موسوعة التفسير

سُورةُ الشَّرْحِ
الآيات (1-8)

ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ

غريب الكلمات:

نَشْرَحْ: نُفْسِحْ ونُوَسِّعْ، أو نفتَحْ، وأصلُ (شرح): يدُلُّ على الفَتحِ والبَيانِ .
وِزْرَكَ: ذَنْبَك، والوِزْرُ: الإثمُ والثِّقْلُ، وأصلُ (وزر): يدُلُّ على الثِّقْلِ في الشَّيءِ .
أَنْقَضَ ظَهْرَكَ: أي: أثقَلَه حتَّى سُمِعَ نَقِيضُه، أي: صَوتُه، وأصلُ (نقض) هنا: يدُلُّ على جِنسٍ مِنَ الصَّوتِ .
فَانْصَبْ: فاتعَبْ، وأصلُ (نصب): يدُلُّ على إقامةِ شَيءٍ، ومنه النَّصبُ: العناءُ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يزالُ مُنتَصِبًا حتَّى يُعيِيَ .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بتذكيرِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بنِعَمِه عليه؛ مُقَرِّرًا لها، حتَّى يُداوِمَ على شُكرِه تعالى، فقال: ألَمْ نُوَسِّعْ لك صَدْرَك -يا محمَّدُ- ونفتَحْه للهُدى والإيمانِ، ومَعرفةِ الحقِّ، والعمَلِ به، ومِن ذلك شقُّ جِبريلَ لصَدرِك ومَلْؤُه حِكمةً وإيمانًا؟ وحطَطْنا عنك إثمَك، وغَفَرْنا لك ذَنْبَك، الَّذي أثقَلَك حَمْلُه، ورفَعْنا لك ذِكْرَك، وأعلَيْنا شَأْنَك.
ثمَّ قال سُبحانَه مُسَلِّيًا نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأتْباعَه، ومُبَيِّنًا سُنَّةً مِن سُنَنِه: فإنَّ مع الصُّعوبةِ والشِّدَّةِ سُهولةً وسَعةً وفَرَجًا، إنَّ مع الصُّعوبةِ والشِّدَّةِ سُهولةً وسَعةً وفَرَجًا.
ثمَّ أمَرَ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالاجتِهادِ في عبادتِه، فقال: فإذا فرَغْتَ مِن أشغالِك الدُّنيويَّةِ والأُخْرويَّةِ فاجتَهِدْ في العِبادةِ والدُّعاءِ، واجعَلْ رَغبتَك في جميعِ أعمالِك وعباداتِك مِن أجْلِ إرضاءِ رَبِّك وَحْدَه.

تفسير الآيات:

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1).
أي: ألم نُوَسِّعْ لك صَدْرَك -يا محمَّدُ- ونفتَحْه للهُدى والإيمانِ، ومَعرفةِ الحقِّ، والعمَلِ به، والقيامِ بالدَّعوةِ، وتحمُّلِ أعباءِ النُّبُوَّةِ، ومِن ذلك شَقُّ جِبريلَ لصَدرِك ومَلْؤُه حِكمةً وإيمانًا ؟
كما قال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام: 125] .
وقال سبحانه وتعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر: 22] .
وقال سُبحانَه حكايةً عن موسى عليه السَّلامُ: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: 25-26] .
وعن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أتاه جِبريلُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يَلعَبُ مع الغِلْمانِ، فأخَذَه فصَرَعَه، فشَقَّ عن قَلْبِه، فاستخرَجَ القَلْبَ، فاستخرَجَ منه عَلَقةً، فقال: هذا حَظُّ الشَّيطانِ مِنك، ثمَّ غسَلَه في طَسْتٍ مِن ذَهَبٍ بماءِ زَمْزَمَ، ثمَّ لَأَمَه، ثمَّ أعاده في مَكانِه، وجاء الغِلْمانُ يَسْعَونَ إلى أُمِّه -يعني: ظِئْرَه- فقالوا: إنَّ محمَّدًا قد قُتِلَ! فاستَقْبَلوه وهو مُنتَقِعُ اللَّونِ، قال أنَسٌ: وقد كُنتُ أرى أَثَرَ ذلك المِخْيَطِ في صَدْرِه )) .
وعن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان أبو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: فُرِج عن سَقْفِ بيتي وأنا بمكَّةَ، فنَزَل جِبريلُ ففَرَج صَدْري، ثُمَّ غَسَله بماءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جاءَ بطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمةً وإيمانًا، فأفْرَغه في صَدْري، ثُمَّ أطْبَقَه، ثُمَّ أخَذ بِيَدي فعَرَج بي إلى السَّماءِ الدُّنْي ا...)) .
وعن أنَسِ بنِ مالِكٍ عن مالِكِ بنِ صَعْصَعَةَ، رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بَيْنا أنا عندَ البَيتِ بيْنَ النَّائِمِ واليَقْظانِ... فأُتِيتُ بطَسْتٍ مِن ذَهَبٍ مُلِئَ حِكْمةً وإيمانًا، فشُقَّ مِن النَّحْرِ إلى مَرَاقِّ البَطنِ ، ثُمَّ غُسِل البطنُ بماءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمةً وإيمانًا، وأُتِيتُ بدابَّةٍ....)) الحديثَ .
وفي روايةٍ: ((فأُتِيتُ بطَسْتٍ مِن ذهَبٍ فيها مِن ماءِ زَمْزَمَ، فشُرِح صدري إلى كذا وكذا )) .
وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2).
أي: وحطَطْنا عنك إثمَك، وغَفَرْنا لك ذَنْبَك .
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3).
أي: الَّذي أثقَلَك حَمْلُه .
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4).
أي: ورفَعْنا ذِكْرَك رِفعةً عَظيمةً، فأعلَيْنا شَأْنَك، ونوَّهْنا باسمِك، ونشَرْنا لك الثَّناءَ الحسَنَ العاليَ؛ تشريفًا لك وتعظيمًا .
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5).
أي: فإنَّ مع الصُّعوبةِ والشِّدَّةِ والضِّيقِ سُهولةً وسَعةً وفَرَجًا .
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان العُسرُ مَكروهًا إلى النُّفوسِ، وكان لله سُبحانَه وتعالى فيه حِكَمٌ عظيمةٌ، وكانت الحِكَمُ لا تتراءى إلَّا للأفرادِ مِنَ العِبادِ؛ كَرَّره سُبحانَه وتعالى على طريقِ الاستِئنافِ؛ لجوابِ مَن يقولُ: وهل بَعْدَه مِن عُسْرٍ؟ مؤكِّدًا له؛ ترغيبًا في أمرِه، وترَقُّبًا لِما يتسَبَّبُ عنه، مُبَشِّرًا بتكريرِه مع وَحْدةِ العُسْرِ .
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6).
أي: إنَّ الشِّدَّةَ والضِّيقَ يُصاحِبُهما السُّهولةُ والرَّخاءُ .
كما قال تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق: 7] .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ((...واعلَمْ أنَّ في الصبرِ على ما تكرهُ خيرًا كثيرًا، وأنَّ النَّصرَ معَ الصَّبرِ، وأنَّ الفَرَجَ معَ الكربِ، وأنَّ معَ العُسرِ يُسرًا )) .
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا عَدَّد اللهُ عليه نِعَمَه السَّالِفةَ، ووعَدَه بالنِّعَمِ الآتيةِ؛ لا جَرَمَ بَعَثَه على الشُّكرِ والاجتِهادِ في العِبادةِ؛ فقال :
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7).
أي: فإذا فرَغْتَ مِن كلِّ ما كنتَ به مشتغِلًا، مِن أمرِ دنياك وآخرتِك؛ فاجتَهِدْ في العِبادةِ والدُّعاءِ .
وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8).
أي: واجعَلْ رَغبتَك إلى اللهِ، فتَرجُوه وَحْدَه، وتَسألُه دونَ مَن سِواه، وتتوكَّلُ عليه لا على غَيرِه .
كما قال تعالى حاكيًا قَولَ أصحابِ الجنَّةِ الَّتي احتَرَقت: عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ [القلم: 32].

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ شَرَحَ اللهُ صَدْرَ رَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم أتَمَّ الشَّرحِ، ووَضَعَ عنه وِزْرَه كلَّ الوَضعِ، ورَفَعَ ذِكْرَه كلَّ الرَّفْعِ، وجَعَلَ لأتْبَاعِه حظًّا مِن ذلك؛ إذْ كلُّ مَتبوعٍ فلأتْباعِه حظٌّ ونصيبٌ مِن حظِّ مَتبوعِهم في الخيرِ والشَّرِّ على حسَبِ اتِّباعِهم له، فأَتْبَعُ النَّاسِ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أشْرَحُهم صدرًا، وأوضعُهم وِزْرًا، وأرفعُهم ذِكْرًا، وكلَّما قَوِيتْ مُتابَعتُه عِلمًا وعَمَلًا وحالًا وجِهادًا، قَوِيتْ هذه الثَّلاثةُ، حتَّى يصيرَ صاحبُها أشرحَ النَّاسِ صدرًا، وأرفعَهم في العالَمينَ ذِكْرًا، وأمَّا وَضْعُ وِزْرِه، فكيف لا يُوضَعُ عنه ومَن في السَّمواتِ والأرضِ ودَوابُّ البَرِّ والبحرِ يَستغفِرونَ له؟! وهذه الأمورُ الثَّلاثةُ مُتلازِمةٌ كما أنَّ أضْدادَها متلازِمةٌ؛ فالأوزارُ والخطايا تَقْبِضُ الصَّدرَ وتُضيِّقُه، وتُخْمِلُ الذِّكْرَ وتَضَعُه، وكذلك ضِيقُ الصَّدرِ يَضَعُ الذِّكْرَ، ويَجلِبُ الوِزْرَ، فما وَقَعَ أحدٌ في الذُّنوبِ والأوزارِ إلَّا مِن ضِيقِ صدْرِه وعدمِ انشراحِه، وكلَّما ازداد الصَّدرُ ضيقًا كان أدْعَى إلى الذُّنوبِ والأوزارِ؛ لأنَّ مُرتكِبَها إنَّما يَقصِدُ بها شَرْحَ صدْرِه، ودَفْعَ ما هو فيه مِن الضِّيقِ والحَرَجِ، وإلَّا فلوِ اتَّسَعَ بالتَّوحيدِ والإيمانِ ومحبَّةِ اللهِ ومعرفتِه، وانشرحَ بذلك؛ لَاستغنى عن شرْحِه بالأوزارِ؛ ولهذا أكثرُ مَن يُواقِعُ المحظورَ إنَّما يَدْفَعُ به عن نفْسِه ما فيها مِن الهَمِّ والغَمِّ والضِّيقِ، وكثيرًا ما تَبْرُدُ شَهوتُه وإرادتُه، ومع هذا يَحرِصُ على المُعاوَدةِ؛ تداويًا منه بزَعمِه !
2- قال تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ هذه الآيةُ لم تترُكْ للمُسلِمِ فَراغًا في وقتِه؛ لأنَّه إمَّا في عَمَلٍ للدُّنيا، وإمَّا في عمَلٍ للآخِرةِ، وقد رُوِيَ عن شُريحٍ أنَّه مَرَّ على رجُلَينِ يتصارَعانِ، فقال: (ليس بهذا أُمِرَ الفارغُ، إنَّما قال الله تبارَك وتعالَى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) ، ورُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ أنَّه قال: (إنِّي لَأمقُتُ الرَّجُلَ أن أراه فارغًا، ليس في شيءٍ مِن عمَلِ الدُّنيا ولا عمَلِ الآخرةِ) . ولهذا كانت حياةُ الإنسانِ العاقلِ حياةَ جِدٍّ، كلَّما فَرَغَ مِن عمَلٍ شَرَعَ في عَمَلٍ آخَرَ، وهكذا؛ لأنَّ الزَّمنَ يفوتُ على الإنسانِ، ففي حالِ يَقظَتِه ومَنامِه، وشُغْلِه وفراغِه يسيرُ، ولا يمكنُ لأحدٍ أنْ يُمسِكَ الزَّمَنَ !
3- في قَولِه تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ خَتْمُ السُّورةِ بهذينِ الأصلَينِ، وهما: تجريدُ التَّوحيدِ، وتجريدُ الطَّاعةِ بمُتابَعةِ الرَّسولِ؛ فالنَّصَبُ: التَّفَرُّغُ للعبادةِ والطَّاعةِ، والرَّغبةُ إلى اللهِ وَحْدَه: تجريدُ توحيدِه. ومتى قام العبدُ بهذينِ الأصلينِ حصَلَ له مِن شَرْحِ الصَّدرِ ووَضْعِ الوِزْرِ ورَفْعِ الذِّكْرِ بحسَبِ ما قام به، وبُدِّلَ عُسْرُه يُسرًا .
4- قال تعالى: وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ يعني: إلى اللهِ لا إلى غيرِه؛ فارغَبْ في جميعِ أمورِك، وثِقْ بأنَّك متى عَلَّقْتَ رغبتَك باللهِ عزَّ وجلَّ فإنَّه سوف يُيَسِّرُ لك الأمورَ، وكثيرٌ مِن النَّاسِ تَنْقُصُهم هذه الحالُ، أي: يَنْقُصُهم أنْ يَكونوا دائمًا راغبينَ إلى اللهِ؛ فتَجِدُهم يَخْتَلُّ كثيرٌ مِن أعمالِهم؛ لأنَّهم لَمْ يكُنْ بيْنَهم وبيْن اللهِ تعالى صِلةٌ في أعمالِهم !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ سؤالٌ: لِمَ ذَكَر سُبحانَه الصَّدْرَ، ولَمْ يَذكُرِ القَلْبَ؟
الجوابُ: لأنَّ محَلَّ الوَسوسةِ هو الصَّدرُ، على ما قال سُبحانَه: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس: 5] ؛ فإزالةُ تلك الوَسْوَسةِ وإبدالُها بدَواعي الخَيرِ هي الشَّرحُ، فلا جَرَمَ خُصَّ ذلك الشَّرحُ بالصَّدرِ دونَ القَلْبِ . أو ذلك إشارةٌ إلى شَرْحِه بشَقِّ جِبريلَ له.
2- في قَولِه تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ سؤالٌ: لِمَ قال: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، ولم يقلْ: «ألم نشرَحْ صَدْرَك»؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
أحدُهما: كأنَّه تعالى يقولُ: لامٌ بلامٍ؛ فأنت إنَّما تفعَلُ جميعَ الطَّاعاتِ لأَجْلي، كما قال: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] ، فأنا أيضًا جميعُ ما أفعَلُه لأجْلِك.
ثانيها: أنَّ فيها تنبيهًا على أنَّ منافِعَ الرِّسالةِ عائِدةٌ إليه عليه السَّلامُ، كأنَّه تعالى قال: إنَّما شرَحْنا صَدْرَك لأجْلِك لا لأجْلي .
3- في قَولِه تعالى: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ سؤالٌ: هلِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُذْنِبُ؟
الجوابُ: نعَمْ، ولا يمكِنُ أنْ نَرُدَّ النُّصوصَ لمجرَّدِ أنْ نَستَبعِدَ وُقوعَ الذَّنْبِ منه صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم، ونحن لا نقولُ: الشأنُ ألَّا يُذنِبَ الإنسانُ، بلِ الشَّأنُ أنْ يُغْفَرَ للإنسانِ، هذا هو المهِمُّ: أنْ يُغْفَرَ له، فكلُّ بَني آدمَ خَطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوَّابونَ، لا بُدَّ مِن خطيئةٍ، لكنَّ هناك أشياءَ لا يمكنُ أنْ تقع مِن الأنبياءِ، مِثلُ الكَذِبِ والخيانةِ، فإنَّ هذا لا يمكنُ أنْ يقعَ منهم إطلاقًا؛ لأنَّ هذا لو فُرِضَ وُقوعُه لَكان طعنًا في رسالتِهم، وهذا شيءٌ مستحيلٌ، وسفاسِفُ الأخلاقِ مِن الزِّنا وشِبْهِه هذا أيضًا ممتنِعٌ؛ لأنَّه يُنافي أصلَ الرِّسالةِ؛ فالرِّسالةُ إنَّما وُجِدَتْ لتَتميمِ مَكارمِ الأخلاقِ، كما قال صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم: ((إنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صالِحَ الأخلاقِ )) .
4- في قولِه: أَنْقَضَ ظَهْرَكَ اتِّصالُ حَرفَيِ الضَّادِ والظَّاءِ، وهما مُتقارِبَا المخرَجِ، فرُبَّما يَحصُلُ مِن النُّطقِ بهما شَيءٌ مِن الثِّقَلِ على اللِّسانِ، ولكنَّه لا يُنافي الفَصاحةَ؛ إذ لا يَبلُغُ مَبلَغَ ما يُسمَّى بتَنافُرِ الكَلِماتِ، بلْ مِثلُه مُغتفَرٌ في كَلامِ الفُصحاءِ، والعرَبُ فُصحاءُ الألسُنِ، فإذا اقْتَضى نظْمُ الكَلامِ وُرودَ مِثلِ هَذينِ الحَرفينِ المتقاربَينِ، لم يَعبَأِ البليغُ بما يَعرِضُ عندَ اجتماعِهِما مِن بَعضِ الثِّقَلِ، ومِثلُ ذلك قولُه تعالَى: وَسَبِّحْهُ [الإنسان: 26] في اجتماعِ الحاءِ مع الهاءِ، وذلك حيث لا يَصِحُّ الإدغامُ. وقد أَوصى عُلماءُ التَّجويدِ بإظهارِ الضَّادِ مع الظَّاءِ إذا تَلاقَيا كما في هذه الآيةِ، وقولِه: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ [الفرقان: 27] .
5- مِنَ الفُقهاءِ مَنِ استدَلَّ بقولِه تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ على وُجوبِ الصَّلاةِ عليه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في الخُطبةِ، وصلاةِ الجِنازةِ، واستِحبابِها عَقِبَ التَّلبيةِ .
6- قال أبو بكرِ بنُ عَيَّاشٍ: (أهلُ السُّنَّةِ يَبقَونَ ويَبقى ذِكْرُهم، وأهلُ البِدعةِ يموتون ويموتُ ذِكْرُهم)؛ وذلك أنَّ أهلَ البدعةِ شَنِئُوا بعضَ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأبتَرَهم بقَدْرِ ذلك، والَّذين أَعلنوا ما جاء به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صار لهم نصيبٌ مِن قولِه تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ؛ فإنَّ ما أَكرمَ اللهُ به نبيَّه مِن سعادةِ الدُّنيا والآخرةِ فلِلْمُؤمنينَ المُتابِعينَ نصيبٌ بقَدْرِ إيمانِهم، فما كان مِن خصائصِ النُّبُوَّةِ والرِّسالةِ فلَمْ يُشارِكْ فيه أحَدٌ مِن أُمَّتِه، وما كان مِن ثَوابِ الإيمانِ والأعمالِ الصَّالحةِ فلِكُلِّ مؤمنٍ نصيبٌ بقَدْرِ ذلك .
7- في قَولِه تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا سُؤالٌ: أنَّ اليُسرَ لا يكونُ مع العُسْرِ؛ لأنَّهما ضِدَّانِ فلا يجتَمِعانِ.
الجوابُ: لَمَّا كان وُقوعُ اليُسرِ بعْدَ العُسرِ بزَمانٍ قليلٍ، كان مقطوعًا به؛ فجُعِلَ كالمقارِنِ له ، وفي ذلك تَبشيرٌ لرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بحصولِ اليُسرِ عاجلًا، فلَفْظُ (مع) للمُصاحَبةِ، لَمَّا عيَّر المشرِكون المسلِمينَ بفَقْرِهم، وَعَدَهم اللهُ يُسرًا قَريبًا مِن زَمانِ عُسْرِهم، وقُرِنَ اليُسرُ مع العُسْرِ زِيادةً في التَّسليةِ وتَقويةِ القلْبِ، فجُعِلَ اليسرُ كالمصاحِبِ للعُسرِ في سُرعةِ مَجيئهِ .
8- في قَولِه تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا بِشارةٌ عَظيمةٌ أنَّه كُلَّما وُجِدَ عُسرٌ وصُعوبةٌ فإنَّ اليُسرَ يُقارِنُه ويُصاحِبُه، حتَّى لو دخل العُسرُ جُحْرَ ضَبٍّ لَدخَلَ عليه اليُسرُ فأخرَجَه، كما قال تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق: 7] ، وكما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وإنَّ الفَرَجَ مع الكَرْبِ، وإنَّ مع العُسرِ يُسْرًا)) .
9- كَلمةُ (مع) هنا في قَولِه تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا مُستعمَلةٌ في قُربِ حُصولِ اليُسرِ عَقِبَ حُلولِ العُسرِ أو ظُهورِ بَوادرِه، وبذلك يَندفِعُ التَّعارُضُ بيْن هذه الآيةِ وبيْن قولِه تعالَى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق: 7] ؛ فهذه الآيةُ في عُسْرٍ خاصٍّ يَعرِضُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وآيةُ سُورةِ (الطَّلاقِ) عامَّةٌ، وللبَعديَّةِ فيها مَراتبُ مُتفاوِتةٌ .
10- في قَولِه تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا غَنيمةٌ للمؤمِنِ ليطمَئِنَّ إليه، ولا يَضيقَ صدْرُه مِن عُسْرٍ يَلْحَقُه؛ فإنَّ مع كلِّ عُسْرٍ يُسرَينِ ، والعُسْرُ وإنْ تَكَرَّرَ مرَّتينِ فتَكَرَّرَ بلَفظِ المعرفةِ؛ فهو واحدٌ، واليُسْرُ تَكَرَّرَ بلَفظِ النَّكِرةِ فهو يُسرانِ؛ فالعُسْرُ محفوفٌ بيُسْرَينِ: يُسْرٌ قَبْلَه، ويُسْرٌ بعدَه؛ فلن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسرينِ ، ففي تعريفِ العُسرِ بالألِفِ واللَّامِ -الدَّالَّةِ على الاستغراقِ والعُمومِ- دَلالةٌ على أنَّ كُلَّ عُسرٍ وإنْ بلغ مِن الصُّعوبةِ ما بَلَغ فإنَّ التَّيسيرَ في آخِرِه ملازِمٌ له . ففَرَجُ اللهِ عزَّ وجلَّ يأتي مع شِدَّةِ الكَرْبِ؛ فكُلَّما اشتدَّ الكَرْبُ فاعلَمْ أنَّه دنا الفَرَجُ، وقد جَعَلَ سُبحانَه مقابِلَ العُسْرِ الواحِدِ يُسرَينِ .
11- قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، ومِن لطائفِ أسرارِ اقترانِ الفَرَجِ بالكَرْبِ، واليُسْرِ بالعُسْرِ: أنَّ الكَرْبَ إذا اشتدَّ وعَظُمَ وتناهى حَصَلَ للعبدِ الإياسُ مِن كَشْفِه مِن جهةِ المخلوقينَ، وتَعَلَّقَ قلْبُه باللهِ وَحْدَه، وهذا هو حقيقةُ التَّوكُّلِ على اللهِ تعالى، وهو مِن أعظَمِ الأسبابِ الَّتي تُطْلَبُ بها الحوائجُ؛ فإنَّ اللهَ يَكفي مَن توكَّلَ عليه، كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] ، وأيضًا فإنَّ المؤمنَ إذا استبطأَ الفَرَجَ، وأَيِسَ منه بعْدَ كثرةِ دُعائِه وتضَرُّعِه، ولم يَظْهَرْ عليه أثَرُ الإجابةِ؛ رَجَعَ إلى نفْسِه باللَّائمةِ، وقال لها: إنَّما أُتِيتُ مِن قِبَلِكِ، ولو كان فيكِ خيرٌ لَأُجِبْتُ، وهذا اللَّومُ أحَبُّ إلى اللهِ مِن كثيرٍ مِن الطَّاعاتِ؛ فإنَّه يُوجِبُ انكِسارَ العبدِ لِمَولاه، واعتِرافَه له بأنَّه أهلٌ لِمَا نَزَلَ مِن البلاءِ، وأنَّه ليس بأهلٍ لإجابةِ الدُّعاءِ؛ فلذلك تُسْرِعُ إليه حينَئذٍ إجابةُ الدُّعاءِ، وتفريجُ الكُرَبِ؛ فإنَّه تعالى عندَ المُنكَسِرةِ قُلوبُهم مِن أجْلِه .
12- قيل: إنَّ معنى قولِه تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ: إذا فرَغْتَ مِنَ الصَّلاةِ وأكمَلْتَها فانصَبْ في الدُّعاءِ، وإلى رَبِّكَ فارغَبْ في سؤالِ مَطالبِك، واستدَلَّ مَن قال بهذا القَولِ على مَشروعيَّةِ الدُّعاءِ والذِّكرِ عَقِبَ الصَّلَواتِ المكتوباتِ .
13- قولُه تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ جَمَعَ نَوعَيْ دُعاءِ اللهِ؛ وذلك أنَّ دُعاءَ اللهِ المذكورَ في القُرآنِ نَوعانِ: دُعاءُ عبادةٍ، ودُعاءُ مسألةٍ ورَغبةٍ .
14- الفاءُ في قولِه تعالى: فَانْصَبْ وقولِه: فَارْغَبْ رابِطةٌ للفِعلِ؛ لأنَّ تَقديمَ المعمولِ يَتضمَّنُ معْنى الاشتِراطِ والتَّقييدِ؛ فإنَّ تَقديمَ المعمولِ لَمَّا أفادَ الاختصاصَ نَشَأَ منه معْنى الاشتراطِ، وهو كَثيرٌ في الكلامِ؛ قال تعالَى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ [الزمر: 66] ، وقال: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 3-5] ، وفي تَقديمِ المجرورِ قال تعالَى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: 26] ، بلْ قد يُعامَلُ مُعامَلةَ الشَّرطِ في الإعرابِ بجَزْمِ الفِعلَينِ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ فيه إسنادُ الفِعلِ إلى ضَميرِ العظَمةِ نَشْرَحْ؛ للإيذانِ بعَظَمتِه، وجَلالةِ قَدْرِه .
- وفي قولِه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ استُفهِمَ عن انتِفاءِ الشَّرحِ على وَجْهِ الإنكارِ؛ مُبالَغةً في إثباتِه، وللإيذانِ بأنَّ ثُبوتَه مِنَ الظُّهورِ بحيثُ لا يَقدِرُ أحدٌ على أنْ يُجيبَ عنه بغيرِ (بَلَى)؛ فالهمزةُ في أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ للإنكارِ، والإنكارُ نفْيٌ، والنَّفيُ إذا دَخَل على النَّفيِ عاد إثباتًا، فأفاد إثباتَ الشَّرحِ وإيجابَه، فكأنَّه قِيل: شَرَحْنا لك صَدْرَك؛ ولذلك عُطِفَ عليه (وَضَعْنا) اعتبارًا للمعْنى .
- وقيل: هو استِفهامٌ تَقريريٌّ على النَّفيِ، والمقصودُ التَّقريرُ على إثباتِ المنفيِّ. وهذا التَّقريرُ مَقصودٌ به التَّذكيرُ مِن أجْلِ أنْ يُراعِيَ هذه المِنَّةَ عندَما يُخالِجُه ضِيقُ صَدْرٍ ممَّا يَلقاهُ مِن أذَى قومٍ يُريدُ صَلاحَهم، وإنقاذَهُم مِن النارِ، ورَفْعَ شَأنِهم بيْن الأُمَمِ؛ ليَدومَ على دَعوتِه العَظيمةِ نَشيطًا، غيرَ ذي أسَفٍ ولا كَمَدٍ .
- والصَّدرُ مُرادٌ به الإحساسُ الباطنيُّ الجامعُ لمعْنى العقْلِ والإدراكِ. وشَرْحُ صَدرِه كِنايةٌ عن الإنعامِ عليه بكلِّ ما تَطمَحُ إليه نفْسُه الزَّكيَّةُ مِن الكَمالاتِ، وإعلامِه برِضا اللهِ عنه، وبِشارتِه بما سيَحصُلُ للدِّينِ الَّذي جاء به مِن النَّصرِ .
- واللَّامُ في قولِه: لَكَ لامُ التَّعليلِ، وهو يُفيدُ تَكريمًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ اللهَ فَعَلَ ذلك لأجْلِه .
- وفي ذِكرِ الجارِّ والمجرورِ لَكَ قبْلَ ذِكرِ المشروحِ سُلوكُ طَريقةِ الإبهامِ للتَّشويقِ؛ فإنَّه لَمَّا ذُكِرَ فِعلُ نَشْرَحْ عَلِمَ السَّامعُ أنَّ ثَمَّ مَشروحًا، فلمَّا وَقَعَ قولُه: لَكَ قَوِيَ الإبهامُ فازدادَ التَّشويقُ؛ لأنَّ لَكَ يُفيدُ معْنى: شَيئًا لأجْلِك، فلمَّا وَقَعَ بعْدَه قولُه: صَدْرَكَ تَعيَّنَ المشروحُ المُترقَّبُ، فتَمكَّنَ في الذِّهنِ كَمالَ تَمكُّنٍ، وللإيذانِ مِن أوَّلِ الأمرِ بأنَّ الشَّرحَ مِن مَنافِعِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ومَصالِحِه، مُسارَعةً إلى إدخالِ المَسَرَّةِ في قلْبِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكذا الكلامُ في وَوَضَعْنَا عَنْكَ [الشرح: 2] ، لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 4] .
2- قولُه تعالَى: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ
- قولُه: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ عَنْكَ مُتعلِّقٌ بـ (وَضَعْنَا)، وتَقديمُه على المفعولِ الصَّريحِ مع أنَّ حقَّه التَّأخُّرُ عنه؛ لأنَّ القصْدَ إلى تَعجيلِ المَسرَّةِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ؛ ليَتمكَّنَ عندَ وَقتِ وُرودِه فضْلَ تَمكُّنٍ، ولِما أنَّ في وَصْفِه نَوعَ طُولٍ، فتَأخيرُ الجارِّ والمجرورِ عنه مُخِلٌّ بتَجاوُبِ أطرافِ النَّظْمِ الكريمِ .
- وإنَّما لم يُذكَرْ مع وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ لَفظُ (لك) بأنْ يُقالَ: (ووَضَعْنا لك وِزرَك)؛ للاستِغناءِ بقولِه: عَنْكَ؛ فإنَّه في إفادةِ الإبهامِ ثمَّ التَّفصيلِ مُساوٍ لكَلمةِ (لك)، وهي في إفادةِ العِنايةِ به تُساوي كَلمةَ (لك)؛ لأنَّ فِعلَ الوضْعِ المُعدَّى إلى الوِزرِ يدُلُّ على أنَّ الوضْعَ عنه، فكانتْ زِيادةُ عَنْكَ إطنابًا يُشيرُ إلى أنَّ ذلك عِنايةٌ به نَظيرَ قولِه: لَكَ الَّذي قبْلَه، فحَصَلَ بذِكرِ عَنْكَ إيفاءٌ إلى تَعديةِ فِعلِ (وَضَعْنَا)، مع الإيفاءِ بحقِّ الإبهامِ ثمَّ البَيانِ .
- قولُه: الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ تَعديةُ فِعلِ أَنْقَضَ إلى الظَّهرِ تَبَعٌ لتَشبيهِ المَشَقَّةِ بالحِمْلِ؛ فالتَّركيبُ تَمثيلٌ لمُتجَشِّمِ المَشاقِّ الشَّديدةِ بالحَمولةِ المُثقَلةِ بالأحمالِ تَثقيلًا شَديدًا حتَّى يُسمَعَ لعِظامِ ظَهرِها فَرقعةٌ وصَريرٌ، وهو تَمثيلٌ بَديعٌ؛ لأنَّه تَشبيهٌ مُركَّبٌ قابلٌ لتَفريقِ التَّشبيهِ على أجزائِه، ووَصْفُ الوِزرِ بهذا الوصْفِ تَكميلٌ للتَّمثيلِ بأنَّه وِزرٌ عَظيمٌ .
- وعطفُ وَوَضَعْنَا وَرَفَعْنَا بصِيغةِ المُضِيِّ على فِعلِ نَشْرَحْ بصِيغةِ المضارِعِ؛ لأنَّ (لَمْ) قَلَبَت زمَنَ الحالِ إلى المُضيِّ، فعُطِفَ عليه الفِعلانِ بصِيغةِ المُضيِّ؛ لأنَّهما داخِلانِ في حيِّزِ التَّقريرِ، فلمَّا لم يَقترِنْ بهما حرْفُ (لَمْ) صُيِّرَ بهما إلى ما تُفيدُه (لَمْ) مِن معْنى المُضيِّ .
3- قولُه تعالَى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ في ذِكرِ الجارِّ والمجرورِ لَكَ قبْلَ ذِكرِ الشَّيءِ المرفوعِ سُلوكُ طَريقةِ الإبهامِ للتَّشويقِ؛ فإنَّه لَمَّا ذُكِرَ فِعلُ (رَفَعَ) عَلِمَ السَّامعُ أنَّ ثَمَّ شيئًا مَرفوعًا، فلمَّا وَقَعَ قولُه: لَكَ قَوِيَ الإبهامُ فازدادَ التَّشويقُ؛ لأنَّ لَكَ يُفيدُ معْنى شَيئًا لأجْلِك، فلمَّا وقَعَ بعْدَه قولُه: ذِكْرَكَ تعيَّنَ الشَّيءُ المرفوعُ المُترقَّبُ، فتَمكَّنَ في الذِّهنِ كَمالَ تَمكُّنٍ، وفي تَقديمِه أيضًا تَعجيلٌ للمَسرَّةِ .
- ورفْعُ الذِّكرِ مُعبَّرٌ به عن إلهامِ النَّاسِ لأنْ يَذكُروه بخَيرٍ، وذلك بإيجادِ أسبابِ تلك السُّمعةِ حتَّى يَتحدَّثَ بها النَّاسُ، فعُبِّرَ بالرَّفعِ عن حُسنِ الذِّكرِ؛ لأنَّ الرَّفعَ جَعْلُ الشَّيءِ عاليًا لا تَنالُه جَميعُ الأيْدي ولا تَدوسُه الأرجُلُ، فقد فَطَرَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مَكارمَ يَعِزُّ وُجودُ نَوعِها، ولم يَبلُغْ أحدٌ شَأْوَ ما بَلَغَه منها، حتَّى لُقِّبَ في قَومِه بالأمينِ، ومِن عَظيمِ رفْعِ ذِكْرِه أنَّ اسمَه مُقترِنٌ باسمِ اللهِ تعالَى في كَلمةِ الإسلامِ، وهي كَلمةُ الشَّهادةِ .
4- قولُه تعالَى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ذَكَّرَ الله نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم ما أنْعَمَ به عليه مِن جَلائلِ النِّعَمِ، ثمَّ قال: مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، كأنَّه قال: خَوَّلْناك ما خوَّلْناك، فلا تَيْأَسْ مِن فضْلِ اللهِ؛ فإنَّ مع العُسرِ الَّذي أنتم فيه يُسرًا، فهو تَقريرٌ لِما قبْلَه، ووَعْدٌ كريمٌ بتَيسيرِ كُلِّ عسيرٍ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وللمؤمنينَ .
- والفاءُ في فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا فَصيحةٌ؛ تُفصِحُ عن كَلامٍ مُقدَّرٍ يدُلُّ عليه الاستفهامُ التَّقريريُّ هنا، أي: إذا علِمْتَ هذا وتَقرَّرْ، فاعْلَمْ أنَّ اليُسرَ مُصاحبٌ للعُسرِ .
- وحرْفُ (إنَّ) للاهتِمامِ بالخبَرِ، وإنَّما لم يُستَغْنَ بها عن الفاءِ -فـ (إنَّ) تُغْني غَناءَ فاءِ التَّسبُّبِ-؛ لأنَّ الفاءَ هنا أُرِيدَ بها الفَصيحةُ مع التَّسبُّبِ، فلو اقتُصِرَ على حرْفِ (إنَّ) لَفاتَ معْنى الفَصيحةِ .
- ويَجوزُ أنْ تكونَ جُملةُ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا مُعترِضةً بيْن جُملةِ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 4] وجُملةِ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [الشرح: 7] ؛ تَنبيهًا على أنَّ اللهَ تعالى لَطيفٌ بعِبادِه، فقدَّرَ ألَّا يَخلُوَ عُسْرٌ مِن مُخالَطةِ يُسْرٍ، وأنَّه لولا ذلك لَهَلَكَ النَّاسُ؛ قال تعالَى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ [النحل: 61] .
- ولَمَّا كان اليُسرُ نَقيضَ العُسرِ، كانت مُصاحَبةُ اليُسرِ للعُسرِ مُقتضيةً نقْضَ تَأثيرِ العُسرِ ومُبطِلةً لعَمَلِه، فهو كِنايةٌ رَمزيَّةٌ عن إدراكِ العِنايةِ الإلهيَّةِ به فيما سَبَقَ، وتَعريضٌ بالوعْدِ باستِمرارِ ذلك في كلِّ أحوالِه. وسِياقُ الكلامِ وَعْدٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يُيسِّرَ اللهُ له المَصاعبَ كلَّما عَرَضَت له، فاليُسرُ لا يَتخلَّفُ عن اللَّحاقِ بتلك المَصاعبِ، وذلك مِن خَصائصِ كَلمةِ (مع) الدَّالَّةِ على المُصاحَبةِ .
- قولُه: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ليس تَكرارًا؛ فالعسرُ واحدٌ، واليسرُ اثنانِ؛ بدَليلِ تَنكيرِهما. وقيل: كُرِّرَ ذلك للتَّأكيدِ؛ لتَعزيزِ معْناهُ في النُّفوسِ، وتَمكينِه في القلوبِ، وكما يُكرَّرُ المفرَدُ في قَولِك: جاءني زَيدٌ زيدٌ، ولاطِّرادِ هذا الوعْدِ وتَعميمِه؛ لأنَّه خبَرٌ عَجيبٌ، فاليُسرانِ مُتَّحدانِ كالعُسرينِ . ومِن المُقرَّرِ أنَّ المقصودَ مِن تَأكيدِ الجُملةِ في مِثلِه، هو تَأكيدُ الحُكْمِ الَّذي تَضمَّنَه الخبَرُ، ولا شكَّ أنَّ الحُكمَ المُستفادَ مِن هذه الجُملةِ هو ثُبوتُ الْتِحاقِ اليُسرِ بالعُسرِ عندَ حُصولِه، فكان التَّأكيدُ مُفيدًا تَرجيحَ أثَرِ اليُسرِ على أثَرِ العُسرِ .
- والتَّنكيرُ في اليُسرِ في الموضعينِ للتَّفخيمِ والتَّعظيمِ، كأنَّه قِيل: إنَّ مع العُسرِ يُسرًا عَظيمًا يَغلِبُ العُسرَ .
- والتَّعريفُ في الْعُسْرِ قيل: إنَّه تَعريفُ العهْدِ، أي: العُسرِ الَّذي عَهِدْتَه وعَلِمْتَه، وهو مِن قَبيلِ ما يُسمِّيه نُحاةُ الكوفةِ بأنَّ (ألْ) فيه عِوَضٌ عن المضافِ إليه، أي: فإنَّ مع عُسْرِك يُسرًا، فتكون السُّورةُ كلُّها مَقصورةً على بَيانِ كَرامةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عندَ ربِّه تعالَى، وَعَدَ اللهُ تعالَى نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ اللهَ جَعَلَ الأُمورَ العَسِيرةَ عليه يَسِيرةً له، وهو ما سَبَقَ وَعْدُه له بقولِه: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى: 8] . ويجوزُ أنْ يكونَ هذا وعْدًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولأُمَّتِه؛ لأنَّ ما يَعرِضُ له مِن عُسرٍ إنَّما يَعرِضُ له في شُؤونِ دَعوتِه للدِّينِ ولصالحِ المسلمينَ .
5- قولُه تعالَى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ
- قولُه: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ تَفريعٌ على ما تقرَّر مِن التَّذكيرِ باللُّطْفِ والعنايةِ ووعْدِه بتيسيرِ ما هو عَسِيرٌ عليه في طاعَتِه الَّتي أعظمُها تبليغُ الرِّسالَةِ دُونَ مَلَلٍ ولا ضَجَرٍ .
- والفاءُ في فَإِذَا عاطِفةٌ على مُقدَّرٍ يَستحِقُّه المقامُ. ويجوزُ جعْلُها استئنافيَّةً كأنَّها جَوابٌ لسُؤالٍ نَشَأَ، وهو: ماذا بعْدَ الشُّكرِ والعبادةِ والاجتهادِ فيهما ؟
- ولم يُذكَرْ هنا مُتعلَّقُ فَرَغْتَ، وسِياقُ الكلامِ يَقْتضي أنَّه لازمُ أعمالٍ يَعمَلُها الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما أنَّ مَساقَ السُّورةِ في تَيسيرِ مَصاعبِ الدَّعوةِ وما يحُفُّ بها، فالمعْنى: إذا أتممْتَ عَمَلًا مِن مَهامِّ الأعمالِ، فأقبِلْ على عمَلٍ آخَرَ، بحيث يَعمُرُ أوقاتَه كلَّها بالأعمالِ العَظيمةِ -وذلك على قولٍ-؛ فالمَقصودُ بالأمرِ هو فَانْصَبْ، وأمَّا قولُه: فَإِذَا فَرَغْتَ فتَمهيدٌ وإفادةٌ لإيلاءِ العمَلِ بعمَلٍ آخَرَ في تَقريرِ الدِّينِ ونفْعِ الأُمَّةِ، فحُذِفَ المُتعلَّقُ هنا لقصْدِ العُمومِ، وهو عُمومٌ عُرفيٌّ لنَوعٍ مِن الأعمالِ الَّتي دلَّ عليها السِّياقُ؛ ليَشملَ كلَّ مُتعلَّقٍ عَمِلَه ممَّا هو مُهِمٌّ .
- وتَقديمُ فَإِذَا فَرَغْتَ على فَانْصَبْ؛ للاهتمامِ بتَعليقِ العمَلِ بوقْتِ الفراغِ مِن غيرِه لتَتعاقَبَ الأعمالُ .
- وهذه الآيةُ مِن جَوامعِ الكلِمِ القرآنيَّةِ؛ لِما احتَوَت عليه مِن كَثرةِ المعاني .
- قولُه: وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ عُطِفَ على تَفريعِ الأمرِ بالشُّكرِ على النِّعَمِ، أَمْرٌ بطلَبِ استِمرارِ نِعَمِ اللهِ تعالَى عليه، كما قال تعالَى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7] .
- وتَقديمُ (إِلَى رَبِّكَ) على فَارْغَبْ؛ لإفادةِ الاختصاصِ، أي: إليه لا إلى غَيرِه تكونُ رَغبتُك، ولا تَسأَلْ إلَّا فضْلَه مُتوكِّلًا عليه؛ فإنَّ صِفةَ الرِّسالةِ أعظَمُ صِفاتِ الخلْقِ، فلا يَليقُ بصاحِبِها أنْ يَرغَبَ إلى غيرِ اللهِ تعالَى .
- وحُذِفَ مَفعولُ (ارْغَبْ)؛ ليَعُمَّ كلَّ ما يَرغَبُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهلْ يَرغَبُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا في الكَمالِ النَّفسانيِّ وانتشارِ الدِّينِ ونصْرِ المسلمينَ ؟!
- وتَعديةُ فِعلِ فَارْغَبْ هنا بحرْفِ (إلى)؛ لِتَضمينِه معْنى الإقبالِ والتَّوجُّهِ، تَشبيهًا بسَيرِ السَّائرِ إلى مَن عِندَه حاجتُه، كما قال تعالَى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي [الصافات: 99] .