موسوعة التفسير

سُورةُ الطَّلاقِ
الآيتان (6-7)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات:

وُجْدِكُمْ: أي: سَعَتِكم ومَقدِرَتِكم، والوُجْدُ: المَقدِرةُ والسَّعَةُ .
وَلَا تُضَارُّوهُنَّ: أي: ولا تُؤذُوهنَّ، وأصلُ (ضرر) هنا: يدُلُّ على خِلافِ النَّفعِ .
وَأْتَمِرُوا: أي: لِيَأمُرْ كُلُّ واحِدٍ صاحِبَه بخَيرٍ، أو: تَشاوَرُوا، والائتِمارُ: التَّشاوُرُ والتَّداوُلُ في النَّظَرِ، وأصلُه مُطاوِعُ: أَمَرَه؛ لأنَّ المُتشاوِرَينِ يأمُرُ أحَدُهما الآخَرَ، فيَأْتَمِرُ الآخَرُ بما أمَرَه .
تَعَاسَرْتُمْ: أي: اشتَدَّ الخِلافُ بَيْنَكم، ولم تَرجِعوا إلى وِفاقٍ، والتَّعاسُرُ: صُدورُ العُسرِ مِن الجانِبَينِ، وهو تَفاعُلٌ، مِن قَولِهم: عَسَرْتُ فُلانًا: إذا أخَذْتَه على عُسْرِه، ويُقالُ: تعاسَرَ البَيِّعانِ: إذا لم يتَّفِقا، وأصلُ (عسر): يدُلُّ على صُعوبةٍ وشِدَّةٍ .
سَعَةٍ: أي: طاقةٍ وقُدرةٍ وغِنًى، والسَّعَةُ: هي الجِدَةُ مِنَ المالِ أو الرِّزقِ، وأصلُ (وسع): يدُلُّ على خِلافِ الضِّيقِ والعُسرِ .
قُدِرَ: أي: ضُيِّق وقُتِّر، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبلَغِ الشَّيءِ وكُنْهِه ونِهايتِه .

المعنى الإجمالي:

يأمرُ الله تعالى الرِّجالَ بإسكانِ المطلَّقاتِ، وأن يُحسِنوا معامَلتَهنَّ، ويَنهاهم عن الإساءةِ إليهنَّ، فيقول: أسْكِنوا -أيُّها الأزواجُ- نِساءَكم المُطَلَّقاتِ مِمَّا توفَّرَ لَدَيكم وتيسَّرَ وُجودُه مِن مَساكِنِكم، إلى أن تَنتَهيَ عِدَّتُهنَّ، ولا تَضُرُّوهنَّ لتُضَيِّقوا عَليهِنَّ فتَضطرُّوهنَّ للخُروجِ من السَّكَنِ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى أحكامَ المطلَّقاتِ الحواملِ، وما يجِبُ لهنَّ بعْدَ الوضعِ، فيقولُ: وإنْ كانت المُطلَّقاتُ حوامِلَ فأنفِقوا عليهِنَّ إلى أن تَنتهِيَ عِدَّتُهنَّ بوِلادتِهنَّ، فإنْ أرضَعْنَ لكم أولادَكم فأعطوهنَّ أُجرةَ الرَّضاعةِ، وتَشاوَروا فيما بيْنَكم بالمعروفِ وبما هو خيرٌ للطِّفلِ الرَّضيعِ، وإن اختَلَفتُم في شأنِ الرَّضاعِ فلْيَستأجِرِ الأبُ لوَلَدِه مُرضِعةً أُخرى.
ثمَّ يُقدِّرُ الله تعالى النَّفقةَ، بحسَبِ حالِ الزَّوجِ، فيقولُ: لِيُنفِقْ مَن وَسَّعَ اللهُ عليه على مُطَلَّقتِه ووَلَدِه الرَّضيعِ، ويُوَسِّعْ عليهم في النَّفَقةِ، ومَن كان فقيرًا قد ضُيِّقَ عليه رِزقُه فلْيُنفِقْ مِمَّا أعطاه اللهُ على قَدْرِ سَعَتِه، لا يُكَلِّفُ اللهُ أحَدًا إلَّا بقَدْرِ ما أعطاه، بحَسَبِ حالِه مِن الغِنى والفَقرِ.
ثمَّ يختمُ الله تعالى الآيةَ ببشارةٍ لِمَن يتَّبِعُ أمْرَه، فيقولُ: سيَجعَلُ اللهُ بعْدَ الفَقرِ والشِّدَّةِ والضِّيقِ غِنًى ورَخاءً وسَعَةً.

تفسير الآيتين:

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
تقدَّم أنَّ اللهَ نهى عن إخراجِ المطَلَّقاتِ مِن البُيوتِ، وهنا أمَرَ بإسكانِهنَّ .
وأيضًا فإنَّ قَولَه تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ وما بَعْدَه بيانٌ لِما شُرِطَ مِن التَّقوى في قَولِه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ [الطلاق: 4] ، كأنَّه قيل: كيف تكونُ التَّقوَى في شأنِ المعتَدَّاتِ؟ فقيل :
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ.
أي: أسْكِنوا -أيُّها الأزواجُ- نِساءَكم المُطَلَّقاتِ في المكانِ الَّذي تَسكُنونَ فيه مِمَّا توفَّرَ لَدَيكم، وتيسَّرَ وُجودُه لكم إلى أن تَنتَهيَ عِدَّتُهنَّ .
وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ.
أي: ولا تَضُرُّوهنَّ -أيُّها الأزواجُ- بأيِّ ضَرَرٍ؛ مِن أجْلِ أن تُضَيِّقوا عَليهِنَّ في مَسكَنِكم، فتَضطرُّوهنَّ للخُروجِ منه قبْلَ انتِهاءِ عِدَّتِهنَّ .
وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.
أي: وإنْ كانت المُطلَّقاتُ حوامِلَ فأنفِقوا عليهِنَّ إلى أن تَنتهِيَ عِدَّتُهنَّ بوِلادتِهنَّ .
فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانَ الحَمْلُ يَنْتهي بالوَضْعِ، انتُقِلَ إلى بَيانِ ما يجِبُ لهُنَّ بعْدَ الوضْعِ؛ فإنَّهُنَّ بالوضْعِ يَصِرْنَ بائناتٍ، فتَنقطِعُ أحكامُ الزَّوجيَّةِ، فكان السَّامعُ بحيثُ لا يَدْري هلْ يكونُ إرضاعُها ولَدَها حقًّا عليها كما كان في زمَنِ العِصمةِ، أو حقًّا على أبيهِ فيُعْطِيها أجْرَ إرْضاعِها كما كان يُعْطيها النَّفقةَ مِن أجْلِ ذلك الولَدِ حينَ كان حَمْلًا ؟
فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
أي: فإنْ أرضَعَ نِساؤُكم المطلَّقاتُ أولادَكم فأعطوهنَّ أُجرةَ الرَّضاعةِ .
وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ.
أي: ولْيَتَشاوَرْ كلٌّ مِنَ الزَّوجِ ومُطلَّقتِه، ويأمُرْ بَعضُهم بعضًا بما هو خيرٌ للطِّفلِ الرَّضيعِ، بلا ضررٍ ولا ضِرارٍ، ويَقبَلوا ذلك، ويَعمَلوا به، فلا يُقَصِّرُ الوالِدُ في النَّفَقةِ، ولا تُقَصِّرُ المُرضِعةُ في القيامِ بشَأنِ الرَّضيعِ .
وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى.
أي: وإن اختَلَف الزَّوجُ ومُطَلَّقتُه في شأنِ رَضاعِ وَلَدِها منه، فلم يتَّفِقَا على الأُجرةِ أو امتَنَعَت الأمُّ عنَ الرَّضاعِ، فلا تُكرَهُ على إرضاعِه، ولْيَستأجِرِ الأبُ لوَلَدِه مُرضِعةً أُخرى .
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت المُعاسَرةُ في الغالِبِ في تَركِ السَّماحِ، وكان تَركُ السَّماحِ مِن خَوفِ الإعدامِ؛ نَبَّه اللهُ سبحانه على أنَّ ذلك ليس بعُذرٍ، بتَقسيمِ النَّاسِ إلى مُوَسَّعٍ عليه وغَيرِه، ولأنَّ الأليَقَ بالمُوَسَّعِ عليه أن يُوَسِّعَ ولا يُسيءَ الظَّنَّ برَبِّه وقد جَرَّبَ رِفْدَه، وأنَّ المُقَتَّرَ عليه لا ينبغي أن يَفعَلَ فِعلَ مَن يخافُ أن يُخلِفَ وَعْدَه .
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ.
أي: على مَن وَسَّعَ اللهُ عليه أن يُوَسِّعَ في النَّفَقةِ على مُطَلَّقتِه ووَلَدِه الرَّضيعِ .
وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ.
أي: ومَن كان فقيرًا قد ضُيِّقَ عليه رِزقُه فلْيُنفِقْ مِمَّا أعطاه اللهُ مِنَ الرِّزقِ، على قَدْرِ مالِه .
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا.
أي: لا يُكَلِّفُ اللهُ أحَدًا مِن النَّفَقةِ الواجِبةِ عليه إلَّا بقَدْرِ ما أعطاه مِنَ الرِّزقِ؛ كُلٌّ بحَسَبِ حالِه مِن الغِنى والفَقرِ، فلا يُكَلِّفُ اللهُ الفَقيرَ أن يُنفِقَ مِثلَ نَفَقةِ الغَنيِّ .
قال تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286].
سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا.
أي: سيَجعَلُ اللهُ للفَقيرِ بعدَ الفَقرِ والشِّدَّةِ والضِّيقِ غِنًى ورَخاءً وسَعَةً .
قال تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 268] .
وقال سبحانه: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 5، 6].

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ أي: ولْيَأمُرْ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الزَّوجَينِ ومِن غَيرِهما الآخَرَ بالمَعروفِ، وهو كُلُّ ما فيه مَنفعةٌ ومَصلحةٌ في الدُّنيا والآخِرةِ؛ فإنَّ الغَفلةَ عن الائتِمارِ بالمَعروفِ يَحصُلُ بها مِن الشَّرِّ والضَّرَرِ ما لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، وفي الائتِمارِ تعاوُنٌ على البِرِّ والتَّقْوى .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ فيه تنبيهٌ صَريحٌ بألَّا يُضارَّ أحَدُ الوالِدَينِ بوَلَدِه، وأن تكونَ المفاهمةُ بيْن الزَّوجَينِ بعْدَ الفُرقةِ في جميعِ الأُمورِ -سواءٌ في خُصوصِ الرَّضاعِ أو غَيرِه- مَبناها على المعروفِ والتَّسامُحِ والإحسانِ؛ وفاءً لحَقِّ العِشْرةِ السَّابِقةِ .
3- في قَولِه تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا استِحبابُ مُراعاةِ الإنسانِ حالَ نفْسِه في النَّفَقةِ والصَّدَقةِ .
4- قال اللهُ تعالى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ. قَولُه قُدِرَ بناه للمَفعولِ؛ تعليمًا للأدَبِ معه سُبحانَه وتعالى .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ استُدِلَّ به على وُجوبِ السُّكْنى للمُطَلَّقاتِ كُلِّهنَّ، وللبَوائِنِ؛ لتَقَدُّمِ سُكْنى الرَّجْعيَّاتِ، ولِقَولِه بَعْدُ: وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ؛ فإنَّه خاصٌّ بالبوائِنِ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ تعميمُ المُطَلَّقاتِ بالسُّكْنى، وتخصيصُ أُولاتِ الأحمالِ بالنَّفَقةِ: استُدِلَّ به على أنَّ غَيرَها مِنَ المُطَلَّقاتِ لا يُشارِكُها في النَّفَقةِ، وتُشارِكُهنَّ في السُّكْنى . فقولُه: وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ استُدِلَّ بمَفهومِه على أنَّ غَيرَ الحامِلِ لا نَفَقةَ لها .
3- قَولُ اللهِ تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فيه أنَّ الإسكانَ يُعتَبَرُ بحالِ الزَّوجِ .
4- قَولُ اللهِ تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ فيه تحريمُ المُضارَّةِ بها، وإلجائِها إلى الخُروجِ .
5- (مِنْ) الواقعةُ في قولِه: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ للتَّبعيضِ، أي: في بعضِ ما سكَنْتُم. ويُؤخَذُ منه أنَّ المسكنَ صالحٌ للتَّبعيضِ بحسَبِ عُرْفِ السُّكنى، مع تَجنُّبِ التَّقارُبِ في المَبيتِ إنْ كانتْ غيرَ رَجعيَّةٍ، فيُؤخَذُ منه أنَّه إنْ لم يَسَعْهُما خرَجَ الزَّوجُ المُطلِّقُ، كأنَّه قيلَ: أسكِنوهُنَّ مكانًا مِنْ مَسكنِكم ممَّا تُطِيقونَه .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فيه وُجوبُ الإنفاقِ على البائِنِ الحامِلِ حتَّى تَنقَضِيَ عِدَّتُها .
7- إنْ قيل: فما الفائدةُ في تخصيصِ نفَقةِ الرَّجعيَّةِ بكونِها حاملًا؟
قيل: ليس في الآيةِ ما يقتضي أنَّه لا نفقةَ للرَّجعيَّةِ الحائلِ، بل الرَّجعيَّةُ نَوعانِ قد بيَّن الله حُكمَهما في كتابِه: حائلٌ: فلها النَّفقةُ بعَقدِ الزَّوجيَّةِ؛ إذ حُكمُها حُكمُ الأزواجِ، أو حاملٌ: فلها النَّفقةُ بهذه الآيةِ إلى أنْ تضَع حملَها، فتصيرَ النَّفقةُ بعدَ الوضعِ نفقةَ قريبٍ لا نفقةَ زوجٍ، فيُخالِفَ حالُها قبْلَ الوضعِ حالَها بعْدَه؛ فإنَّ الزَّوجَ يُنفِقُ عليها وحْدَه إذا كانت حاملًا، فإذا وضَعت صارتْ نفقتُها على مَن تجبُ عليه نفقةُ الطِّفلِ، ولا يكونُ حالُها في حالِ حملِها كذلك، بحيث تجِبُ نفقتُها على مَن تجِبُ عليه نفقةُ الطِّفلِ؛ فإنَّه في حالِ حملِها جزءٌ مِن أجزائِها، فإذا انفَصل كان له حُكمٌ آخَرُ، وانتقلت النَّفقةُ مِن حُكمٍ إلى حكمٍ، فظهَرت فائدةُ التَّقييدِ، وسرُّ الاشتراطِ، واللهُ أعلمُ بما أراد مِن كلامِه .
8- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ استَدَلَّ بعُمومِه مَن أوجَبَ النَّفَقةَ للحامِلِ المُتوفَّى عنها .
9- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فائِدةُ ذِكرِ الغايةِ فيه: رَفْعُ توَهُّمِ أنَّ النَّفَقةَ تَتقَيَّدُ بمُضِيِّ مِقدارِ عِدَّةِ الأقراءِ، أو أنَّه إذا طالت مُدَّةُ الحَملِ لا تَجِبُ النَّفَقةُ؛ مِن الإطالةِ .
10- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يَعني حَقَّ الرَّضاعِ وأُجرتَه، واستُدِلَّ به على أنَّ اللَّبَنَ وإنْ خُلِقَ لمَكانِ الوَلَدِ فهو مِلْكٌ لها، وإلَّا لم يكُنْ لها أن تأخُذَ الأجْرَ .
11- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فيه دليلٌ على أنَّ حَقَّ الرَّضاعِ والنَّفَقةِ: على الأزواجِ في حَقِّ الأولادِ . فقد أوْجَب الله تعالى نَفَقةَ الولدِ حَملًا ورَضيعًا بواسِطةِ الإنفاقِ على الحاملِ والمُرْضِعِ؛ فإنَّه لا يُمكِنُ رَزْقُه بدونِ رَزْقِ حامِلِه ومُرْضِعِه، وفي ذلك تنبيهٌ على أنَّ نفقةَ الوَلَدِ على أبيه أيضًا بعدَ فِطامِه؛ فإنَّه إذا كان في حالِ اختِفائِه وارتضاعِه أوجَبَ نفقةَ مَن تَحمِلُه وتُرضِعُه -إذْ لا يُمكِنُ الإنفاقُ عليه إلَّا بذلك- فالإنفاقُ عليه بعدَ فِصالِه إذا كان يُباشِرُ الارتِزاقَ بنَفْسِه: أَولى وأَحرى. وهذا مِن حُسْنِ الاستِدلالِ؛ فقد تَضَمَّنَ الخِطابُ التَّنبيهَ بأنَّ الحُكْمَ في المسكوتِ أَولى منه في المنطوقِ، وتَضَمَّنَ تعليلَ الحُكْمِ بكَونِ النَّفَقةِ إنَّما وَجَبَتْ على الأبِ لأنَّه هو الَّذي له الوَلَدُ دونَ الأمِّ، ومَن كان الشَّيءُ له كانت نَفَقتُه عليه؛ ولذا سُمِّيَ الوَلَدُ كَسْبًا في قَولِه: وَمَا كَسَبَ [المسد: 2] ، وفي قَولِه: ((إنَّ أطْيَبَ ما أَكَلَ الرَّجُلُ مِن كَسْبِه، وإنَّ ولدَه مِن كَسْبِه )) .
12- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فيه أنَّ الأُمَّ إذا طَلَبَت إرضاعَه بأُجرةِ مِثْلٍ، وَجَب على الأبِ دَفْعُها إليها، وليس له أن يَستَرضِعَ غَيْرَها .
13- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فيه دَليلٌ على أنَّ الأُمَّ أَولى بالحَضانةِ .
14- قال اللهُ تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بيَّن أنَّ النَّسَبَ للرِّجالِ، بقَولِه تعالى: لَكُمْ .
15- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يدُلُّ على أنَّ الأُجرةَ إنَّما تُستَحَقُّ بالفَراغِ مِن العَمَلِ .
16- في قَولِه تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أنَّ ما لا يُمكِنُ تَعرِيتُه مِن المجهولِ، ولا يُضْبَطُ بالتَّسميةِ في الإجاراتِ: جائزٌ .
17- في قَولِه تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ثُبوتُ عِوَضِ الإجارةِ بالمَعروفِ؛ فقد أمَرَ بإيتائِهنَّ أجورَهنَّ بمُجَرَّدِ الإرضاعِ .
18- مَذهَبُ مالِكٍ وأحمَدَ بنِ حَنبَلٍ المشهورُ عنه، وغَيرِهما: أنَّ كُلَّ مَن أدَّى عن غَيرِه واجِبًا فله أن يَرجِعَ به عليه إذا لم يكُنْ مُتبَرِّعًا بذلك، وإن أدَّاه بغيرِ إذْنِه؛ مِثلُ مَن قَضى دَيْنَ غَيرِه بغَيرِ إذْنِه، سواءٌ كان قد ضَمِنَه بغَيرِ إذنِه وأدَّاه بغَيرِ إذنِه، أو أدَّاه عنه بلا ضَمانٍ، وكذلك مَنِ افْتَكَّ أسيرًا مِن الأَسْرِ بغيرِ إذْنِه يَرْجِعُ عليه بما افْتَكَّه به، وكذلك مَن أدَّى عن غيَرِه نَفَقةً واجِبةً عليه، مِثلُ أنْ يُنفِقَ على ابنِه أو زَوجتِه أو بهائِمِه، لا سيَّما إذا كان للمُنفِقِ فيها حقٌّ، مِثلُ أنْ يكونَ مُرتَهِنًا أو مُستأجِرًا، أو كان مُؤتَمَنًا عليها، مِثلُ المُودِعِ، ومِثلُ رادِّ العَبدِ الآبِقِ، ومِثلُ إنفاقِ أحدِ الشَّريكَينِ على البهائِمِ المُشتَرَكةِ، وقد دلَّ على هذا الأصلِ قَولُه تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، فأمَرَ سُبحانَه بإيتاءِ الأجرِ بمُجَرَّدِ إرضاعِهنَّ، ولم يَشتَرِطْ عَقْدَ استِئجارٍ، ولا إذْنَ الأبِ لها في أنْ تُرْضِعَ بالأجرِ، بل لَمَّا كان إرضاعُ الطِّفلِ واجِبًا على أبيه فإنْ أرضَعَتْه المرأةُ استحَقَّتِ الأجرَ بمُجَرَّدِ إرضاعِها .
19- في قَولِه تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أنَّ الإجارةَ تكونُ على كلِّ ما يُستوفَى مع بقاءِ أصْلِه، سواءٌ كانت عَينًا أو مَنفَعةً، فلمَّا كان لَبَنُ المُرِضعِ يُستوفَى مع بَقاءِ الأصلِ، ونَقْعُ البِئرِ يُستوفَى مع بقاءِ الأصلِ؛ جازتِ الإجارةُ عليه كما جازتْ على المنفعةِ؛ فإنَّ هذه الأعيانَ يُحْدِثُها اللهُ شيئًا بعدَ شيءٍ وأصلُها باقٍ، كما يُحْدِثُ اللهُ المنافعَ شيئًا بعدَ شيءٍ وأَصْلُها باقٍ؛ ولهذا جاز وَقْفُ هذه الأصولِ لاستِمرارِ هذه الفوائدِ؛ أعيانِها ومَنافِعِها .
20- في قَولِه تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ صِحَّةُ المعاوَضةِ بثَمَنِ المِثْلِ .
21- قَولُ اللهِ تعالى: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ الائتِمارُ بمَعروفٍ يُشعِرُ بأنَّ للعُرفِ دَخلًا في ذلك .
22- قولُه تعالى: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ قيَّدَ الائتمارَ بالمعروفِ، أي: ائتمارًا مُلابِسًا لِمَا هو المعروفُ في مِثْلِ حالِهمْ وقَومِهم، أي: مُعتادٌ مَقبولٌ، فلا يَشتَطُّ الأبُ في الشُّحِّ، ولا تَشتَطُّ الأمُّ في الحِرصِ .
23- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى يدُلُّ على أنَّ الأُمَّ لا تُجبَرُ على الرَّضاعِ حيثُ يُوجَدُ غَيرُها، وقَبِلَ الصَّبيُّ ثَدْيَها، وإلَّا أُجبِرَت عليه .
24- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى أصلٌ في وُجوبِ النَّفَقةِ للوَلَدِ على الوالِدِ دونَ الأُمِّ .
25- في قَولِه تعالى: وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى أنَّ الأمَّ إذا أرادتِ الإجحافَ بالأبِ في إغلاءِ أُجرةِ الرَّضاعِ كان للأَبِ دَفْعُه إلى أجنبيَّةٍ، ولم يُجبَرِ الأبُ على أكثَرَ مِن أُجرةِ مِثْلِها في إرضاعِها .
26- قَولُ اللهِ تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ فيه أنَّ النَّفَقةَ يُراعَى فيها حالُ المُنفِقِ يَسارًا وإعسارًا، وأنَّ نَفَقةَ المُعسِرِ أقَلُّ مِن نَفَقةِ المُوسِرِ .
27- في قَولِه تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ أنَّ الزَّوجَ يَجِبُ عليه أنْ يُنْفِقَ على زَوجتِه ولو كانت غَنيَّةً، ولِقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم: ((لَهُنَّ عليكم رِزْقُهنَّ وكِسْوَتُهنَّ بالمعروفِ )) ، لكنْ ينبغي للزَّوجةِ إذا كان زوجُها فقيرًا وليس ذا سَعَةٍ مِن المالِ؛ ينبغي لها أنْ تُساعِدَه على مَؤونةِ البيتِ، ومَؤونةِ العيالِ، ومَؤونةِ نَفْسِها أيضًا .
28- قولُه تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ هو حَثٌّ على التَّوسُّعِ في النَّفَقةِ لِمَن وَسَّع اللهُ عليه ، فالمؤمِنُ في حالِ غِناه يَزيدُ على نَفَقتِه في حالِ فَقْرِه، كما قال بَعضُ السَّلَفِ: (إنَّ المؤمِنَ يأخُذُ عن اللهِ أدَبًا حَسَنًا؛ إذا وسَّعَ اللهُ عليه وسَّع على نَفْسِه، وإذا ضَيَّقَ عليه ضَيَّق على نَفْسِه)، ثمَّ تلا قَولَه تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ، لكِنْ يَكونُ في حالِ غِناه مُقتَصِدًا غَيرَ مُسرِفٍ .
29- في قَولِه تعالى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ أنَّ نَفْسَ المالِ يُسَمَّى رِزْقًا، لا أنَّ اسمَ الرِّزقِ لا يقعُ إلَّا على ما استُهْلِك بالأكلِ واللِّباسِ وما أشبهَهما .
30- قَولُ اللهِ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا استَدَلَّ به مَن قال: لا فَسْخَ بالعَجزِ عن الإنفاقِ للزَّوجةِ .
31- في قَولِه تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا أنَّ مَن وَجَبَ عليه نَفَقةُ قَومٍ فلَمْ يَقْدِرْ على تمامِها، لم يَلْزَمْه الإقحامُ على ما لا يَحِلُّ له، ووَجَبَ عليه الاقتِصارُ على ما أُوتيَ مِن الرِّزقِ، وعلى مَن يَعولُهم الصَّبرُ معه على انتِقالِ حالِه مِن العُسْرِ إلى اليُسْرِ الَّذي وَعَدَه اللهُ في هذه الآيةِ .
32- قال اللهُ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا هذا مُناسِبٌ للحِكمةِ والرَّحمةِ الإلهيَّةِ؛ حيثُ جَعَل كُلًّا بحَسَبِه، وخَفَّف عن المُعسِرِ، وأنَّه لا يُكَلِّفُه إلَّا ما آتاه، فلا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَها في بابِ النَّفَقةِ وغَيرِها .
33- قولُه تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا فيه تطييبٌ لقلْبِ المُعسِرِ، وتَرغيبٌ له في بذْلِ مجهودِه .
34- قَولُ اللهِ تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا هذه بِشارةٌ للمُعسِرينَ أنَّ اللهَ تعالى سيُزيلُ عنهم الشِّدَّةَ، ويَرفَعُ عنهم المَشقَّةَ .
35- قَولُ اللهِ تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا لا يُنافي قَولَه تعالى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 6] ؛ لأنَّ (مع) بمعنى (بَعْدَ)، وإلَّا فيَلزَمُ اجتِماعُ الضِّدَّينِ، وهو مُحالٌ .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى
- قولُه: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ استِئنافٌ وقَعَ جوابًا عن سُؤالٍ نشَأَ ممَّا قَبْلَه مِنَ الحثِّ على التَّقوى؛ كأنَّه قيلَ: كيفَ نَعمَلُ بالتَّقْوى في شأنِ المُعتدَّاتِ؟ فقيلَ: أسكِنوهُنَّ مَسْكنًا مِن حيثُ سكَنْتُم، أي: بعضَ مكانِ سُكْناكُم .
- وهذِه الجملةُ وما أُلْحِقَ بها مِنَ الجُمَلِ إلى قولِه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ ... [الطلاق: 8] إلخ؛ تَشريعٌ مُستأنَفٌ، فيه بَيانٌ لِما أُجْمِلَ في الآياتِ السَّابقةِ مِن قولِه: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطلاق: 1] ، وقولِه: أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق: 2] ، وقولِه: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] ؛ فتَتنزَّلُ هذِه الجُمَلُ مِنَ اللَّاتي قَبْلَها مَنزِلةَ البَيانِ لبَعضٍ، وبدَلِ الاشتِمالِ لبَعضٍ، وكلُّ ذلكَ مُقتضًى للفَصْلِ -أي: عدمِ العَطفِ بالواوِ-، وابْتُدِئَ ببَيانِ ما في لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطلاق: 1] مِن إجمالٍ .
- وقولُه: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ، أي: في البُيوتِ الَّتي تَسكُنونَها، أي: لا يُكلَّفُ المُطلِّقُ بمَكانٍ للمُطلَّقةِ غيرَ بَيتِه، ولا يَمنَعُها السُّكنى ببَيتِه، وهذا تأْكيدٌ لقولِه: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطلاق: 1] .
- و(مِنْ) في قولِه: مِنْ وُجْدِكُمْ بدَلٌ مُطابِقٌ، وهو بَيانٌ لقولِه: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ؛ فإنَّ مَسكَنَ المرْءِ هو وُجْدُه الَّذي وجَدَهُ غالبًا لِمَن لم يكُنْ مُقتِّرًا على نفْسِه .
- قولُه: وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ المُضارَّةُ: الإضرارُ القويُّ، فكأنَّ المُبالَغةَ راجعةٌ إلى النَّهيِ، لا إلى المَنهيِّ عنه، أي: هو نهْيٌ شديدٌ .
- واللَّامُ في لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ لتَعليلِ الإضرارِ، وهو قَيْدٌ جَرَى على غالِبِ ما يَعرِضُ للمُطلِّقينَ مِن مَقاصِدِ أهلِ الجاهليَّةِ، والإضرارُ بالمُطلَّقاتِ مَنْهيٌّ عنه، وإنْ لم يكُنْ لقصْدِ التَّضييقِ عليهِنَّ .
- وقولُه: وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى خصَّ الأُمَّ بالمُعاتَبةِ؛ لأنَّ المَبذولَ مِن جِهَتِها هو لَبَنُها لوَلَدِها، وهو غيرُ مُتموَّلٍ ولا مَضْنونٍ به في العُرفِ، وخُصوصًا في الأُمِّ على الولَدِ، ولا كذلك المَبذولُ مِن جِهَةِ الأبِ؛ فإنَّه المالُ المَضنونُ به عادةً، فالأُمُّ إذَنْ أجْدرُ باللَّومِ، وأحقُّ بالعَتْبِ .
- وقولُه: وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى عِتابٌ ومَوعظةٌ للأبِ والأمِّ بأنْ يُنزِلَ كلٌّ مِنْهُما نفْسَه مَنزلةَ ما لَوِ اجْتُلِبَتْ للطِّفلِ ظِئْرٌ ، فلا تَسألُ الأمُّ أكثرَ مِن أجْرِ أمثالِها، ولا يَشِحُّ الأبُ عمَّا يَبلُغُ أجرَ أمثالِ أمِّ الطِّفلِ. وسِينُ الاستِقبالِ مُستعمَلٌ في معْنى التَّأكيدِ، وهذا المعنى ناشئٌ عن جَعْلِ علامةِ الاستِقبالِ كِنايةً عن تجدُّدِ ذلك الفِعلِ في أزمنةِ المُستقبَلِ تَحقيقًا لتحصيلِه، وهذا الخبرُ مُستعمَلٌ كِنايةً أيضًا عن أمرِ الأبِ باستئجارِ ظِئْرٍ للطِّفلِ، بقَرينةِ تعليقِ لَهُ بقولِه: فَسَتُرْضِعُ، فاجتمَعَ فيه ثلاثُ كِناياتٍ: كِنايةٌ عن مَوعظةِ الأبِ، وكِنايةٌ عن مَوعظةِ الأمِّ، وكِنايةٌ عن أمْرِ الأبِ بالاسترضاعِ لولَدِه .
2- قولُه تعالَى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا تَذييلٌ لِمَا سبَقَ مِن أحكامِ الإنفاقِ على المُعتدَّاتِ والمُرضِعاتِ بما يَعُمُّ ذلك، ويعُمُّ كلَّ إنفاقٍ يُطالَبُ به المسلِمُ مِن مَفروضٍ ومَندوبٍ، أي: الإنفاقُ على قدْرِ السَّعَةِ .
- ومعنى قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ جُعِلَ رِزقُه مقدورًا، أي: محدودًا بقدْرٍ مُعيَّنٍ، وذلك كنايةٌ عن التَّضييقِ، أي: مَن كانَ في ضيقٍ مِنَ المالِ فَلْيُنْفِقْ بما يَسمَحُ به رِزقُه بالنَّظرِ إلى الوفاءِ بالإنفاقِ، ومَراتبِه في التَّقديمِ .
- قولُه: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا تَعليلٌ لقولِه: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ، والمقصودُ مِنه إقناعُ المُنفَقِ عليه بألَّا يَطلُبَ مِنَ المُنفِقِ أكثرَ مِن مَقدرتِه .
- قولُه: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لتَأكيدِ الوَعدِ للفُقراءِ بفتحِ أبوابِ الرِّزقِ، عاجِلًا أو آجِلًا، وهو وعْدٌ مِن اللهِ تعالَى للمُنفِقِ بعْدَ أنْ أمَرَه بالإنفاقِ في قولِه: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، فإذا قُيِّدَ مُطلَقُ الأمْرِ بما سبَقَ، وأنَّه حديثٌ مِن شأْنِ المُطلَّقاتِ والمُرضِعاتِ، يُقال: إنَّه لفُقراءِ الأزواجِ، وإذا تُرِكَ على إطلاقِه -ليكونَ استطرادًا في الكلامِ، على مِنوالِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4] -؛ يُقال: إنَّه موعدٌ لفُقراءِ ذلك الوقتِ، فيَدخُلُ فيه فُقراءُ الأزواجِ دُخولًا أوَّليًّا، وهذا أوفَقُ لتأليفِ النَّظمِ؛ ليَكونَ تخلُّصًا إلى قولِه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا [الطلاق: 8] ؛ لأنَّها كالخاتمةِ للتَّحريضِ على تَقوى اللهِ، وحِفظِ حُدودِه، والتَّفادي عن التَّجاوُزِ عنها. وقيل: لا يختصُّ هذا الوعدُ بفقراءِ ذلكَ الوقتِ، ولا بفقراءِ الأزواجِ مُطلَقًا، بل مَنْ أنفَقَ ما قَدَرَ عليه ولم يُقصِّرْ .
- وأيضًا قولُه: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا تَكملةٌ للتَّذييلِ؛ فإنَّ قولَهُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا يُناسِبُ مضمونَ جُملةِ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وقولَه: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا يُناسِبُ مضمونَ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ... إلخ، وهذا الكلامُ خبرٌ مُستعمَلٌ في بعثِ التَّرجِّي، وطرْحِ اليأسِ عن المُعسِرِ مِن ذَوِي العِيَالِ، ومعناهُ: عسى أنْ يجعَلَ اللهُ بعدَ عُسْرِكم يُسْرًا لكم؛ فإنَّ اللهَ يجعَلُ بعدَ عُسرٍ يُسرًا، وهذا الخبرُ لا يَقْتَضي إلَّا أنَّ مِن تصرُّفاتِ اللهِ أنْ يجعَلَ بَعْدَ عُسرِ قومٍ يُسرًا لهم، فمَن كان في عُسرٍ رجَا أنْ يكونَ ممَّن يَشملُه فضلُ اللهِ، فيُبدِّلُ عُسرَه باليُسرِ .
- والإتيانُ بكلمتَيْ عُسْرٍ ويُسْرًا نكرتَيْنِ غَيرَ مُعرَّفتَيْنِ باللَّامِ؛ لئلَّا يُتوهَّمَ مِنَ التَّعريفِ معنى الاستِغراقِ .