موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات: (14- 17)

ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ

غريبُ الكَلِماتِ:

الْقَنَاطِيرِ: جمْع قِنطار، وقد اختُلِف في حدِّه على أقوال، وجملة القول: أنَّه عددٌ كثيرٌ من المال .
المُقَنْطَرَةِ: المضاعَفة، أو المضعَّفة، أو المكمَّلة .
الْمُسَوَّمَةِ: أي: الرَّاعيةِ- مِن السَّوم وهو الرَّعي- أو المعلَّمة بالعَلاماتِ الحِسان- من السِّمة والتَّسويم، أو المطَهَّمة، أي: الـُمحسَّنة، أو المرسَلة وعليها رُكبانُها، أو المعلَّمة في الحَرْبِ بالعَلامةِ، وأصلُ (سوم): طلب الشَّيء .
الْمَآبِ: المرجِع، مِن آبَ يَؤُوب أَوْبًا، إذا رجَع .
الْقَانِتِينَ: الخاضِعين، الـمُداومين على طاعةِ الله، والقُنوت: دوامُ الطَّاعة ولزومُها مع الخضوع؛ وأصل (قنت): يدلُّ على طاعةٍ وخيرٍ في دِين، ثم سُمِّي كلُّ استقامةٍ في طريقِ الدِّينِ قنوتًا .
بِالأَسْحَارِ: جمْع سَحَر، وهو آخِرُ اللَّيلِ ومُقدِّمةُ الصُّبح .

المَعنَى الإجماليُّ:

بعدَ أنْ بيَّن تبارَك وتعالَى عقوبةَ الكافرين، وأنَّهم لن تُغنيَهم أموالُهم ولا أولادُهم مِن عذابِ اللهِ وغضَبِه، حذَّر أهلَ الإيمان من أنْ تُلهيَهم زينةُ الدُّنيا وشهواتُها عن الآخرةِ, فذكَر أنَّه زُيِّن للنَّاسِ محبَّةُ عددٍ مِن المشتهَيَاتِ؛ كالنِّساءِ، والبنينَ، وأنواعِ الأموال, هي كلُّها ممَّا يُستمتَعُ به في الدُّنيا مِن زينتِها المنتهيَةِ بالزَّوالِ, وعند الله سبحانه حُسْنُ المرجِعِ والثَّوابِ.
ثمَّ أمَر الله نبيَّه أنْ يخبِرَ المؤمنين أنَّ هناك خيرًا من هذه الشَّهواتِ الدُّنيويَّة الزَّائلة، وهي الجنَّاتُ والنَّعيم المُقيم، وما فيها من المنازل الرَّفيعةِ, والأنهار الجارية, والأزواج المُطهَّرة, وأنَّ هذا النَّعيم دائمٌ ليس بمنقطعٍ؛ فهم خالدون فيها خلودًا أبديًّا، مع أكبرِ نعيمٍ وأعظَمِه، وهو الرِّضا من الله تعالى؛ فاللهُ تبارَك وتعالَى بصيرٌ بعبادِه كلِّهم, فيُجازي كلَّ واحدٍ بما يستحقُّ.
ثم بيَّن اللهُ تبارَك وتعالَى أحوالَ المتَّقين الَّذين يستحقُّون هذا النَّعيم, وعدَّد أوصافَهم, فذكَر أنهم هم الَّذين يتوسَّلون إلى اللهِ تبارَك وتعالَى بإيمانِهم به وبكتابِه وبرسولِه أنْ يمُنَّ عليهم بمغفرةِ الذُّنوبِ, والوقاية من عذاب النَّارِ، ثمَّ ذكَر من صفاتهم الصَّبرَ، والصِّدقَ، والقنوت، والإنفاق، والاستغفار في أوقات السَّحَرِ؛ حيث وقتُ النُّزول الإلهيِّ, في ثُلُث اللَّيل الآخِرِ.

تفسير الآيات:

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى في الآياتِ السَّابقة عاقبةَ الكافرين، وأنَّهم لم تُغنِ عنهم أموالُهم ولا أولادُهم، وعَظ وحذَّر مِن أنْ تُلهيَ زينةُ الدُّنيا وشهواتُها عن الآخرةِ ، فقال:
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ
أي: زيَّن اللهُ تعالى للنَّاسِ محبَّةَ المشتهَيات؛ من النِّساءِ، والذُّكورِ من الأولاد، والمال الكثير المتضاعف ؛ من الذَّهب والفضَّةِ والخيل الرَّاعية ، والإبل والبقَر والغَنَم، والأرض المتَّخذة للزِّراعة .
ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
 أي: جميعُ ما ذُكِر من النِّساء والبنين، والقناطير المقنطَرة مِن الذَّهب والفضَّة، والخيلِ المسوَّمة، والأنعام والحَرْث، ممَّا يُستمتَعُ به في الدُّنيا، وهو مع قلَّتِه إلى زوالٍ .
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ
 أي: والله عنده حُسنُ المرجعِ إلى جنَّات تجري من تحتها الأنهارُ، وإلى أزواج مُطهَّرةٍ، ورضوانٍ من الله، وذلك للَّذين اتَّقَوا ربَّهم .
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى متاعَ الدُّنيا، شوَّق عبادَه إلى متاعِ الآخرةِ فقال:
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ
 أي: قُلْ- يا محمَّدُ- للنَّاس: أأُخبِرُكم وأُعلِمُكم بخيرٍ وأفضلَ ممَّا زُيِّن لكم في هذه الحياةِ الدُّنيا .
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
 أي: للَّذين خافوا اللهَ فأطاعوه؛ بأداء فرائضِه، واجتنابِ معاصيه: عند ربِّهم جنَّاتٌ كثيرةٌ ومتنوِّعة، تجري من تحتِ أشجارِها وقصورِها ومن أرجائِها أنهارُ العسَلِ واللَّبَنِ والخمرِ والماءِ، وغير ذلك، ماكثين فيها أبدَ الآبادِ، لا يذوقون فيها الموتَ .
وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ
 أي: ولهم أزواجٌ من نِساء الجنَّةِ، اللَّواتي طهُرْنَ مِن كلِّ أذًى؛ مِن الحَيضِ، والمنِيِّ، والبولِ، والنِّفاس، ومن مساوئِ الأخلاق، وآفاتِ القلبِ والِّلسانِ والجوارحِ، وغير ذلك من كلِّ عيبٍ ظاهرٍ وباطنٍ ممَّا يعتري نساءَ أهلِ الدُّنيا .
وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ
أي: ولهم رضًا مِن الله تعالى يُحِلُّه عليهم .
وفي الحديثِ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضِي اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ تبارَك وتعالَى يقولُ لأهلِ الجنَّةِ: يا أهلَ الجنَّةِ، فيقولون: لبَّيْكَ ربَّنا وسعدَيْكَ، فيقولُ: هل رضِيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نَرضَى وقد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحدًا مِن خَلقِك؟! فيقولُ: أنا أُعطيكم أفضلَ من ذلك، قالوا: يا ربِّ، وأيُّ شيءٍ أفضلُ من ذلك؟ فيقولُ: أُحِلُّ عليكم رِضواني، فلا أسخَطُ عليكم بعده أبدًا )) .
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ:
أي: واللهُ بصيرٌ بكلِّ العباد- مؤمنِهم وكافرِهم، بَرِّهم وفاجرِهم، مُتَّقيهم وعاصيهم- بَصرَ نظَرٍ؛ فلا يغيبُ عن نظَره شيءٌ، وبصَرَ عِلمٍ؛ فلا يعزُبُ عن عِلمه شيءٌ ، وإذا كان كذلك جازاهم بما يستحقُّون .
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى نعيمَ الآخرة، وأنَّه بصيرٌ بمَن يستحقُّ ما أعدَّ مِن الفوز العظيمِ، والنَّعيم المُقِيم، ذكَر مَن يستحقُّ هذا النَّعيمَ، ومَن هم أهله الَّذين هم أَولى به، وما استحقُّوا ذلك به من الأوصاف، تفضلًا منه عليهم بها، وبإيجابِ ذلك على نفسِه؛ حثًّا لهم على التَّخلُّقِ بتلك الأوصافِ .
ثم فسَّر أحوالَ المتَّقين الموعودين بالجنَّاتِ فقال:
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
أي: هم الَّذين يقولونَ: يا ربَّنا، إنَّنا آمنَّا بك، وبكتابِك وبرسولِك؛ فبسببِ إيمانِنا، استُرْ ذنوبَنا، ولا تُعاقِبْنا عليها .
وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
أي: ادفَعْ عنَّا عذابَ النَّار، ولا تُعذِّبْنا بها .
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ
الصَّابِرِينَ
أي: على القيامِ بالطَّاعات، وتَرْك المحرَّمات، وعلى أقدارِ الله المؤلِمَة .
وَالصَّادِقِينَ
أي: في أقوالِهم وأفعالِهم .
وَالْقَانِتِينَ
أي: والمطيعين، الذين يُداومون على الطَّاعةِ، مع مُصاحَبةِ الخشوعِ والخُضوعِ للهِ تعالى .
وَالْمُنْفِقِينَ
 أي: مِن أموالِهم في جميعِ ما أُمِروا به من الطَّاعاتِ؛ كأداءِ الزَّكاةِ والصَّدقات، وصلةِ الأرحام والقَرابات، ومواساةِ ذوي الحاجاتِ، وغيرِ ذلك مِن الوجوه الَّتي أذِنَ اللهُ لهم بالإنفاقِ فيها .
وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ
أي: السَّائلين المغفرةَ في آخِرِ اللَّيل ؛ فهو وقتُ نُزولِ اللهِ عزَّ وجلَّ إلى سماءِ الدُّنيا؛ ففي الحديثِ عن أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليهِ وسلَّم: (( يَنْزِلُ ربُّنا تباركَ وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا، حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيلِ الآخِرُ، يقولُ: من يَدعوني فأَستجيبَ له، من يَسْأَلُني فأُعْطِيَه، مَن يستغفرُني فأَغْفِرَ له؟ )) .

الفوائد التربوية :

1- في قوله تعالى: مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إشارةٌ إلى أنَّ هذه المتعةَ غايتُها الزَّوالُ، فإمَّا أنْ تزولَ عنها، وإمَّا أنْ تزولَ عنك، ولو اجتمَعَتْ كلُّها للمرءِ فما هي إلَّا متاعُ الحياة الدُّنيا، يتمتَّعُ بها الإنسانُ ثمَّ يُفارقُها أو تُفارِقُه هي .
2- يُستفاد مِن قوله: الدُّنْيَا أنَّ اللهَ قد أَدْنَى مرتبةَ هذه الأشياءِ؛ ليتنبَّهَ الإنسانُ أنَّها متاعُ الحياة الدُّنيا، فينظُرَ إليها نظرةَ جِدٍّ لا نظرةَ شَهوة، فإذا كان ذلك ينفَعُه في الآخِرةِ، فالنَّظرُ إليه طيِّبٌ ونافعٌ، ويكونُ مِن حَسَنة الدُّنيا والآخرة، أمَّا إذا نظَر إليه مجرَّدَ نظَرِ الشَّهوةِ، فإنَّه يُخشى عليه أنْ يُغلِّبَ جانبَ الشَّهوةِ على جانبِ الحقِّ .
3- التَّزهيدُ في التَّعلُّقِ بهذه الأشياء المذكورة في قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ...؛ وذلك لقولِه سبحانه: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وكلُّ ما كان للدُّنيا فلا ينبغي للإنسان أنْ يُتبِعَه نفسَه؛ لأنَّه زائلٌ، فلا تُتبِعْ نفسَك شيئًا مِن الدُّنيا، إلَّا شيئًا تستعينُ به على طاعةِ الله .
4- في قوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ... الآيةَ: تسليةٌ للفقراءِ الَّذين لا قُدرةَ لهم على هذه الشَّهواتِ، الَّتي يقدِرُ عليها الأغنياءُ، وتحذيرٌ للمغترِّين بها .
5- حُسن أسلوبِ التَّعليم والدَّعوة، وأنَّه يَنبغي للإنسانِ في مقامِ الدَّعوة أنْ يأتيَ بالألفاظ الَّتي تُوجِبُ الانتباهَ والتَّشويقَ؛ كما في قوله: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ .
6- يُستفاد من قوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ التَّحذيرُ مِن مُخالفةِ أمرِه؛ لأنَّه متى علِم الإنسانُ أنَّ اللهَ بصيرٌ به، فسوف يردَعُ نفسَه عن مخالفة ربِّه؛ لأنَّه إذا خالَف ربَّه فاللهُ بصيرٌ به، وسوف يُجازيه بحسَب مخالَفتِه .
7- ختَم اللهُ الآيةَ بقوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ؛ قيل لبيانِ أنَّه ليس كلُّ مَن ادَّعى التَّقوى يكون متَّقيًا، وإنَّما المتَّقي هو مَن يعلَمُ اللهُ منه التَّقوى، وفي ذلك تنبيهٌ وإيقاظٌ للنَّاس لمحاسبةِ نفوسِهم .
8- يدلُّ قولُه تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا... أنَّ مِن صفاتِ المتَّقين إعلانَهم الإيمانَ باللهِ، واعترافَهم بالعبوديَّة، وعدمَ إعجابِهم بأنفسِهم، واعترافَهم بتقصيرِهم في طلَبِ المغفرةِ من اللهِ .
9- في قوله: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ قُدِّم ذِكْرُ الصَّبر على ما بعده؛ قيل لأنَّه كالشَّرط لها, وبدونه لا يتمُّ صِدقٌ، ولا قنوتٌ، ولا إنفاقٌ، ولا استغفارٌ في الأسحار .
10- خُصَّص وقتَ السَّحَر بالذِّكر في قوله: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ؛ قيل لأنَّ العبادةَ فيه أشدُّ إخلاصًا، وأشقُّ على أهلِ البداية; لطِيبِ النَّومِ في ذلك الوقتِ، وأروحُ لأهل النِّهايةِ; لصفاء النَّفسِ، وفراغِ القلبِ من الشَّواغلِ، ولدَلالتِه على اهتمامِ صاحبِه بأمرِ آخرتِه .

الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- قوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ يدلُّ على أمورٍ ثلاثةٍ مُرتَّبةٍ، أوَّلُها: أنَّ المرء يشتهي أنواعَ المشتَهَيات، وثانيها: أنَّه يُحبُّ شهوتَه لها، وثالثها: أنَّه يعتقدُ أنَّ تلك المحبَّةَ حَسَنةٌ وفضيلةٌ، ولَمَّا اجتمعت الدَّرجاتُ الثَّلاثةُ بلغتِ الغايةَ القُصوى في الشِّدَّةِ والقوَّة، ولا يكاد ينحَلُّ ذلك إلَّا بتوفيقٍ عظيمٍ مِن الله تعالى .
2- قوَّة التَّعبير القُرْآني، وأنَّه أعلى أنواعِ الكلام في الكمالِ؛ إذ سلَّط الحبَّ على الشَّهواتِ، لا على ذاتِ الأشياء؛ لأنَّ هذه الأشياءَ حبُّها قد يكون محمودًا .
3- خصَّ اللهُ حُبَّ الذَّكَرِ بالذِّكْرِ دون الأنثى في قوله: وَالْبَنِينَ؛ لأنَّ التَّمتُّعَ بهم ظاهرٌ من حيث السُّرورُ والتَّكثُّرُ بهم، إلى غير ذلك .
4- التَّعبيرُ بـالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرةِ يُشعِر بأنَّ الكثرةَ هي مَظِنَّةُ الافتتانِ؛ لاشتغالِ القلبِ بالتَّمتُّعِ بها، واستغراقِ الوقت في تدبيرِها، حتى لا يكادَ يَبقَى في قلبِ صاحبِها حاجةٌ إلى طلَبِ الحقِّ، ونُصرتِه في الدُّنيا، والاستعدادِ لِما أعدَّه الله للمتَّقين في الأخرى .
5- في قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ... قيل قدَّم ما تعلُّقُ الشَّهوةِ به أقوى، وهو النِّساءُ، الَّتي فِتنتُهنَّ أعظمُ فِتَنِ الدُّنيا، ثمَّ ذكَر البنين المتولِّدين منهنَّ، وكلاهما مقصودٌ له لذاته، ثمَّ ذكر شهوةَ الأموال؛ لأنَّها تُقصَد لغيرها؛ فشهوتها شهوةُ الوسائل، وقدَّم أشرفَ أنواعها، وهو الذَّهب، ثمَّ الفضَّة بعده، ثمَّ ذكر الشَّهوةَ المتعلِّقةَ بالحيوان، الَّذي لا يُعاشَر عِشْرةَ النِّساءِ والأولاد؛ فالشَّهوةُ المتعلِّقةُ به دونَ الشَّهوةِ المتعلِّقة بها، وقدَّم أشرفَ هذا النَّوع، وهو الخيلُ؛ فإنَّها حصونُ القوم، ومعاقِلُهم، وعِزُّهم، وشرفُهم، ثمَّ ذكَر الأنعامَ وقدَّمها على الحرثِ؛ لأنَّ الجَمَالَ بها والانتفاعَ أظهرُ وأكثرُ مِن الحرثِ، وأيضًا فصاحبُها أعزُّ مِن صاحبِ الحرثِ وأشرفُ، وهذا هو الواقعُ؛ فإن صاحب الحرث لا بدَّ له من نوعِ مذلَّةٍ، فجعَل الحرثَ في آخر المراتبِ؛ وَضْعًا له في موضعِه .
6- قوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ: العِنديَّةُ هنا: تُفيدُ فضلًا عظيمًا؛ لأنَّها هي القُربُ مِن الله عزَّ وجلَّ؛ كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: 205]؛ فثواب المتَّقين عند اللهِ، والعِنديَّة تُفيد القُرْب، ولا أقربَ مِن شيء يكونُ سقفُه عرشَ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ كالفِرْدَوسِ الأعلى؛ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 44-44].
7- إضافةُ لفظ (رَبّ) إلى ضَميرِ المتَّقين في قوله تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ إشعارٌ بفضلِهم، وعنايةِ مَن ربَّاهم بهم، واهتمامِه بشأنهم .
8- في قوله تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ [الفاتحة: 14]، قد أُلغِي ما يُقابل شهواتِ الدُّنيا في ذِكرِ نعيمِ الآخرةِ؛ قيل لأنَّ لذَّةَ البنين، ولذَّة المالِ هنالك مفقودةٌ، للاستغناءِ عنها، وكذلك لذَّةُ الخيلِ والأنعامِ، فبَقِي ما يُقابل النِّساءَ والحَرْثَ، وهو الجنَّاتُ والأزواجُ؛ لأنَّ بهما تمامَ النَّعيم والتَّأنُّس- وقيل: نصَّ على أزواج مطهَّرة; ليُعرف الفرقُ بين نساء الدنيا ونساء الآخرة- وزِيدَ عليهما رِضوانُ الله، الَّذي حُرِمَه مَن جعَل حظَّه لذَّاتِ الدُّنيا، وأعرَض عن الآخرةِ .
10- عطف وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ على ما أعدَّ للَّذين اتَّقَوا عند اللهِ؛ لأنَّ رِضوانَه أعظمُ من ذلك النَّعيمِ المادِّيِّ؛ لأنَّ رضوانَ اللهِ تقريبٌ رُوحانيٌّ؛ قال تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 62] .
11- في قوله: رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا: جوازُ التَّوسُّلِ بالإيمانِ؛ فالفاء هنا للسببيَّةِ، تدلُّ على أنَّ ما بعدَها مُسبَّبٌ عمَّا قبلها ، أي: بسببِ إيمانِنا فاغفِرْ لنا؛ لأنَّ الإيمانَ لا شكَّ أنَّه وسيلةٌ للمغفرةِ، وكلَّما قوِيَ الإيمانُ، قوِيَتْ أسبابُ المغفرة، وهذا من بابِ التَّوسُّلِ بالطَّاعةِ لقَبولِ الدُّعاء؛ فهم توسَّلوا إلى اللهِ برُبوبيَّتِه، للإخبارِ بحالِهم في الإيمانِ به، كأنَّهم يقولونَ: ربَّنا آمَنَّا، ولكنَّنا لم نصِلْ إلى الإيمانِ إلَّا برُبوبيَّتِك لنا، تلك الرُّبوبيَّة الخاصَّة المقتضيَة للعنايةِ التَّامَّةِ .
12- في قوله: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ حصرٌ لمقاماتِ السَّالك على أَحسنِ ترتيبٍ؛ فإنَّ معاملتَه مع اللهِ تعالى إمَّا توسُّل، وإمَّا طلَبٌ، والتَّوسُّل إمَّا بالنَّفس، وهو منعُها عن الرَّذائلِ، وحبسُها على الفضائل، والصَّبرُ يَشمَلُهما، وإمَّا بالبدنِ، وهو إمَّا قوليٌّ، وهو الصِّدقُ، وإمَّا فِعْليٌّ، وهو القُنوتُ الَّذي هو ملازمةُ الطَّاعة، وإمَّا بالمالِ وهو الإِنفاقُ في سُبلِ الخيرِ، وأمَّا الطَّلب فبالاستغفارِ؛ لأنَّ المغفرةَ أعظمُ المطالبِ، بل الجامعُ لها .
13- ختَم اللهُ هذه الأعمالَ العظيمة بذِكْرِ الاستغفارِ في الأسحارِ؛ قيل: لِمَا في الاستغفارِ من اعترافٍ بالعجزِ عن القيامِ بالواجب, وذلك هو العُمدةُ في الخَلاصِ .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ حبُّ الشَّهَواتِ... الآية: استئنافٌ، وفيه مبالغةٌ، حيث عبَّر عن الأعيانِ التي ذَكَرها بالشَّهوات؛ تَخسيسًا لها، ومبالغةً في كونها مشتهاةً، مَحروصًا على الاستمتاعِ بها؛ فقال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ، ثم جاء بالتفسير، ليقرِّرَ أوَّلًا في النفوس أنَّ المزيَّن لهم حبُّه ما هو إلَّا شهواتٌ لا غيرُ، ثم يُفسِّره بهذه الأجناس، فيكون أقوى لتخسيسها، وأدلَّ على ذمِّ مَن يَستعظمُها ويَتهالَك عليها، ويُرجِّح طلبَها على طلبِ ما عند اللَّه .
2- قوله تعالى: وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ: المُقَنْطَرَةِ: مَبنيَّةٌ على وزن (مُفَنْعلة) أو (مُفَعْلَلة) من القِنطار، وهو للتأكيد، حيث اشتقُّوا منها وصفًا للتوكيد؛ فأُريد بها هنا المضاعفةُ المتكاثِرة؛ لأنَّ اشتقاقَ الوَصْف من اسمِ الشَّيءِ الموصوف إذا اشتهَر صاحبُ الاسم بصفةٍ، يُؤذِن ذلك الاشتقاقُ بمبالغةٍ في الحاصل به .
3- قوله تعالى: ذَلِكَ: إشارةٌ بالبعيدِ إلى جميعِ ما تَقدَّم ذِكرُه من الشَّهوات المفسَّر بهذه الأعيان؛ تأكيدًا لتخسيسِه البعيدِ من إخلادِ ذوي الهِمم إليه؛ ليقطعَهم عن الدَّار الباقية، فأعاد اسمَ الإشارةِ على مُفرَدٍ مُذكَّر، على تقديرِ: ذلِكَ المذكور، فطَوى ذِكرَ هذه السَّبعةِ كلِّها، وكنَّى عنها بالمذكور؛ وذلك لاحتقارِها بالنِّسبة لنعيمِ الآخرة . وقيل: أفرَد كافَ الخِطاب في قوله: ذَلِكَ؛ لأنَّ الخطاب للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو لغير مُعيَّن، على أنَّ علامةَ المخاطَب الواحد هي الغالبُ في الاقترانِ بأسماء الإشارةِ لإرادة البُعْد، والبُعْد هنا بُعْدٌ مجازيٌّ بمعنى الرِّفعةِ والنَّفاسة .
4- قوله: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ: جمَعَ ضميرَ المخاطَب فقال: ذَلِكُمْ ولم يقُل: (ذلك)؛ لأنَّ المخاطَبَ جميعُ النَّاس، وعظَّمه بأداةِ البُعد وميم الجمْع لعَظمتِه عِندَهم والزِّيادة في تَعظيم ما يُرشِدُ إليه، والمشار إليه ما سبَق مِن متاع الحياة الدُّنيا بأنواعِها السَّبعةِ، وأُشير إليها بلفظِ المفرَدِ المذكَّر مِن أجلِ طَيِّ ذِكره بشيءٍ واحد، كأنَّه قال: بخيرٍ مِن ذلكم المذكورِ، حتى لا يُشارَ إلى التفصيلِ فيه؛ لأنَّ الدُّنيا كلَّها في الواقعِ ينبغي أنْ يَزهَدَ فيها الإنسانُ، ولا يَحتسبَها شيئًا .
4- قوله تعالى: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ: خبرٌ فيه تحريضٌ على استبدالِ ما عنده من اللَّذاتِ الحقيقيَّة الأبديَّة، بالشَّهواتِ الفانية .
- وفيه تكريرُ الإسنادِ بجَعْلِ الجلالة واللهُ مبتدأً، وإسنادِ الجملة الظرفيَّة إليه؛ زيادةً في التأكيدِ والتفخيمِ، ولمزيدِ الاعتناءِ بالترغيبِ فيما عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ من النَّعيم المقيم، وللتزهيدِ في مَلاذِّ الدُّنيا وطيِّباتها الفانية .
- وفي الآية من البَلاغة: مُراعاةُ النَّظير، حيث جمَع بين كلِّ أمْر وما يُناسِبُه، مع إلْغاء ذِكرِ التضادِّ، فجمَع سبحانه مُعظَمَ وسائلِ النَّعيم الآيِلَةِ بالمرءِ إلى الانهماكِ في الفِتنة والانسياقِ مع دواعي النُّفوس الجَموح، وقد زُيِّنتْ للناس واستهوتْهم بالتعاجيبِ والمفاتِن؛ ابتلاءً لهم .
- وفيها مناسبةٌ حسنةٌ؛ حيث بدَأَ بتقديمِ النِّساءِ على البنينِ؛ للإشعارِ بعَراقتهنَّ في معنى الشَّهوة؛ إذ يَحصُل منهنَّ أتمُّ اللذَّات، وثَنَّى بالبَنين؛ للتكثُّرِ بهم، وأمَل قيامِهم مقامَهم من بعدهم، والتفاخُر والزِّينة .
5- قوله تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ: افتتَح الاستئنافَ بكلمة قُلْ للاهتمامِ بالمقولِ، وهمزةُ الاستفهام في أَؤُنَبِّئُكُمْ؛ للتقريرِ والعرضِ؛ تشويقًا من نفوسِ المخاطَبين إلى تَلقِّي ما سيُقصُّ عليهم، أي: أَأُخبرُكم بما هو خيرٌ ممَّا فُصِّل من تلك المستلذَّاتِ المزيَّنة لكم .
- وإبهامُ الخيرِ وتَنكيره في قوله: بِخَيْرٍ؛ لتفخيمِ شأنِه والتشويقِ إليه .
- وقال: أَؤُنَبِّئُكُمْ ولم يقُلْ: (أَأُخبركم)؛ لأنَّ النبأَ إنَّما يُقالُ في الأمور المهمَّة؛ كقوله: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ [النبأ: 1- 2] ؛ ولهذا قيل للنَّبيِّ: (نبيٌّ)، ولم يُقَل: (مخبِر)؛ فهذا أمرٌ مُهِمٌّ يحتاجُ إلى الإنباء عنه .
- وفيه: تفصيلٌ بعدَ إجمال؛ مبالغةً في الترغيبِ، وللتسليةِ عن زخارفِ الدُّنيا، وتقويةً لنفوس تاركها .
- وفيه: التفاتٌ مِن الغَيبة زُيِّنَ لِلنَّاسِ... إلى الخِطاب قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ؛ للتشريفِ .
6- قوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عند رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ: فيه تقديمُ الخبر لِلَّذِينَ اتَّقَوْا على المُبتدأِ جَنَّاتٌ لإفادةِ الحَصر؛ إذ تقديمُ ما حقُّه التأخيرُ يُفيدُ الحصرَ .
7- قوله تعالى: ورِضوان: (رِضوان) اسمُ مبالغةٍ في مَعنَى الرِّضا، والزِّيادةُ في المبنى لبيانِ المبالَغةِ في المعنى, فكأنَّه قال: ورضوانٌ عظيمٌ من الله، لا يشُوبُه ولا يعقُبُه سخطٌ .
- وأظهَر اسمَ الجلالة في قوله: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ، دون أنْ يقولَ: (ورضوان منه)، أي: من ربِّهم؛ لِمَا في اسمِ الجلالةِ مِن الإيماءِ إلى عظَمةِ ذلك الرِّضوانِ .
8- قوله تعالى: واللهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ جملةٌ مُعترِضةٌ، وتأكيدُ الجملةِ لإظهارِ أنَّ إيمانهم ناشئٌ مِن وُفورِ الرَّغبة، وكمالِ النَّشاط .
- وإظهارُ اسمِ الجلالة في قوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ؛ لقصدِ استقلالِ الجُملةِ لتكونَ كالمَثَلِ .
- وفيه بيانُ الوعد، أي: إنَّه عليمٌ بالذين اتَّقوا، ومراتبِ تقواهم؛ فهو يُجازيهم .
- وفيه مع الوعيدِ، تهديدٌ شديدٌ لِمَن تولَّى عن الإسلام، ووعْدٌ بالخيرِ لِمَن أسلم؛ إذ معناه: إنَّ الله مُطَّلعٌ على أحوالِ عَبيدِه، فيُجازيهم بما تَقتضي حِكمتُه .
9- قوله تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا فيه إسقاطُ أداة النِّداء في رَبَّنَا؛ إشعارًا بما لهم من القُرب؛ لأنَّهم في حَضرةِ المراقبةِ .
- وفيه التأكيدُ بقوله: إِنَّنَا بإثباتِ النونِ للمبالغةِ في التأكيدِ .
10- قوله تعالى: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ: فيه تفخيمٌ للموصوفِ بدخولِ الواو على الصِّفاتِ مع أنَّ الموصوفَ واحد؛ لأنَّه إيذانٌ بأنَّ كلَّ صفةٍ مستقلَّةٌ بمدح الموصوف؛ فتوسيطُ الواوِ بينها للدَّلالةِ على استقلالِ كلِّ واحدٍ منها، وكمالِهم فيها، أو لتغايُر الموصوفين بها .
- قولُه: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ أكملُ من قوله: الَّذين يَصبِرون ويصدُقون؛ قيل لأنَّ قوله: الصَّابِرِينَ يدلُّ على أنَّ هذا المعنى عادَتُهم وخُلُقُهم، وأنَّهم لا يَنفَكُّون عنها ؛ فالاسمُ يدلُّ على الثُّبوتِ، والفِعلُ يدلُّ على التجدُّدِ والحدوثِ .