موسوعة التفسير

سُورةُ الأنعامِ
الآيات (27 - 32)

ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﰣ ﰤ ﰥ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ

غريب الكلمات :

بَغْتَةً: أي: فجأةً، وكلُّ ما جاءَ فجأةً فقد بَغَتَ، يقال: قد بَغَتَه الأمرُ يَبْغَتُه بغْتًا وبَغتةً، إذَا أتاه فجأةً، والبغتُ: مفاجأةُ الشَّيءِ من حيثُ لا يُحتَسَب [425] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 153)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/241)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 120)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/272)، ((المفردات)) للراغب (ص: 135)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 252). .
يَا حَسْرَتَنَا: أي: يا نَدامتَنا واغتمامَنا على ما فاتَنا- ولا يُمكن ارْتِجاعُه- وتلهُّفَنا عليه، وأصلُ (حسر): كشْفُ الشَّيءِ [426] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 186)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/62)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 176). .
فَرَّطْنَا: أي: تَركْنا وأَغْفَلْنا وضَيَّعْنا، والتفريطُ: التقصيرُ؛ يقال: ما فرَّطتُ في كذا، أي: ما قصَّرتُ فيه، وأصلُ (فرط): يدلُّ على إزالةِ شيءٍ من مَكانِه، وتنحيتِه عنه [427] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 153)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 360)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/490)، ((المفردات)) للراغب (ص: 631)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 95)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 700). .
أَوْزَارَهُمْ: جَمْع وِزْر، والوِزْرُ هو الإثمُ والذَّنْبُ، والثِّقْلُ والحِمْل أيضًا، وقيل: الوِزْرُ: هو الحِمْلُ الثَّقيلُ مِن الإثمِ، وهو الإثمُ العَظيمُ، وأصلُ (وزر): يدلُّ على مَا حمَلَه الإنسانُ، وعلى الثِّقل في الشَّيء؛ ومنه سُمِّيت الآثامُ أوزارًا؛ لأنَّها أحمالٌ مُثقِلةٌ [428] يُنظر: ((العين)) للخليل بن أحمد (7/380)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 152)، ((تفسير ابن جرير)) (9/216)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 489)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (13/167)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/108)، ((المفردات)) للراغب (ص: 867). فائدة: قال ابن جرير: (وقد زعم بعضُهم أنَّ الوزر: الثِّقَل والحِمل. ولستُ أعرفُ ذلك كذلك في شاهدٍ ولا مِن روايةِ ثقةٍ عن العرب). ((تفسير ابن جرير)) (9/216)، وهو رحمه الله إنما أَخْبر بما علمه، وإلا فمعاجم اللغة على إثباتِ هذا المعنى. وينظر- إضافةً لِمَا سَبَق من مراجِع-: ((الصحاح)) للجوهري (2/845- 846)، ((لسان العرب)) لابن منظور (5/282- 283). .
سَاءَ: أي: قبُح، والسُّوءُ: اسمٌ جامِعٌ للآفاتِ، ويُستعمَل في كلِّ ما يُسْتقبَحُ، وهو أيضًا كلُّ ما يَغُمُّ الإنسانَ [429] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 123)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/113)، ((المفردات)) للراغب (ص: 441)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 73). .
مَا يَزِرُونَ: أي: الإثمُ الذي يَأثَمونَه، والثِّقَلُ الَّذي يَتحَمَّلون [430] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/216)، و(14/199)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 57)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/108)، ((المفردات)) للراغب (ص: 867). .
وَلَهْوٌ: اللَّهو: ما يَشغَلُ الإنسانَ عمَّا يَعنيه ويُهمُّه، أو كلُّ باطلٍ ألْهَى عن الخيرِ وعمَّا يَعني؛ يُقال: لهوتُ بكذا، ولهيتُ عن كذا: اشتغَلْتُ عنه بلهوٍ، وأصل (لهو): يدلُّ على شُغلٍ عن شيءٍ بشيءٍ [431] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/213)، ((المفردات)) للراغب (ص: 748)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 778). .

مشكل الإعراب :

1- قوله: فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
الفِعلان نُكَذِّبَ ونَكُونَ قُرِئَا بالنَّصب فيهما، وبالرَّفْع فيهما، وبنَصْبِ الأوَّلِ ورفْعِ الثَّاني، وبالعكسِ؛ فهذه أربعةُ أوجهٍ في الإعرابِ [432] ولعلَّ حِكمةَ اختلافِ القِراءاتِ في قوله: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بيانُ اختلافِ أحوالِ أولئك المشرِكين في تَمنِّيهم بأنْ يكونَ منهم مَن يَتمنَّى أنْ يُردَّ إلى الدُّنيا، وأنْ يكونَ فيها غيرَ مُكذِّبٍ بآياتِ اللهِ الكونيَّة والمُنَزلةِ، وأنْ يكونَ من المُؤمنين، وذلك على قِراءة الجمهور نُكَذِّبُ... وَنَكُونُ برَفْعِهما، ومنهم مَن يتمنَّى الردَّ مُصاحِبًا لِمَا حدَثَ له في الآخِرة من النَّدمِ على التَّكذيبِ ومِن الإيمانِ بما جاءَ به الرسولُ؛ إذ لا تلازُمَ بين الردِّ وبقاءِ ذلك الأمْرِ الحادِثِ، وذلك في قوله: نُكَذِّبَ... وَنَكُونَ على قراءةِ النَّصب، ومنهم مَن يتمنَّاه؛ ليكونَ سببًا للإيمانِ وعدمِ التَّكْذيب، وذلك في قوله: نُكَذِّبُ... وَنَكُونَ على قراءة النَّصْب في نَكُونَ فقط، ومِنهم مَن يعِدُ بذلك وعدًا، وهذا الاختلافُ في كيفيَّات ذلك التمنِّي أقربُ إلى الحُصولِ من اتِّفاق أولئك الكفَّارِ الكثِيرينَ على كيفيَّةٍ واحدةٍ؛ ممَّا يدلُّ عليه اختلافُ القِراءات؛ لأنَّه هو المعهودُ من البَشَر، ولعلَّهم يتمنَّون ذلك جاهِلين أنَّه مُحالٌ، على أنَّ الناسَ يَتمنَّوْن المحالَ ولو على سَبيلِ التحسُّرِ. يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/294).
فأمَّا نَصْبُ الفِعلَينِ: فهو بإضمارِ (أَنْ) بعدَ الواوِ التي بمعنى (معَ)؛ مِثل: (ليت لي مالًا وأُنفقَ منه)، و(أنْ) المُضمَرَة مَصدريَّةٌ يَنسبِكُ منها ومِن الفعلِ بعدَها مَصدرٌ، والواوُ حرفُ عطفٍ، فيُقدَّر المعطوفُ عليه مَصدرًا مُتوهَّمًا، يُعْطَفُ هذا المصدرُ المنسبِكُ مِن (أَنْ) وما بَعدَها عليه، والتقديرُ: يا ليتَنا لنا رَدٌّ، وانتفاءُ تكذيبٍ بآياتِ ربِّنا، وكَوْنٌ مِن المؤمنين، أي: ليتَنا لنا ردٌّ مع هذَينِ الشَّيئينِ؛ فهذه الثلاثةُ الأشياءِ مُتمنَّاةٌ بقيدِ الاجتِماعِ، لا أنَّ كلَّ واحدٍ مُتمنًّى وحْدَه؛ لأنَّ هذه الواوَ شَرْطُ إضمارِ (أنْ) بعدَها: أنْ تَصلُح (مع) في مكانِها.
أو يكونُ النَّصبُ على جَوابِ التمنِّي؛ فلا يكون التكذيبُ، وكونُهم من المؤمنين، داخلَينِ في التَّمنِّي، والواوُ بمعنى الفاءِ حينئذٍ، فالواو مُبْدَلةٌ من الفاءِ، والتقديرُ: يا لَيتنا نُرَدُّ فلا نكذِّبَ ونكونَ؛ فتكونُ الواوُ هنا بمنزلةِ الفاءِ في قوله: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ [الزمر: 58] ، وقيل غيرُ ذلك.
وأمَّا رفْعُ الفِعلين: فعَلَى وجهينِ: الأوَّل: العطفُ على نُرَدُّ، فيكونُ عدمُ التكذيبِ، والكَونُ من المؤمنين، داخلَينِ في التَّمنِّي كالردِّ، ويكونون قد تَمنَّوا ثلاثةَ أشياءَ: الردَّ إلى دارِ الدنيا، وعدَمَ تكذيبهم بآياتِ ربِّهم، وكونَهم من المؤمنِين. الثاني: أنْ يكونَ الرَّفْعُ على القَطعِ بتَقديرِ مُبتدأ، وتكونَ جملةُ الفِعل هي الخَبَر، والتقديرُ: ونحنُ لا نُكذِّبُ، ونحن نَكونُ من المؤمنين، وعلى هذا فجُملةُ (نحن لا نُكذِّب) و(نحن نكون...)؛ إمَّا في مَحلِّ نصْبٍ على الحالِ من الضَّمير في نُرَدُّ؛ فيكونانِ داخلَينِ في التمنِّي كذلك، وإمَّا استئنافًا لا تَعلُّقَ له بما قَبلَه؛ ويكون المعنى: أنَّهم ضَمِنوا ألَّا يُكذِّبوا بعدَ الردِّ، وأنْ يكونوا مِن المؤمنين. وقيل غيرُ ذلك.
وأمَّا نصْبُ الأوَّلِ ورفْعُ الثَّاني والعكسُ؛ فإعرابُ كلِّ فِعلٍ بحسَبِ ما مرَّ من توجيهِ الرَّفعِ والنَّصبِ لكلِّ واحدٍ منهما [433] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/249- 250)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/489)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/584- 590). وثمَّة إشكال في الأوجه الإعرابيَّة التي يَدخُل فيها قولُهم في التمنِّي؛ لأنَّه قال بعدَ هذه الآية: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، والتَّمنِّي إنشاءٌ، والإنشاءُ لا يَدخُله الصدقُ ولا الكذبُ، وإنَّما يَدخُلانِ في الإخبارِ، وهذا قد دخلَه الكذبُ؛ لقوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، وقد أُجيب بجوابين؛ الأوَّل: أنَّ قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ليس متعلِّقًا بالمتمنَّى، بل هو مَحْضُ إخبارٍ من الله تعالى بأنَّهم دَيْدَنُهم الكذبُ وهِجِّيراهم ذلك؛ فيكون ذلك حِكايةً وإخبارًا عن حالِهم في الدُّنيا، لا تَعلُّقَ به بمتعلِّقِ التمنِّي، فلم يدخل الكذبُ في التمنِّي. الثاني: أنَّ هذا التمنِّي قد تَضمَّنَ معنى الخبرِ والعِدَة، فإذا كانتْ سجيَّةُ الإنسانِ شيئًا، ثمَّ تَمنَّى ما يُخالِفُ السجيَّةَ، وما هو بعيدٌ أن يقَعَ منها، صحَّ أنْ يَكذِبَ على تجوُّزٍ، نحو: ليتَ اللهَ يَرزُقني مالًا فأُحسِنَ إليكَ، وأُكافِئَك على صَنيعِك، فهذا مُتمَنٍّ في معنى الواعِدِ والمخبِرِ، فإذا رزَقه اللهُ مالًا ولم يُحسِنْ إلى صاحبِه، ولم يُكافِئْه كذَبَ، وكان تمنِّيه في حُكم مَن قال: إنْ رزَقَنِي اللهُ مالًا كافأتُك على إحسانِك؛ فلَمَّا تَضمَّنَ التمنِّي في قولِهم: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ... وعدًا؛ فلذلك صحَّ إدخالُه في حُكم كذبِهم دُخولَ الخاصِّ في العامِّ؛ لأنَّ التذييلَ يُؤذِنُ بشمولِ ما ذُيِّل به وزيادة؛ فليس وصفُهم بالكذبِ بعائدٍ إلى التمنِّي، بل عائدٌ إلى ما تَضمَّنه من الوعدِ بالإيمانِ، وعدمِ التكذيبِ بآياتِ الله. ينظر المراجِع السَّابقة، وينظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (4/475)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/186)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/293). .
2- قوله: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً
بغتةً: منصوبةٌ على أنَّها مصدرٌ في موضِعِ الحال، أي: باغِتةً أو مُباغِتةً، وقيل: منصوبةٌ على أنَّها مصدرٌ لفِعلٍ مَحذوفٍ مِن لفْظِها، والتقديرُ: تَبغتُهم بَغتةً، وقيل: إنَّها منصوبةٌ على أنَّها مصدرٌ على غيرِ الصَّدر- من غيرِ لفْظِه-؛ لأنَّ معنى جَاءَتْهُمْ: بَغَتَتْهُمْ بغتةً [434] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/250)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/490)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/595). .

المعنى الإجمالي :

يقولُ اللهُ لنبيِّه صلَّى عليه الله وسلَّم: لو اطَّلعتَ على هؤلاءِ المشركين، ورأيتَهم لرأيتَ أمرًا عَظيمًا، عندمَا يقِفون على النَّارِ، ويُشاهِدون ما فيها مِن أهوالٍ، ويُعايِنونَ عذابَها، عندَ ذلك يتحسَّرونَ، ويتمنَّونَ العودةَ إلى الدُّنيا للعَمَلِ الصَّالِحِ، والتَّصديقِ بآياتِ اللهِ، ولِيكونوا مِن المؤمنينَ.
وليس الأمرُ كما قالوا؛ بل ظَهَر لهم ما كانوا يُخفونَ مِن قَبلُ، ولو رُدُّوا إلى الدُّنيا لعادُوا لارتكابِ ما نُهوا عنه قبل ذلِك، من الكُفرِ والعِصيان، وإنَّهم لكاذِبون فيما يَدَّعونَه.
ثم ذكَر اللهُ تعالى بعضَ ما كان هؤلاء المشركونَ يَفتَرونَه في الدُّنيا، ومن ذلك قولُهم: لا توجدُ حياةٌ أُخرى غيرُ الحياةِ الدُّنيا، وما نحن بمَبعُوثينَ، ولا محاسَبينَ.
ثم يقولُ اللهُ لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ولو رأيتَ هؤلاء المكذِّبين بالبعثِ حينَ يَقِفونَ بين يَدَيْ ربِّهم، فيقول لهم تعالى مُوبِّخًا: أليس هذا البعثُ- الذي تَرَونَه- حقًّا ثابتًا؟ فيُجيبون حالِفينَ بربِّهم: إنَّه حقٌّ ثابتٌ، لا شكَّ فيه، فيقولُ لهم تعالى: فذُوقوا العذابَ جزاءَ كُفرِكم.
ويُخبِرُ تعالى أنَّه قد خَسِر الذين كذَّبوا بلِقائِه تعالى، حتَّى إذا جاءتْهم الساعةُ فجأةً، أظهَروا تَحسُّرَهم وتنَدُّمَهم على ما فاتَهم بسببِ تفريطِهم في دنياهم، وتضييعِ أعمارِهم، وتركِ الاستعدادِ لهذا اليومِ، الذي يُلاقونَ فيه ربَّهم، وهم يَحمِلونَ ذُنوبَهم وآثامَهم على ظُهورِهم، ألَا بِئسَ ما يَحملونَه مِن آثامٍ!
ثُمَّ يُبيِّن تعالى أنَّ الحياةَ الدُّنيا إنَّما هي لعِبٌ ولهوٌ، وأنَّ الدَّارَ الآخِرةَ هي خيرٌ لِمَن اتَّقى، ثم يقولُ تعالى: أليستْ لكم- يا مَنْ كذَّبتم بالبعثِ- عقولٌ تعقلونَ بها حقيقةَ الدُّنيا، وأنَّ الآخرةَ خيرٌ وأبقَى؟!

تفسير الآيات :

وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى صِفةَ مَن يَنهى عن متابعةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلام، ويَنأى عن طاعَتِه بأنَّهم يُهلِكونَ أنفسَهم، شرَحَ كيفيَّةَ ذلك الهلاكِ بهذه الآيةِ [435] ينظر: ((تفسير الرازي)) (12/508). .
وأيضًا لَمَّا حَكَى تعالى عنهم في آياتٍ سابقةٍ إنكارَهم للحشرِ والنَّشرِ والبعثِ والقِيامة؛ بَيَّن في هذه الآيةِ كيفيَّةَ حالِهم في القيامةِ [436] ينظر: ((تفسير الرازي)) (12/511). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر تعالى حديثَ البَعثِ في قَولِه: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ، واستطرَدَ من ذلِك إلى شَيءٍ مِن أوصافِهم الذَّميمةِ في الدُّنيا، عادَ إلى الحديثِ عن البَعثِ [437] ينظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/473). ، فقال تعالى:
وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ.
أي: ولو رأيتَ- يا محمَّدُ- هؤلاءِ الكفَّارَ والمشْركِين، وقد أُوقِفوا يومَ القِيامةِ على النَّارِ، فشاهَدُوا ما فيها من الأهوالِ؛ لرأيتَ أمرًا عَظيمًا، وشأنًا فظيعًا [438] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/206-207)، ((تفسير ابن كثير)) (3/248)، ((تفسير السعدي)) (ص: 254)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 144). .
فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ.
أي: فيقولُ هؤلاء المشرِكون حينذاك: يا ليتَنا نُعادُ إلى الدُّنيا؛ كي نؤمِنَ، ونعملَ صالحًا [439] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/208)، ((تفسير ابن كثير)) (3/248). .
كما قال سبحانه: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 44] .
وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 36-37] .
وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا.
أي: وإذا عُدْنا إلى الدُّنيا فلنْ نُكذِّبَ بالأدلَّةِ، والبيِّناتِ التي جاءتْنا من ربِّنا [440] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/208، 210)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 146). .
وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
أي: ونكونَ من المؤمنِين حقًّا [441] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/208). .
بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ.
أي: ما زَعَموه من أنَّهم لو رُدُّوا إلى الدُّنيا لآمَنوا بدَعْوَى أنَّه ظهَرَ لهم الآنَ صِدقُ رُسلِ اللهِ تعالى؛ ليس صحيحًا، بل كانوا يَعلمون صِحَّةَ رِسالتِهم وصِدقَ نُبوَّتهم، ولكنَّهم كانوا في الدُّنيا يُخفونَ ذلك في قَرارةِ أنفسِهم؛ ظلمًا وعنادًا، فلم يَظهرْ لهم يومَ القيامة شيءٌ جديدٌ؛ ليكونوا عالِمِين به فيُعذَروا، بل ظَهَرَ لهم ما كان معلومًا لدَيهم من قَبلُ. وإنَّما تَمنَّوُا العودةَ إلى الدُّنيا لا رَغبةً وحبًّا في الإيمانِ كما زعَموا كذبًا؛ فإنَّهم لو رُدُّوا لعادوا للكفرِ الذي هو طَبعٌ لهم وسجيَّة، ولكنَّهم تَمنَّوا ذلك لَمَّا عاينوا العذابَ الذي لا طاقةَ لهم باحتمالِه [442] وهذا المعنى اختارَه ابنُ القيِّم في ((عدة الصابرين)) (ص: 186)، والسعدي في ((تفسيره)) (ص: 254)، وابن عاشور في ((تفسيره)) (7/185). وجعَلَه ابنُ كثير وابن عثيمين ممَّا تحتملُه الآية. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/248-249)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 147). وفي معنى الآية أقوال أخرى. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/282). .
كما قال تعالى مخبرًا عن موسى عليه السَّلام أنَّه قال لفرعونَ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء: 102] .
وقال الله تعالى مخبرًا عن فِرعونَ وقومِه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14] .
وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ.
أي: ولو رُدُّوا إلى الدُّنيا، فأُمْهِلوا؛ ليُؤمنوا، ويَعْمَلوا صالحًا، لرَجَعوا إلى مِثلِ ما كانوا عليه مِن قبلُ من الكُفرِ والعِصيان [443] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/211-212)، ((تفسير ابن كثير)) (3/249)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 148). .
وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.
أي: وهم كاذِبون في قولِهم: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [444] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/212)، ((تفسير ابن كثير)) (3/249)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 148). .
وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29).
أي: وقال هؤلاءِ المشرِكون المنكِرون للبعثِ: لا تُوجدُ حياةٌ أخرى لنا سِوى هذه الحياةِ التي نَعيشُها في الدُّنيا، وما نحنُ بخارِجين من قُبورِنا، وما ثَمَّ حسابٌ ولا ثوابٌ ولا عقابٌ [445] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/212-213)، ((تفسير ابن عثيمين-سورة الأنعام)) (ص: 150-151). قال ابنُ جرير: (وكان ابنُ زيد يقول: هذا خبرٌ من الله تعالى عن هؤلاء الكَفرةِ الذين وُقفوا على النار، أنَّهم لو رُدُّوا إلى الدُّنيا لقالوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ). ((تفسير ابن جرير)) (9/213). .
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (30).
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ.
أي: ولو رأيتَ- يا محمَّدُ- هؤلاءِ القائلينَ: ما هي إلَّا حياتُنا الدُّنيا وما نحنُ بمبعوثين، وقدْ أُوقِفوا بين يَدَيِ اللهِ تعالى، لرأيتَ أمرًا فظيعًا، وهَوْلًا عظيمًا [446] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/213)، ((تفسير ابن كثير)) (3/249)، ((تفسير السعدي)) (ص: 254)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/187-188)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 153). .
قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا.
أي: قال اللهُ تعالى لهم موبِّخًا: أليسَ هذا البعثُ- الذي كنتُم في الدُّنيا تُظهرُون إنكارَه- حقًّا ثابتًا، وليسَ بباطلٍ كما كنتم تَدَّعُون؟! فأجابوا مُعترِفين: واللهِ إنَّه لَحقٌّ ثابتٌ [447] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/214)، ((تفسير ابن كثير)) (3/249)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأنعام)) (ص: 153-154). .
قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ.
أي: فقال اللهُ تعالى لهم: فذُوقوا مَسَّ العذابِ الذي كنتُم في الدُّنيا تُكذِّبون به؛ فذُوقوه اليومَ جزاءً على كُفرِكم في الدُّنيا [448] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/214)، ((تفسير ابن كثير)) (3/249)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/188)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 154). .
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (31).
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ.
أي: قدْ خابَ وحُرِمَ الخيرَ كلَّه، الَّذين أَنكروا البعثَ بعدَ المماتِ، ولِقاءَ اللهِ تعالى للحسابِ، ونَيْلِ الثوابِ والعِقاب، وقد أَوجبَ لهم هذا التكذيبُ في الدنيا ترْكَ الطاعاتِ، واقترافَ المحرَّماتِ [449] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/214)، ((تفسير ابن كثير)) (3/249)، ((تفسير السعدي)) (ص: 254)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 157-158). .
حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا.
أي: حِينَ تأتِيهم الساعةُ التي يَبعثُ اللهُ فيها الموتَى مِن قُبورِهم فجأةً، يقولون تحسُّرًا: ما أعظمَ ندامتَنا على تَفريطنا في الاستعدادِ لهذا اليومِ، وتضييعِنا لأوقاتِنا وأعمارِنا في الدُّنيا [450] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/214-215)، ((تفسير ابن كثير)) (3/249)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 158-159). !
كما قال تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: 55-56] .
 وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ.
أي: وهؤلاءِ الذين كذَّبوا بلِقاءِ اللهِ، يَحمِلون آثامَهم وذُنوبَهم يومَ القِيامةِ على ظُهورِهم [451] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/216)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 159). قال ابنُ عُثيمين: (يَحمِلون جزاءَ الأعمالِ على ظُهورِهم حملًا حقيقيًّا، فالواجبُ أن نَحمِلَ الآياتِ على ظاهرها. ولا يقول قائلٌ: كيف يحملُ الجزاء على الظَّهرِ؟! فيومَ القيامة لا يُقاس بأيَّام الدُّنيا؛ لأنَّ الحال تختلف اختلافًا عظيمًا، فمِن الجائز الممكن أنَّ الله تعالى يخلُقُ هذه الجزاءاتِ حتى تكونَ أجسامًا تُحمَل على الظهور). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 159-160). .
أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ.
أي: ألَا بئسَ ما يَحمِلونَه من آثامٍ [452] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/217)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 160). .
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (32).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا جرَى ذِكرُ الساعةِ، وما يَلحَقُ المشرِكين فيها من الحَسرةِ على ما فرَّطوا، وكانَ المنكِرون للبعثِ والقيامةِ تَعظمُ رغبتُهم في الدُّنيا، وتَحصيلِ لذَّاتِها؛ ذَكَر اللهُ تعالى هذه الآيةَ تَنبيهًا على خَساسةِ الدنيا وركاكتِها، وتذكيرًا للناسِ بأنَّ الحياةَ الدنيا زائلةٌ، وأنَّ عليهم أنْ يستعدُّوا للحياةِ الآخرةِ [453] ينظر: ((تفسير الرازي)) (12/515)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/192).. .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر تعالى قَولَهم: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا؛ ذَكَر مصيرَها، وأنَّ مُنتهى أمرِها أنَّها فانيةٌ، مُنقضيةٌ عن قَريبٍ، فصارتْ شبيهةً باللهوِ واللعبِ؛ إذ هما لا يَدومانِ، ولا طائلَ لهما، كما أنَّها لا طائلَ لها؛ فاللَّهوُ واللعِبُ اشتغالٌ بما لا غِنى به ولا منفعةَ، كذلِك هي الدنيا، بخلافِ الاشتغالِ بأعمالِ الآخرةِ، فإنَّها التي تَعقُب المنافِعَ والخيراتِ [454] ينظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/484). ، فقال تعالى:
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ.
أي: وليستْ هذه الحياةُ الدَّنيَّةُ زمنًا ومرتبةً- بأعمالِها ولذائذِها وشَهواتِها ومتاعِها- سِوى لعبٍ ولهوٍ [455] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/218)، ((تفسير السعدي)) (ص: 254)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/193-194)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 166-167). .
كما قال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد: 20] .
وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ.
أي: وأمَّا الآخِرةُ، فإنَّها- في ذاتِها وصِفاتِها، وبقائِها ودوامِها ونعيمِها- والعملَ لها، والاستعدادَ لأجْلِها في الدُّنيا بالإيمانِ والعملِ الصالحِ؛ خيرٌ من الدُّنيا لِلَّذين يَفعَلون ما أمَرَ اللهُ تعالى به، ويَترُكون ما نَهى عنه [456] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/218)، ((تفسير السعدي)) (ص: 254)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 167-168). .
كما قال عزَّ وجلَّ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى [الضحى: 4] .
وقال تعالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء: 77] .
وعن المستورِدِ بنِ شَدَّاد رضِي اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((واللهِ، ما الدُّنيا في الآخِرةِ إلَّا مِثْلُ ما يَجعَلُ أَحدُكم إصبَعَهُ هذهِ- وأشارَ يَحيى بالسَّبَّابةِ- في اليمِّ، فلْيَنظرْ بِمَ يَرجِعُ؟ )) [457] رواه مسلم (2858). .
أَفَلاَ تَعْقِلُونَ.
أي: أفليستْ لكم- أيها المكذِّبون بالبعثِ- عُقولٌ تُدركون بها حقيقةَ كلِّ دار، وأيُّهما أَوْلى بالإيثارِ [458] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/218-219)، ((تفسير السعدي)) (ص: 254)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 168-169). ؟!

الفوائد التربوية :

1- الإشارةُ إلى دُنُوِّ الحياةِ الدُّنيا، وأنَّها ليستْ بتلك الحياةِ التي يَنبغي للإنسان أن يُحافظَ عليها، ويَنسى الآخرةَ؛ لقوله: الْحَيَاةُ الدُّنْيَا.
2- التَّزهيدُ في الدُّنيا والترغيبُ في الآخِرة؛ وجهُ ذلك: أنَّه وصَفَ الدُّنيا بقوله: لَعِبٌ وَلَهْوٌ، ووصَفَ الآخِرةَ بقوله: خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [459] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 169). .
3- قولُه تعالى: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ فيه أنَّ الدَّار الآخِرةَ خيرٌ للمتَّقينَ مِن الدُّنيا، وعلى هذا فما يُصيبُهم في الدُّنيا من الأذَى في اللهِ عزَّ وجلَّ، أو أمراضٍ تُصيبُهم، أو في فقْدِ حبيبٍ، أو ما أشْبهَ ذلك؛ فإنَّه في الآخِرَةِ يُنسَى وكأنَّه لم يكُنْ؛ لأنَّ الدارَ الآخِرةَ تمحو كلَّ شيءٍ سبَقَ، وكأنَّه لم يكُن [461] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 169). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- قولُه تعالى: فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ في العَطفِ بالفاءِ دَلالةٌ على أنَّ أوَّلَ شيءٍ يقعُ حينئذٍ في قلوبِهم، ويَسبِقُ التعبيرُ عنه إلى ألْسنتِهم، هو النَّدمُ على ما سلَفَ منهم، وتمنِّي الرُّجوع إلى الدُّنيا ليُؤْمنوا [462] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/293). .
2- في قولِه تعالى: فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ شِدَّةُ ندَمِ الكافِرين إذا وُقِفوا على نارِ جهنَّم؛ لكونِهم يَتمنَّوْن أمرًا لا يُمكنُ أنْ يكون [463] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 146). .
3- قوله تعالى: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فيه إشكال؛ إذ كيف يتمنون الردَّ مع أنَّهم يَعلَمون أنَّ الردَّ لا يَحصُلُ البتَّةَ؟
والجوابُ: أنَّه لعَلَّهم لم يَعْلَموا أنَّ الردَّ لا يَحصُلُ، أو أنَّهم وإنْ عَلِموا أنَّ ذلك لا يَحصُل إلَّا أنَّ هذا العِلمَ لا يَمنَعُ من حصولِ إرادةِ الردِّ؛ كقولِه تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ [المائدة: 37] ، وكقوله: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف: 50] ، فلمَّا صحَّ أنْ يُريدوا هذه الأشياءَ مع العِلم بأنَّها لا تَحصُلُ، فبأنْ يَتمنَّوْه أقربُ؛ لأنَّ بابَ التمنِّي أوسعُ؛ لأنَّه يصحُّ أن يتمنَّى ما لا يصحُّ أنْ يُريدَ مِن الأمورِ الثلاثةِ الماضيةِ [464] ينظر: ((تفسير الرازي)) (12/510). .
4- في قولِه: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ غلوُّهم في الإصرارِ على الكُفرِ، وعدمُ رَغبتِهم في الإيمانِ؛ فقدْ بيَّن اللهُ تعالى أنَّهم لو شاهَدوا النَّارَ والعذابَ، ثم سألوا الرجعةَ ورُدُّوا إلى الدُّنيا، لعادوا إلى الشِّركِ [465] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (8/98)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/296). .
5- تعلُّقُ عِلمِ اللهِ بالمستحيلِ؛ لقوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [466] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 149). .
6- أنَّ الكافرِينَ لا يَستنزِهون من الكَذِبِ حتَّى في الآخِرةِ، وكذلك المنافِقون؛ لأنَّ اللهَ تعالى كذَّبهم، وقال: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [467] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 150). .
7- قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ فيه دليلٌ على أنَّ الخواطرَ الناشئةَ عن عوامِل الحِسِّ دون النظرِ والدليلِ لا قَرارَ لها في النَّفْس، ولا تسيرُ على مُقتضاها إلَّا ريْثَما يدومُ ذلك الإحساسُ، فإذا زالَ زالَ أثرُه؛ فالانفعالُ به يُشبِهُ انفعالَ العَجْماواتِ من الزَّجْرِ والسَّوطِ ونحوِهما، ويزولُ بزوالِه حتَّى يُعاودَه مِثلُه [468] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/186). .
8- قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ، قوله: رَبِّهِمْ، وهو اللهُ عزَّ وجلَّ، وإنَّما أضافَ رُبوبيَّتَه إليهم مع أنَّهم مِن أراذلِ عِبادِ اللهِ؛ إشارةً إلى أنَّه عزَّ وجلَّ هو الخالقُ المالِكُ المدبِّرُ لهم؛ فكانَ عليهم أنْ يَقوموا بعِبادتِه، فتكونُ إضافةُ الرُّبوبيَّةِ إليهم للإشارةِ إلى أنَّ السُّلطانَ له عليهم عزَّ وجلَّ، ومع ذلِك لم يُؤمنوا به ولا برُسُلِه، ولا عَمِلوا لهذا اليومِ [469]  ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 153). .
9- قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قَدْ يُتوهَّمُ أنَّه يُناقِضُ قولَه تعالى: وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة: 174] ، فقيل: دَفْعُ هذا التوهُّم بأنْ يُحمَل قولُه: وَلَا يُكَلِّمُهُمُ على مَعنى: لا يُكلِّمهم كَلامَ تكريمٍ وتشريفٍ، ولا الكلامَ الذي فيه خَيرٌ، وأمَّا التوبيخُ والتَّقريعُ والإهانةُ، فكلامُ الله لهم به من جِنسِ عَذابِه لهم، ولم يُقصَدْ بالنفيِ في قوله: وَلَا يُكَلِّمُهُم [470] ينظر: ((تفسير الرازي)) (12/512)، ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 27-28). ، وقيل: يومُ القيامةِ يومٌ طويلٌ، ذو مواطنَ ومواقفَ ومواقيتَ، فيَنطِقون في وقتٍ، أو موقفٍ، ولا يَنطِقون في وقتٍ، أو موقفٍ آخَرَ [471] يُنظر: ((فتح الرحمن)) لزكريا الأنصاري (ص: 51)، ((تفسير الشربيني)) (4/466). .
10- خَصَّ لفظَ الذوق في قولِه: فَذُوقُوا؛ لأنَّهم في كلِّ حالٍ يَجِدونه وِجْدانَ الذائقِ في قوَّةِ الإحساسِ [472] ينظر: ((تفسير الرازي)) (12/512). .
11- في قولِه تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ بيانُ خُسرانِ الكافرين المكذِّبين بالبعثِ، وأنَّهم مهما ظنُّوا أنَّهم رَبِحوا فهُم خاسِرون، ولكنْ متى يَعلمون أنَّهم خاسِرون؟ إذا جاءَ الأجلُ، أمَّا الآن فهُم في سَكرةٍ لا يَدرُون؛ ولهذا لو انتَصروا اقتصاديًّا، أو عسكريًّا، أو فِكريًّا، لظنُّوا أنَّهم رابِحون، ولكنَّهم خاسِرون [473] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 160، 161). .
12- قولُه تعالى: قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا فيه شِدَّةُ تحسُّرِ هؤلاءِ الذين كذَّبوا بلقاءِ اللهِ، وإقرارُهم على أنفسِهم بأنَّهم فرَّطوا [474] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 164، 165). .
13- في تَسميةِ الحياةِ الدُّنيا باللَّعِبِ واللَّهوِ في قوله تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وجوه، منها: الأوَّل: أنَّ مُدَّة اللهوِ واللَّعِبِ قليلةٌ، سريعةُ الانقضاءِ والزَّوال، ومُدَّةُ هذه الحياةِ كذلك، الثاني: أنَّ اللَّعِبَ واللهوَ ينساقَان في أكثرِ الأمْرِ إلى شيءٍ مِن المكارِه، ولذَّاتُ الدُّنيا كذلِك. الثالث: أنَّ اللَّعِبَ واللهوَ إنَّما يَحصُلان عند الاغترارِ بظواهرِ الأُمورِ، فليس لهما في نفْسِ الأمرِ حقيقةٌ مُعتبَرَةٌ، فكذلك الإغراقُ في الالتذاذ بطيِّباتِ الدُّنيا، والانتفاع بخيراتِها، لا يَحصُلُ إلَّا للجاهِلين بحقائقِ الأمور. الرابع: أنَّ اللَّعِبَ واللَّهوَ ليس لهما عاقبةٌ محمودةٌ [475] ينظر: ((تفسير الرازي)) (12/515). .
14- أوجهُ الخيريَّةِ في قوله: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ متعددةٌ؛ أحدُها: أنَّ خيراتِ الدُّنيا خسيسةٌ؛ فالحيواناتُ تُشارِكُ الإنسانَ فيها، كالأكلِ والجماعِ، بل ربَّما كان أمرُ تِلك الحيوانات فيها أكملَ مِن أمْرِ الإنسان، وكذلك فلذَّاتُها سريعةُ الانقضاءِ والاستحالةِ، إلى غيرِ ذلك مِن الوجوهِ التي تثبت خَساسةَ هذه الملذَّات، بخلاف خيراتِ الآخِرة وسعاداتِها الرُّوحانيَّةِ فهي شريفةٌ، عاليةٌ، باقيةٌ، مُقدَّسة. الأمر الثاني: في بيانِ أنَّ خيراتِ الآخرةِ أفضلُ مِن خيراتِ الدُّنيا، هو أنْ يُقالَ: هبْ أنَّ هذينِ النَّوْعين تَشاركَا في الفضلِ إلَّا أنَّ الوصولَ إلى الخيراتِ الموعودةِ في غدِ القيامةِ معلومٌ قطعًا، وأمَّا الوصولُ إلى الخيراتِ الموعودةِ في غدِ الدُّنيا فغيرُ معلومٍ، بل ولا مظنونٍ، فكم مِن سُلطانٍ قاهرٍ في بُكرةِ اليومِ صار تحتَ التُّرابِ في آخِرِ ذلك اليومِ. الأمْر الثَّالث: هبْ أنَّه وَجَدَ الإنسانُ بعدَ هذا اليومِ يومًا آخَرَ في الدُّنيا إلَّا أنَّه لا يَدرِي هلْ يُمكنه الانتفاعُ بما جمَعَه من الأموالِ والطيِّباتِ واللذَّاتِ أم لا؟ أمَّا كلُّ ما جَمَعه من السَّعادات، فإنَّه قطعًا ينتفعُ به في الآخِرَة. الأمر الرابع: هبْ أنَّه يَنتفعُ بها إلَّا أنَّ انتفاعَه بخيراتِ الدُّنيا لا يَخلو عن الشَّوائبِ والمنغِّصات، والانتفاعُ بخيراتِ الآخِرَةِ خالٍ عن شوائبِ المكروهاتِ. الأمر الخامس: هبْ أنَّه ينتفعُ بتلك الأموالِ والطيِّبات من غيرِ شائبةٍ إلَّا أنَّ ذلك الانتفاعَ منقرضٌ ذاهبٌ، والمنافعُ المنقرضةُ تُحزِنُ الإنسانَ لمفارقتِها، وكلَّما كانتْ تلك المنافعُ أكملَ وألذَّ، كانتْ تلك الأحزانُ الحاصلةُ عن انقراضِها وانقطاعِها أقوى وأكْمَلَ [477] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (8/108). .

بلاغة الآيات :

1- قوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فيه إيجازٌ بحَذْفِ جوابِ لَوْ [478] فقوله: وَلَوْ تَرَى يَقتضي له جوابًا، وجازَ حَذْفُه؛ لعِلم المخاطَبِ به. وأشباهُه كثيرةٌ في القُرآنِ والشِّعر، ولو قُدِّر الجوابُ، كان التقدير: لرأيتَ سُوءَ مُنقَلَبِهم، أو لرأيتَ سُوءَ حالِهم. وحذْفُ الجوابِ في هذه الأشياءِ أَبلغُ في المعنى من إظهارِه، ألَا ترَى: أنَّك لو قُلتَ لغُلامِك: واللهِ لئنْ قُمتُ إليكَ! وسكتَّ عن الجوابِ، ذهب بفِكرِه إلى أنواعِ المكروهِ، من الضَّربِ، والقتْل، والكَسْر، وعَظُمَ الخوفُ، ولم يَدرِ أيَّ الأقسامِ تَبغي. ولو قلتَ: واللهِ لئن قُمتُ إليكَ لأضربنَّك، فأتيتَ بالجواب، لَعلِمَ أنَّك لم تبلغْ شيئًا غيرَ الضربِ، ولا يَخطُر ببالِه نوعٌ من المكروهِ سواه، فثبَتَ أنَّ حذْفَ الجوابِ أقوى تأثيرًا في حُصولِ الخوفِ. ينظر: ((تفسير الرازي)) (12/508). وقيل: إنَّ جواب (لو) مذكورٌ مِن بَعضِ الوجوهِ، والتقدير: ولو ترَى إذا وُقِفوا على النارِ يَنوحُونَ ويقولون: يا لَيْتَنَا نردُّ ولا نُكذِّب. وعلى هذا القول فليس فيه وجه الحذف. ، وحَذْفِ مفعولِ تَرَى أيضًا، وفائدتُه: أنَّ النَّفسَ تذهبُ في تَقديرِ المحذوفِ كلَّ مذهبٍ، والخيالَ يتَّسعُ للتقديرِ، إلى جانِبِ تَفخيمِ الأمرِ، وتَعظيمِ الشَّأنِ [479] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/15)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (3/91). ، والقاعدةُ: أنَّ حَذْف جَوابِ الشَّرطِ في مقاماتِ الوعيدِ يدلُّ على تَعظيمِ الأمْر، وشِدَّتِه [480] يُنظر: ((قواعد التفسير)) للسبت (1/372). .
- وفيه ذِكْرُ ما يكونُ مِن وُقُوفِهم على النَّارِ، وما يَترتَّب عليه من قولِهم بصِيغةِ الماضي الواقِع في حيِّزِ الشَّرطِ المستقبَل في قوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا؛ للإعلامِ بتحقُّقِ وقوعِه، على القولِ المشهورِ في مِثله [481] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/293). . وقيل: كلمة (إذ) تُقامُ مقامَ (إذا) إذا أراد المتكلِّمُ المبالغةَ في التكريرِ والتوكيدِ، وإزالةِ الشُّبهةِ؛ لأنَّ الماضِيَ قد وقَع واستقرَّ، فالتعبيرُ عَنِ المستقبلِ باللفظِ الموضوعِ للماضي يُفيدُ المبالغةَ مِن هذا الاعتبارِ [482] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/528)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/293). .
2- قوله: فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حرفُ النِّداء (يا) هنا لمجرَّد التنبيهِ؛ فهو حرفُ تنبيهٍ لا حرْفُ نِداء [483] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/476)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (3/90). ، وقيل: هو حرفُ نِداءٍ مُستعمَلٌ في التَّحسُّر؛ لأنَّ النِّداءَ يَقتضي بُعْدَ المنادَى؛ فاستُعمِلَ في التحسُّر [484] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/184). .
3- قوله: وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ: تَذييلٌ لِمَا قَبْلَه، وجِيءَ بالجُملةِ الاسميَّةِ الدالَّةِ على الدَّوامِ والثَّباتِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ الكذبَ سجيَّةٌ لهم، قد تَطبَّعوا عليها من الدُّنيا؛ فلا عجبَ أنْ يَتمنَّوُا الرُّجوعَ ليُؤمِنوا، فلو رجَعوا لعادوا لِمَا كانوا عليه؛ فإنَّ الكذبَ سجيَّتُهم [485] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/186). .
- وأيضًا فقَوْلُه: وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ اعتراضٌ توسَّطَ بينَ قوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وقولِه: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا، وهذا الاعتراضُ مَسوقٌ لتقريرِ ما أفادَتْه الشَّرْطيةُ مِنْ كَذِبِهم المَخصوصِ، ولو أُخِّر لأَوْهَم أنَّ المرادَ تَكذيبُهم في إنكارِهم البعثَ، والمعنى: لو رُدُّوا إلى الدُّنيا لعادوا لِمَا نُهوا عنه، وقالوا... [486] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/16)، ((تفسير أبي السعود)) (3/124). وهذا الوجه على القول بأنَّ وَقالُوا عَطْفٌ على لَعَادُوا، في قوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا، أي: ولو رُدُّوا لكَفَروا ولَقَالوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا كما كانوا يقولونَ قَبْلَ مُعاينَةِ القِيامَة. وأمَّا على القولِ بأنَّ وَقالُوا مُستأنفةٌ ليستْ داخلةً في حيِّز (لو)، فليس فيه هذا الوَجْهُ. ينظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/592). .
4- قوله: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ
- قوله: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا صِيغةُ حَصْرٍ، أي: انحصَرَ جِنسُ حَياتِنا في حياتِنا الدُّنيا، فلا حياةَ لنا غيرُها؛ فبَطَلتْ حياةٌ بعدَ الموتِ [487] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/187). .
- والضَّمير هِيَ بعد إنْ مُبهَمٌ يُفسِّره ما بعدَ الاستثناء المُفرَّغ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا؛ قُصِد من إبهامه الإيجازُ؛ اعتمادًا على مُفسِّره [488] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/187). .
- وقوله: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ فيه نفيٌ للبَعثِ، وهو يستلزمُ تأكيدَ نفْيِ الحياةِ غير حياةِ الدنيا؛ لأنَّ البعثَ لا يكونُ إلَّا مع حياةٍ، وإنَّما عُطِفت ولم تُفصَل، فتكون مؤكِّدةً للجُملة قبلها؛ لأنَّ قَصْدَهم إبطالُ قولِ الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّهم يَحْيَون حياةً ثانيةً، وقولِه تارةً: إنَّهم مبعوثون بعدَ الموت، فقَصَدوا إبطالَ كلٍّ باستقلالِه [489] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/187). .
5- قوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ... استئنافٌ بيانيٌّ، وفي تعليقِ قَوْلِه: عَلَى رَبِّهِمْ بقولِه: وُقِفُوا تمثيلٌ لحضورهم المحشْرَ عندَ البعثِ؛ شُبِّهَتْ حالُهم في الحضورِ للحِسابِ بحالِ عبدٍ جَنَى، فقُبِضَ عليه، فوقَف بين يدَيْ ربِّه، وبذلك تظهَرُ مزيَّةُ التعبيرِ بلَفْظ رَبِّهِمْ، دون اسمِ الجلالةِ [490] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/187). .
6- قوله: قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا استئنافٌ مبنيٌّ على سُؤالٍ نشأَ مِن الكلامِ السَّابقِ، كأنَّه قيل: فماذا قال لهم ربُّهم إذ ذاكَ؟ فقيل: قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ [491] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/124). ، وهو استفهامٌ تقريريٌّ دخَل على نفْيِ الأمرِ المُقرَّر به؛ لاختبارِ مقدارِ إقْرارِ المسؤولِ؛ فلذلك يُسأل عن نفْي ما هو واقعٌ؛ لأنَّه إنْ كان له مَطْمَعٌ في الإنكارِ تَذرَّع إليه بالنفي الواقِع في سؤال المقرِّر. والمقصود: أهذا حقٌّ؟! إذ إنَّهم كانوا يَزعُمونه باطلًا؛ ولذلك أجابوا بالحرفِ الموضوعِ لإبطالِ ما قَبْلَه وهو بَلَى فهو يُبطِلُ النفيَ؛ فهو إقرارٌ بوقوع الأمانيِّ، أي: بلى هو حقٌّ [492] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/188). .
- وقوله: قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا فيه تأكيدُ اعترافِهم باليمينِ؛ إظهارًا لكمالِ يَقينهم بأنَّه حقٌّ؛ تحقيقًا لاعترافِهم للمُعترَفِ به؛ لأنَّه معلومٌ لله تعالى، أي: نُقرُّ ولا نشكُّ في أنَّه حقٌّ؛ فلذلك نُقسِم عليه، وهذا مِنِ استعمالِ القَسمِ لتأكيدِ لازمِ فائدةِ الخبرِ [493] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/124)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/188). وهذا القَسَمُ منهم يُشعِرُ بشِدَّةِ النَّدمِ على إنكارِهم الأوَّل، فكأنَّهم كذَّبوا أنفُسَهم تكذيبًا مقرونًا بالقَسَمِ، ولا يَخفَى أنَّ مِثلَ هذا لا يَخرُجُ إلَّا مِن قلبٍ مُتحسِّرٍ، ولكن فاتَ الأوانُ [494] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 155). !
- وفي ذِكر الربِّ في قوله تعالى: بَلَى وَرَبِّنَا تَذكارٌ لهم بأنَّه كان يُربِّيهم، ويُصلِحُ حالَهم؛ فهو سيِّدُهم وهم عَبيدُه، لكنَّهم عصَوْه، وخالَفوا أمْرَه [495] ينظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/481). .
7- قوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ
- قوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ فيه الإظهارُ في موضِع الإضمارِ؛ فالَّذين كذَّبوا هم الَّذين حُكِيت أحوالُهم، لكنْ وُضِع الموصولُ مَوضعَ الضَّمير؛ للإيذانِ بتسبُّبِ خُسرانِهم بما في حيِّزِ الصِّلةِ من التكذيبِ بلِقائِه تعالى بقيامِ الساعةِ، وما يَترتَّبُ عليهِ مِن البعثِ وأحكامِه المتفرِّعةِ عليه، واستمرارِهم على ذلك؛ فإنَّ كلمةَ حَتَّى في قولِه تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ غايةٌ لتكذيبِهم لا لخُسرانهم؛ فإنَّه أبَدِيٌّ لا حدَّ له [496] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/192). ، وفي هذا الإظهارِ كذلك تَعميمٌ، وتَنبيهٌ على ما أَوْجَب لهم ذلِك الخُسرانَ [497] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/90). .
- وحَسُنَ مجيءُ الخُسْران كنايةً عن فَواتِ الثوابِ العظيمِ، وحُصولِ العقابِ العظيمِ؛ لأنَّ موقِفَ القيامةِ موقفٌ لا حُكْمَ فيه لأحدٍ إلَّا للهِ تعالى، ولا قُدرةَ لأحدٍ على النَّفعِ والضرِّ، والرَّفعِ والخَفضِ إلَّا لله [498] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/513). .
- قوله: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا... على القولِ بأنَّ تحسُّرَهم هذا يكون عندَ موتِهم؛ ففيه التعبيرُ عن الموتِ بالسَّاعةِ؛ وذلك لَمَّا كانَ الموتُ وُقوعًا في أحوالِ الآخرةِ ومُقدِّماتِها، جُعِل مِن جِنسِ السَّاعةِ، وسُمِّي باسمِها، أو جُعِل مَجيءُ السَّاعةِ بعدَ الموت؛ لسُرعتِه، كالواقِعِ بغيرِ فَترةٍ [499] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/16)، ((تفسير الرازي)) (12/513). وقال أبو حيَّان-بعدَما نقَلَ كلامَ الزمخشريِّ السابقَ-: ((ويُمكن حمْلُ السَّاعة على الحقيقة، وهو يوم القيامة، ولا يلزمُ من تحسُّرُهم وقتَ الموتِ أنَّهم لا يتحسَّرون يومَ القيامة، بل الظاهرُ ذلِك؛ لقوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ؛ إذ هذا حالٌ مِنْ قولهم: قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وهي حالٌ مُقارِنةٌ، وإذا حمَلْنا الساعةَ على وقتِ الموتِ كانتْ حالًا مُقدَّرة، ومجيء المُقَدَّرَة بالنسبةِ إلى المقارِنَة قليلٌ، فيكون التكذيبُ متَّصلًا بهم مُغيًّا بالحسرةِ إلى يوم القيامة؛ إذ مُكثُهم في البرزخِ على اعتقاد أمثلِهم طريقةً يومٌ واحد). ((تفسير أبي حيان)) (4/482). .
- قوله: يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا فيه تنبيهٌ للنَّاس على ما سَيحصُلُ لهم من الحَسرةِ، والعربُ تُعبِّر عن تَعظيمِ أمثالِ هذه الأمورِ بهذه اللَّفْظة يَا حَسْرَتَنَا، وهذا أبلغُ مِن أنْ يُقال: الحسرةُ علينا في تَفرِيطنا [500] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (12/513). .
- والنِّداءُ في قولِه: قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا مقصودٌ به التندُّمُ، وأضافوا الحسرةَ إلى أنفُسِهم؛ ليكونَ تَحسُّرُهم لأجْلِ أنفسِهم؛ فهم المُتحسِّرون والمتحسَّرُ عليهم، بخِلافِ قولِ القائِل: يا حسرةً، فإنَّه في الغالِبِ تحسُّرٌ لأجْلِ غيرِه، فهو يتحسَّرُ لحالِ غيرِه [501] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/190). .
- والافتتاحُ بحرف الاستفتاح أَلَا في قوله: أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ يُفيد التنبيهَ للعنايةِ بالخبرِ [502] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/192). ، والجملةُ تذييلٌ مُقرِّرٌ لِمَا قَبلَه، وتَكملةٌ له [503] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/125). .
8- قوله: وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أفادتْ هذه الصِّيغةُ (وَمَا... إِلَّا) قَصْرَ الحياةِ على اللعبِ واللَّهوِ [504] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/193). .
- وفيه مُناسبةٌ حسَنةٌ حيثُ قَدَّم اللَّعبَ هنا، وكذلِك في سُورةِ محمَّد في قوله: إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [محمد: 36] ، وسُورةِ الحديد في قوله: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ [الحديد: 20] ، وعكَس في سورةِ الأعرافِ والعنكبوتِ؛ حيث قال في سُورة الأعرافِ: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [الأعراف: 51] وقال في سورة العنكبوت: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ [العنكبوت: 64] ، فقدَّم اللَّهوَ على اللَّعِبِ، والحِكمةُ مِن تقديمِ اللَّعِب على اللهوِ في بعضِ المواضِع وتأخيرِها في البعض الآخَر: أنَّ الآيَةَ الأُولى التي في سُورةِ الأنعام في قومٍ مِن الكُفَّار، كانوا إذا سَمِعوا آياتِ اللهِ هَزِلوا عندَها، واسْتَهْزؤوا بها، فهذا اتِّخاذُهم دِينَ اللهِ لَعبًا، فهؤلاءِ قومٌ حضَروا النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وسمِعوا القرآن، وعَبِثوا عند سماعِه، ولَعِبوا بآياته، وأجَرْوها مجرَى أفعالٍ يُستَرْوَح إليها، ولا نفعَ في عُقباها، ثم شُغِلوا بدنياهم عن تَدبُّرها، وألهتْهم حلاوتُها عن الفِكر في صِحَّتها، فأوَّل أفعالهم لعبٌ، وثانيها لهوٌ، فهؤلاءِ لَمَّا فعلوا عند سماعِ القرآن مِن الاستهزاءِ والعبثِ أُطلِقَ على فِعلهم اسمُ اللَّعِب، ثم شُغِلوا عنه باستِحلاءِ الدنيا، كان هذا لهوًا منهم بعدَ اللَّعِب، وكان أوَّلُ دِينهم لعبًا وما بعدَه لهوًا؛ فلذلك قدَّم اللَّعِب على اللَّهو في هذه الآيةِ. وتقديمُ اللَّعبِ على اللَّهو في سورة الحديدِ؛ فلأنَّ معناه: الحياةُ الدُّنيا لِمَن اشتَغَل بها، ولم يتعَبْ لغيرِها مِن أعمالِ الآخرةِ مَقسومةٌ من الصِّبا، وهو وقتُ اللَّعِب، وبعدَه اللَّهو، ويتبع ذلك أخْذُ الزينةِ، ومِنْ أخْذِ الزينة تنشأُ مباهاةُ الأكْفَاءِ، ومفاخرةُ الأشكالِ والنُّظَراءِ، ثم بَعْدَه المكاثرةُ بالأموالِ والأولادِ، فترتيبُ الحياةِ على هذه الأحوالِ يُوجِبُ تقديمَ حالَ اللَّعِبِ على حالِ اللَّهو.
وأمَّا تقديمُ اللَّهوِ على اللَّعبِ في آيةِ الأعرافِ؛ فلأنَّ المقصودَ بالكافرينَ عامَّةُ الكفَّارِ، وليس مَن سمِعَ الآياتِ فقط، فقدَّم فِعْلَ أكثرِهم على فِعل أقلِّهم، وهم الذينَ شَغلتْهم الحياةُ الدُّنيا وحلاوتُها، والولايةُ وغباوتُها، وهذا هو اللَّهو، ثمَّ كانتْ أفعالُهم التي اقتدَوْا فيها بآبائِهم لَمَّا طابتْ لهم، ولم يَجِدوا في العاقبةِ نفعًا عليهم، كاللَّعبِ الذي يَنطوي على أفعالٍ تَبطُلُ في الآجِل، وإنْ سَرَّتْ في العاجِل، وهذا بعدَ الأوَّلِ، وأَكثرُ الكفَّارِ دَأْبهم اللَّهوُ، وإنْ شَغَلَتْهم الحالُ التي اسْتَصْحَبوها عن الفِكر فيما يطرأُ عليها؛ فوَجَب لهذا تقديمُ ذِكرِ اللَّهوِ لوجهين: لتقدُّمِه على ما هو كاللَّعب، ولأنَّه فِعلُ أَكثرِهم. واللَّعب في آية الأنعامِ المرادُ به فِعلُ أقلِّهم، وهو هناك أوَّلُ ما رُدَّ به ما جاءَ به الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقُدِّم اللَّهوُ في سورةِ العنكبوت في قولِه: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ... [العنكبوت: 64] ؛ لأنَّ المرادَ المبالغةُ في وصْف قِصَر مدَّة الدُّنيا بالإضافةِ إلى مُدَّةِ الأخرى، فكأنَّه قال: ما أَمدُ الحياةِ الدُّنيا إلَّا كأَمَدِ أَزْمِنَةِ اللَّهوِ واللَّعِب؛ فهي أزمنةٌ لشَغْلِ النَّفسِ بحلاوةِ ما يُتعجَّلُ، وإنَّما قُدِّم اللَّهْوُ على اللَّعِب هنا؛ لأنَّ أزمنةَ اللَّهوِ أكثرُ مِن أَزْمِنَة اللَّعِب؛ لأنَّ التشاغُلَ به أكثرُ؛ فوجَبَ تقديمُ ما يَكثُر على ما هو دُونَه في الكثرةِ؛ لأنَّ ذلك آخِذٌ بالشَّبهِ، وأبلغُ في وصْفِ المشبَّه [505] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/516 - 525). .
وقيل: لأنَّ اللَّعِبَ يكونُ في زَمَنِ الصِّبا، واللَّهوُ يكونُ في زمَنِ الشَّبابِ، وزمنُ الصِّبا مُقدَّمٌ على زَمنِ الشَّباب؛ فناسَبَ إِعطاءُ المقدَّمِ للأكْثرِ، والمُؤخَّرِ للأقلِّ [506] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 164). .
وقيل: لأنَّه لا يتقدَّمُ اللَّفظُ فى الكِتابِ العزيزِ ذِكرًا أو يتأخَّرُ إلَّا لموجِبٍ؛ فوجهُ تقديمِ اللَّعب فى الأنعامِ: أنَّه المتقدِّمُ في الوجودِ الدُّنيويِّ على اللَّهو، ولأنَّ أوَّلَ ابتداءِ تعقُّلِ الإنسانِ وتَمْييزِه حالَه حالُ اللَّعِب، وهو المطابقُ لسنِّ الابتداءِ، فإذا استمرَّ أُلْهِيَ عن التدبُّر والاعتبارِ، وشُغِل بتماديه عن التفكُّرِ فيما به النجاةُ والفوزُ، فلمَّا لم يَبْرَحْ هؤلاء عن الجَري على عادةِ الصُّمِّ والبُكْم الذين لا يَعقِلون جرَى الإخبارُ عنهم في الآيةِ الثانيةِ من الأنعامِ بمُقتضَى أحوالِهم في أعمارِهم التي لم تَخرُجْ عن أحوالِ البهائمِ؛ فأوَّلُ أعمارِهم لعبٌ، وعَقِب ذلك لَهْوٌ، فورَدَ الإخبارُ على حسَبِ جَرْي الأعمارِ. وقيل غيرُ ذلِك في أوجهِ التقديمِ والتأخيرِ في هذه الآياتِ [507] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/155 - 157). .
9- قوله: وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أفَلَا تَعْقِلُونَ فيه تخصيصُ المتَّقينَ بالذِّكْر، مع أنَّ غيرَهم كذلك؛ لأنَّهم الأصلُ، وغيرَهم تَبَعٌ لهم [508] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 164). .
- ويحتملُ أنَّه اعتراضٌ بالتَّذْييلِ لحِكاية حالِهم في الآخِرَة؛ فإنَّه لَمَّا حَكَى قوْلَهم: يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا عَلِمَ السامعُ أنَّهم فرَّطوا في الأمورِ النَّافعةِ لهم في الآخِرَة؛ بسببِ الانهماكِ في زخارفِ الدُّنيا، فذَيَّلَ ذلك بخِطابِ المُؤْمِنين؛ تعريفًا بقيمةِ زخارفِ الدُّنيا، وتبشيرًا لهم بأنَّ الآخِرةَ هي دارُ الخيرِ للمُؤْمِنين [509] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/193). .
- وفيه مناسبة حسنةٌ؛ حيث عبَّر هنا بقولِه تعالى: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، وفي سورةِ الأعرافِ عبَّر بقوله: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف: 169] ؛ ففي الأنعام وَلَلدَّارُ باللَّامِ، وفي الأعراف وَالدَّارُ بغيرِ تلك اللام؛ لأنَّ آية الأنعام تَقدَّمها قولُه تعالى مُعرِّفًا بحالِ الدنيا: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، ومعنى التأكيدِ في هذا حاصِلٌ مِن جَرْي الكلامِ وسياقِه؛ حيثُ دخَلتْه (إلَّا) بعدَ (ما) النافيةِ، فأفادت القَصْرَ، ومِثل هذا هو المعنى الحاصِلُ مِن لفظِ القَسَمِ الصَّريح؛ فناسَبَه هنا مَجيءُ اللامِ داخِلةً على المبتدأِ في الآيةِ المعرِّفةِ لحالِ الدَّار الأُخرى، وكأنَّه نصُّ قولك: واللهِ لَلدَّارُ الآخِرةُ خيرٌ، وتَناسَب هذا مع ما تقدَّم قبلَه مِن تقديرِ القَسَمِ المؤكَّد كما تَبيَّن، وليس فى آيةِ الأعراف ما يَقتضي هذا؛ لأنَّها مُناطةٌ بقوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى [510] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/157). [الأعراف: 169] .
- وأيضًا أُجْرِيت الآخِرَة على الدَّار نَعتًا لها في سُورتَي الأنعامِ والأعراف، وفي سورة يوسُفَ قال: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ [يوسف: 109] على الإضافةِ؛ وذلِك لأنَّ كلَّ لفْظٍ مُطابِقٌ لِمَا تقدَّمَ قَبْلَ كلِّ واحدةٍ مِن الآيتين، أمَّا فى آيةِ الأنعام فقوله تعالى مُخبِرًا عنهم: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا، فطابَقَ هذا قولَه تعالى: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ، وأمَّا آيةُ الأعرافِ فقولُه تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى [الأعراف: 169] ، المرادُ به الدَّارُ الدُّنيا، فقُوبِلَ بقوله: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ [الأعراف: 169] ، وهذا بَيِّنٌ، ولَمَّا لم يتقدَّمْ مِثلُ ذلك قبلَ آيةِ يُوسُفَ، ورَدَ لفظُ الدارِ مُضافًا بغيرِ الأَلِفِ واللامِ فيه، فقيل: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ [يوسف: 109] ، وجاءَ كلٌّ على ما يجبُ ويُناسِبُ [511] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/158). .
- وأيضًا عبَّر في الأنعام والأعراف بقوله: خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ بالمضارِعِ، وفي سورة يُوسَف قال: خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا [يوسف: 109] بالماضِي؛ لأنَّه في سورة يوسُفَ قدْ تَقدَّم قبلَه قولُه تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا... الآية [يوسف: 109] ، والحاصِلُ منه أنَّهم ظَلَموا أنفُسَهم فأُهْلِكوا، ولو اتَّقَوْا لنَجَوْا؛ فناسَبَ هذا المعنى المقدَّرَ ورودُ الماضي في قوله تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أوْضَحَ مُناسَبَةٍ [512] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/158). .
- وفي قوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ تعريضٌ بالمشرِكينَ بأنَّهم صائِرونَ إلى الآخِرَة، لكنَّها ليستْ لهم بخيرٍ ممَّا كانوا في الدُّنيا [513] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/195). .
- وقوله: أَفَلَا تَعْقِلُونَ [514] قرأ نافع، وابن عامر، وحفص، وأبو جعفر، ويعقوب، أَفَلَا تَعْقِلُونَ- بتاء الخِطاب- على طريقة الالتفات. وقرأه الباقون (أَفَلَا يَعْقِلُونَ)- بياء تحتية-، فهو على هذه القراءةِ عائدٌ لِمَا عاد إليه ضمائرُ الغيبة قبْلَه، والاستفهام حينئذٍ للتعجب من حالهم. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/196). يَحتملُ أن يكونَ فيه التفاتٌ مِن الحديثِ عنهم بالغَيبةِ إلى خِطابِهم بالدَّعوةِ- إذا كانتِ الآية إعادةً لدعوتهم إلى الإيمان والتقوى. ويَحتملُ أن يكون قوله: أفَلَا تَعْقِلُونَ اعتراضًا بالتذييلِ لحِكاية حالهم في الآخِرة؛ فإنَّه لَمَّا حَكَى قولَهم: يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا، عَلِم السامعُ أنَّهم فرَّطوا في الأمورِ النافعة لهم في الآخرة بسببِ الانهماك في زخارفِ الدُّنيا، فذَيَّل ذلك بخِطابِ المؤمنين تعريفًا بقِيمةِ زخارف الدُّنيا، وتبشيرًا لهم بأنَّ الآخِرَةَ هي دارُ الخير للمؤمنين [515] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/192- 196). .
- والاستفهامُ في قوله: أفَلَا تَعْقِلُونَ مُستعمَلٌ في التَّوبيخِ عن عَدَمِ عَقلِهم؛ إنْ كان خِطابًا للمُشركين، أو مستعمَلٌ في التَّحذيرِ إنْ كان خِطابًا للمؤمنين، على أنَّه لَمَّا كان استعمالُه في أحدِ هذَينِ على وجهِ الكِنايةِ، صحَّ أنْ يُرادَ منه الأمرانِ باعتبار كِلَا الفَريقينِ؛ لأنَّ المدلولاتِ الكنائيَّةَ تَتعدَّدُ، ولا يَلزمُ مِن تَعدُّدِها الاشتراكُ؛ لأنَّ دَلالتَها التزاميَّةٌ [516] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/195). .