موسوعة التفسير

سُورةُ الأنعامِ
الآيتان (25-26)

ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ

غريب الكلمات :

أَكِنَّةً: أغطيةً، مفردُها كِنانٌ، وأصل (كنن): يدلُّ على سَتْرٍ أو صَونٍ [388] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 57)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/123)، ((المفردات)) للراغب (ص: 612، 727). .
وَقْرًا: أي: ثِقَلًا، وَصَمَمًا في الأُذنِ، وهذا إشارةٌ إلى جَهلِهم لا إلى عَدمِ سَمْعِهم، وأصلُ (وقر): يَدُلُّ على ثقلٍ في الشَّيءٍ [389] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/197)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/132)، ((المفردات)) للراغب (ص: 70، 88). .
أَسَاطِيرُ: أي: أباطيلُ وتُرَّهات، جمع أُسطورة، وهي: ما سُطِّرَ من أخبارِ الأوَّلين وكَذِبهم، وقيل: ما سَطَّره الأوَّلون من الكتُبِ، وأصل (سطر): يدلُّ على اصطفافِ الشَّيءِ، كالكِتاب والشَّجر؛ والأساطيرُ كأنَّها أشياءُ كُتِبتْ مِن الباطلِ، فصارَ ذلك اسمًا لها، مَخصوصًا بها [390] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 37)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 57)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/72- 73)، ((المفردات)) للراغب (ص: 409)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 94)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 116). .
وَيَنْأَوْنَ: يَتباعدون، والنَّأي: البُعد [391] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 152)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 465)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/378)، ((المفردات)) للراغب (ص: 831). .

المعنى الإجمالي :

يُخبِرُ تعالى أنَّ مِن المشرِكين مَن يَستمعُ القرآنَ مِنَ النبيِّ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لكن لا يَنتفعون بهذا السَّماعِ؛ فاللهُ تعالى جعَلَ على قُلوبِهم أغطيةً؛ لئلَّا يَعقِلوه، وجعَلَ في آذانِهم صَممًا عن السَّماعِ النَّافِع، وذلك بسببِ عنادِهم وجحودِهم، ومهما رأوا مِن الدَّلالاتِ والحُججِ البَيِّنةِ فلن يُؤمِنوا بها، حتى إذا حضَروا إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فإنَّهم يُخاصمونَه في الحقِّ بالباطلِ، ويقولُون له: ما هذا الذي جِئتَ به إلَّا مأخوذٌ مِن كتُبِ السَّابِقين.
هؤلاءِ المشرِكون يَنهَوْن الناسَ عن اتِّباعِ الحقِّ، ويَبتعِدون عنه بأنفسِهم، وما يُهلِكون إلَّا أنفسَهم بصدِّهم، وإعراضِهم عن الحقِّ، ولا يَشعُرون بذلِك.

تفسير الآيتين :

وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بَيَّن أحوالَ الكفَّارِ في الآخِرَةِ؛ أتْبَعه بما يُوجِبُ اليأسَ عن إيمانِ بَعضِهم [392] ((تفسير الرازي)) (12/504). ، فقال:
وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ.
أي: ومِن هؤلاءِ المشرِكين مَن يَستمِعُ للقرآنِ مِنك- يا مُحمَّدُ [393] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/196)، ((تفسير السعدي)) (ص: 253)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 132). .
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ.
أي: وضَعْنا على قُلوبِهم أغطيةً وأغشيةً؛ لئلَّا يَعقِلوا كلامَ الله سبحانَه؛ وذلك بسببِ مُبادرتِهم إلى الكُفرِ، وتكذيبِ الرُّسُلِ طائِعين مُختارين، فجَزاهم اللهُ تعالى على ذلك الذنبِ طَمْسَ البَصيرة، والعَمَى عن الهُدَى، جزاءً وِفاقًا [394] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/196-198)، ((تفسير ابن كثير)) (3/247)، ((تفسير السعدي)) (ص: 254)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/6-7)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 132، 136). .
كما قال تعالى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الإسراء: 45-46] .
وقال سبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 57] .
وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا.
أي: وجَعَلنا في آذانهِم ثِقلًا وصَممًا عن السَّماعِ النافِعِ، فلا يَنتفِعون بما سَمِعوا، ومَن لا يَنتفِعُ بمَا سَمِعَ فهو كمَن لم يَسمَعْ، مُجازاةً لهم على كُفرِهم [395] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/247)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/6-7)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 133). .
كما قال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [البقرة: 171] .
وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا.
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر سبحانه عدمَ انتفاعِهم بعقولِهم- حتَّى كأنَّ على محالِّها أكنَّةً- ولا بَسماعِهم، حتَّى كأنَّ في آذانهم وقرًا، انتقَلَ إلى الحاسَّة التي هي أبلغُ مِن حاسَّةِ السَّماعِ، فنَفَى ما يَترتَّبُ على إدراكِها، وهو الإيمانُ، فقال [396] ينظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/469، 470). :
وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا.
أي: ومَهما يَرَ هؤلاءِ من الدَّلالاتِ والحُججِ البيِّنات، لا يَنقادُوا إليها، ولا يُصدِّقوا بها، ولا يُقِرُّوا بها [397] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/199)، ((تفسير ابن كثير)) (3/247)، ((تفسير السعدي)) (ص: 254)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 133). .
كما قال تعالى: وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ [القمر: 2].
حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ.
أي: حتَّى إذا حضَروا إليك- يا محمدُ- يُخاصِمونَك، ويُحاجُّونك في الحقِّ بالباطِل، قالوا لكَ: ما هذا الذي جِئتَ بِه إلَّا أشياءُ مأخوذةٌ من كتُبِ السَّابقِينَ، ومَنقولةٌ عن صُحُفِهم المسطورةِ، التي ليستْ عن اللهِ تعالى، ولا عن رُسلِه عليهم السَّلام [398] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/199)، ((تفسير ابن كثير)) (3/247)، ((تفسير السعدي)) (ص: 24)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 133-135). .
كما قال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال: 31] .
وقال سبحانه: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] .
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26).
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ.
أي: والمشرِكونَ باللهِ تعالى يَنهَونَ الناسَ عن اتِّباعِ الحقِّ، وتصديقِ الرَّسولِ، والانقيادِ للقُرآن، ويَبتَعدونَ بأنفُسِهم عنه؛ فهم لا يَنتفِعونَ بالحقِّ، ولا يَتركُون أحدًا ينتفِعُ به، جامِعينَ بين الضَّلالِ والإضلالِ [399] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/205-206)، ((تفسير ابن كثير)) (3/247-248)، ((تفسير السعدي)) (ص: 254)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 141). .
وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ.
أي: ولا يعودُ وبالُ صَدِّهم عن الحقِّ، وإعراضِهم عنه إلَّا عليهم، لكنَّهم لا يَشعُرون بذلك [400] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) 9/206)، ((تفسير ابن كثير)) (3/248)، ((تفسير السعدي)) (ص: 254)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 142). .

الفوائد التربوية :

1- قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ فيه التحذيرُ مِن الاستِماعِ بلا انتفاعٍ، وأنَّ هذا دأبُ الكفَّار، فلَيسَ كلُّ مُستمعٍ بمُنتفِعٍ ، كما قال تعالى: وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا [محمد: 16] ويَتفرَّعُ على هذا أنَّه يَنبغي للإنسانِ إذا استَمَع أنْ يَتأمَّلَ، ويتفكَّر فيما استمَعَ إليه، لا سيَّما في الكتابِ والسُّنَّةِ؛ حتى يَعرِفَ معناهما [401] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 135). .
2- في قولِه تعالى: حَتَّى إِذَا جَاؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أنَّ قولَ الكافِرين هنا هو شأنُ مَن يَنظُرُ إلى الشيءِ نظرًا سطحيًّا، لا ليستنبطَ منه عِلمًا ولا بُرهانًا، ومَن يسمعُ الكلامَ جرْسًا لفظيًّا، لا يَتدبَّره، ولا يَفقَه أسرارَه، فمَثَلُ هذا وذاك كمَثَلِ الطِّفلِ الذي يُشاهِدُ ألعابَ الصُّورِ المتحرِّكة، يُديرُها قومٌ لا يَعرِفُ لُغتَهم؛ فكلُّ حظِّه ممَّا يرَى مِن المناظرِ، ومِن المكتوباتِ المفسِّرةِ لها، لا يَعْدُو التسليةَ. ولو عقَلَ هؤلاءِ المقلِّدونَ الغافِلون قَصصَ القرآنِ، وتَدبَّروا معانيَها، لكان لهم منها آياتٌ بيِّنةٌ على صِدقِ دَعوةِ الرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ونُذُرٌ عظيمةٌ ممَّا فيها؛ مِن بيانِ سُننِ اللهِ تعالى في الأُمم، وعاقبةِ أمْرِهم مع الرُّسُلِ، وغير ذلك مِن الحِكَم والعِبَر [403] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/291). .
3- في قولِه تعالى: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ التحذيرُ من سُلوكِ الإنسانِ سُبلَ الهَلاكِ وهو لا يَشعُرُ، وقد بيَّن اللهُ تعالى ذلِك في قوله: أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء [404] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 143). [فاطر: 8] .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- المُشرِكون أصنافٌ، يتفاوتونَ في الفَهمِ والعَقلِ وفي الكُفرِ وأسبابِه، وقد بَيَّن اللهُ أحوالَ كلِّ فَريقٍ منهم في كِتابِه، قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ... [406] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/290). .
2- وجهُ إسنادِ الفِعل إلى ذاتِه تعالى في قولِه تعالى: وَجَعَلْنَا للدَّلالةِ على أنَّه أمرٌ ثابتٌ فيهم لا يَزولُ عنهم، كأنَّهم مجبولون عليه، أو هي حِكايةٌ لِمَا كانوا يَنطِقون به مِن قولهم: وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت: 5] ، أو لأنَّه خلَقَهم على هذه الخَصلةِ الذَّميمةِ والتعقُّلِ المُنحرِف، فهُم لهم عقولٌ وإدراكٌ؛ لأنَّهم كسائرِ البَشرِ، ولكنَّ أهواءَهم تُخيِّر لهم المنعَ مِن اتِّباعِ الحقِّ [407] ينظر: ((تفسير الشربيني)) (1/415)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/179، 180). .
3- أنَّ الفِقهَ محلُّه القلبُ؛ لقوله: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ [408] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 136). .
4- أنَّ عدَمَ الانتفاعِ بالسَّماعِ كالصَّممِ تمامًا؛ لقوله: وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا بل صاحبُ الصَّممِ معذورٌ، والذي لا يَنتفعُ بما سَمِع غيرُ معذورٍ؛ لأنَّ صاحبَ الصَّممِ لم يَسمعْ مِن آفةٍ حلَّتْ به [409] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 136). .
5- أنَّ المجادِلَ بالباطِلِ يَلجأُ إلى المكابَرةِ؛ كما في هذِه الآيةِ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ؛ لأنَّ دَعواهم إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ مكابرةٌ بلا شكٍّ، وكلُّ أحدٍ يَعرِفُ أنَّ القرآنَ الكريمَ ليس قولَ البَشرِ، فضلًا أنْ يكونَ أساطيرَ الأوَّلين، ولكن هذه نهايةُ المجادَلةِ والمكابَرةِ [411] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 140). .
6- أنَّ هؤلاءِ المشرِكين جمَعوا بين الضَّلالِ والإضلالِ؛ الإضلالُ في قوله: يَنْهَوْنَ، والضَّلالُ في قولِه: يَنْأَوْنَ وهذا أشدُّ مِن العُدوانِ والظُّلمِ [412] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 143). .
7- قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ قُدِّم النهيُ على النَّأيِ مع أنَّه كان المتوقَّعُ أنْ يُبدأَ بالنَّأيِ الذي هو فِعلُهم بأنفسِهم دون فِعلِهم بغيرهم؛ إشارةً إلى شِدَّةِ كراهتِهم لِمَا جاءَ به الرسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، حتى إنَّهم يَبدَؤون بنهيِ الناسِ قَبلَ أنْ يَبتعِدوا عنه [413] ينظر:  ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 141). .
8- أنَّ كلَّ مَن حاولَ إبطالَ الحقِّ، وإبعادَ الناسِ عنه، فإنَّما جنَى على نفْسِه، وستكونُ العاقبةُ عليه؛ لقوله تعالى: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ حتى لو برَقتْ له الدُّنيا، وظفِرَ بنصْرٍ ظاهريٍّ [414] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 143). .
9- قوله تعالى: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فيه تسليةٌ للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأنَّ ما أرادوا به نِكايتَه إنما يَضرُّون به أنفُسَهم [415] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/183). .
10- عقَّب قوله: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بقولِه: وَمَا يَشْعُرُونَ زيادةً في تحقيقِ الخطأِ في اعتقادِ أولئكَ المشركِينَ، وإظهارًا لضَعْفِ عُقولِهم مع أنَّهم كانوا يَعُدُّونَ أنفسَهم قادةً للنَّاسِ [416] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/183). !

بلاغة الآيتين :

1- قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتمعُ إِلَيكَ... فيه مناسبةٌ حسنةٌ؛ حيثُ قال هنا: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتمعُ بالإِفرادِ، وفي سورةِ يونس قال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يونس: 42] بالجمْع؛ لأنَّ لكلٍّ مِن الموضعينِ ما يُوجِبُ اختصاصَه باللَّفظِ الذي جاءَ فيه؛ فأمَّا قولُه تعالى هنا: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتمِعُ بالإِفرادِ فقد نَزلَ في قَومٍ قليلِينَ، وهم: أبو سُفيان، والنَّضرُ بن الحارث، وعُتْبة، وشَيبة، وأُميَّةُ، وأُبيُّ بن خَلَف، وأمَّا قوله تعالى في سورةِ يونس وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ... [يونس: 42] بالجمْعِ، فهو في كلِّ الكفَّار الذين يَستمِعون مسموعًا هو حُجَّةٌ عليهم، وهو القرآنُ، ولا يَنتفعونَ بسماعِه، فكأنَّهم صُمٌّ عنه؛ فلمَّا كانت (مَن) تصلُح للواحدِ فما فَوقَه، ويجوزُ أن يَعودَ الضَّميرُ إلى لَفظِه وهو الواحد، وإلى معناه وهو الجمعُ، واختَلَف هذانِ المكانانِ في القِلَّةِ والكثرةِ- حُمِلت في موضعِ القِلَّةِ على حُكم اللَّفظِ، وعادَ الضَّميرُ إليها بلفظِ الواحدِ، وفي موضِعِ الكثرةِ على حُكم المعنى، وعاد الضَّميرُ إليها بلفظِ الجَمْعِ؛ لإفادةِ هذا المعنى بالاختلافِ في التَّعبيرِ؛ فلمْ يصلُحْ في كلِّ مكانٍ إلَّا اللَّفظُ الذي خَصَّه، مع القَصْدِ الذي ذُكِر [417] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/503- 506)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 162-163). .
2- قولُه: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا
- في جَعْلِ الأكنَّةِ على القلوبِ في قوله: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ، والوَقرِ في الآذانِ في قوله: وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا تَشبيهٌ للحُجُبِ والموانِعِ المعنويَّة بالحُجُبِ والموانِعِ الحِسيَّة؛ فإنَّ القلبَ الذي لا يَفقَهُ الحديثَ، ولا يَتدبَّره، كالوعاءِ الذي وُضِع عليه الكِنُّ أو الكِنانُ- وهو الغطاءُ- حتَّى لا يَدخُلَ فيه شيءٌ، والآذانُ التي لا تَسمَعُ الكلامَ سَماعَ فَهمٍ وتدبُّرٍ، كالآذانِ المصابةِ بالثِّقل أو الصَّمم؛ لأنَّ سمْعَها وعدمَه سواءٌ [418] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/290). .
- وفيه كنايةٌ في جَعْلِ الأكنَّةِ على القلوبِ، والوَقْرِ في الآذانِ، وهذا كِنايةٌ عن نُبُوِّ قُلوبِهم ومَسامِعهم عن قَبولِ الحقِّ، والاعتقادِ بصحَّتِه [419] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/13)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (3/88). .
3- قوله: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا جملةٌ شرطيَّةٌ مَقصودٌ بها الإخبارُ عن المبالغةِ التامَّةِ، والعِنادِ المُفرِط في عدمِ إيمانِهم، حتَّى إنَّ الشَّيءَ المرئيَّ الدالَّ على صِدقِ الرَّسولِ حَقيقةً، لا يُرتِّبون عليه مُقتضاه، بل يُرتِّبون عليه ضِدَّ مُقتضاه [420] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/470). .
4- يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ: فيه العدولُ عن الإضمارِ إلى الإظهارِ- حيث قال: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ولم يقُل: (يقولون)- لزيادةِ التَّسجيلِ عليهم بالكُفرِ، وأنَّهم ما جاؤوا طالبِينَ الحقَّ كما يَدَّعُونَ، ولكنَّهم قدْ دخَلُوا بالكفرِ وخرَجوا به، فيقولون: إنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ؛ فهم قدْ عدَلُوا عن الجدلِ إلى المباهَتةِ والمكابرةِ [421] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/181، 182). .
5- قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهَ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ فيه إظهارٌ لغايةِ نُفورِهم عنه، وتأكيدٌ لنَهيهِم عنه بقوله: وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ، أي: يَتباعدون عنه بأنفسِهم؛ فإنَّ اجتنابَ الناهِي عن المنهيِّ عنه مِن مُتمِّماتِ النَّهيِ [422] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/122). .
- وبين قوله: يَنْهَوْنَ، وقوله: وَيَنْأَوْنَ جِناسٌ، وهو جناسُ التصريفِ الذي هو اختلافُ صِيغةِ الكلمتينِ بإبدالِ حرفٍ مِن حرفٍ، أو مِن قَريبٍ مِن مَخْرجِه، سواءٌ أكان الإبدالُ في الأوَّل أم في الوَسطِ أم في الآخِر [423] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/183)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (3/90). ، وهو مِن المحسِّناتِ البديعيَّة.
6- قوله: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ فيه قصرٌ إضافيٌّ، وهو يُفيدُ قلبَ اعتقادِهم؛ لأنَّهم يَظنُّون بالنَّهي والنَّأْي عن القرآنِ أنَّهم يَضرُّون النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لئلَّا يتَّبعوه، ولِئَلَّا يَتَّبِعَه النَّاسُ، وهم إنَّما يُهلِكون أنفسَهم؛ بدوامِهم على الضلالِ، وبتضليلِ الناسِ، فيَحمِلون أوزارَهم، وأوزارَ الناسِ معَ أوزارِهم [424] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/183). .