موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيتان: (12- 13)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ

غريبُ الكَلِماتِ:

تُحْشَرُونَ: تُجمَعون؛ فالحشرُ: الجمعُ مع سَوْق، وكل جمعٍ حَشْرٌ، والبعثُ والانبعاثُ، أو الجمعُ بكثرة .
الْمِهَادُ: الفِراشُ، أو المكانُ الممهَّد المُوطَّأ .

المَعنَى الإجماليُّ:

يأمُرُ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُخبِرَ الكافرين بأنَّهم سيُغلَبون من قِبَلِ المؤمنين في حياتِهم الدُّنيا، وأنَّهم سيُجمَعون يومَ القيامة إلى نارِ جهنَّمَ؛ فهي الفِراشُ الَّذي فرَشوه لأنفسِهم، فبئس الفِراشُ.
ثم يقول تعالى: قد كان لكم علامةٌ ودلالةٌ واضحةٌ في أنَّ الغَلَبةَ تكونُ للمؤمنين, وأنَّ النَّصرَ حليفُهم, وأنَّ اللهَ مُعزٌّ دِينَه، ومؤيِّدٌ رسولَه، هذه العلامةُ والدَّلالة متمثِّلةٌ في طائفتينِ تَقاتَلَتا، إحداهما مؤمنة تُقاتِلُ في سبيل الله، وهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومَن معه من المسلمين، والأخرى كافرة، وهم مُشرِكو قريشٍ, وذلك في يوم بدرٍ؛ حيث كان المسلمون يرَوْن الكافرين رؤيةً ظاهرةً بأنَّهم ضِعفُهم في العددِ, حتى يحصُلَ لهم التَّوكُّلُ على الله، ويلجَؤوا إليه في طلبِ الإعانة, والله يُقوِّي بأسباب نصرِه مَن يشاءُ ممَّن تقتضي الحكمةُ نصرَه أو تأييدَه, وفي ذلك التَّأييدِ للفئةِ المسلِمةِ- مع قلَّتِها- عبرةٌ وعِظَةٌ لِمن رُزِق بصيرةً نافذةً وعقلًا كاملًا يوصِّلانِه إلى معرفةِ حِكَمِ اللهِ وأفعالِه.

تفسير الآيتين:

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: سَتُغْلَبُونَ قراءتان:
1- قراءة (سَيُغْلَبُونَ) على معنى أنَّ الكُفَّارَ غُيَّبٌ.
وقيل معناه: قلْ لليهود: سيُغلبُ مُشرِكو العربِ ويُحشرون إلى جَهنَّمَ، فتكونُ المخاطبةُ لليهود، وتكونُ الغلبةُ واقعةً على مُشركي قريش، والتوجيهُ الأوَّل أرجحُ لصريحِ الخِطاب قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا .
2- قِراءة (سَتُغْلَبُونَ) هي أمرٌ من الله لنبيِّه أنْ يُخاطِبَ الكفَّارَ بهذا، أي: قل لهم- يا محمَّدُ- مواجهًا بالخطاب: ستُغلبون وتُحشرون إلى جهنَّمَ .
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- للَّذين كفروا: ستُغلَبون من قِبَلِ المؤمنين في الدُّنيا.
كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، وكما قال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ .
وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: وَتُحْشَرُونَ قِراءتان:
1- قِراءة (وَيُحْشَرُونَ) بالياء، على لفظِ الغَيبة .
2- قِراءة (وَتُحْشَرُونَ) بالتَّاء بالخِطابِ .
وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ
أي: وتُجمَعون يَومَ القِيامةِ إلى النَّار .
 كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال: 36] .
وَبِئْسَ الْمِهَادُ:
وبئس الفِراشُ جهنَّمُ الَّتي تُحشَرون إليها .
كما قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ [الأعراف: 41] .
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ
 قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ
 أي: قد كان لكم علامةٌ ودلالةٌ على أنَّ الغَلَبةَ تكونُ للمؤمنين، وأنَّ اللهَ مُعزٌّ دِينَه، وناصرٌ رسولَه، ومُظهِرٌ كلمتَه .
فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ
 أي: في طائفتينِ لقِي بعضُهما بعضًا للقتالِ فيما بينهما : طائفةٍ تُقاتِلُ في سبيلِ الله، وهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومَن معه من المسلِمين، وطائفةٍ كافرةٍ، وهم مُشرِكو قُريشٍ، وذلك يومَ بَدْرٍ .
كما قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76] .
يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ
يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ
 أي: يرَى المسلِمون الكافرين مثلي عدد المسلمين، رؤيةً ظاهرةً لا لَبْسَ فيها؛ حيث تَلحقُهم أبصارُهم، وإنْ كانوا أكثرَ من ذلك في حقيقةِ الأمر ؛ ليتوكَّلوا على اللهِ، ويَطلُبوا منه الإعانةَ .
وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ
 أي: واللهُ يُقوِّي بنَصرِه مَن يشاء ممَّن تَقتضي الحِكمةُ نَصْرَه أو تأييدَه .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ
 أي: إنَّ في تأييدِنا الفئةَ المسلِمةَ- مع قلَّتِها في العدَدِ- على الفئةِ الكافرة- مع كثرتها في العدَدِ- لَمُعتَبَرًا ومتَّعظًا لِمَن له بصيرةٌ وفهمٌ يَهتدي به إلى حِكَمِ اللهِ وأفعالِه، وقَدَرِه الجاري بنصرِ عباده المؤمنين في هذه الحياة الدُّنيا، ويومَ يقومُ الأشهادُ .

الفوائد التربوية :

1- في قوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ... دليلٌ على أنَّه لو رجَع المسلِمون إلى دِينهم حقًّا في العقيدةِ والقولِ والعملِ والأخلاقِ والآداب، وجميعِ أمور الدِّين، لحصَلَتْ لهم الغَلَبةُ على الكفَّار، ويَشهَدُ لهذا تاريخُ المسلِمينَ؛ حيث ملَكوا مشارقَ الأرضِ ومغاربَها .
2- من قوله: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُؤخَذُ أنَّ القتالَ لا يكون سببًا للنصرِ إلَّا إذا كان في سبيلِ الله؛ إخلاصًا، وموافقةً للشَّرع، واجتنابًا للمحارِمِ، فإذا تمَّتْ هذه الأمورُ الثَّلاثةُ، فهذا هو الَّذي في سبيلِ الله .
3- إذا كان القتالُ في سبيلِ الله، توجَّهَتْ إليه النَّفسُ بكلِّ ما فيها من قوَّةٍ وشُعورٍ، وما تستطيعُه من تدبيرٍ واستعدادٍ، مع ثقةٍ قويَّةٍ بأن وراءَ قوتها معونةَ اللهِ وتأييدَه .
4- النَّصرُ ليس بكثرةِ العَدَدِ، ولا بقوَّة العُدَدِ، ولكنَّه من الله؛ لأنَّ اللهَ لَمَّا ضرَب هذا المَثَلَ قال: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ؛ فالنَّاظرُ إلى مجرَّدِ الأسبابِ الظَّاهرة يجزم بأنَّ غلَبةَ الفئةِ القليلة للفئة الكثيرة مِن المُحالات، ولكن وراءَ هذا السَّبب المُشاهَدِ بالأبصار، سببٌ أعظمُ منه، لا يُدرِكُه إلَّا أهلُ البصائر والإيمانِ والتَّوكُّلِ، وهو نصرُ اللهِ، وإعزازُه لعباده المؤمنين .
5- انتفاءُ العِبرةِ يدلُّ على ضَعْفِ البَصيرةِ أو عدَمِها بالكلِّيَّةِ, فإذا وجَد الإنسانُ من نفْسِه عدمَ اعتبارٍ واتِّعاظٍ بما يجري، فليعلَمْ أنَّه ضعيفُ البَصيرةِ؛ لقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ .

الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- من قولِ الله تعالى لرسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قُلْ يُعلَم أنَّه عبدٌ تُوجَّه إليه الأوامرُ؛ فهو عبدٌ لا يُعْبَد، ورسولٌ لا يُكَذَّب .
2- ضَرْبُ الأمثالِ بالأمورِ الواقعةِ أبلغُ في التَّصديقِ والطُّمأنينةِ، فينبغي للواعظِ والدَّاعي إلى اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ يضرِبَ المَثَلَ للمدعوِّين بالأمورِ الواقعة؛ لأنَّ ذلك أبلغُ, يؤخَذُ ذلك من قوله: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا .
3- لا أُلفةَ بين المؤمنين والكافرين؛ لقوله: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، فمَن حاوَل أنْ يجمَعَ بين المؤمنين والكافرين، فقد حاوَل الجمعَ بين النَّارِ والماء .
4- الرَّدُّ على الجَبْريَّةِ في قولِه: تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فأضاف الفِعلَ إليها .

بلاغة الآيتين:

1- قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ:
- استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للانتقال من النَّذارة إلى التهديد، ومِن ضَرب المَثل لهم بأحوالِ سَلفِهم في الكُفر إلى ضربِ المَثل لهم بسابقِ أحوالهم المؤذِنة بأنَّ أمرَهم صائرٌ إلى زوال، وأنَّ أمْر الإسلام ستندكُّ له صُمُّ الجبال .
- وجِيء في هذا التهديدِ بأطنبِ عِبارةٍ وأبلغِها؛ لأنَّ المقام مقامُ إطناب؛ لمزيد الموعظةِ، والتذكير بوصْف يومٍ كان عليهم، وهم يَعلمون هذا اليومَ وهو يومُ بدرٍ .
- وقوله تعالى: لِلَّذِينَ كَفَرُوا: فيه العدولُ عن الضَّمير (لـَهُم) إلى الاسم الظَّاهِر لِلَّذِينَ كَفَرُوا؛ لاستقلالِ هذه النَّذارة، وللإفصاحِ عن التَّشنيعِ بهم في هذا الإنذارِ؛ حتى يُعادَ استحضارُ وصْفِهم بالكفر بأصرحِ عبارة ، وأيضًا لكون ما سيَذكره بَعدَه مُرتَّبًا على هذه الصِّفة.

2- قوله تعالى: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيةٌ في فِئَتَينِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ:
- قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةً فيه تأكيدٌ؛ لأنَّه جوابُ قسمٍ محذوفٍ وهو من تمامِ القولِ المأمورِ به؛ جيءَ به لتقريرِ مَضمونِ ما قَبْله وتحقيقِه .
- وتقديمُ الظَّرْف لَكُمْ على فاعلِ كان آيَةٌ؛ للاعتناءِ بما قُدِّم، والتشويقِ إلى ما أُخِّر- على القول بأنَّ كَانَ تامَّةً- وترك تأنيثُ الفعل فلم يقُلْ: (كانت)؛ لأنَّ آيَةٌ تأنيثُها غيرُ حقيقيٍّ، وقيل: ردَّها إلى البيان، أي: قد كانَ لكم بيانٌ، فذَهَب إلى المعنى وترَك اللَّفظَ، ويجوزُ أنْ تكونَ كَانَ ناقصةً، والظرفُ لَكُمْ خبرٌ، ولتوسُّطه بينَ كَانَ وبين اسمِها آيَةٌ تُرِك التأنيتُ .
- وفيه من لطائفِ البَلاغة: الاحتباكُ، وذلِك في قوله تعالى: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ؛ حيث حذَف مِن كلِّ جملةٍ من الجُملتين المتقابلتين شيئًا إيجازًا، وذكَر في الجملةِ الأخرى ما يدلُّ عليه، والتقدير: فِئةٌ مؤمنةٌ تُقاتِلُ في سبيل الله، وفِئةٌ أُخرى كافرةٌ تُقاتِل في سبيلِ الشَّيطان .
3- قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَيْنِ:
- فيه إيثارُ صِيغة الجمعِ في قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ؛ للدَّلالة على شُمول الرؤيةِ لكلِّ واحدٍ من آحاد الفئة.
- وفيه تأكيدٌ بالمصدر المؤكَّد رَأْيَ، وهو نص في أنَّ الرؤية بَصَريَّةٌ ، والقاعدةُ أنَّ التأكيدَ بالمصدر يَنفي احتمالَ المجاز .
- وقوله: رَأْيَ العَينِ فيه احتراسٌ؛ لئلَّا يُعتقد أنَّه من رُؤيةِ القَلْبِ .
4- قوله : لَعِبْرَةً: التنكيرُ للتَّعظيم، أي: عِبْرة عظيمة، وموعِظة جسيمة .