موسوعة التفسير

سورةُ النَّاسِ
الآيات (1-6)

ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ

غريب الكلمات:

الْخَنَّاسِ: أي: الشَّيطانِ الَّذي يَخنِسُ -أي: يَرجِعُ ويَتأخَّرُ ويَستَتِرُ- إذا ذُكِرَ اللهُ عزَّ وجَلَّ، وأصلُ (خنس): يدُلُّ على استِخفاءٍ وتسَتُّرٍ [15] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 542)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 214)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/223)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 478)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 483). وذكر ابنُ القيِّمِ أنَّ الخَنَّاسَ فَعَّالٌ مِن خَنَسَ يَخنِسُ، وأنَّه مأخوذٌ مِن معنيَينِ؛ الأوَّلُ: مِن التَّواري والاختِفاءِ بعْدَ ظُهورٍ، والثَّاني: التَّأخُّرُ والرُّجوعُ إلى وراء. يُنظر: ((بدائع الفوائد)) (2/255، 256). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بقَولِه: قُلْ -يا محمَّدُ- متعَوِّذًا باللهِ وَحْدَه: ألتَجِئُ وأستجيرُ برَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، مَعبودِ النَّاسِ الحَقِّ؛ مِن شَرِّ الشَّيطانِ الَّذي يُوسوِسُ بالشَّرِّ ويَرجِعُ عن العَبدِ إذا ذكَرَ رَبَّه، الَّذي يُلقي وَساوِسَه في صُدورِ النَّاسِ، مِن شَياطينِ الجِنِّ وشياطينِ الإنسِ.

 تفسير الآيات:

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1).
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- متعَوِّذًا باللهِ وَحْدَه: ألتَجِئُ وأستجيرُ برَبِّ النَّاسِ الَّذي يُدَبِّرُ أمورَهم، ويُصلِحُ أحوالَهم [16] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (20/260)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/517)، ((تفسير الشوكاني)) (5/642)، ((تفسير القاسمي)) (9/579). .
مَلِكِ النَّاسِ (2).
أي: مَلِكِ جَميعِ النَّاسِ، فهُم تحتَ سُلطانِه وتدبيرِه، وقُدرتِه وقَهْرِه، ويَنفُذُ فيهم أمْرُه وقضاؤُه دونَ غَيرِه [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/753)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/426)، ((تفسير الشوكاني)) (5/642)، ((تفسير القاسمي)) (9/579)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 355). .
إِلَهِ النَّاسِ (3).
أي: مَعبودِ النَّاسِ الحَقِّ، المُستَحِقِّ للعبادةِ وَحْدَه، وكُلُّ مَعبودٍ سِواه باطِلٌ [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/753)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/517)، ((تفسير القاسمي)) (9/579)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 355). .
مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أكمَلَ الاستِعاذةَ مِن جميعِ وُجوهِها الَّتي مَدارُها الإحسانُ أو العَظَمةُ، أو القَهرُ أو الإذعانُ والتَّذَلُّلُ؛ ذكَرَ المُستعاذَ منه، فقال [19] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/430). :
مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4).
أي: ألتَجِئُ وأستجيرُ برَبِّ النَّاسِ مِن شَرِّ الشَّيطانِ الَّذي يُوسوِسُ بالشَّرِّ، والَّذي يَذهَبُ عن العبدِ ويتأخَّرُ ويختَفي إذا ذكَرَ رَبَّه [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/753-756)، ((تفسير القرطبي)) (20/261، 262)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/255)، ((تفسير ابن كثير)) (8/539)، ((تفسير السعدي)) (ص: 938)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 355). قال القرطبي: (ووُصِف بالخنَّاسِ؛ لأنَّه كثيرُ الاختفاءِ؛ ومنه قولُه تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ [التكوير: 15] يعني: النُّجومَ؛ لاختِفائِها بعْدَ ظُهورِها. وقيل: لأنَّه يَخنِسُ إذا ذكَر العبدُ الله؛ أي: يتأخَّرُ). ((تفسير القرطبي)) (20/262). ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/378). وممَّن قال في الجُملةِ بأنَّ معنى الخَنَّاسِ: الَّذي يَتأخَّرُ أو يُدبِرُ إذا ذكَرَ العَبدُ رَبَّه: السَّمْعانيُّ، والزمخشري، والنسفي، والخازن، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/ 308)، ((تفسير الزمخشري)) (4/824)، ((تفسير النسفي)) (3/700)، ((تفسير الخازن)) (4/503)، ((تفسير السعدي)) (ص: 938)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 355). قال ابنُ القيِّم: (الخنَّاسُ مأخوذٌ مِن ... الاختفاءِ، والرُّجوعِ والتَّأخُّرِ؛ فإنَّ العبدَ إذا غَفَل عن ذِكرِ اللهِ جَثَم على قَلْبِه الشَّيطانُ، وانبسَطَ عليه وبَذَر فيه أنواعَ الوَساوِسِ الَّتي هي أصلُ الذُّنوبِ كُلِّها، فإذا ذكَرَ العَبدُ رَبَّه واستعاذ به انخنَسَ وانقَبَض كما يَنخَنِسُ الشَّيءُ لِيَتوارى، وذلك الانخناسُ والانقباضُ هو أيضًا تجَمُّعٌ ورُجوعٌ وتأخُّرٌ عن القَلبِ إلى خارجٍ، فهو تأخُّرٌ ورُجوعٌ معه اختِفاءٌ، وخَنَس وانخنَسَ يدُلُّ على الأمْرَينِ معًا). ((بدائع الفوائد)) (2/255، 256). وقال ابن عاشور: (والخنسُ والخنوسُ: الاختفاءُ. والشَّيطانُ يُلقَّبُ بـ «الخنَّاسِ»؛ لأنَّه يَتَّصِلُ بعقلِ الإنسانِ وعَزمِه مِن غيرِ شُعورٍ منه، فكأنَّه خنَس فيه، وأهلُ المكرِ والكَيدِ والتَّختُّلِ خنَّاسونَ؛ لأنَّهم يَتحَيَّنونَ غَفَلاتِ النَّاسِ، ويَتسترونَ بأنواعِ الحِيَلِ؛ لكيلا يَشعُرَ النَّاسُ بهم...، ولأنَّ خواطرَ الشَّرِّ يهمُّ بها صاحبُها فيُطرِقُ ويَترَدَّدُ ويَخافُ تَبِعاتِها، وتَزجُرُه النَّفْسُ اللَّوَّامةُ، أو يَزَعُه وازِعُ الدِّينِ أو الحياءِ أو خَوفِ العِقابِ عندَ الله أو عندَ النَّاسِ، ثمَّ تُعاوِدُه حتَّى يَطمئنَّ لها ويَرتاضَ بها، فيُصمِّمَ على فعلِها فيَقتَرِفَها، فكأنَّ الشَّيطانَ يَبدو له ثمَّ يَختفي، ثمَّ يَبدو ثمَّ يَختفي حتَّى يَتمَكَّنَ مِن تَدْلِيَتِه بغُرورٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/634). .
كما قال تبارك وتعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف: 16-17] .
وقال سُبحانَه: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [الأعراف: 200 - 202] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مِنكم مِن أحَدٍ إلَّا وقد وُكِّلَ به قَرينُه مِنَ الجِنِّ. قالوا: وإيَّاك يا رسولَ اللهِ؟ قال: وإيَّاي، إلَّا أنَّ اللهَ أعانَني عليه فأسْلَمَ [21] فأَسْلَم: برفعِ الميمِ وفَتحِها، وهُما روايتانِ مشهورتانِ، فمَن رفَع قال: معناه: أسْلَمُ أنا مِن شَرِّه وفِتْنَتِه، ومَن فتَح قال: إنَّ القَرينَ أسْلَمَ -مِن الإسلامِ- وصار مؤمنًا لايأمُرُني إلَّا بخَيرٍ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (17/157). ؛ فلا يأمُرُني إلَّا بخَيرٍ)) [22] رواه مسلم (2814). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَعقِدُ الشَّيطانُ على قافيةِ رأسِ أحَدِكم إذا هو نامَ ثلاثَ عُقَدٍ، يَضرِبُ كُلَّ عُقدةٍ: عليكَ لَيلٌ طويلٌ؛ فارقُدْ! فإنِ استيقَظَ فذَكَر اللهَ انحَلَّت عُقْدةٌ، فإنْ توَضَّأَ انحَلَّت عُقْدةٌ، فإن صلَّى انحَلَّت عُقْدةٌ؛ فأصبَحَ نَشيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وإلَّا أصبَحَ خَبيثَ النَّفسِ كَسْلانَ )) [23] رواه البخاريُّ (1142) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (776). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا نُودِيَ للصَّلاةِ أدبَرَ الشَّيطانُ وله ضُراطٌ؛ حتَّى لا يَسمَعَ التَّأذينَ، فإذا قُضِيَ النِّداءُ أقْبَلَ، حتَّى إذا ثُوِّبَ [24] التَّثويبُ: المرادُ به: الإقامةُ؛ فإنَّه رُجوعٌ إلى النِّداءِ، يُقالُ: ثابَ الرَّجُلُ، إذا رجَع. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (3/425). بالصَّلاةِ أدبَرَ، حتَّى إذا قُضِيَ التَّثويبُ أقبَلَ؛ حتَّى يَخطِرَ بيْن المرءِ ونَفْسِه، يقولُ: اذكُرْ كذا، اذكُرْ كذا، لِما لم يكُنْ يَذكُرُ، حتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لا يَدري كمْ صَلَّى !)) [25] رواه البخاريُّ (608) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (389). .
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر صِفةَ المُستعاذِ منه، ذكَرَ إبرازَه لصِفتِه بالفِعلِ، فقال [26] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/433). :
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5).
أي: الَّذي يُلقي في صُدورِ النَّاسِ على وَجهِ الخَفاءِ والتَّكريرِ بالمعاني الباطِلةِ، فيُزَيِّنُ لهم الضَّلالَ، ويَحُثُّهم على الشَّرِّ، ويُثَبِّطُهم عن الخَيرِ [27] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/575)، ((تفسير ابن جزي)) (2/530)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/260-262)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/433)، ((تفسير السعدي)) (ص: 938). .
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الَّذي يُعَلِّمُ الإنسانَ الشَّرَّ تارةً مِنَ الجِنِّ، وأُخرَى مِنَ الإنسِ؛ قال مُبَيِّنًا للوَسواسِ؛ تحذيرًا مِن شياطينِ الإنسِ كالتَّحذيرِ مِن شياطينِ الجِنِّ، مُقَدِّمًا الأهَمَّ الأضَرَّ [28] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/434). :
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6).
أي: أعوذُ باللهِ مِن شَياطينِ الجِنِّ وشياطينِ الإنسِ الَّذين يُوَسوِسونَ بالشَّرِّ في صُدورِ النَّاسِ [29] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/540)، ((الرد على المنطقيين)) لابن تيمية (ص: 506)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/266)، ((تفسير الشوكاني)) (5/643)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/ 635)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 356). ممَّن اختار في الجملةِ القولَ المذكورَ -وهو أنَّ قولَه: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيانٌ للَّذي يُوَسوِسُ، وأنَّهما نَوعانِ: إنْسٌ وجِنٌّ؛ فالجِنِّيُّ يوسوِسُ في صدورِ الإنسِ، والإنسيُّ أيضًا يوسوِسُ إلى الإنسيِّ-: السمعانيُّ، وابن عطية، والنسفي، وابن تيميَّةَ، وابن جُزَي، وابن القيِّم، والكوراني، والشوكاني، والسعدي، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/308)، ((تفسير ابن عطية)) (5/540)، ((تفسير النسفي)) (3/700)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/509)، ((الرد على المنطقيين)) لابن تيمية (ص: 506)، ((تفسير ابن جزي)) (2/530)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/266)، ((تفسير الكوراني)) (ص: 466)، ((تفسير الشوكاني)) (5/643)، ((تفسير السعدي)) (ص: 938)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/635)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 356). وقال ابن تيميَّةَ: (القولُ الصَّحيحُ الَّذي عليه أكثرُ السَّلفِ أنَّ المعنى: مِن شرِّ المُوَسْوِسِ مِن الجِنَّةِ ومِن النَّاسِ، مِن شياطينِ الإنسِ والجنِّ). ((الرد على المنطقيين)) (ص: 506). قال ابن القيِّم: (فالمُوَسْوِسُ نَوعانِ: إنسٌ وجِنٌّ؛ فإنَّ الوَسْوَسةَ هي الإلقاءُ الخَفيُّ في القلبِ، وهذا مشتركٌ بيْن الجِنِّ والإنسِ، وإن كان إلقاءُ الإنسيِّ ووَسوستُه إنَّما هي بواسِطةِ الأُذُنِ، والجِنِّيُّ لا يحتاجُ إلى تلك الواسِطةِ؛ لأنَّه يَدخُلُ في ابنِ آدَمَ ويَجري منه مَجرى الدَّمِ، على أنَّ الجِنِّيَّ قد يَتمَثَّلُ له ويُوَسْوِسُ إليه في أُذُنِه كالإنسيِّ). ((بدائع الفوائد)) (2/266). وقيل: قولُه: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ هو بيانٌ للنَّاسِ المُوَسْوَسِ في صُدورِهم، والمعنى: يُوَسْوِسُ في صُدورِ النَّاسِ الَّذين هُم مِن الجِنِّ والإنسِ، أي: المُوَسْوَسُ في صُدورِهم قِسمانِ: إنسٌ وجِنٌّ، فالوَسْواسُ يُوَسْوِسُ للجِنِّيِّ كما يُوَسْوِسُ للإنسيِّ. وممَّن اختار هذا القولَ: الفَرَّاءُ، وابنُ جرير. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/302)، ((تفسير ابن جرير)) (24/756). وقد ردَّ هذا القولَ وضعَّفه غيرُ واحدٍ؛ منهم: الزمخشريُّ، والبيضاوي، وابنُ تيميَّةَ، وابن القيم، وأبو السعود، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/824)، ((تفسير البيضاوي)) (5/ 350)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/509)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/263)، ((تفسير أبي السعود)) (9/217)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/635). وقيل: المعنى: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الَّذي هو الجِنَّةُ، ومِن شَرِّ النَّاسِ. وممَّن اختاره: الزَّجَّاجُ، والنَّحَّاسُ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/381)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (5/200). قال ابنُ تيميَّةَ: (قَولُه: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ لبَيانِ الوَسْواسِ، أي: الَّذي يُوسوِسُ مِنَ الجِنَّةِ ومِن النَّاسِ في صُدورِ النَّاسِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى قد أخبَرَ أنَّه جَعَل لكُلِّ نَبيٍّ عدوًّا شَياطينَ الإنسِ والجِنِّ، يُوحي بعضُهم إلى بعضٍ زُخْرُفَ القَولِ غُرورًا، وإيحاؤُهم هو وسوستُهم... فالَّذي يوسوِسُ في صدورِ النَّاسِ: نُفوسُهم، وشياطينُ الجِنِّ، وشياطينُ الإنسِ. والوَسْواسُ الخنَّاسُ يتناوَلُ وَسوسةَ الجِنَّةِ، ووَسوسةَ الإنسِ... وأمَّا قَولُ الفَرَّاءِ: إنَّ المرادَ: مِن شَرِّ الوَسْواسِ الَّذي يُوسوِسُ في صُدورِ النَّاسِ؛ الطَّائفتَينِ مِنَ الجِنِّ والإنسِ، وإنَّه سَمَّى الجِنَّ ناسًا كما سَمَّاهم رِجالًا، وسَمَّاهم نفَرًا- فهذا ضعيفٌ؛ فإنَّ لفظَ النَّاسِ أشهَرُ وأظهَرُ وأعرَفُ مِن أن يحتاجَ إلى تنويعِه إلى الجِنِّ والإنسِ... وكذلك قَولُ الزَّجَّاجِ: إنَّ المعنى مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الَّذي هو الجِنَّةُ، ومِن شَرِّ النَّاسِ- فيه ضَعفٌ وإن كان أرجَحَ مِنَ الأوَّلِ؛ لأنَّ شَرَّ الجِنِّ أعظَمُ مِن شَرِّ الإنسِ، فكيف يُطلِقُ الاستعاذةَ مِن جميعِ النَّاسِ، ولا يَستعيذُ إلَّا مِن بَعضِ الجِنِّ؟!). ((مجموع الفتاوى)) (17/509-512). ويُنظر: ((تفسير الرسعني)) (8/781). .
كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام: 112] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف: 27] .
وعن صَفِيَّةَ بنتِ حُيَيٍّ رَضِيَ اللهُ عنها، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ الشَّيطانَ يَجري مِن ابنِ آدَمَ مَجرى الدَّمِ )) [30] رواه البخاري (7171). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يأتي الشَّيطانُ أحَدَكم، فيقولُ: مَن خَلَق كذا؟ مَن خَلَق كذا؟ حتَّى يقولَ: مَن خَلَق رَبَّك؟! فإذا بلَغَه فلْيَستَعِذْ باللهِ ولْيَنْتَهِ [31] ولْيَنْتَهِ: أي: عن الاسْتِرسالِ معه في ذلك، بل يَلجأُ إلى الله في دفْعِه، ويَعلَمُ أنَّه يريدُ إفسادَ دينِه وعقلِه بهذه الوَسوَسةِ، فيَنبغي أن يَجتَهِدَ في دفْعِها، بالاشتِغالِ بغيرِها. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/340). ) [32] رواه البخاريُّ (3276) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (134). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ فيه تعليمُ المُسلِمينَ التَّعَوُّذَ بذلك، فيكونُ لهم مِن هذا التَّعَوُّذِ ما هو حَظُّهم مِن قابليَّةِ التَّعَرُّضِ إلى الوَسْواسِ، ومع السَّلامةِ منه بمِقْدارِ مَراتِبِهم في الزُّلْفى [33] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/632). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ فيه ذَمُّ الوَسْواسِ، ونَدْبُ الاستعاذةِ منهم [34] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 303). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ فيه سُؤالٌ: لا يَخفى ما بيْن هذَينِ الوَصفَينِ اللَّذَينِ وُصِفَ بهما هذا اللَّعينُ الخبيثُ مِنَ التَّنافي؛ لأنَّ الوَسْواسَ كثيرُ الوَسْوَسةِ لِيُضِلَّ بها النَّاسَ، والخَنَّاسَ كَثيرُ التَّأخُّرِ والرُّجوعِ عن إضلالِ النَّاسِ؟
الجوابُ: أنَّ لكُلِّ مَقامٍ مَقالًا، فهو وَسْواسٌ عندَ غَفلةِ العَبدِ عن ذِكْرِ رَبِّه، خَنَّاسٌ عندَ ذِكرِ العَبدِ رَبَّه تعالى، كما دَلَّ عليه قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: 36] ، وقَولُه تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا الآيةَ [35] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 290). [النحل: 99] .
2- في قَولِه تعالى: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ تأمَّلْ حِكمةَ القُرآنِ الكريمِ وجلالتَه كيف أوقَعَ الاستِعاذةَ مِن شَرِّ الشَّيطانِ الموصوفِ بأنَّه الوَسْواسُ الخَنَّاسُ الَّذي يُوَسوِسُ في صُدورِ النَّاسِ، ولم يَقُلْ: «مِن شَرِّ وَسْوَستِه»؛ لِتَعُمَّ الاستِعاذةُ شَرَّه جميعَه؛ فإنَّ قولَه: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ يَعُمُّ كلَّ شَرِّه [36] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/257). .
3- في قَولِه تعالى: الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ تأمَّلْ كيف جاء بِناءُ الْوَسْوَاسِ مُكَرَّرًا؛ لتكريرِه الوَسْوَسةَ الواحِدةَ مِرارًا حتَّى يَعْزِمَ عليها العبدُ، وجاء بناءُ الْخَنَّاسِ على وزنِ «الفَعَّالِ» الَّذي يتكَرَّرُ منه نوعُ الفِعلِ؛ لأنَّه كُلَّما ذُكِرَ اللهُ انْخَنَسَ، ثُمَّ إذا غَفَلَ العبدُ عاوَدَه بالوَسْوَسةِ؛ فجاء بناءُ اللَّفظَينِ مُطابقًا لمعنَيَيهما [37] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/256). .
4- قال اللهُ عزَّ وجلَّ: الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، وجيءَ مِن هذا الفِعلِ بوَزنِ فَعَّالٍ الَّذي للمُبالَغةِ دونَ الخانِسِ والمُنخَنِسِ؛ إيذانًا بشِدَّةِ هُروبِه ورُجوعِه وعِظَمِ نُفورِه عند ذِكرِ اللهِ، وأنَّ ذلك دأبُه ودَيدَنُه، لا أنَّه يَعرِضُ له ذلك عندَ ذِكرِ اللهِ أحيانًا، بل إذا ذُكِرَ اللهُ هَرَب وانخنَسَ وتأخَّرَ؛ فإنَّ ذِكرَ اللهِ هو مِقْمَعَتُه الَّتي يُقمَعُ بها كما يُقمَعُ المفسِدُ والشِّرِّيرُ بالمَقامِعِ الَّتي تَردَعُه؛ مِن سِياطٍ وحديدٍ وعِصِيٍّ ونحوِها؛ فذِكرُ اللهِ يَقمَعُ الشَّيطانَ ويُؤلِمُه ويُؤذيه كالسِّياطِ والمَقامِعِ الَّتي تُؤذي مَن يُضرَبُ بها؛ ولهذا يكونُ شيطانُ المؤمِنِ هزيلًا ضئيلًا مُضنًى؛ ممَّا يُعَذِّبُه ويَقمَعُه به مِن ذِكرِ اللهِ وطاعتِه [38] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/255). .
5- قال اللهُ تعالى: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ وَصَفَه بأعظَمِ صِفاتِه، وأشَدِّها شَرًّا، وأقواها تأثيرًا، وأعَمِّها فسادًا، وهي الوَسْوَسةُ الَّتي هي مَبادئُ الإرادةِ؛ فإنَّ القَلْبَ يكونُ فارِغًا مِنَ الشَّرِّ والمعصيةِ، فيُوسوِسُ إليه ويُخطِرُ الذَّنْبَ ببالِه، فيُصَوِّرُه لنَفْسِه ويُمَنِّيه ويُشَهِّيه؛ فيَصيرُ شَهوةً، ويُزَيِّنُها له ويُحَسِّنُها ويُخَيِّلُها له في خيالٍ تَميلُ نَفْسُه إليه؛ فيصيرُ إرادةً، ثمَّ لا يزالُ يُمَثِّلُ ويُخَيِّلُ، ويُمَنِّي ويُشَهِّي، ويُنَسِّي عِلْمَه بضَرَرِها، ويَطوي عنه سوءَ عاقِبَتِها؛ فيَحُولُ بيْنَه وبينَ مطالعتِه، فلا يرى إلَّا صورةَ المعصيةِ والْتِذاذَه بها فقط، ويَنسى ما وراءَ ذلك؛ فتَصيرُ الإرادةُ عزيمةً جازِمةً، فيَشتَدُّ الحِرصُ عليها مِن القَلْبِ، فيَبعَثُ الجُنودَ في الطَّلَبِ، فيَبعَثُ الشَّيطانُ معهم مَدَدًا لهم وعَونًا [39] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/257، 258). !
6- قال اللهُ تعالى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ وَسْوَسةُ الشَّيطانِ في صَدْرِ الإنسانِ بأنواعِ كثيرةٍ؛ منها: إفسادُ الإيمانِ والتَّشكيكُ في العقائِدِ، فإن لم يَقدِرْ على ذلك أمَرَه بالمعاصي، فإنْ لم يَقدِرْ على ذلك ثَبَّطه عن الطَّاعاتِ، فإن لم يقدِرْ على ذلك أدخَلَ عليه الرِّياءَ في الطَّاعاتِ لِيُحبِطَها، فإنْ سَلِمَ مِن ذلك أدخَلَ عليه العُجْبَ بنَفْسِه، واستكثارَ عَمَلِه، ومِن ذلك أنَّه يُوقِدُ في القَلبِ نارَ الحسَدِ والحِقدِ والغَضَبِ؛ حتَّى يَقودَ الإنسانَ إلى شَرِّ الأعمالِ وأقبَحِ الأحوالِ. وعِلاجُ وَسوَستِه بثلاثةِ أشياءَ؛ واحِدُها: الإكثارُ مِن ذِكرِ اللهِ. وثانيها: الإكثارُ مِن الاستعاذةِ باللهِ منه، ومِن أنفَعِ شَيءٍ في ذلك قراءةُ هذه السُّورةِ. وثالِثُها: مُخالَفتُه والعَزمُ على عِصيانِه [40] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/530). .
7- تأمَّلِ السِّرَّ في قَولِه تعالى: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، ولم يَقُلْ: «في قُلوبِهم»، والصَّدرُ هو ساحةُ القَلبِ وبَيتُه؛ فمِنْه تَدخُلُ الوارداتُ إليه فتَجتَمِعُ في الصَّدرِ، ثُمَّ تَلِجُ في القَلبِ، فهو بمنزلةِ الدِّهليزِ له، ومِن القَلبِ تَخرُجُ الأوامرُ والإراداتُ إلى الصَّدرِ، ثُمَّ تتفَرَّقُ على الجنودِ، ومَن فَهِمَ هذا فَهِمَ قولَه تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ [آل عمران: 154] ؛ فالشَّيطانُ يَدخُلُ إلى ساحةِ القَلبِ وبَيتِه، فيُلقي ما يريدُ إلقاءَه في القَلبِ، فهو مُوَسوِسٌ في الصَّدرِ، ووَسْوَستُه واصِلةٌ إلى القلبِ؛ ولهذا قال تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ [طه: 120] ولم يَقُلْ: «فيه»؛ لأنَّ المعنى: أنَّه ألْقَى إليه ذلك وأوصَلَه فيه؛ فدَخَلَ في قَلْبِه [41] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/262). .
8- في قَولِه تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أنَّ للإنسِ شياطينَ يُستعاذُ مِن شَرِّهم، كما أنَّ للجِنِّ شياطينَ يُستعاذُ منهم [42] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 303). .
9- في قَولِه تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ سُؤالٌ: أنَّه إنْ كان أصلُ الشَّرِّ كلِّه مِن الوَسْواسِ الخَنَّاسِ، فلا حاجةَ إلى ذِكْرِ الاستعاذةِ مِن وَسْواسِ النَّاسِ؛ فإنَّه تابعٌ لوَسْواسِ الجِنِّ!
الجوابُ: بلِ الوَسْوسةُ نَوعان: نوعٌ مِن الجِنِّ، ونوعٌ مِن نُفوسِ الإنسِ، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق: 16] ، فالشَّرُّ مِن الجِهَتينِ جميعًا، والإنسُ لهم شياطينُ كما للجِنِّ شياطينُ، والوَسْوسةُ مِن جنسِ «الوشوشةِ» -بالشِّينِ المعجمةِ-؛ يُقالُ: فلانٌ يُوشوِشُ فُلانًا، وقد وَشْوَشَه: إذا حَدَّثَه سِرًّا في أُذُنِه، وكذلك الوَسْوسةُ، ومنه وَسْوسةُ الحُلِيِّ، لكنْ هو بالسِّينِ المُهمَلةِ أخَصُّ [43] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/516). .
10- إنْ قيلَ: لِمَ خُتِمَ القُرآنُ بالمُعَوِّذَتينِ، وما الحِكمةُ في ذلك؟
فالجوابُ مِن ثلاثةِ أَوجُهٍ:
الأوَّل: لَمَّا كان القُرآنُ مِن أعظَمِ النِّعَمِ على العِبادِ، والنِّعَمُ مَظِنَّةُ الحَسدِ؛ فختمَ بما يُطفِئُ الحَسدَ مِن الاستِعاذَةِ بالله.
الثَّاني: أنَّه يَظهرُ أنَّ المُعَوِّذَتينِ خُتِمَ بهما لأنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال فيهما: ((أُنزِلَت علَيَّ آياتٌ لم يُرَ مِثلُهنَّ قَطُّ )) [44] أخرجه مسلم (814). ، كما قال في فاتحةِ الكتابِ: ((ما أُنزِلَتْ في التَّوراةِ ولا في الإنجيلِ ولا في الزَّبُورِ ولا في الفُرقانِ مِثْلُها )) [45] أخرجه مطوَّلًا الترمذيُّ (2875) واللَّفظُ له، وأحمدُ (9345) مِن حديثِ أبي هريرةَ. صحَّحه الترمذيُّ، وابنُ جرير في ((التفسير)) (8/75)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (2875)، وشعيبٌ في تخريج ((مسند أحمد)) (15/201). ، فافتُتِحَ القُرآنُ بسُورةٍ لم يَنزِلْ مِثلُها، واختُتِمَ بسُورتَينِ لم يُرَ مِثلُهما؛ ليجمعَ حُسنَ الافتِتاحِ والاختِتامِ، ألا ترَى أنَّ الخُطَبَ والرَّسائلَ والقَصائدَ وغيرَ ذلك مِن أَنواعِ الكلامِ إنَّما يُنظَرُ فيها إلى حُسنِ افتِتاحِها واختِتامِها.
الوجهُ الثَّالثُ: أنه يَظهرُ أيضًا أنَّه لَمَّا أُمِرَ القارئُ أن يَفتَتِحَ قِراءتَه بالتَّعَوُّذِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، خُتِمَ القُرآنُ الكريمُ بالمُعَوِّذَتينِ لِيُحصِّلَ الاستِعاذةَ بالله عندَ أوَّلِ القِراءَةِ وعندَ آخِرِ ما يَقرأُ مِن القِراءةِ، فتكونُ الاستِعاذةُ قد اشتَملت على طَرَفَيِ الابتِداءِ والانتِهاءِ، ولِيَكونَ القارئُ مَحفوظًا بحِفظِ الله الَّذي استَعاذَ به مِن أوَّلِ أَمْرِه إلى آخِرِه، وباللهِ التَّوفيقُ، لا رَبَّ غيرُه [46] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/530). .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ
- شابَهَت فاتحةُ هذه السُّورةِ فاتحةَ سُورةِ (الفَلَقِ)، إلَّا أنَّ سُورةَ (الفَلَقِ) تَعَوُّذٌ مِن شُرورِ المَخلوقاتِ مِن حَيوانٍ وناسٍ، وسُورةَ (الناسِ) تَعوُّذٌ مِن شُرورِ مَخلوقاتٍ خَفيَّةٍ، وهي الشَّياطينُ، والأمرُ بالقولِ يَقْتضي المُحافَظةَ على هذه الألفاظِ؛ لأنَّها الَّتي عيَّنَها اللهُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليَتعوَّذَ بها، فإجابتُها مَرجوَّةٌ؛ إذ ليس هذا المَقولُ مُشتمِلًا على شَيءٍ يُكلَّفُ به أو يُعمَلُ حتَّى يَكونَ المرادُ: قُلْ لهم كذا، كما في قَولِه تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] ، وإنَّما هو إنشاءُ معنًى في النَّفْسِ تدُلُّ عليه هذه الأقوالُ الخاصَّةُ [47] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/625، 30/632). .
- والخِطابُ بلَفظِ قُلْ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإذ قد كان قُرآنًا كان خِطابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم به يَشملُ الأُمَّةَ حيث لا دَليلَ على تَخصيصِه به؛ فلذلك أمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعضَ أصحابِه بالتَّعوُّذِ بهذه السُّورةِ، فتكونُ صِيغةُ الأمرِ المُوجَّهةُ إلى المُخاطَبِ مُستعمَلةً في مَعنيَي الخِطابِ مِن تَوجُّهِه إلى مُعيَّنٍ، وهو الأصلُ، ومِن إرادةِ كلِّ مَن يَصِحُّ خِطابُه، وهو طَريقٌ مِن طُرقِ الخِطابِ تدُلُّ على قَصْدِه القرائنُ، فيكونُ مِن استعمالِ المُشتركِ في مَعْنيَيه، واستعمالُ صِيغةِ التَّكلُّمِ في فِعلِ أَعُوذُ يَتبَعُ ما يُرادُ بصِيغةِ الخِطابِ في فِعلِ قُلْ؛ فهو مَأمورٌ به لكلِّ مَن يُريدُ التَّعوُّذَ بها [48] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/625، 626) و(30/632). .
- ولَمَّا كانت مَضرَّةُ الدِّينِ -وهي آفةُ الوَسوسةِ- أعظَمَ مِن مَضرَّةِ الدُّنيا وإنْ عَظُمَت، جاء البِناءُ في الاستِعاذةِ منها بصِفاتٍ ثَلاثٍ (الرَّبُّ، والمَلِكُ، والإلهُ) في قَولِه: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ، وإنِ اتَّحَدَ المطلوبُ، وفي الاستعاذةِ مِن ثَلاثٍ (الغاسقُ، والنَّفَّاثاتُ، والحاسدُ) بصِفةٍ واحدةٍ، وهي الرَّبُّ، وإنْ تَكثَّرَ الَّذي يُستعاذُ منه [49] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/579). .
- وأيضًا لَمَّا كانتِ الاستعاذةُ في السُّورةِ المُتقدِّمةِ مِن المَضارِّ البَدنيَّةِ، وهي تعُمُّ الإنسانَ وغيرَه، والاستِعاذةُ في هذه السُّورةِ مِن الأضرارِ الَّتي تَعرِضُ للنُّفوسِ البَشريَّةِ وتخُصُّها [50] قال أبو السعود: (مَن جعَل مدارَ تخصيصِ الإضافةِ مجرَّدَ كَونِ الاستعاذةِ مِن المَضارِّ المختصَّةِ بالنُّفوسِ البشَريَّةِ فقد قصَّر فى تَوفيةِ المقامِ حقَّه). ((تفسير أبي السعود)) (9/216). ؛ عمَّمَ الإضافةَ ثَمَّ، وخصَّصَها بالنَّاسِ هاهنا، فكأنَّه قِيل: أعوذُ مِن شرِّ المُوَسوِسِ إلى النَّاسِ برَبِّهم، الَّذي يَملِكُ أُمورَهم، ويَستحِقُّ عِبادتَهم [51] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/350). .
- وأيضًا في قَولِه: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ إن قيل: لِمَ قَدَّم وَصْفَه تعالى بِرَبِّ ثمَّ بـ مَلِكِ ثمَّ بـ إِلَهِ؟
فالجوابُ: أنَّ هذا على التَّرتيبِ في الارتقاءِ إلى الأعلى؛ وذلك أنَّ الرَّبَّ قد يُطلَقُ على كثيرٍ مِن النَّاسِ، فيُقالُ: فُلانٌ رَبُّ الدَّارِ، وشِبهُ ذلك، فبدأ به لاشتراكِ معناه، وأمَّا المَلِكُ فلا يُوصَفُ به إلَّا آحادٌ مِنَ النَّاسِ، وهم الملوكُ، ولا شَكَّ أنَّهم أعلى مِن سائِرِ النَّاسِ؛ فلذلك جاء به بعْدَ الرَّبِّ، وأمَّا الإلهُ فهو أعلى مِن المَلِكِ؛ ولذلك لا يدَّعي الملوكُ أنَّهم آلهةٌ، فإنَّما الإلهُ واحِدٌ لا شَريكَ له ولا نَظيرَ؛ فلذلك خُتِمَ به [52] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/529). .
وقيل: رُتِّبَت أوصافُ اللهِ بالنِّسبةِ إلى النَّاسِ تَرتيبًا مُدرَّجًا؛ فإنَّ اللهَ خالِقُهم، ثمَّ همْ غيرُ خارِجينَ عن حُكْمِه إذا شاء أنْ يَتصرَّفَ في شُؤونِهم، ثمَّ زِيدَ بَيانًا بوَصْفِ إلَهيَّتِه لهم؛ ليَتبيَّنَ أنَّ رُبوبيَّتَه لهم وحاكميَّتَه فيهم لَيستْ كرُبوبيَّةِ بَعضِهم بعضًا وحاكميَّةِ بَعضِهم في بَعضٍ [53] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/350)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/632، 633). .
- وعُرِّفَ (رب) بإضافتِه إلى النَّاسِ دونَ غَيرِهم مِن المَربوبينَ؛ لأنَّ الاستعاذةَ مِن شرٍّ يُلْقِيه الشَّيطانُ في قُلوبِ النَّاسِ، فيَضِلُّون ويُضِلُّون، فالشَّرُّ المُستعاذُ منه مَصبُّه إلى النَّاسِ، فناسَبَ أنْ يُستحضَرَ المُستعاذُ إليه بعُنوانِ أنَّه ربُّ مَن يُلْقون الشَّرَّ، ومَن يُلْقى إليهم؛ ليَصرِفَ هؤلاء، ويَدفَعَ عن الآخَرينَ، كما يُقالُ لِمَولى العبْدِ: يا مَولى فُلانٍ، كُفَّ عنِّي عَبْدَك [54] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/823)، ((تفسير أبي حيان)) (10/578)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/632). .
وقيلَ: ذكَر أنَّه رَبُّ النَّاسِ على التَّخصيصِ؛ وذلك لأنَّ أَشرفَ المَخلوقاتِ في العالَمِ هُم النَّاسُ. أو لأنَّ المَأمورَ بالاستِعاذةِ هو الإنسانُ، فإذا قرأَ الإنسانُ هذه، صارَ كأنَّه يقولُ: يا رَبِّ، يا مَلِكي، يا إِلَهِي [55] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/376). .
- قولُه: مَلِكِ النَّاسِ عطْفُ بَيانٍ؛ جِيءَ به لبَيانِ أنَّ تَربيتَه تعالَى إيَّاهم لَيستْ بطَريقِ تَربيةِ سائرِ المُلَّاكِ لِما تحْتَ أيْدِيهم مِن مَمالِيكِهم، بلْ بطَريقِ المُلكِ الكاملِ والتَّصرُّفِ الكُلِّيِّ والسُّلطانِ القاهرِ، وكذا قولُه تعالَى: إِلَهِ النَّاسِ؛ فإنَّه لبَيانِ أنَّ مُلْكَه تعالَى ليس بمُجرَّدِ الاستيلاءِ عليهم، والقِيامِ بتَدْبيرِ أُمورِهم، وسِياستِهم، والتَّولِّي لتَرتيبِ مَبادئِ حِفظِهم وحِمايتِهم كما هو قُصارَى أمْرِ المُلوكِ، بلْ هو بطَريقِ المعبوديَّةِ المُؤسَّسةِ على الأُلوهيَّةِ المُقتضيةِ للقُدْرةِ التَّامَّةِ على التَّصرُّفِ الكُلِّيِّ فيهم؛ إحياءً وإماتةً، وإيجادًا وإعدامًا، فقولُه: إِلَهِ النَّاسِ خاصٌّ لا شَرِكةَ فيه، فجُعِلَ غايةً للبَيانِ، ولم يُكتَفَ بإظهارِ المُضافِ إليه -الَّذي هو النَّاسِ- مرَّةً واحدةً؛ لأنَّ عطْفَ البيانِ بمَنزلةِ عَلَمٍ للاسمِ المُبيَّنِ، ففِيه مَزيدٌ مِن البَيانِ والكشْفِ والتَّقريرِ، فكان مَظِنَّةً للإظهارِ دونَ الإضمارِ [56] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/823)، ((تفسير البيضاوي)) (5/350)، ((تفسير أبي حيان)) (10/578)، ((تفسير أبي السعود)) (9/216)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/633)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/625). .
وقيل: قَولُه: مَلِكِ النَّاسِ المَلِكُ هو المتَّصِفُ بالأمرِ والنَّهيِ، وذلك يَختصُّ بالنَّاطِقينَ؛ ولهذا قال: مَلِكِ النَّاسِ ولم يَقُلْ: مَلِكِ الأشياءِ، وأمَّا قولُه: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ -على قراءةٍ- [الفاتحة: 4] فتقديرُه: «الْمَلِكُ في يومِ الدِّينِ»؛ لقولِه: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] . ويحتَمِلُ أنْ يكونَ خَصَّ النَّاسَ بالذِّكرِ في قَولِه تعالى: مَلِكِ النَّاسِ؛ لأنَّ المخلوقاتِ جمادٌ ونامٍ، والنَّامي صامتٌ وناطقٌ، والنَّاطقُ متكلِّمٌ وغيرُ متكلِّمٍ، فأشرفُ الجميعِ المتكلِّمُ، وهم ثلاثةٌ: الإنسُ، والجِنُّ، والملائكةُ، وكلُّ مَن عَدَاهم جائزٌ دُخولُه تحتَ قبضتِهم وتصَرُّفِهم، وإذا كان المرادُ بالنَّاسِ في الآيةِ المتكلِّمَ، فمَن مَلَكوه في مُلْكِ مَن مَلَكَهم؛ فكان في حُكْمِ ما لو قال: «مَلِكِ كلِّ شيءٍ»، مع التَّنويهِ بذِكْرِ الأشرَفِ، وهو المتكلِّمُ [57] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (13/367). ويُنظر أيضًا: ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 774). .
- وتَخصيصُ الإضافةِ بالنَّاسِ مع انتظامِ جَميعِ العالَمِينَ في سِلكِ رُبوبيَّتِه تعالَى ومَلَكوتيَّتِه وأُلوهيَّتِه؛ للإرشادِ إلى مَنهجِ الاستِعاذةِ المَرْضيَّةِ عندَه تعالَى الحقيقةِ بالإعاذةِ؛ فإنَّ تَوسُّلَ العائذِ بربِّه وانتِسابَه إليه تعالَى بالمَربوبيَّةِ والمَمْلوكيَّةِ والعُبوديَّةِ في ضِمنِ جِنسٍ هو فرْدٌ مِن أفرادِه؛ مِن دَواعي مَزيدِ الرَّحمةِ والرَّأفةِ، وأمْرُه تعالَى بذلك مِن دَلائلِ الوعْدِ الكريمِ بالإعاذةِ لا مَحالةَ، ولأنَّ المُستعاذَ منه شرُّ الشَّيطانِ المَعروفِ بعَداوتِهم، ففي التَّنصيصِ على انتظامِهِم في سِلكِ عُبوديَّتِه تعالَى ومَلكوتِه رمْزٌ إلى إنْجائِهم مِن ملْكةِ الشَّيطانِ وتَسلُّطِه عليهم، حسبَما يَنطِقُ به قولُه تعالَى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [58] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/216). [الحجر: 42] .
- وقيل: خُصَّ النَّاسُ بالذِّكرِ في الثَّلاثةِ الأُولى مع أنَّه تعالَى ربُّ كلِّ شَيءٍ، ومَلِيكُه، وإلَهُه؛ تَشريفًا لهم، وتَفضيلًا على غَيرِهم [59] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/350)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 634، 635)، ((تفسير أبي السعود)) (9/216). .
2- قولُه تعالَى: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الوَسواسُ اسمٌ بمعْنى الوَسوسةِ، والمرادُ به الشَّيطانُ المُوسوِسُ، سُمِّيَ بالمَصدَرِ مُبالَغةً، كأنَّه وَسوسةٌ في نفْسِه؛ لأنَّها صَنْعَتُه وشُغلُه الَّذي هو عاكفٌ عليه، أو أُرِيدَ ذو الوَسواسِ [60] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/823)، ((تفسير البيضاوي)) (5/350)، ((تفسير أبي حيان)) (10/579)، ((تفسير أبي السعود)) (9/217). .
وقيل: الوَسواسُ: المُتكلِّمُ بالوَسوسةِ، وهي الكَلامُ الخَفيُّ، فالوَسواسُ اسمُ فاعلٍ، والتَّعريفُ في الْوَسْوَاسِ تَعريفُ الجِنسِ [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/633). .
3- قولُه تبارك وتعالَى: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ
- قولُه: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بَيانٌ للشَّيطانِ المُوَسوِسِ على أنَّ الشيطانَ ضَربانِ: جِنِّيٌّ وإنسيٌّ؛ كما قال تعالَى: عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام: 112] ؛ فـ (مِن) في قَولِه: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بَيانيَّةٌ بيَّنَت الَّذي يُوسوِسُ في صُدورِ النَّاسِ بأنَّه جِنسٌ يَنحَلُّ إلى صِنفَينِ: صِنفٌ مِن الجِنَّةِ، وهو أصْلُه، وصِنفٌ مِن النَّاسِ، وما هو إلَّا تَبَعٌ ووَلِيٌّ للصِّنفِ الأوَّلِ، ووَجْهُ الحاجةِ إلى هذا البَيانِ خَفاءُ ما يَنجَرُّ مِن وَسوسةِ نَوعِ الإنسانِ؛ لأنَّ الأُمَمَ اعْتادوا أنْ يُحذِّرَهم المُصلِحون مِن وَسوسةِ الشَّيطانِ، ورُبَّما لا يَخطُرُ بالبالِ أنَّ مِن الوَسواسِ ما هو شَرٌّ مِن وَسواسِ الشَّياطينِ، وهو وَسوسةُ أهلِ نَوعِهم، وهو أشدُّ خطَرًا، وهم بالتَّعوُّذِ منهم أجدَرُ؛ لأنَّهم منهم أقرَبُ، وهُمْ عليهم أخطَرُ، وأنَّهم في وَسائلِ الضُّرِّ أدخَلُ وأقدَرُ. ويَجوزُ أنْ تكونَ مِنَ في مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ للتَّبعيضِ، أي: كائنًا مِن الجِنَّةِ والنَّاسِ، فهي في مَوضعِ الحالِ، أي: ذلك المُوسوِسُ هو بَعضُ الجِنَّةِ وبعضُ النَّاسِ. ويَجوزُ أنْ يكونَ مِنَ مُتعلِّقًا بلَفظِ يُوَسْوِسُ، ومعْناهُ: ابتِداءُ الغايةِ، أي: يُوسوِسُ في صُدورِهم مِن جِهةِ الجِنِّ ومِن جِهةِ النَّاسِ [62] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/824)، ((تفسير البيضاوي)) (5/350)، ((تفسير أبي حيان)) (10/579)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 635)، ((تفسير أبي السعود)) (9/217)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/635)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/625). .
- وفي قَولِه: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قُدِّمَ الْجِنَّةِ على النَّاسِ هنا؛ لأنَّهم أصلُ الوَسواسِ، بخِلافِ تَقديمِ الإنسِ على الجنِّ في قَولِه تعالَى تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام: 112] ؛ لأنَّ خُبثاءَ النَّاسِ أشدُّ مُخالَطةً للأنبياءِ مِن الشَّياطينِ؛ لأنَّ اللهَ عَصَمَ أنْبياءَه مِن تَسلُّطِ الشَّياطينِ على نُفوسِهم؛ قال تعالَى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر: 42] ؛ فإنَّ اللهَ أرادَ إبلاغَ وَحْيِه لأنبيائِه، فزَكَّى نُفوسَهم مِن خُبثِ وَسوسةِ الشَّياطينِ، ولم يَعصِمْهم مِن لَحاقِ ضُرِّ النَّاسِ بهم، والكَيدِ لهم؛ لضَعْفِ خَطَرِه؛ قال تعالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30] ، ولكنَّه ضَمِنَ لرُسلِه النَّجاةَ مِن كلِّ ما يَقطَعُ إبلاغَ الرِّسالةِ إلى أنْ يَتِمَّ مُرادُ اللهِ [63] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/635). .
- وتَكريرُ كَلمةِ النَّاسِ في هذه الآياتِ المَرَّتينِ الأُولَيَينِ باعتِبارِ معنًى واحدٍ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لقَصْدِ تَأكيدِ رُبوبيَّةِ اللهِ تعالَى ومُلْكِه وإلَهيَّتِه للنَّاسِ كلِّهم. وأمَّا تَكريرُه المرَّةَ الثَّالثةَ بقولِه: فِي صُدُورِ النَّاسِ؛ فهو إظهارٌ مِن أجْلِ بُعدِ المعادِ. وأمَّا تَكريرُه المرَّةَ الرَّابعةَ بقولِه: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ؛ فلأنَّه بَيانٌ لأحَدِ صِنفَيِ الَّذي يُوسوِسُ في صُدورِ النَّاسِ، وذلك غيرُ (ماصَدَقَ) [64] الماصَدَق: اسمٌ صِناعيٌّ مأخوذٌ في الأصلِ مِن كَلِمةِ (ما) الاستِفهاميَّةِ أو المَوصوليَّةِ، وكَلِمةِ (صَدَق) الَّتي هي فِعلٌ ماضٍ مِنَ الصِّدقِ، كأنْ يُقالَ مَثَلًا: على ماذا صَدَق هذا اللَّفظُ؟ فيُقالُ في الجوابِ: صدَقَ على كذا أو كذا؛ فاشتَقُّوا مِن ذلك أو نَحَتوا كَلِمةَ (ماصَدَق)، والمرادُ: الفَردُ أو الأفرادُ الَّتي يَنطَبِقُ عليها اللَّفظُ، أو: الأفرادُ الَّتي يَتحَقَّقُ فيها معنى الكُلِّيِّ. يُنظر: ((ضوابط المعرفة)) للميداني (ص: 45)، ((المعجم الوسيط)) (1/511). كَلمةِ النَّاسِ في المرَّاتِ السَّابقةِ، واللهُ يَكْفِينا شَرَّ الفَريقينِ، ويَنفَعُنا بصالِحِ الثَّقلَينِ [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/635، 636). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1372-1375)، ((أسرار التَّكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 257، 258)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/ 519)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/557)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 634). .