838] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/212). .
وأفادتْ إِنَّمَا القَصْرَ، وصِيغةُ القَصْرِ هنا دَالَّةٌ باعْتِبارِ أحَدِ مَفادَيْها على تأكيدِ جُمْلةِ إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [839] وذلك لأنَّ القصرَ يُفيدُ مفادَ خَبرينِ بإثباتِ شيءٍ ونفيِ ضدِّه. ، وقد كانتْ مُغْنيةً عَنِ الجملةِ المؤكَّدةِ، لولا أنَّ المُرادَ مِن تقديمِ تلك الجُمْلةِ التَّنويهُ بفَضيلةِ المؤمنينَ؛ فالكلامُ إطنابٌ لقَصْدِ التَّنويهِ، والتنويهُ مِن مَقاماتِ الإطنابِ [840] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/212). .
وأيضًا في قولِه: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ حَذْفُ مُتَعلِّقَ يَسْتَأْذِنُكَ؛ لِظُهورِه ممَّا قَبْلَه ممَّا يُؤذِنُ به فِعْلُ الاسْتئذانِ في قولِهِ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، والتَّقديرُ: (إنَّما يَسْتَأذِنُكَ الذين لا يُؤمنونَ في ألَّا يُجاهِدوا) [841] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/212). .
وفي قولِه: لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تَخصيصُ الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخِرِ بالذِّكْرِ في المَوْضِعينِ؛ للإيذانِ بأنَّ الباعِثَ على الجِهادِ ببَذْلِ النَّفْسِ والمالِ إنَّما هو الإيمانُ بِهِما [842] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/70). .
قولُه: وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فيه إيثارُ صِيغةِ الماضي؛ للدَّلالةِ على تَحقيقِ الرَّيبِ وتقرُّرِه [843] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/70). .
3- قولُه تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ
والأمرُ في قولِهِ: اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ أمرُ تَوبيخٍ، كقولِه تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] ، بقَرينةِ قولِهِ: مَعَ القَاعِدِينَ [844] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (1/230). .
وزيادةُ قولِه: مَعَ الْقاعِدِينَ ذمٌّ لهم وتعجيزٌ، وإلحاقٌ بالنِّساءِ والصِّبيانِ والزَّمْنَى الذين شأنُهُم القُعودُ والجُثومُ في البُيوتِ، وهم القاعِدونَ والخالِفونَ والخوالِفُ [845] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/276)، ((تفسير أبي حيان)) (5/429)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/215). .
4- قوله تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
قولُه: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالًا ... اسْتِئنافٌ بَيانيٌّ لجُمْلةِ: كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ؛ لبَيانِ الحِكْمةِ مِنْ كراهيةِ اللهِ انْبِعاثَهم، وهي إرادةُ اللهِ سَلامةَ المُسلِمينَ مِن أضرارِ وُجودِ هؤلاءِ بينهم؛ لأنَّهم كانوا يُضمِرونَ المَكرَ للمُسلِمينَ فيَخرجون مُرْغَمِين [846] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/216). .
قولُه: وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ فيه حذف المفعول، والتقدير: لأَوْضَعُوا رَكائِبَهم، والمُرادُ به المُبالغةُ في الإسراعِ بالنَّمائمِ؛ لأنَّ الرَّاكِبَ أسرعُ مِنَ الماشي [847] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (16/63)، ((تفسير أبي السعود)) (4/71). . وقيل: المعنى: أَوْقَعوا الإيضاعَ، وحُذِفَ المفعولُ إشارةً إلى أنَّ مُرادَهم الإيضاعُ نَفْسُه لا بَقيدِ دَابَّةٍ، وعبَّر بالإيضاعِ؛ لأنَّه للرَّاكبِ، وهو أَسْرعُ مِن الماشِي [848] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/491). .
وهو تمثيلٌ لحالةِ المُنافِقين حِينَ يَبذُلون جُهدَهم لإيقاعِ التَّخاذُلِ والخوفِ بَينَ جَيشِ المُؤمنِين، وإلقاءِ الأخبارِ الكاذِبةِ عن قُوَّةِ العدوِّ، بحالِ مَن يُجهِد بَعيرَه بالسَّيرِ لإبلاغِ خَبرٍ مهمٌّ، واختير هنا ذِكرُ الإيضاعِ لعِزَّةِ هذا المعنى، ولِمَا فيه مِن الصَّلاحيةِ لتَفكيكِ الهيئةِ بأنْ يُشبَّه الفاتِنون بالرَّكبِ، ووسائلِ الفِتنةِ بالرَّواحلِ، وفي ذكر خِلَالَكُمْ ما يَصلُح لتشبيهِ استقرائِهم الجماعاتِ والأفرادَ بتَغلْغُلِ الرَّواحلِ في خِلالِ الطُّرُقِ والشِّعابِ [849] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/216 - 217). .
وجُملةُ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ اعْتِراضٌ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ بَغْيَهُمُ الفِتْنةَ أشدُّ خَطَرًا على المسلِمينَ؛ لأنَّ في المُسلمينَ فَريقًا تَنْطلي عليهم حِيلُهُم، وهؤلاءِ هم سُذَّجُ المُسلِمينَ الذين يَعْجبونَ مِنْ أخبارِهم ويَتأثَّرونَ، ولا يَبْلغونَ إلى تَمييزِ التَّمويهاتِ والمَكائِدِ عَنِ الصِّدْقِ والحَقِّ [850] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/218). .
وجاءَ قولُه: سَمَّاعُونَ بصِيغةِ المُبالَغةِ (فعَّالونَ)؛ للدَّلالةِ على أنِّ اسْتِماعَهم تامٌّ، وهو الاسْتِماعُ الذي يُقارِنُه اعْتِقادُ ما يُسْمَعُ [851] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/218). .
وجُملةُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ تَذييلٌ قُصِدَ مِنْه إعلامُ المسلمينَ بأنَّ اللهَ يَعْلَمُ أحوالَ المُنافِقينَ الظَّالمينَ؛ ليَكونوا مِنْهُمْ على حَذَرٍ، وليَتوسَّموا فيهم ما وَسَمَهُمُ القرآنُ بِه، ولِيَعْلموا أنَّ الاسْتِماعَ لَهُمْ هو ضَرْبٌ مِنَ الظُّلْمِ [852] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/218). .
وفي قولِه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَضَعَ المُظْهَرَ مَوضِعَ المُضْمَرِ- حيثُ لم يَقُلْ: (واللهُ عليمٌ بهم)-؛ للتَّسجيلِ عليهِمْ بالظُّلْمِ، والتَّشديدِ في الوَعيدِ، والإشعارِ بتَرتُّبِه على الظُّلْمِ، ولَعلَّه شامِلٌ للفَريقينِ: السَّمَّاعِينَ والقاعِدينَ [853] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/71). .