موسوعة التفسير

سورة الزمر
الآيات (36-41)

ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ

غريب الكلمات:

حَسْبِيَ اللَّهُ: أي: اللهُ كافِيَّ، يُقالُ: أعطاني فأحْسَبَني، أيْ: كَفاني، وأصلُ (حسب) هنا: الكِفايةُ [772] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/59- 61)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 234)، ((تفسير ابن كثير)) (7/100) و(8/309). .
مَكَانَتِكُمْ: أي: طَريقتِكم الَّتي أنتم عليها، تقولُ للرَّجُلِ إذا أمَرْتَه أن يَثبُتَ على حالِه: على مكانَتِك يا فُلانُ، أي: اثبُتْ على ما أنت عليه [773] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص:160)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/293)، ((البسيط)) للواحدي (8/450)، ((المفردات)) للراغب (ص: 772). .
يُخْزِيهِ: أي: يُذِلُّه ويُهينُه، وأصلُه هنا: الإبعادُ [774] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/213)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/179)، ((المفردات)) للراغب (ص: 281)، ((تفسير القرطبي)) (15/260). .
وَيَحِلُّ عَلَيْهِ: أي: يَنزِلُ به، ويجِبُ عليه، وأصلُ (حلل): فَتْحُ الشَّيءِ، ومنه: حلَّ أي: نزَل؛ لأنَّ المسافِرَ يَشُدُّ ويَعقِدُ، فإذا نزلَ حَلَّ [775] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/213)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/20)، ((المفردات)) للراغب (ص: 251)، ((تفسير الرازي)) (17/346). .
بِوَكِيلٍ: أي: حافِظٍ وكَفيلٍ، وأصلُ (وكل): يدُلُّ على اعتِمادِ غَيرِك في أمْرِك [776] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 18، 313)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/136)، ((المفردات)) للراغب (ص: 882)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 206). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: أليس اللهُ بكافٍ عَبْدَه كُلَّ سُوءٍ؟! ويُخَوِّفُك مُشِركو قَومِك -يا مُحمَّدُ- بمَنْ دونَ اللهِ! ومَن يُضِلَّه اللهُ عن طريقِ الحَقِّ فلا أحَدَ يَهديه إليه، ومَن يَهدِه اللهُ إلى الحَقِّ فلا أحَدَ يُضِلُّه، أليس اللهُ بعزيزٍ ذي انتِقامٍ مِن الكُفَّارِ والمكَذِّبينَ؟!
ثمَّ يُبيِّنُ اللهُ تعالى ما كان عليه هؤلاءِ المشركونَ مِن تناقُضٍ، فيقولُ: ولئِنْ سألْتَ المُشرِكينَ -يا مُحمَّدُ-: مَنِ الَّذي خلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ؟ لَيَقولُنَّ: اللهُ وَحْدَه. قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهم: أرَأيْتُم الآلِهةَ الَّتي تَدْعُونَها مِن دونِ اللهِ: هل تَقدِرُ أن تَكشِفَ عنِّي ما يُصيبُني مِن ضُرٍّ إن أراده اللهُ بي، أو هل تَقدِرُ أن تمنَعَ عنِّي رَحمةَ رَبِّي إن أرادَها اللهُ بي؟!
قُلْ -يا مُحمَّدُ-: يَكفيني اللهُ وَحْدَه، عليه وَحْدَه يَعتَمِدُ المتوكِّلونَ.
ثمَّ يأمُرُ اللهُ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يُهدِّدَهم بسوءِ المصيرِ، فيقولُ: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك: يا قَومِ، اعمَلوا على طريقتِكم ومنهجِكم فأنا عامِلٌ بمَنهجي الَّذي أمَرَني اللهُ به؛ فسوف تَعلَمونَ مَن يأتيه في الدُّنيا عَذابٌ يُخزيه ويُذِلُّه، ومَن يَنزِلُ عليه عَذابٌ مُستَمِرٌّ لا يُفارِقُه.
ثمَّ يقولُ تعالى مُسَلِّيًا نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّا أنزَلْنا عليك -يا مُحمَّدُ- القُرآنَ للنَّاسِ بالحَقِّ، فمَنِ اهتدَى فإنَّما يَعودُ نَفْعُ ذلك على نَفْسِه، ومَن ضَلَّ فإنَّما يَعودُ وَبالُ ذلك على نَفْسِه، وما أنتَ -يا مُحمَّدُ- بمُوكَّلٍ باهتِداءِ النَّاسِ؛ فتَقهَرَهم على اتِّباعِ الحَقِّ.

تفسير الآيات:

أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا ضرَب اللهُ عزَّ وجلَّ مَثَلًا للمُشرِكينَ والمُؤمِنينَ بِمَثَلِ رَجُلٍ فيه شُرَكاءُ مُتَشاكِسونَ ورَجُلٍ خالِصٍ لِرَجُلٍ، كان ذلك المَثَلُ مُثيرًا لأنْ يقولَ قائِلُ المُشرِكينَ: لَتَتألَّبَنَّ شُركاؤُنا على الَّذي جاء يُحَقِّرُها ويَسُبُّها، ومُثيرًا لِحَمِيَّةِ المُشرِكينَ أنْ يَنتَصِروا لآلِهَتِهِم، ورُبَّما أنْطَقَتْهم حَميَّتُهم بتَخْويفِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا حَكى تَكْذيبَهم النَّبيَّ عَطَف الكَلامَ إلى ما هدَّدوه به وخوَّفوه مِن شَرِّ أصْنامِهِم [777] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/12). .
وأيضًا لَمَّا فُهِم مِن قولِه: وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ [الزمر: 32] أنَّ المشركينَ يُكَذِّبونَه، وكان مِن طبْعِ الآدَميِّ الاهتِمامُ بمِثلِ ذلك ولا سيَّما إذا كان المُكَذِّبُ كثيرًا وقَوِيًّا، وتقرَّر أنَّه سُبحانَه الحَكَمُ العدْلُ بيْنَ المُتخاصِمينَ وغيرِهم في الدُّنيا والآخرةِ، ولَزِمَ كلَّ سامِعٍ الإقرارُ بالآخرةِ، وبشَّرَ المُحسِنينَ وحذَّرَ المُسيئينَ، وكان مِن المعلومِ أنَّهم يُحَذِّرونَه آلهتَهم كما يُحَذِّرُهم إلهَه؛ حَسُنَ كُلَّ الحُسنِ قولُه مُقِرًّا للكِفايةِ غايةَ الإقرارِ، ومُنكِرًا لِنَفْيِها كلَّ الإنكارِ [778] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/508). :
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
1- قِراءةُ: عِبَادَهُ جَمعُ عَبدٍ، فيَدخُلُ فيهم كُلُّ مَن عبَدَ اللهَ مِن الأنبياءِ والمُؤمِنينَ. وقيل: المرادُ: عِبادُه الأنبياءُ [779] قرأ بها حمزةُ، والكِسائيُّ، وأبو جعفرٍ، وخَلَفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/362). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (20/209)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/338)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (6/96). .
2- قِراءةُ: عَبْدَهُ بالإفرادِ. قيل: المرادُ به: محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وقيل: يحتمِلُ أنَّه لَفظُ جِنسٍ يَشملُ جميعَ عبادِ اللهِ، فتَكونُ بمعنى القِراءةِ الأُولى [780] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/362، 363). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (20/209)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/338)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (6/96)، ((تفسير القرطبي)) (15/ 257)، ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 5). .
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ.
أي: أليس اللهُ كافيًا مَن قام بعُبوديَّتِه [781] قيل: المرادُ بـ عَبْدَهُ: محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، والزمخشري، والقرطبي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/209)، ((تفسير الزمخشري)) (4/129)، ((تفسير القرطبي)) (15/257)، ((تفسير السعدي)) (ص: 725)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/13). وقيل: المرادُ العُمومُ في كُلِّ مَن قام بعُبوديَّةِ اللهِ تعالى وأداءِ حُقوقِه، فكُلُّ مَن كان عبدًا لله تعالى حقًّا فإنَّ اللهَ تعالى كافيه. ومِمَّن ذهب إلى هذا العُمومِ: ابنُ القيِّم، وابنُ كثير، وابن رجب، وابن عثيمين. يُنظر: ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 5)، ((تفسير ابن كثير)) (7/100)، ((مجموع رسائل ابن رجب)) (3/110)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 253). كلَّ سُوءٍ، وعاصِمًا له مِن كُلِّ كَيدٍ [782] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/209)، ((تفسير الزمخشري)) (4/129)، ((تفسير القرطبي)) (15/257)، ((تفسير ابن كثير)) (7/100)، ((تفسير السعدي)) (ص: 725)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/13)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 253). ؟
كما قال تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة: 137] .
وقال الله سُبحانَه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا [الحج: 38] .
 وقال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] .
وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ المقَدِّمةَ؛ رَتَّب عليها النَّتيجةَ المطلوبةَ؛ فإنَّه إذا ثبَت أنَّ اللهَ كافٍ عبْدَه، كان التَّخويفُ بغيرِ الله عبَثًا وباطلًا [783] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/454). .
وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.
أي: ويُخَوِّفُك مُشرِكو قَومِك -يا مُحمَّدُ- بمَنْ دونَ اللهِ أنَّهم يَنالونَك بسُوءٍ [784] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/210)، ((تفسير القرطبي)) (15/258)، ((تفسير ابن كثير)) (7/100)، ((تفسير السعدي)) (ص: 725)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/12، 13)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 255، 256). قيل: المرادُ بقَولِه تعالى: بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ: مِن دونِ اللهِ مِن الأوثانِ والأصنامِ، أي: ممَّا يَعبُدون. ومِمَّن ذهب إلى هذا في الجُملةِ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، وابن الجوزي، وابن كثير، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/210)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/355)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/19)، ((تفسير ابن كثير)) (7/100)، ((تفسير السعدي)) (ص: 725)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/364). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، ومجاهِدٌ، والسُّدِّيُّ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/210)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/229). وقيل: المرادُ: العمومُ؛ فمَن دونَ اللهِ يَشملُ الأصنامَ وغيرَها، كالجِنِّ، وذَوِي السُّلطانِ، وغَيرِهم. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 255، 256). قال القرطبي: (ويَدخُلُ في الآيةِ تخويفُهم النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بكثرةِ جمعِهم وقوَّتِهم). ((تفسير القرطبي)) (15/258). !
كما قال تعالى حكايةً عن قَولِ عادٍ لِنَبيِّهم هودٍ عليه السَّلامُ: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود: 54] .
وقال سُبحانَه: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 175] .
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا أطنَبَ سُبحانَه في شَرحِ الوَعيدِ والوَعدِ، والتَّرهيبِ والتَّرغيبِ؛ خَتَم الكَلامَ بخاتِمةٍ هي الفَصلُ الحَقُّ [785] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/454). .
وأيضًا لَمَّا اشتمَلَت الآيةُ على مُهتَدِينَ وضالِّينَ؛ أخبَرَ أنَّ ذلك كُلَّه هو فاعِلُه [786] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/205). .
وأيضًا لَمَّا كان مِنَ الحَقِّ الواضِحِ كالشَّمسِ أنَّ ما قالوه لا يَقولُه عاقِلٌ، وكان التَّقديرُ: «فقد أضَلَّهم اللهُ إهانةً لهم، وهداك إكرامًا لك»؛ بيَّنَ أنَّه سُبحانَه قسَرَهم على ذلك؛ لِيَكونَ إضلالُه لهم آيةً، كما أنَّ هُداه لِمَن هداه آيةٌ؛ فقال مُخَفِّفًا عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في إذهابِ نَفْسِه عليهم حَسَراتٍ، دامِغًا للقَدَريَّةِ [787] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/510). :
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ.
أي: ومَن يُضِلَّه اللهُ عن طريقِ الحَقِّ فلا أحدَ يَهديه إليه [788] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/211)، ((تفسير القرطبي)) (15/250)، ((تفسير ابن كثير)) (7/95)، ((تفسير الشوكاني)) (4/533). .
كما قال الله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف: 186] .
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37).
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ.
أي: ومَن يَهْدِه اللهُ إلى الحَقِّ فلا أحَدَ يُضِلُّه عنه [789] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/211)، ((تفسير السمرقندي)) (3/187)، ((تفسير الشوكاني)) (4/533). .
أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا لم تَبقَ شُبهةٌ ولا شَيءٌ مِن شَكٍّ أنَّ الهاديَ المُضِلَّ إنَّما هو اللهُ وَحْدَه، وأنَّه جَعَل شَيئًا واحِدًا سَبَبًا لضَلالِ قَومٍ -لِيَكونَ ضَلالُهم في الظَّاهِرِ عِلَّةً للنِّقمةِ- وهُدًى لآخَرينَ، فيَكونَ هُداهم سَبَبًا للنِّعمةِ؛ بلَغَ النِّهايةَ في الحُسنِ قَولُه [790] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/510). :
أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ.
أي: أليس اللهُ عَزيزًا في انتِقامِه مِن الكُفَّارِ، مَنيعَ الجَنابِ، قاهِرًا للعبادِ، وبعِزَّتِه يَكفي عَبْدَه ويَدفَعُ عنه مَكْرَ أعدائِه؛ ذا انتِقامٍ مِن الجاحِدينَ وحدانيَّتَه، المكَذِّبينَ رُسُلَه، العاصِينَ أمْرَه [791] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/211)، ((تفسير القرطبي)) (15/258)، ((تفسير السعدي)) (ص: 725). ؟
كما قال تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران: 4] .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا أطنَبَ تعالى في وعيدِ المُشرِكينَ، وفي وَعْدِ الموحِّدينَ؛ عاد إلى إقامةِ الدَّليلِ على تَزييفِ طريقةِ عَبَدةِ الأصنامِ [792] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/454). .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.
أي: ولَئِنْ سألْتَ المُشرِكينَ -يا مُحمَّدُ-: مَنِ الَّذي خَلَق السَّمَواتِ والأرضَ؟ لَيَقولُنَّ: اللهُ وَحْدَه هو خالِقُهما [793] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/211، 212)، ((تفسير القرطبي)) (15/258)، ((تفسير ابن كثير)) (7/100)، ((تفسير السعدي)) (ص: 725). قال القرطبي: (وإذا كان اللهُ هو الخالِقَ، فكيف يُخَوِّفونك بآلهتِهم الَّتي هي مخلوقةٌ لله تعالى، وأنت رَسولُ الله الَّذي خلَقَها، وخَلَق السَّمواتِ والأرضَ؟!). ((تفسير القرطبي)) (15/258). .
قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا أقَرُّوا بالخالقِ -وهو اللهُ سُبحانَه- أخْبَرهم أنَّه تَعالَى هو المُتصرِّفُ في نَبيِّهِ بما أرادَ؛ فإنَّ تلك الأصْنامَ الَّتي يَدْعونَها آلِهةً مِن دُونهِ لا تَكشِفُ ضُرًّا، ولا تُمسِكُ رَحْمةً، أي: صِحَّةً وسَعةً في الرِّزقِ ونحو ذلك [794] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/205). .
قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهؤلاء المُشرِكينَ الَّذين أقَرُّوا بأنَّ اللهَ وَحْدَه خالِقُ السَّمَواتِ والأرضِ: أرأَيْتُم الآلِهةَ الَّتي تَدْعونَها مِن دُونِ اللهِ: هل تَقدِرُ على كَشْفِ ما يُصيبُني مِن ضُرٍّ إن أراد اللهُ أن يُصيبَني به [795] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/212)، ((تفسير القرطبي)) (15/258)، ((تفسير السعدي)) (ص: 725)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/16، 17). ؟
أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ.
أي: أو هل تَقدِرُ آلهتُكم أن تَمنَعَ عنِّي رَحمةَ رَبِّي إن أراد اللهُ أن يُصيبَني بها [796] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/212)، ((تفسير القرطبي)) (15/259)، ((تفسير ابن كثير)) (7/100)، ((تفسير السعدي)) (ص: 725). ؟
كما قال الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس: 107] .
وقال سُبحانَه: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر: 2] .
قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا تقَرَّر أنَّه تعالى كافِيه، وأنَّ أصنامَهم لا تَضُرُّ ولا تَنفَعُ؛ أمَرَه تعالى أن يُعلِمُ أنَّه تعالى هو حَسْبُه، أي: كافيه [797] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/206). .
قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ-: يَكفيني اللهُ وَحْدَه مِن كُلِّ شَيءٍ، فأنا أفَوِّضُ إليه جميعَ أُموري، وأعتَمِدُ عليه وَحْدَه دونَ غَيرِه؛ على اللهِ وَحْدَه يَعتَمِدُ المتوكِّلونَ في جَلْبِ مَصالِحِهم، ودَفْعِ مَضارِّهم [798] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/212)، ((تفسير القرطبي)) (15/259)، ((تفسير ابن كثير)) (7/100)، ((تفسير السعدي)) (ص: 725)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/18، 19). .
كما قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: 129] .
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا أبلَغَهم اللهُ مِن المَوعِظةِ أقصَى مَبلَغٍ، ونَصَب لهم مِنَ الحُجَجِ أسْطَعَ حُجَّةٍ، وثَبَّت رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أرسَخَ تَثبيتٍ: لا جَرَمَ أمَرَ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يُوادِعَهم مُوادَعةَ مُستَقرِبِ النَّصرِ، ويُواعِدَهم ما أُعِدَّ لهم مِن خُسرٍ [799] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/19). .
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك: يا قَومِ، اعمَلوا على طَريقتِكم ومَنهَجِكم وحالَتِكم الَّتي رَضِيتُموها لأنفُسِكم، وجمَدْتُم عليها [800] قال الشوكاني: (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ أي: على حالَتِكم الَّتي أنتم عليها، وتمكَّنْتُم منها). ((تفسير الشوكاني)) (4/533). قيل: المرادُ: ما هم عليه مِنَ الشِّركِ بالله تعالى. ومِمَّن قال بذلك: ابنُ جرير، وابنُ أبي زَمَنين، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/213)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/113)، ((تفسير السعدي)) (ص: 725). وقيل: المرادُ: ما هم عليه مِن العداوةِ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وممَّن قال بذلك: الزمخشريُّ، وأبو السعود، والقاسمي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/130)، ((تفسير أبي السعود)) (7/256)، ((تفسير القاسمي)) (8/290)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/20). وقيل: المرادُ كِلا الأمْرَينِ، أي: ما هم عليه مِن الكُفرِ والعداوةِ والإيذاءِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: النسفيُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير النسفي)) (1/539) و (3/182)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 282). ، أمَّا أنا فعامِلٌ بمَنهجي الَّذي أمَرَني اللهُ به [801] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/213)، ((تفسير ابن كثير)) (7/101)، ((تفسير السعدي)) (ص: 725)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/20)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 282، 283). قال الشوكاني: (إِنِّي عَامِلٌ أي: على حالتي الَّتي أنا عليها، وتمكَّنْتُ منها). ((تفسير الشوكاني)) (4/533). قيل: المرادُ بقَولِه: إِنِّي عَامِلٌ: على ما أنا عليه مِن الهدَى. وممَّن اختاره: ابنُ أبي زَمَنين، والماوَرْديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/113)، ((تفسير الماوردي)) (5/128). وقال الخازنُ: (إِنِّي عَامِلٌ أي: بما أُمِرتُ به مِن إقامةِ الدِّينِ). ((تفسير الخازن)) (4/58). وقال السعدي: (إِنِّي عَامِلٌ على ما دعَوْتُكم إليه مِن إخلاصِ الدِّينِ لله تعالى وَحْدَه). ((تفسير السعدي)) (ص: 725). وقال ابنُ عاشورٍ: (أرادَ مِنْ إِنِّي عَامِلٌ أنَّه ثابِتٌ على عَمَلِه في نُصحِهم ودعوتِهم إلى ما يُنَجِّيهم). ((تفسير ابن عاشور)) (24/20). .
كما قال تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [هود: 121، 122].
...  فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40).
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ.
أي: فسوفَ تَعلَمونَ مَن يأتيه في الدُّنيا عذابٌ مِنَ اللهِ يُذِلُّه ويُهينُه [802] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/213)، ((تفسير ابن عطية)) (4/533)، ((تفسير القرطبي)) (15/260)، ((تفسير ابن كثير)) (7/101)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/514)، ((تفسير السعدي)) (ص: 725)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/21)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 283-285). قال الشوكاني: (أي: يُهينُه ويُذِلُّه في الدُّنيا، فيَظهَرُ عندَ ذلك أنَّه المُبطِلُ، وخَصْمَه المُحِقُّ، والمرادُ بهذا العذابِ عذابُ الدُّنيا، وما حلَّ بهم مِن القَتلِ والأسْرِ، والقَهرِ والذِّلَّةِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/533). .
وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ.
أي: ومَن يَنزِلُ عليه في وَقتِه المحدَّدِ له عَذابٌ مُستَمِرٌّ لا يُفارِقُه [803] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/213)، ((تفسير ابن كثير)) (7/101)، ((تفسير الجاوي)) (2/333)، ((تفسير السعدي)) (ص: 725)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 283-284). والعذابُ المقيمُ هو عذابُ النَّارِ يومَ القيامةِ؛ فهم مُخلَّدونَ فيه. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/101)، ((تفسير الشوكاني)) (4/534)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/21). .
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا بَيَّن تعالى فَسادَ مَذاهِبِ المشركين؛ تارةً بالدَّلائِلِ، وتارةً بضَربِ الأمثالِ، وتارةً بذِكرِ الوَعدِ والوَعيدِ، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعظُمُ عليه إصرارُهم على الكُفرِ، وعَدَمُ إيمانِهم ورُجوعِهم إلى ما أنزَلَ اللهُ سبحانه وتَعالى عليه- أردَفَه بكَلامٍ يُزيلُ ذلك الحُزنَ العَظيمَ عن قَلبِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأخْبَره أنَّه أنزَلَ عليه الكِتابَ -وهو القُرآنُ- بالحقِّ؛ لأجْلِ النَّاسِ؛ إذ فيه تَكاليفُهم [804] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/455)، ((تفسير أبي حيان)) (9/206)، ((تفسير الشربيني)) (3/450). .
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ.
أي: إنَّا أنزَلْنا عليك -يا مُحمَّدُ- القُرآنَ للنَّاسِ بالحَقِّ، فتُنذِرُهم به، وتُبَيِّنُ لهم الهُدى [805] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/214)، ((تفسير ابن عطية)) (4/533)، ((تفسير ابن كثير)) (7/101)، ((تفسير السعدي)) (ص: 725)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/21). قَولُه تعالى: بِالْحَقِّ يحتمِلُ معنيَينِ؛ الأوَّلُ: أنَّ القُرآنَ مُشتَمِلٌ على الحَقِّ في أخبارِه وأحكامِه. والثَّاني: أنَّ نُزولَه حَقٌّ مِن عندِ اللهِ تعالى، ليس بباطِلٍ، بخِلافِ أخبارِ الكُهَّانِ الوارِدةِ مِن الشَّياطينِ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 288، 289). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عطية)) (4/533). قال البِقاعي: (بِالْحَقِّ مُصاحِبًا له، لا يَقدِرُ الخَلقُ على أن يُزيحوا مَعنًى مِن معانيه عن قَصْدِه، ولا لَفظًا مِن ألفاظِه عن سَبيلِه وحَدِّه، بل هو مُعجِزٌ في معانيه -حاضِرةً كانت أو غائِبةً- ونُظومِه، وألفاظِه وأسماءِ سُوَرِه وآياتِه وجَميعِ رُسومِه؛ فلا بُدَّ مِن إتيانِ ما فيه مِن وَعدٍ ووَعيدٍ). ((نظم الدرر)) (16/516). .
كما قال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15، 16].
وقال الله سُبحانَه: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الإسراء: 105].
وقال عزَّ وجلَّ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] .
فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا تسَبَّبَ عن عِلمِ ذلك وُجوبُ المبادَرةِ إلى الإذعانِ له؛ لِفَوزِ الدَّارَينِ؛ حَسُنَ جِدًّا قَولُه تعالى -تَسليةً له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لعَظيمِ ما لَه مِنَ الشَّفَقةِ عليهم، وتهديدًا لهم- [806] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/516). :
فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ.
أي: فمَن عَمِلَ بالقُرآنِ واتَّبَعَه، فإنَّما يعودُ نَفْعُ ذلك على نَفْسِه [807] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/214)، ((تفسير ابن كثير)) (7/101)، ((تفسير السعدي)) (ص: 725)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 288، 289). .
وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا كان رُبَّما وقَعَ في وَهمٍ أنَّه يَلحَقُ الدَّاعيَ بعدَ البَيانِ مِن إثمِ الضَّالِّ، وكان السِّياقُ لِتَهديدِ الضَّالِّينَ؛ زاد في التَّأكيدِ، فقال [808] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/516). :
وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا.
أي: ومَن ضَلَّ عن الحَقِّ، فلم يُؤمِنْ بالقُرآنِ ويَتَّبِعْه؛ فإنَّما يعودُ وَبالُ ذلك وضَرَرُه على نَفْسِه، لا على غَيرِه [809] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/214)، ((تفسير ابن كثير)) (7/101)، ((تفسير السعدي)) (ص: 725). .
كما قال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام: 104] .
وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ.
أي: وما أنتَ -يا مُحمَّدُ- بمُوكَّلٍ باهتِداءِ النَّاسِ؛ فتَقهَرَهم على اتِّباعِ الحَقِّ، ولا بمُراقِبٍ لأعمالِهم، ولا حَفيظٍ عليها، ولا مُحاسِبٍ لهم، وإنَّما عليك البَلاغُ [810] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/214)، ((تفسير السمرقندي)) (3/188)، ((تفسير ابن عطية)) (4/533)، ((تفسير ابن كثير)) (7/101)، ((تفسير السعدي)) (ص: 725). .
كما قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [يونس: 108] .

الفوائد التربوية:

1- لله تعالى على العَبدِ عُبوديَّةُ الضَّرَّاءِ، وله عُبوديَّةٌ عليه فيما يَكرَهُ، كما له عُبوديَّةٌ فيما يُحِبُّ، وأكثَرُ الخَلقِ يُعطُونَ العُبوديَّةَ فيما يُحِبُّونَ، والشَّأنُ في إعطاءِ العُبوديَّةِ في المَكارِهِ؛ فبِهِ تَفاوَتَتْ مراتِبُ العِبادِ، وبحَسَبِه كانت مَنازِلُهم عندَ اللهِ تعالى، فمَنْ كان عبدًا لله في الحالتَينِ، قائِمًا بحَقِّه في المكروهِ والمحبوبِ؛ فذلك الَّذي تَناوَلَه قَولُه تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [811] يُنظر: ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 5). .
2- قال الله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ فمَن قام بحُقوقِ اللهِ عليه فإنَّ اللهَ يَتكَفَّلُ له بالقِيامِ بجَميعِ مَصالحِه في الدُّنيا والآخِرةِ؛ فمَن أراد أن يَتولَّى اللهُ حِفظَه ورِعايتَه في أمورِه كُلِّها فلْيُراعِ حُقوقَ اللهِ عليه، ومَن أراد ألَّا يُصيبَه شَيءٌ مِمَّا يَكرَهُ فلا يأتِ شَيئًا مِمَّا يَكرَهُه اللهُ منه. كان بَعضُ السَّلَفِ يَدورُ على المجالِسِ ويَقولُ: (مَن أحَبَّ أن تَدومَ له العافيةُ فلْيَتَّقِ اللهَ عزَّ وجلَّ) [812] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (3/110). .
3- في قَولِه تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ الحَثُّ على تحقيقِ العبوديَّةِ للهِ تعالى؛ لأنَّك إذا حَقَّقْتَ العبوديَّةَ تَحَقَّقَتْ لك الكِفايةُ، فإذا كانتِ الكفايةُ مُرَتَّبةً على وَصفِ العُبوديَّةِ حَصَل للعابدِ مِن هذه الكفايةِ بقَدْرِ عبوديَّتِه، على القاعدةِ «أنَّ الحُكمَ المُعَلَّقَ بوَصفٍ، يَقوَى بقُوَّتِه، ويَضعُفُ بضَعْفِه» [813] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 258). .
4- في قَولِه تعالى: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أنَّه جَرَت العادةُ أنَّ المُبطِلينَ يُخَوِّفونَ المُحِقِّينَ بالتَّخويفاتِ الكَثيرةِ، فحَسَمَ اللهُ مادَّةَ هذه الشُّبهةِ بقَولِه تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [814] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/453). ، فلَمَّا ثَبَت أنَّ اللهَ كافٍ عَبْدَه، كان التَّخويفُ بغيرِ اللهِ عَبَثًا وباطِلًا [815] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/454). .
5- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ أنَّ الإنسانَ لا يَطْلُبُ الهدايةَ إلَّا مِن اللهِ تعالى؛ لأنَّه وحْدَه هو الَّذي يُضِلُّ ويَهدي؛ فتُطْلَبُ الهدايةُ منه؛ لأنَّه ليس المرادُ بهذه الآيةِ التَّيئيسَ مِن هدايةِ الخَلْقِ! ولكنَّ المرادَ الرُّجوعُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ في هدايةِ الخَلْقِ [816] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 260). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ الرَّدُّ على المُعتزِلةِ الَّذين يَقولُونَ: إنَّ الإنسانَ مُستَقِلٌّ بعَمَلِه؛ يَهدي نَفْسَه، ويُضِلُّ نفْسَه، ولا عَلاقةَ لِمَشيئةِ اللهِ تعالى في فِعلِه [817] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 261). !
2- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أنَّ هذه الدَّلائِلَ والبَيِّناتِ لا تَنفَعُ إلَّا إذا خَصَّ اللهُ العَبدَ بالهدايةِ والتَّوفيقِ [818] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/454)، ((تفسير ابن عادل)) (16/517). .
3- قال تعالى: ذِي انْتِقَامٍ ولم يَقُلْ: «مُنتَقِمٌ»، ولم تأتِ «المُنتَقِمُ» في أسماءِ اللهِ تعالى في حديثٍ صحيحٍ، وإنَّما جاءتْ باسمِ الفاعلِ مُقيَّدةً، كقَولِه تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [السجدة: 22] ، فلم يَقُلْ: «إنَّا مُنتَقِمونَ»، فهو سبحانَه يُوصَفُ بالانتقامِ مُقيَّدًا، وقال تعالى: ذِي انْتِقَامٍ أي: صاحِبِ انتقامٍ في مَوضِعِه، فاللهُ تعالى يُوصَفُ بأنَّ الانتِقامَ يَصدُرُ منه، لا أنَّه «مُنتَقِمٌ»؛ فـ «المُنتَقِمُ» ليس مِن أسماءِ اللهِ تعالى؛ لا مَقرونًا بالعَفوِ، ولا مُنفَرِدًا عنه، خِلافًا لِمَا ذَهَبَ إليه بعضُ العلماءِ مِن أنَّه إذا قُرِنَتْ بالعَفوِ فلا بأسَ [819] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 264). .
4- في قَولِه تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ أنَّ هؤلاء المُشرِكينَ مُقِرُّونَ بوُجودِ الإلهِ القادِرِ العالمِ الحَكيمِ الرَّحيمِ [820] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/454). ، وفيه أنَّ الإقرارَ بالرُّبوبيَّةِ وَحْدَها لا يَنفَعُ العبدَ، ولا يُدْخِلُه في الإسلامِ، ودليلُ ذلك: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قاتَلَ المُقرِّينَ بالرُّبوبيَّةِ، واستباحَ دِماءَهم ونِساءَهم وأموالَهم، ولو كان إقرارُهم بالرُّبوبيَّةِ وحْدَها نافعًا لَكانت دماؤُهم مَعصومةً، وأموالُهم مَعصومةً، وأهلوهم مَعصومينَ، وفي هذا ردٌّ على أولئكَ المتكلِّمِينَ الَّذين يَجعَلونَ تَوحيدَ الألوهيَّةِ هو تَوحيدَ الرُّبوبيَّةِ [821] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 271، 273). .
5- في قَولِه تعالى: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ تسليةُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فإنَّ اللهَ تعالى أمَرَه بذلك تَبشيرًا له، وتَسليةً بأنَّه ستَكونُ العاقِبةُ له [822] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 285). .
6- في قَولِه تعالى: وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ أنَّ عذابَ أهلِ النَّارِ مُقيمٌ لا يَنفَكُّ عنهم، ويَتفرَّعُ على ذلك: أنَّ فيها ما دلَّ عليه القُرآنُ والسُّنَّةُ مِن أنَّ أهلَ النَّارِ مُخلَّدون فيها أبدًا، وأنَّها لا تَفنَى، وأنَّ القَولَ بفَنائِها قَولٌ ضعيفٌ، بل باطِلٌ؛ لِمُخالَفتِه للكِتابِ والسُّنَّةِ [823] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 286). .
7- في قَولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ بيانُ أنَّ القُرآنَ كلامُ اللهِ تعالى؛ لأنَّ اللهَ تعالى أنزَلَه وهو كلامٌ، ليس ذاتًا مُعَيَّنةً كالحديدِ الَّذي قال اللهُ تعالى فيه: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد: 25] ، وكالمواشي الَّتي قال اللهُ تعالى فيها: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر: 6] ، فالقرآنُ كلامٌ، فإذا كان كلامًا فإنَّه لا يكونُ مَخلوقًا؛ لأنَّ الكلامَ صِفةُ المتكلِّمِ، والمتكلِّمُ به -وهو اللهُ- هو الأوَّلُ والآخِرُ، والظَّاهرُ والباطِنُ [824] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 293). .
8- في قَولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إثباتُ عُلُوِّ اللهِ تعالى؛ لأنَّه قال: أَنْزَلْنَا، والإنزالُ لا يكونُ إلَّا مِن عُلوٍّ [825] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 293). .
9- قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ قولُه تعالى: لِلنَّاسِ فيه أنَّ الله سبحانَه وتعالى أنزَل القرآنَ الكريمَ لمصلحةِ الخَلْقِ؛ وأنَّه لم يَنزِلْ ضِدَّ مَصالحِهم [826] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 294). .
10- في قَولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ عُمومُ رسالةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لقولِه تعالى: لِلنَّاسِ، ولم يَقُلْ: «لقومِك» مثلًا! بل للنَّاسِ عمومًا [827] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 295). .
11- في قَولِه تعالى: فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا الرَّدُّ على الجَبريَّةِ الَّذين يقولونَ: إنَّ الإنسانَ مُجبَرٌ على عَمَلِه! ووَجْهُ ذلك: أنَّه أضاف الاهتِداءَ والضَّلالَ إلى العَبدِ؛ فدلَّ هذا على أنَّه فِعلُه الَّذي اختارَ [828] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 295). .
12- في قَولِه تعالى: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أنَّ الدَّاعيَ المُبَلِّغَ لِشَريعةِ اللهِ تعالى إذا بَلَّغَ على الوَجهِ الَّذي أُمِرَ به فقد بَرِئَتْ ذِمَّتُه، ولا يَلزَمُه شَيءٌ وراءَ ذلك، ووجْهُ الدَّلالةِ منها: أنَّه إذا كان إمامُ الدَّاعينَ المُبَلِّغينَ مُحمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم ليس وَكيلًا على النَّاسِ، ولا حفيظًا عليهم؛ فمَنْ دونَه مِن بابِ أَولى [829] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 296). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ
- ما أحسَنَ هذا النَّظْمَ! وما ألْطَفَ مَوقِعَ مَعْنى الكِفايةِ، وتَخْصيصَ لَفظِ (العَبْدِ)، ووَصْفَ الأصْنامِ بالَّذين مِن دُونِه في هذا المقامِ! وما أدَقَّ هذا التَّعْريضَ بحالِ عَبْدٍ يُثبِتُ مَعْبوداتٍ شَتَّى، ويَدَّعي كُلُّ واحدٍ عُبودِيَّتَه، ويَبْقَى هو مُتحيِّرًا ضائِعًا، وحالِ عَبدٍ لم يُثبِتْ إلَّا مَعْبودًا واحِدًا، فهو قائِمٌ بما كَلَّفَه، عارِفٌ بما يَرْضاهُ [830] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/391). !
- قولُه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ الهَمْزةُ في أَلَيْسَ للاستِفْهامِ التَّقْريريِّ؛ لأنَّ هَمْزةَ الإنكارِ إذا دَخَلَتْ على النَّفْيِ أثْبَتَتْه بطَريقِ المُبالَغةِ؛ فالاستِفْهامُ إنكارٌ عليهم ظَنَّهم أنْ لا حامِيَ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن ضُرِّ الأصْنامِ، فأُفيدَ مَعْنى إثباتِ الكفايةِ وتَقْريرِها [831] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/129)، ((تفسير البيضاوي)) (5/43)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/391)، ((تفسير أبي حيان)) (9/205)، ((تفسير أبي السعود)) (7/255)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/13)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/422). .
- وأيضًا قولُه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ تَمْهيدٌ لِقَولِه: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ؛ قُدِّمَ عليه لِتَعْجيلِ مَساءةِ المُشرِكينَ بذلك، ويَستَتبِعُ ذلك تعجيلَ مَسَرَّةِ الرُّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّ اللهَ ضامِنٌ له الوِقايةَ. وأصْلُ النَّظْمِ: (ويُخوِّفونَكَ بالَّذين مِن دُونِ اللهِ واللهُ كافِيكَ)؛ فغُيِّرَ مَجْرى النَّظمِ لهذا الغَرَضِ. ولكَ أنْ تَجعَلَ نَظْمَ الكَلامِ على تَرْتيبِه في اللَّفظِ؛ فتَجعَلَ جُملةَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ استِئْنافًا، وتَصيرُ جُملةُ وَيُخَوِّفُونَكَ حالًا [832] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/12، 13). .
- وفيه تَسْليةٌ لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عمَّا قالتْ له قُريشٌ: إنَّا نَخافُ أنْ تَخبِلَكَ آلهتُنا، ويُصيبَكَ مَضَرَّتُها لِعَيبِكَ إيَّاها [833] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/255). .
- وحُذِفَ المَفْعولُ الثَّاني لـ (كَافٍ)؛ لِظُهورِ أنَّ المَقْصودَ كافِيكَ أذاهُم، فأمَّا الأصْنامُ فلا تَستطيعُ أذًى حتَّى يُكْفاهُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [834] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/13). .
- ووَقَعَ التَّعبيرُ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالاسْمِ الظَّاهِرِ، وهو عَبْدَهُ دُونَ ضَميرِ الخِطابِ؛ لأنَّ المَقْصودَ تَوجيهُ الكَلامِ إلى المُشرِكينَ. وفي استِحْضارِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بوَصفِ العُبوديَّةِ، وإضافَتِه إلى ضَميرِ الجَلالةِ؛ مَعْنًى عَظيمٌ مِن تَشْريفِه بهذه الإضافةِ، وتَحْقيقِ أنَّه غَيرُ مُسْلِمِه إلى أعْدائِه [835] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/13). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- والواوُ في قولِه: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يُمكِنُ أنْ تكونَ للحالِ؛ فتكونَ الجُملةُ حاليَّةً، والمَعْنى: (أليس اللهُ كافِيَكَ حالَ تَخْويفِهم إيَّاكَ؟)، هذا إذا أرادَ بالعَبدِ نَبيَّهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. ويجوزُ جعْلُها استِئْنافيَّةً؛ فتكونُ الجُملةُ مُستأنَفةً مَسوقةً لِتَفْنيدِ ما يَعمِدونَ إليه مِن تَخْويفٍ بالأصْنامِ [836] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/422). .
- والخِطابُ في قَولِه: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو الْتِفاتٌ مِن ضَميرِ الغَيبةِ العائِدِ على عَبْدَهُ، ونُكتةُ هذا الالتِفاتِ: هو تَمْحيضُ قَصْدِ النَّبيِّ بمَضْمونِ هذه الجُملةِ، بخِلافِ جُملةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [837] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/13). .
- وأيضًا في قَولِه: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ تَهَكُّمٌ بهم؛ لأنَّهم خَوَّفوه مِن أصْنامِهم، وهي لا تَقدِرُ على نَفْعٍ ولا ضُرٍّ، ونَظيرُ هذا التَّخْويفِ قَولُ قَومِ هُودٍ له: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ [838] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/205). [هود: 54] .
- وعبَّر عنهم وهُم حِجارةٌ بمَوْصولِ العُقلاءِ (الَّذينَ)؛ مُجاراةً للمُشرِكينَ؛ لِكَثْرةِ استِعْمالِ التَّعْبيرِ عنهم في الكَلامِ بصِيَغِ العُقَلاءِ؛ لأنَّهم يَعتَقِدونها مُدْرِكةً [839] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/140) و(21/147) و(24/13). .
- قولُه: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ اعتِراضٌ بيْنَ جُملةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ الآيةَ، وجُملةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ؛ قُصِدَ مِن هذا الاعتِراضِ أنَّ ضَلالَهم داءٌ عَياءٌ -أي: صَعبٌ لا دواءَ له، كأنَّه أعيا الأطبَّاءَ-؛ لأنَّه ضَلالٌ مُكوَّنٌ في نُفوسِهم وجِبِلَّتِهم قد ثَبَّتَتْه الأيَّامُ، ورَسَّخَه تعاقُبُ الأجيالُ، فرانَ بغِشاوَتِه على ألْبابِهم [840] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/14). .
- وفي قَولِه: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ أُريدَ مِن نَفيِ الهادِي نَفيُ حُصولِ الاهتِداءِ؛ فكُنِّيَ عن عَدَمِ حُصولِ الهُدَى بانتِفاءِ الهادي؛ لأنَّ عَدَمَ الاهتِداءِ يَجعَلُ هادِيَهم كالمَنْفيِّ، ونَظيرُ ذلك قَولُه: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ [الأعراف: 186] ، والآيتانِ مُتَساوِيَتانِ في إفادةِ نَفْيِ جِنسِ الهادي، إلَّا أنَّ إفادةَ ذلك هُنا بزِيادةِ (مِنْ) تَنْصيصًا على نَفيِ الجِنْسِ، وفي آيةِ (الأعْرافِ) ببِناءِ هَادِيَ على الفَتْحِ بعدَ (لا) النَّافِيَةِ للجِنْسِ؛ فإنَّ بِناءَ اسْمِها على الفَتحِ مُشعِرٌ بأنَّ المُرادَ نَفيُ الجِنْسِ نصًّا، والاختِلافُ بيْنَ الأُسلُوبَينِ تَفنُّنٌ في الكَلامِ، وهو مِن مَقاصِدِ البُلَغاءِ.
وتَقْديمُ لَهُ هنا على هَادِيَ؛ للاهتِمامِ بضَميرِهم في مَقامِ نَفْيِ الهادي لهم؛ لأنَّ ضَلالَهم المَحْكيَّ هنا بالِغٌ في الشَّناعةِ؛ إذْ بَلَغ بهم حَدَّ الطَّمَعِ في تَخْويفِ النَّبيِّ بأصْنامِهم في حالِ ظُهورِ عَدَمِ اعتِدادِه بأصْنامِهم لِكُلِّ مُتأمِّلٍ مِن حالِ دَعْوَتِه، وإذْ بَلَغ بهم اعتِقادَ مَقدِرةِ أصْنامِهم، مع الغَفْلةِ عن قُدْرةِ الرَّبِّ الحَقِّ، بخِلافِ آيةِ (الأعْرافِ)؛ فإنَّ فيها ذِكْرَ إعْراضِهم عن النَّظَرِ في مَلَكوتِ السَّمَواتِ والأرضِ، وهو ضَلالٌ دُونَ ضَلالِ التَّخْويفِ مِن بأْسِ أصْنامِهِم [841] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/14). .
- والَّذي اقتضَى جُملةَ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ هنا: أنَّ الكَلامَ اقْتَضى فَريقَينِ: فَريقًا مُتمسِّكًا باللهِ القَادِرِ على النَّفْعِ والضُّرِّ، وهو النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمُؤمِنونَ، وفريقًا آخَرَ مُسْتَمسِكًا بالأصْنامِ العاجِزةِ عن الأمْرَينِ؛ فلمَّا بُيِّنَ أنَّ ضَلالَ الفَريقِ الثَّاني ضَلالٌ مَكينٌ، ببَيانِ أنَّ هُدى الفَريقِ الآخَرِ راسِخٌ مَتينٌ؛ فلا مَطمَعَ للفَريقِ الضَّالِّ بأنْ يَجُرُّوا المُهتَدِينَ إلى ضَلالِهِم [842] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/15). .
- وقولُه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ تَعْليلٌ لإنكارِ انتِفاءِ كِفايةِ اللهِ عن ذلك كإنْكارِ أنَّ اللهَ عَزيزٌ ذو انتِقامٍ؛ فلذلك فُصِلَتِ الجُملةُ عن الَّتي قَبْلَها [843] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/15). .
- والاستِفْهامُ تَقْريريٌّ؛ لأنَّ العِلمَ بعِزَّةِ اللهِ مُتقرِّرٌ في النُّفوسِ؛ لاعتِرافِ الكُلِّ بإِلَهِيَّتِه، والإلهيَّةُ تَقتَضي العِزَّةَ، ولأنَّ العِلمَ بأنَّه مُنتقِمٌ مُتقرِّرٌ مِن مُشاهَدةِ آثارِ أخْذِه لِبَعضِ الأُمَمِ مِثلِ عادٍ وثَمودَ، فإذا كانوا يُقِرُّونَ للهِ بالوَصفَينِ المَذكُورَينِ، فما عليهم إلَّا أنْ يَعلَموا أنَّه كافٍ عَبْدَه بعِزَّتِه، فلا يَقدِرُ أحَدٌ على إصابةِ عَبدِه بسُوءٍ، وبانتِقامِه مِن الَّذين يَبتَغونَ لِعَبدِه الأذَى [844] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/15)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/422). .
- وفيه وَعيدٌ لِقُريشٍ، ووَعْدٌ للمُؤمِنينَ بأنَّه يَنتقِمُ لهم منهم، ويَنصُرُهم عليهم [845] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/129)، ((تفسير أبي حيان)) (9/205). .
- وإظهارُ الاسْمِ الجَليلِ اللَّهُ في مَوقِعِ الإضْمارِ؛ لِتَحْقيقِ مَضْمونِ الكَلامِ، وتَربيةِ المَهابةِ [846] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/255). .
2- قولُه تعالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ
- قولُه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُص اعتِراضٌ بيْنَ جُملةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ [الزمر: 37] وجُملةِ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ فالواوُ اعتِراضيَّةٌ، ويجوزُ أنْ يكونَ مَعْطوفًا على جُملةِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] ، وهو تَمْهيدٌ لِمَا يأتي بَعْدَه مِن قَولِه: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ لأنَّه قُصِدَ به التَّوطِئةُ إليه بما لا نِزاعَ فيه؛ لأنَّهم يَعتَرِفونَ بأنَّ اللهَ هو المُتصرِّفُ في عَظائمِ الأُمورِ، أي: خلَقَهُما وما تَحْويانِه [847] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/16). .
- وجاءَتْ جُملةُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ على أُسلوبِ حِكايةِ المُقاوَلةِ والمُجاوَبةِ لِكَلامِهِم المَحْكيِّ بجُملةِ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ؛ ولذلك لم تُعطَفِ الثَّانيةُ بالواوِ ولا بالفاءِ، والمَعْنى: لَيَقولُنَّ اللهُ، فقُلْ تَبْكيتًا لهم: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... إلخ [848] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/256)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/16). .
- والفاءُ مِن أَفَرَأَيْتُمْ لِتَفْريعِ الاستِفْهامِ الإنْكاريِّ على جَوابِهم، تَفْريعًا يُفيدُ مُحاجَّتَهم على لازِمِ اعتِرافِهم بأنَّ اللهَ هو خالِقُ السَّمَواتِ والأرضِ، وهذا تَفْريعُ الإلْزامِ على الإقْرارِ، والنَّتيجةِ على الدَّليلِ؛ فإنَّهم لَمَّا أقَرُّوا بأنَّه خالِقُ السَّمَواتِ والأرضِ يَلزَمُهُم أنْ يُقِرُّوا بأنَّه المُتصرِّفُ فيما تَحْويهِ السَّمَواتُ والأرضُ [849] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/256)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/16). .
- وفي قَولِه تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا أنَّه لَمَّا كان السَّائلُ النَّصوحُ يَنبغي له أن يُنَبِّهَ الخَصْمَ على محلِّ النُّكتةِ؛ لِيَنتبِهَ مِن غفلتِه فيَرجِعَ عن غلطتِه؛ عبَّر بأداةِ ما لا يَعقِلُ (ما) عن مَعبوداتِهم بعدَ التَّعبيرِ عنها سابقًا بأداةِ الذُّكورِ العُقلاءِ (الَّذِينَ) [الزمر: 36] ؛ بيانًا لِغَلَطِهم [850] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/512). .
- وفي قولِه: هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ جِيءَ بحَرفِ (هل) في جَوابِ الشَّرطِ -وهي للاستِفْهامِ الإنْكاريِّ-؛ تَأْكيدًا لِمَا أفادَتْه هَمْزةُ الاستِفْهامِ، مع ما في (هَلْ) من إفادةِ التَّحْقيقِ [851] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/17). .
- وضَميرُ (هُنَّ) في قولِه: هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ عائِدٌ إلى (مَا) المَوْصولةِ، وكذلك الضَّمائِرُ المُؤنَّثةُ الوارِدةُ بَعْدَه ظاهِرةٌ ومُستَتِرةٌ؛ إمَّا لأنَّ ما صَدَقَ [852] الماصَدَق -عندَ المَناطِقةِ-: الأفرادُ الَّتي يتحقَّقُ فيها معنى الكُلِّيِّ، ويُقابِلُه: المفهومُ، وهو: مجموعُ الصِّفاتِ والخصائصِ الموضحةِ لمعنًى كُلِّيٍّ. يُنظر: ((المعجم الوسيط)) (1/511) و(2/704). ويُنظر أيضًا: ((ضوابط المعرفة)) لحبنكة (ص: 45، 46). (مَا) المَوْصولةِ هُنا أحْجارٌ غَيرُ عاقِلةٍ، وجَمْعُ غَيرِ العُقَلاءِ يَجْري على اعتِبارِ التَّأنيثِ، ولأنَّ ذلك يُصيِّرُ الكَلامَ مِن قَبيلِ الكَلامِ المُوجَّهِ بأنَّ آلِهتَهم كالإناثِ لا تَقدِرُ على النَّصْرِ؛ ففيه تَضْعيفٌ وتَعْجيزٌ عمَّا طالَبَهم به مِن كَشْفِ الضُّرِّ وإمْسِاكِ الرَّحْمةِ؛ لأنَّ الأُنوثةَ مِن بابِ اللِّينِ والرَّخاوَةِ، كما أنَّ الذُّكورةَ مِن بابِ الشِّدَّةِ والصَّلابةِ، كأنَّه قال: الإناثُ اللَّاتي هُنَّ اللَّاتُ والعُزَّى ومَناةُ أضعَفُ ممَّا تَدَّعُونَ لَهُنَّ وأعجَزُ، وفيه تَهكُّمٌ أيضًا [853] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/130)، ((تفسير البيضاوي)) (5/43)، ((تفسير أبي حيان)) (9/206)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/17). .
- والجَوابُ في هذا الاستِخْبارِ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ مَحْذوفٌ؛ وإنَّما تُرِكَ الجوابُ لاستِغناءِ السَّامعِ بمَعرفةِ ذلك، ودَلالةِ ما ظهَرَ مِن الكلامِ عليه، والتَّقْديرُ: فإنَّهم سَيَقولونَ: لا تَقدِرُ على شَيءٍ مِن ذلك [854] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/212)، ((تفسير أبي حيان)) (9/206). .
- وعُدِلَ عن تَعديةِ فِعْلِ الإرادةِ لِلضُّرِّ والرَّحمةِ في قولِه: إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ إلى تَعديَتِه لِضَميرِ المُتكلِّمِ، مع أنَّ مُتعلَّقَ الإراداتِ المَعاني دُونَ الذَّواتِ؛ فكان مُقتَضى الظَّاهِرِ أنْ يُقالَ: (إنْ أرادَ ضُرِّي أو أرادَ رَحْمَتي)؛ وذلك لِقَصْدِ الاهتِمامِ بالمُرادِ به؛ لإيصالِ المُرادِ إليه حتَّى كأنَّ ذاتَه هي المُرادُ لِمَنْ يُريدُ إيصالَ شَيءٍ إليه [855] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/17، 18). .
- وأيضًا إنَّما فَرَض إرادةَ الضُّرِّ وإرادةَ الرَّحْمةِ في نَفْسِه دُونَ أنْ يقولَ: (إنْ أرادَكُم)؛ لأنَّ الكَلامَ مُوجَّهٌ إلى ما خَوَّفوه مِن ضُرِّ أصْنامِهم إيَّاه؛ فأُمِر بأنْ يُقرِّرَهم أوَّلًا بأنَّ خالِقَ العالَمِ هو اللهُ وَحْدَه، ثُمَّ يقولَ لهم بعدَ التَّقْريرِ: فإذا أرادني خالِقُ العالَمِ الَّذي أقرَرْتُم به بضُرٍّ مِن مَرَضٍ أو فَقرٍ أو غَيرِ ذلك من النَّوازِلِ، أو بِرَحْمةٍ مِن صِحَّةٍ أو غِنًى أو نَحوِهما، هل هؤلاءِ اللَّاتي خَوَّفْتُموني إيَّاهُنَّ كاشِفاتٌ عَنِّي ضُرَّه أو مُمْسِكاتٌ رَحْمَتَه؟ وأيضًا لِمَا فيه مِن الإيذانِ بإمْحاضِ النَّصيحةِ [856] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/129)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/392)، ((تفسير أبي حيان)) (9/206)، ((تفسير أبي السعود)) (7/256)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/18). .
- قولُه: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ لَمَّا أَلْقَمَهمُ الحَجَرَ وقَطَعَهم حتَّى لا يُجيبوا بكلمةٍ، قال: حَسْبِيَ اللهُ كافِيًا لِمَعَرَّةِ أوْثانِكُم، عليه يَتوكَّلُ المُتوكِّلُون. وفيه تَهكُّمٌ؛ لأنَّه لا مَعَرَّةَ للأوْثانِ [857] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/129، 130)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/392). .
- وفي قولِه: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ أُعيدَ الأمْرُ بالقَولِ، ولم يَنتظِمْ حَسْبِيَ اللَّهُ في جُملةِ الأمْرِ الأوَّلِ؛ لأنَّ هذا المَأْمورَ بأنْ يقولَه ليس المَقْصودُ تَوْجيهَه إلى المُشرِكينَ؛ فإنَّ فيما سَبَقه مَقنَعًا مِن قِلَّةِ الاكتِراثِ بأصْنامِهم، وإنَّما المَقْصودُ أنْ يكونَ هذا القَولُ شِعارَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في جَميعِ شُؤونِه، وفيه حَظٌّ للمُؤمِنينَ معه حاصِلٌ مِن قَولِه: عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ؛ فإعادةُ فِعلِ قُلْ للتَّنبيهِ على استِقْلالِ هذا الغَرَضِ عن الغَرَضِ الَّذي قَبْلَه [858] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/43)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/18). .
- والحَسْبُ: الكافي، وحُذِفَ المُتعلِّقُ في هذه الجُملةِ لِعُمومِ المُتعلِّقاتِ، أي: حَسْبِيَ اللهُ مِن كُلِّ شَيءٍ، وفي كُلِّ حالٍ، والمُرادُ بقَولِه اعتِقادُه، ثمَّ تَذَكُّرُه، ثمَّ الإعلانُ به؛ لِتَعْليمِ المُسلِمينَ، وإغاظةِ المُشرِكينَ [859] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/18). .
- وجُملةُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ يجوزُ أنْ تَكونَ ممَّا أُمِرَ بأنْ يَقولَه تَذكُّرًا مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتَعْليمًا للمُسلِمينَ، فتكونَ الجُملةُ تَذْييلًا للَّتي قَبْلَها؛ لأنَّها أعَمُّ منها باعتِبارِ القائِلينَ؛ لأنَّ (حَسْبيَ اللهُ) يَؤولُ إلى مَعْنى: تَوكَّلتُ على اللهِ، أي: حَسْبِي أنا، وحَسْبُ كُلِّ مُتوكِّلٍ، أي: كُلِّ مُؤمِنٍ يَعرِفُ اللهَ حقَّ مَعرِفَتِه، ويَعتَمِدُ على كِفايَتِه دُونَ غَيرِه؛ فتَعْريفُ الْمُتَوَكِّلُونَ للعُمومِ العُرفيِّ [860] العُموم العُرْفي: هو نقْلُ العُرفِ للَّفظٍ مِن معناه اللُّغَويِّ، واستِعمالُه في معنًى أعَمَّ منه وتكرَّر استِعمالُه فيه، حتَّى شاع فأصبحَ حقيقةً عُرفيَّةً، ومِن صِيَغِ الدَّلالةِ على العمومِ عُرفًا دونَ اللغة: صيغةُ (أكل) في قولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10] ، وقولِه تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 188] ؛ فالمعنى اللُّغَويُّ لِلَفْظةِ (أكل) واضحٌ، لكنَّه غيرُ مرادٍ للشَّارعِ هنا، وإنَّما أراد ما هو أعَمُّ منه عُرْفًا، وهو أنَّ كلَّ إتلافٍ لمالِ الغيرِ وحقِّه، وكلَّ تَجاوُزٍ عليه بدونِ مُسَوِّغٍ شرعيٍّ، فهو مُحرَّمٌ كحُرمةِ الأكْلِ بالمعنى اللُّغويِّ دونَ إذنِ صاحبِه، أو بدونِ حقٍّ. يُنظر: ((الإشارة في معرفة الأصول)) لأبي الوليد الباجي (ص: 5)، ((المحصول في علم الأصول)) للفخر الرازي (1/516)، ((مفتاح الوصول)) لأبي عبد الله التلمساني (ص: ???). ، أي: المُتوكِّلونَ الحَقيقيُّونَ؛ إذْ لا عِبْرَةَ بغَيرِهم. ويجوزُ أنْ تَكونَ هذه الجُملةُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ مِن كَلامِ اللهِ تعالى خاطَبَ به رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولم يَأمُرْه بأنْ يَقولَه؛ فتَكونَ الجُملةُ تَعْليلًا للأمْرِ بقَولِ: حَسْبِيَ اللهُ، أي: اجْعَلِ اللهَ حَسْبَكَ؛ لأنَّ أهْلَ التَّوكُّلِ يَتوكَّلونَ على اللهِ دُونَ غَيرِه، وهُمُ الرُّسُلُ والصَّالِحونَ، فكُنْ مِثلَهم في ذلك [861] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/19). .
- وتَقْديمُ المَجْرورِ عَلَيْهِ على يَتَوَكَّلُ؛ لإفادةِ الاختِصاصِ؛ لأنَّ أهْلَ التَّوكُّلِ الحَقيقيِّينَ لا يَتوكَّلون إلَّا على اللهِ تعالى، وذلك تَعْريضٌ بالمُشرِكينَ؛ إذ اعْتَمَدوا في أُمورِهم على أصْنامِهم [862] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/19). .
3- قولُه تعالَى: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ
- لم تُعطَفْ جُملةُ قُلْ على جُملةِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ [الزمر: 38] ؛ لِدَفعِ تَوهُّمِ أنْ يَكونَ أمْرُه قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لِقَصدِ إبلاغِه إلى المُشرِكينَ، ولأنَّها انتِقالٌ مِن غَرَضِ الدَّعوةِ والمُحاجَّةِ إلى غَرَضِ التَّهْديدِ، وابْتَدَأَ المَقولُ بالنِّداءِ بوَصفِ القَومِ؛ لِمَا يُشعِرُ به مِن التَّرقيقِ لِحالِهم، والأَسَفِ على ضَلالِهم؛ لأنَّ كَونَهم قَومَه يَقتَضي ألَّا يَدَّخِرَهم نُصحًا [863] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/19، 20). .
- قولُه: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ كان مُقتضَى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: (فإنِّي عاملٌ على مَكانتي)، وإنَّما حُذِفَ؛ للاختصارِ، ولِما فيه مِن زِيادةِ الوعيدِ، والإيذانِ بأنَّ حالَه لا تقِفُ، وتَزدادُ كلَّ يومٍ قوَّةً وشِدَّةً؛ لأنَّ اللهَ ناصِرُه ومُعِينُه، ومُظهِرُه على الدِّين كلِّه، والدَّليلُ على أنَّ في تَرْكِ ذِكرِ (مَكانتي) زيادةً في الوعيدِ والإنذارِ، وأنَّ حالَه لم تزَلْ في التَّزايُدِ إلى الأبدِ قولُه: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ، وكيف أنَّه تَوعَّدَهم بكَونِه مَنْصورًا عليهم، غالِبًا عليهم في الدُّنيا والآخِرةِ؛ لأنَّهم إذا أتاهُمُ الخِزيُ والعَذابُ فذاك عِزُّه وغَلَبَتُه، مِن حيثُ إنَّ الغَلَبةَ تَتِمُّ له بعِزِّ عَزيزٍ مِن أوْليائِه، أو بِذُلِّ ذَليلٍ مِن أعدائِه، وكان مِن حَقِّ الظَّاهِرِ أنْ يقولَ: (فسوفَ تَعْلَمونَ مَكانَتي وأنِّي غالِبٌ عليكم في الدُّنيا والآخرةِ)؛ فوُضِعَ مَوضِعَ (عَذابِ الدُّنيا) قَولُه: مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ أى: عذابٌ مُخزٍ له، وهو يومُ بدرٍ، ووُضِعَ موضعَ (عَذابِ الآخِرَةِ) قَولُه: وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ، أي: يَنزِلُ عليه أو يحِلُّ عليه -حُلولَ الدَّينِ الَّذي لا انفكاكَ عنه- عذابٌ دائمٌ، وهو عذابُ النَّارِ؛ فحُذِفَ مُتعلِّقُ إِنِّي عَامِلٌ؛ لِيَعُمَّ كُلَّ مُتعلِّقٍ يَصلُحُ أنْ يَتعلَّقَ بعامِلٍ مع الاختِصارِ؛ فإنَّ مُقابَلَتَه بقَولِه: اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ يدُلُّ على أنَّه أرادَ مِن إِنِّي عَامِلٌ أنَّه ثابِتٌ على عَمَلِه في نُصحِهم ودَعْوَتِهم إلى ما يُنجيهم، وأنَّ حَذْفَ ذلك مُشعِرٌ بأنَّه لا يَقتصِرُ على مِقْدارِ مَكانَتِه وحالَتِه، بل حالُه تَزْدادُ كُلَّ حينٍ قُوَّةً وشِدَّةً، لا يَعْتريها تَقْصيرٌ، ولا يُثبِّطُها إعْراضُهم، وهذا مِن مُستَتْبَعاتِ الحَذفِ [864] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/130)، ((تفسير البيضاوي)) (3/134) و(5/43)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/393، 394)، ((تفسير أبي السعود)) (7/256)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/20). .
- وأُسنِدَ فِعلُ يَأْتِيهِ إلى العَذابِ المُخْزي؛ لأنَّ الإتيانَ مُشعِرٌ بأنَّه يُفاجِئُهم كما يَأْتي الطَّارِقُ، وكذلك إسنادُ فِعْلِ (يَحِلُّ) إلى العَذابِ المُقيمِ؛ لأنَّ الحُلولَ مُشعِرٌ بالمُلازَمةِ والإقامةِ معهم، وهو عذابُ الخُلودِ؛ ولذلك يُسمَّى مَنزِلُ القَومِ (حِلَّةً)، ويُقالُ للقَومِ القاطِنينَ غَيرِ المُسافِرينَ: هُمْ حِلالٌ، فكان الفِعلُ مُناسِبًا لِوَصْفِه بالمُقيمِ [865] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/21). .
- وتَنْوينُ عَذَابٌ في المَوضِعَينِ؛ للتَّعْظيمِ المُرادِ به التَّهْويلُ [866] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/21). .
- وتَعدِيةُ فِعْلِ (يَحِلُّ) بحَرفِ (على)؛ للدَّلالةِ على تَمكُّنِه [867] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/21). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال تَعالى هنا: مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ؛ لِيَكونَ التَّهْديدُ بعَذابِ خِزيٍ في الدُّنيا، وعَذابٍ مُقيمٍ في الآخِرةِ؛ فأمَّا قَولُه: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ [الأنعام: 135] ، فلم يُذكَرْ فيها العَذابُ؛ لأنَّها جاءَتْ بعدَ تَهْديدِهم بقَولِه: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [868] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/20). [الأنعام: 134] .
4- قولُه تعالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ
- قيل: إنَّ قولَه: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ... تَعْليلٌ للأمْرِ بأنْ يقولَ لهم: اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ، المُفيدِ مُوادَعَتَهم، وتَهْوينَ تَصْميمِ كُفْرِهم عليه، وتَثْبيتَه على دَعْوتِه، والمَعْنى: لأنَّا نَزَّلْنا عليك الكِتابَ بالحَقِّ لِفائِدةِ النَّاسِ [869] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/21). .
- واللَّامُ في لِلنَّاسِ للعِلَّةِ، أي: لأَجْلِ النَّاسِ. وفي الكَلامِ مُضافٌ مَفْهومٌ ممَّا تُؤذِنُ به اللَّامُ مِن مَعْنى الفائِدةِ والنَّفعِ، أي: لِنَفعِ النَّاسِ، أو ممَّا يُؤذِنُ به التَّفْريعُ في قَولِه: فَمَنِ اهْتَدَى ... إلخ [870] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/21). .
- قولُه: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ عَطفٌ على جُملةِ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ، أي: لَسْتَ مأمورًا بإرغامِهم على الاهتِداءِ، فصِيغَ الخَبرُ في جُملةٍ اسميَّةٍ؛ للدَّلالةِ على ثَباتِ حُكمِ النَّفيِ [871] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/22). .
- وفي قولِه: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ خُولِفَ بيْنَه وبيْنَ قَولِه في صَدرِ السُّورةِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [الزمر: 2] ؛ لأنَّ تلك في غَرَضِ التَّنويهِ بشَأنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فناسَبَ أنْ يكونَ إنْزالُ الكِتابِ إليه، وأمَّا هنا فالمعنى: أنَّ مَن ضلَّ فلمْ يَهتَدِ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فضَلالُه على نفْسِه، وما عليه مِن ضَلالِهم تَبِعةٌ [872] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/21). .
- وأيضًا تقدَّمَ نَظيرُ هذه الآيةِ: فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا في آخِرِ سُورةِ (يُونس): قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [يونس: 108] ، وفي آخِرِ سُورةِ (النَّمْلِ) في قَولِه: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [النمل: 91، 92]، ولكِنْ جِيءَ في تَينِكَ الآيتَينِ بصِيغةِ قَصرِ الاهتِداءِ على نَفْسِ المُهْتدي فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وتُرِك ذلك في هذه السُّورةِ، حيث قال: فَلِنَفْسِهِ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ تَينِكَ الآيتَينِ وارِدَتانِ بالأمْرِ بمُخاطَبةِ المُشرِكينَ؛ فكان المَقامُ فيهما مُناسِبًا لإفادةِ أنَّ فائِدةَ اهتِدائِهم لا تَعودُ إلَّا لأنفُسِهم، أي: ليستْ لي مَنفَعةٌ مِن اهتِدائِهم، خلافًا لهذه الآيةِ؛ فإنَّها خِطابٌ مُوجَّهٌ مِن اللهِ تعالى إلى رَسولِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليس فيها حالُ مَن يُنزَّلُ مَنزِلةَ المُدِلِّ باهْتِدائِه. أمَّا قَولُه: وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا فصِيغةُ القَصرِ فيه لِتَنْزيلِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أسَفِه على ضَلالِهم المُفْضِي بهم إلى العَذابِ، مَنزِلةَ مَن يَعودُ عليه مِن ضَلالِهم ضُرٌّ؛ فخُوطِبَ بصِيغةِ القَصرِ، وهو قَصرُ قَلبٍ [873] القصرُ أو الحَصرُ في اصطِلاحِ البلاغيِّينَ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مثل: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثل: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على موصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). على خِلافِ مُقتَضَى الظَّاهِرِ؛ ولذلك اتَّحَدَتِ الآياتُ الثَّلاثُ في الاشتِمالِ على القَصرِ بالنِّسْبةِ لجانِبِ ضَلالِهم؛ فإنَّ قَولَه في سُورةِ (النَّمْلِ): فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ [النمل: 92] في مَعْنى قولِه هنا: فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، أي: ليس ضَلالُكُم علَيَّ؛ فإنَّما أنا مِن المُنذِرينَ، وهذه نُكَتٌ مِن دَقائِقِ إعْجازِ القُرآنِ [874] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/22). .
- وقيل: إنَّما قال هنا: فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ بحذفِ (فإنَّما يَهْتدي) -المذكورِ في (يُونس) و(الإسراء)-؛ اكتِفاءً بما ذكَرَه بقولِه قبْلُ: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [875] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 496). .