موسوعة التفسير

سُورةُ الإِخْلاصِ
الآيات (1-4)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ

غريب الكلمات:

أَحَدٌ: الأحدُ هو الَّذي لا ثانيَ له، ولم يَسبِقْه في أوَّليَّتِه شيءٌ، الَّذي توحَّدَ بجميعِ الكَمالاتِ، وتفرَّدَ بالجَلالِ والعَظَمةِ، فلا شَريكَ له ولا مِثلَ ولا نَظيرَ .
الصَّمَدُ: أي: الَّذي لا جَوْفَ له، والسَّيِّدُ الَّذي يُصمَدُ إليه -أي: يُقصَدُ- في الأُمورِ، وأصلُ (صمد): يدُلُّ على القَصْدِ .
كُفُوًا: أي: مَثيلًا أو نظيرًا، وأصلُ (كفأ): يدُلُّ على التَّساوي في الشَّيئَينِ .

المعنى الإجمالي:

 افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بقَولِه: قُلْ -يا محمَّدُ- مُعَرِّفًا باللهِ تعالى: هو المتفَرِّدُ بالوَحدانيَّةِ في ذاتِه وصِفاتِه، اللهُ الكاملُ في صِفاتِه الَّذي افتقَرَتْ إليه جميعُ مَخلوقاتِه، لم يَلِدْ أحَدًا ولم يَلِدْه أحَدٌ، وليس له مُساوٍ ولا نَظيرٌ سُبحانَه وتعالى.

تفسير الآيات:

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1).
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- مُعَرِّفًا باللهِ تعالى: هو المتفَرِّدُ بالوَحدانيَّةِ في ذاتِه وصِفاتِه، فلا نَظيرَ له ولا شَريكَ .
اللَّهُ الصَّمَدُ (2).
أي: اللهُ الكاملُ في صِفاتِه، الَّذي افتقَرَتْ إليه جميعُ مَخلوقاتِه .
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3).
أي: لم يَلِدْ أحَدًا مِنَ الإنسِ والجِنِّ والملائِكةِ أو غَيرِهم، ولم يَلِدْه أحَدٌ؛ فهو الأوَّلُ الَّذي ليس قَبْلَه شَيءٌ .
كما قال تعالى: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنعام: 100-101] .
وقال سُبحانَه: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 88 - 95] .
وقال عزَّ وجَلَّ: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 2-3] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((قال اللهُ: كَذَّبَني ابنُ آدَمَ ولم يكُنْ له ذلك، وشتَمَني ولم يكُنْ له ذلك؛ فأمَّا تكذيبُه إيَّايَ فقَولُه: لن يُعيدَني كما بدأني! وليس أوَّلُ الخَلْقِ بأهْوَنَ علَيَّ مِن إعادتِه، وأمَّا شَتمُه إيَّايَ فقَولُه: اتَّخَذ اللهُ ولَدًا! وأنا الأحَدُ الصَّمَدُ، لم ألِدْ ولم أُولَدْ، ولم يكُنْ لي كُفْئًا أحَدٌ )) .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((اللَّهمَّ أنت الأوَّلُ فليس قَبْلَك شَيءٌ، وأنت الآخِرُ فليس بَعْدَك شَيءٌ )) .
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4).
أي: وليس للهِ مُساوٍ ولا نَظيرٌ، أو مَثيلٌ وشَبيهٌ .
كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ نفَى عن نَفْسِه الأُصولَ والفُروعَ والنُّظَراءَ، وهي جِماعُ ما يُنسَبُ إليه المخلوقُ مِن الآدَميِّينَ والبهائِمِ، والملائكةِ والجِنِّ، بل والنَّباتِ، ونحوِ ذلك؛ فإنَّه ما مِن شيءٍ مِن المخلوقاتِ إلَّا ولا بُدَّ أن يكونَ له شَيءٌ يُناسِبُه: إمَّا أصلٌ، وإمَّا فَرعٌ، وإمَّا نظيرٌ، أو اثنانِ مِن ذلك، أو ثلاثةٌ، وهذا في الآدَميِّينَ والِجنِّ والبهائِمِ ظاهِرٌ، وأمَّا الملائِكةُ فإنَّهم وإن لم يتَوالَدوا بالتَّناسُلِ فلَهم الأمثالُ والأشْباهُ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ فيه الرَّدُّ على اليَهودِ والنَّصارى، والمَجوسِ والمُشرِكين، والحُلوليَّةِ والاتِّحاديَّةِ، وجميعِ الأديانِ الباطِلةِ .
3- قال تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وإنَّما نُفِيَ أنْ يكونَ اللهُ والدًا وأنْ يكونَ مَولودًا في الزَّمنِ الماضي؛ لأنَّ عَقيدةَ التَّولُّدِ ادَّعَت وُقوعَ ذلك في زمَنٍ مَضَى، ولم يَدَّعِ أحدٌ أنَّ اللهَ سيَتَّخِذُ ولَدًا في المُستقبَلِ .
4- إنَّ سورتَيْ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ هما سُورتا الإخلاصِ، وقد اشتمَلَتا على نوعَيِ التَّوحيدِ الَّذي لا نجاةَ للعَبدِ ولا فلاحَ إلَّا بهما، وهما: توحيدُ العِلمِ والاعتقادِ المتضمِّنُ تنزيهَ اللهِ عمَّا لا يَليقُ به مِن الشِّركِ والكُفرِ والوَلَدِ والوالِدِ، وأنَّه إلهٌ أَحَدٌ صَمَدٌ، لم يَلِدْ؛ فيكونَ له فَرعٌ، ولم يولَدْ؛ فيكونَ له أصلٌ، ولم يكُنْ له كُفُوًا أحدٌ؛ فيكونَ له نظيرٌ، ومع هذا فهو الصَّمَدُ الَّذي اجتمَعَت له صِفاتُ الكَمالِ كُلُّها؛ فتضَمَّنت السُّورةُ إثباتَ ما يليقُ بجلالِه مِن صِفاتِ الكَمالِ، ونَفْيَ ما لا يليقُ به مِنَ الشَّريكِ أصلًا وفَرْعًا ونظيرًا، فهذا توحيدُ العِلْمِ والاعتقادِ.
والثَّاني: توحيدُ القَصدِ والإرادةِ، وهو ألَّا يُعبَدَ إلَّا إيَّاه، فلا يُشْرَكَ به في عبادتِه سِواه، بل يكونُ وَحْدَه هو المعبودَ، وسورةُ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ مُشتَمِلةٌ على هذا التَّوحيدِ؛ فانتظَمَت السُّورتانِ نَوعَيِ التَّوحيدِ، وأُخلِصَتا له، فكان صلَّى الله عليه وسلَّم يَفتَتِحُ بهما النَّهارَ في سُنَّةِ الفَجْرِ ، وأيضًا فإنَّه كان يُوتِرُ بهما ، فيَكونانِ خاتِمةَ عَمَلِ اللَّيلِ . فسُنةُ الفجر تَجري مجرى بدايةِ العملِ، والوترُ خاتمتُه؛ ولذلك كان مِن السُّنَّةِ صلاةُ سنةِ الفجرِ والوترِ بهاتينِ السورتينِ؛ سورتي الإخلاصِ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فهما الجامعتانِ لتوحيدِ العلمِ والعملِ، وتوحيدِ المعرفةِ والإرادةِ، وتوحيدِ الاعتقادِ والقصدِ .
5- تضَمَّنتْ هذه السُّورةُ العظيمةُ نفْيَ نوعينِ عن اللهِ تعالى؛ أحدُهما: المُماثَلةُ، ودلَّ على نَفْيِها قولُه تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ مع دَلالةِ قَولِه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ على ذلك؛ لأنَّ أحَديَّتَه تَقتضي أنَّه مُتفَرِّدٌ بذاتِه وصِفاتِه، فلا يُشارِكُه في ذلك أحدٌ، والثَّاني: نفْيُ النَّقائصِ والعُيوبِ، وقد نفى منها التَّوَلُّدَ مِن الطَّرفَينِ، وتضَمَّنتْ إثباتَ جميعِ صِفاتِ الكَمالِ بإثباتِ الأحَديَّةِ؛ فالصَّمَديَّةُ تُثبِتُ الكمالَ المنافيَ للنَّقائصِ، والأحَديَّةُ تُثبِتُ الانفرادَ بذلك؛ فإنَّ الأحَديَّةَ تَقتضي انفرادَه بصِفاتِه، وامتيازَه عن خَلْقِه بذاتِه وصفاتِه، والصَّمَديَّةُ تَقتضي إثباتَ جميعِ صِفاتِ الكَمالِ ودوامِها وقِدَمِها؛ فإنَّ السَّيِّدَ الَّذي يُصمَدُ إليه لا يكونُ إلَّا مُتَّصِفًا بجَميعِ صِفاتِ الكَمالِ الَّتي استحَقَّ مِن أجْلِها أنْ يكونَ صَمَدًا، وأنَّه لم يَزَلْ كذلك ولا يَزالُ؛ فإنَّ صَمَديَّتَه مِن لَوازمِ ذاتِه لا تَنفَكُّ عنه بحالٍ، ومِن هنا فُسِّرَ الصَّمَدُ بالسَّيِّدِ الَّذي قد انتهى سُؤدُدُه، وفُسِّرَ بالَّذي ليس فوقَه أحَدٌ .
6- قال تعالى: اللَّهُ أَحَدٌ ومعناه: أنَّ اللهَ مُنفرِدٌ بالإلَهيَّةِ لا يُشارِكُه فيها شَيءٌ مِن الموجوداتِ، وهذا إبطالٌ للشِّركِ الَّذي يَدينُ به أهلُ الشِّركِ، وللتَّثليثِ الَّذي أحْدَثَه النَّصارى المَلكانيَّةُ ، وللثَّنَويَّةِ عندَ المَجوسِ ، وللعَدَدِ الَّذي لا يُحْصى عندَ البَراهمةِ ، فقولُه: اللَّهُ أَحَدٌ نَظيرُ قولِه في الآيةِ الأُخرى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النساء: 171] ، وهذا هو المعْنى الَّذي يُدرِكُه المُخاطَبونَ بهذه الآيةِ السَّائلونَ عن نِسبةِ اللهِ، أي: حَقيقتِه، فابتُدِئَ لهم بأنَّه واحدٌ؛ ليَعلَموا أنَّ الأصنامَ لَيست مِن الإلَهيَّةِ في شَيءٍ. ثمَّ إنَّ الأحَديَّةَ تَقْتضي الوُجودَ لا مَحالةَ؛ فبَطَلَ قَولُ المُعطِّلةِ والدَّهريِّينَ .
7- قال اللهُ تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لا يُطلَقُ هذا اللَّفظُ على أحَدٍ في الإثباتِ إلَّا على اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ لأنَّه الكامِلُ في جميعِ صِفاتِه وأفعالِه ، وليس في المَوجُوداتِ ما يُسمَّى أَحَدًا في الإثباتِ مُفردًا غيرَ مُضافٍ إلَّا اللهُ تعالى؛ بخِلافِ النَّفْيِ وما في مَعناهُ: كالشَّرطِ والاستِفهامِ، وإنَّما استُعمِلَ في العددِ المُطلقِ، يُقالُ: أحَدٌ، اثْنانِ. ويُقالُ: أحَدَ عَشَرَ. وفي أوَّلِ الأيَّامِ يُقالُ: يَومُ الأحَدِ .
8- مَذهَبُ السَّلَفِ والأئمَّةِ إثباتُ الصِّفاتِ، ونَفْيُ مُماثَلتِها لصِفاتِ المخلوقاتِ؛ فاللهُ تعالى مَوصوفٌ بصِفاتِ الكَمالِ الَّذي لا نَقْصَ فيه، مُنَزَّهٌ عن صِفاتِ النَّقصِ مُطلَقًا، ومُنَزَّهٌ عن أن يُماثِلَه غَيرُه في صِفاتِ كَمالِه؛ فهذان المَعْنَيانِ جمَعَا التَّنزيهَ، وقد دلَّ عليهما قَولُه تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ؛ فالاسمُ «الصَّمَدُ» يتضَمَّنُ صِفاتِ الكَمالِ، والاسمُ «الأحَدُ» يتضَمَّنُ نَفيَ المِثْلِ .
9- هذه السُّورةُ فيها الاسمانِ: «الأحَدُ» و«الصَّمَدُ»، وكلٌّ منهما يدُلُّ على الكَمالِ؛ فقولُه: «أَحَدٌ» يدُلُّ على نَفيِ النَّظيرِ، وقولُه: «الصَّمَدُ» -بالتَّعريفِ- يدُلُّ على اختصاصِه بالصَّمَديَّةِ؛ ولهذا جاء التَّعريفُ في اسمِه «الصَّمدِ» دونَ «الأحَدِ»؛ لأنَّ أحدًا لا يُوصَفُ به في الإثباتِ غيرُه، بخِلافِ «الصَّمَدِ»؛ فإنَّ العربَ تُسَمِّي السَّيِّدَ صَمَدًا ، فالصَّمَدُ يُسمَّى به غيرُ اللهِ، فأتى فيه بالألِفِ واللَّامِ؛ ليدُلَّ على أنَّه سُبحانَه هو المُستحِقُّ لكمالِ الصَّمَديَّةِ؛ فإنَّ الألِفَ واللَّامَ تأتي لاستغراقِ الجِنسِ تارةً، ولاستغراقِ خصائصَ أُخرى، كقَولِك: زَيدٌ هو الرَّجُلُ، أي: الكامِلُ في صِفاتِ الرُّجولةِ؛ فكذلك قولُه: اللَّهُ الصَّمَدُ أي: الكامِلُ في صفاتِ الصَّمَديَّةِ، وأمَّا الأحَدُ فلم يَتَسَمَّ به غيرُ اللهِ؛ فلم يُحتَجْ فيه إلى الألِفِ واللَّامِ .
10- قَولُ اللهِ عزَّ وجَلَّ: اللَّهُ الصَّمَدُ، لم يقُلْ: اللهُ صَمَدٌ، بل قال: اللَّهُ الصَّمَدُ، فبَيَّن أنَّه المستَحِقُّ لأن يكونَ هو الصَّمَدَ دونَ ما سِواه؛ فإنَّه المستوجِبُ لغايَتِه على الكَمالِ، والمخلوقُ وإن كان صَمَدًا مِن بَعضِ الوُجوهِ فإنَّ حقيقةَ الصَّمَديَّةِ مُنتَفيةٌ عنه؛ فإنَّه يَقبَلُ التَّفَرُّقَ والتَّجزئةَ، وهو أيضًا مُحتاجٌ إلى غيرِه؛ فإنَّ كُلَّ ما سِوى اللهِ مُحتاجٌ إليه مِن كُلِّ وَجهٍ، فليس أحَدٌ يَصمُدُ إليه كُلُّ شَيءٍ ولا يَصمُدُ هو إلى شَيءٍ إلَّا اللهُ تبارك وتعالى، وليس في المخلوقاتِ إلَّا ما يَقبَلُ أن يتجَزَّأَ ويتفَرَّقَ وينقَسِمَ وينفَصِلَ بَعضُه مِن بعضٍ، واللهُ سُبحانَه هو الصَّمَدُ الَّذي لا يجوزُ عليه شَيءٌ مِن ذلك، بل حقيقةُ الصَّمَديَّةِ وكَمالُها له وَحْدَه واجِبةٌ لازِمةٌ، لا يُمكِنُ عدَمُ صَمَديَّتِه بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ، كما لا يمكِنُ تثنيةُ أحَديَّتِه بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ؛ فهو أحَدٌ لا يُماثِلُه شَيءٌ مِن الأشياءِ بوَجهٍ مِن الوُجوهِ .
11- في قَولِه تعالى: لَمْ يَلِدْ ردٌّ على ثلاثِ طوائفَ مُنحرفةٍ مِن بني آدَمَ، وهم: المُشرِكون، واليهودُ، والنَّصارى؛ لأنَّ المُشرِكينَ جَعَلوا الملائكةَ الَّذين هم عِبَادُ الرَّحمنِ إناثًا، وقالوا: إنَّ الملائكةَ بناتُ اللهِ، واليهودَ قالوا: عُزَيْرٌ ابنُ اللهِ، والنَّصارى قالوا: المَسيحُ ابنُ اللهِ، فكَذَّبَهم اللهُ بقَولِه تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ؛ لأنَّه عزَّ وجلَّ هو الأوَّلُ الَّذي ليس قَبْلَه شيءٌ، فكيف يكونُ مولودًا ؟!
12- قال اللهُ تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ إذا كان اللهُ سُبحانَه مُنَزَّهًا عن أنْ يَخرُجَ منه مادَّةُ الولَدِ الَّتي هي أشرَفُ الموادِّ، فلَأنْ يُنَزَّهَ عن خروجِ مادَّةِ غيرِ الولَدِ أَولى، وكذلك تنزيهُه نفْسَه عن أنْ يُولَدَ، فلا يكونُ مِن مِثْلِه: تنزيهٌ له عن أنْ يكونَ مِن سائرِ الموادِّ بطَريقِ الأَولى؛ فمَن أثْبَتَ للهِ ولَدًا فقد شَتَمَه !
13- قَولُ اللهِ تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ فيه سُؤالٌ: إذا كان ادِّعاءُ الوَلَدِ قد وَقَع، وجاء الرَّدُّ عليه، فإنَّ ادِّعاءَ الوِلادةِ لم يقَعْ، فلماذا ذَكَر نَفْيَه مع عَدَمِ ادِّعائِه؟
الجوابُ: أنَّ مَن جَوَّز الوِلادةَ له وأن يكونَ له وَلَدٌ، فقد يجَوِّزُ الوِلادةَ عليه وأن يكونَ مولودًا؛ فجاء نَفْيُها تتمَّةً للنَّفيِ والتَّنزيهِ، كما في حديثِ البَحرِ؛ كان السُّؤالُ عن الوُضوءِ مِن مائِه فقط، فجاء الجوابُ عن مائِه ومَيْتَتِه ؛ لأنَّ ما احتَمَل السُّؤالَ في مائِه يحتَمِلُ الاشتباهَ في مَيتتِه . وأيضًا فقد نفَى الله عن نفْسِه سُبحانَه خصائصَ آلهةِ المشرِكينَ؛ فإنَّ منهم مَن عَبَدَ المسيحَ، ومنهم مَن عَبَدَ العُزَيْرَ، وهما مَولودانِ، ونفْيُ الولادةِ يدُلُّ على نفْيِ المتولِّدِ بطَريقِ الأَولى .
14- في قَولِه تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ إثباتُ الصِّفاتِ الَّتي تُسَمَّى «الصِّفاتِ السَّلبيَّةَ» أي: المنفيَّةَ .
15- قَولُ اللهِ تعالى: لَمْ يَلِدْ فيه سُؤالٌ: لماذا اقتَصَر على ذِكرِ الماضي، ولم يقُلْ: (لن يَلِدَ)؟
الجوابُ: إنَّما اقتَصَر على ذلك؛ لأنَّه وَرَد جوابًا عن قَولِهم: وَلَدَ اللهُ، والدَّليلُ عليه قَولُه تعالى: أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ [الصافات: 151-152] ، فلمَّا كان المقصودُ مِن هذه الآيةِ تكذيبَ قَولِهم، وهم إنَّما قالوا ذلك في الماضي؛ لا جَرَمَ ورَدَت الآيةُ على وَفْقِ قَولِهم .
16- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ دَلَّ على أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى أحَدٌ، أي: في ذاتِه وصِفاتِه، لا شَبيهَ ولا شَريكَ ولا نظيرَ ولا نِدَّ له، سُبحانَه وتعالى .
17- في قَولِه تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ نفْيٌ للشُّرَكاءِ والأنْدادِ يَدخُلُ فيه كلُّ مَن جَعَلَ شيئًا كُفُوًا للهِ في شَيءٍ مِن خَواصِّ الرُّبوبيَّةِ، مِثلُ خَلْقِ الخَلْقِ، والإلَهيَّةِ، كالعِبادةِ له ودُعائِه ونحوِ ذلك، وفي هذا وغيرِه بَيانُ اشتِمالِ كِتابِ اللهِ على إبطالِ قَولِ مَن يَعتقِدُ في أحدٍ مِن البشَرِ الإلَهيَّةَ باتِّحادٍ، أو حُلولٍ، أو غيرِ ذلك .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
- افتِتاحُ هذه السُّورةِ بالأمرِ بالقَولِ؛ لإظهارِ العِنايةِ بما بعْدَ فِعلِ القولِ .
- ولَفظُ هُوَ ضَميرُ الشَّأنِ، ومَدارُ وَضْعِه مَوضِعَه معَ عدَمِ سَبْقِ ذِكرِه الإيذانُ بأنَّه مِن الشُّهرةِ والنَّباهةِ بحيثُ يَستَحضِرُه كلُّ أحدٍ، وإليه يُشيرُ كلُّ مُشيرٍ، وإليه يَعودُ كلُّ ضَميرٍ، والسِّرُّ في تَصديرِ الجُملةِ بضَميرِ الشَّأنِ هُوَ: التَّنبيهُ مِن أوَّلِ الأمرِ على فَخامةِ مَضمونِها، وجَلالةِ حيِّزِها، مع ما فيه مِن زِيادةِ تَحقيقٍ وتَقريرٍ؛ فإنَّ الضَّميرَ لا يُفهَمُ منه مِن أوَّلِ الأمرِ إلَّا شَأنٌ مُبهَمٌ لهُ خطَرٌ جَليلٌ، فيَبْقى الذِّهنُ مُترقِّبًا لِما أمامَه ممَّا يُفسِّرُه ويُزيلُ إبهامَه، فيَتمكَّنُ عندَ وُرودِه له فضْلَ تَمكُّنٍ .
- قولُه: هُوَ اللَّهُ إشارةٌ إلى مَن هو خالِقُ الأشياءِ وفاطِرُها، وفي طَيِّ ذلك وَصْفُه بأنَّه قادرٌ عالِمٌ؛ لأنَّ الخلْقَ يَسْتدعي القُدرةَ والعِلمَ؛ لكَونِه واقعًا على غايةِ إحكامٍ واتِّساقٍ وانتظامٍ، وفي ذلك وَصْفُه بأنَّه حيٌّ سَميعٌ بَصيرٌ، ولَمَّا اقْتَضى الفَرْدانيَّةُ قَطْعَ السَّبيلِ مِن الغيرِ، أثبَتَ له صِفةَ الصَّمَدانيَّةِ؛ ليكونَ الالتجاءُ إليه، ولَمَّا عُلِمَ مِن ذلك ثُبوتُ الذَّاتِ المُستلزِمةِ للصِّفاتِ مِن الخالِقيَّةِ والعالِميَّةِ، والقادِريَّةِ، والحَييَّةِ، والإلَهيَّةِ؛ أُريدَ بَيانُ كَمالِها، وأنَّها مُباينةٌ لصِفاتِ المَخلوقاتِ فيما مَضى ويُستقبَلُ .
- وابتُدِئَ باسمِه تعالَى العَلَمِ (الله) قبْلَ إجراءِ الأخبارِ عليه؛ ليَكونَ ذلك طَريقَ استحضارِ صِفاتِه كلِّها عندَ التَّخاطُبِ بيْن المسلمينَ، وعندَ المُحاجَّةِ بيْنَهم وبيْن المشرِكينَ؛ فإنَّ هذا الاسمَ مَعروفٌ عندَ جَميعِ العرَبِ، فمُسمَّاهُ لا نِزاعَ في وُجودِه، ولكنَّهم كانوا يَصِفونه بصِفاتٍ تَنزَّهَ عنها .
2- قولُه تعالَى: اللَّهُ الصَّمَدُ جُملةٌ ثانيةٌ مَحكيَّةٌ بالقَولِ المحكيِّ به جُملةُ اللَّهُ أَحَدٌ؛ فهي خبَرٌ ثانٍ عن الضَّميرِ (هو)، والخبَرُ المُتعدِّدُ يَجوزُ عطْفُه وفصْلُه، وإنَّما فُصِلَت عن الَّتي قبْلَها؛ لأنَّ هذه الجُملةَ مَسوقةٌ لتَلقينِ السَّامِعينَ، فكانت جَديرةً بأنْ تكونَ كلُّ جُملةٍ مُستقِلَّةً بذاتِها غيرَ مُلحَقةٍ بالَّتي قبْلَها بالعطْفِ، على طَريقةِ إلْقاءِ المسائلِ على المُتعلِّمِ، نحوُ قولِك: عَنترةُ مِن فُحولِ الشُّعراءِ، عَنترةُ مِن أبطالِ الفُرسانِ؛ ولهذا الاعتبارِ وَقَعَ إظهارُ اسمِ الجَلالةِ في قَولِه: اللَّهُ الصَّمَدُ، وكان مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: هو الصَّمَدُ .
وقيل: إخلاءُ هذه الجُملةِ عن العاطفِ؛ لأنَّها كالنَّتيجةِ للأُولى أو الدَّليلِ عليها .
- وتَكريرُ الاسمِ الجَليلِ (الله) في قَولِه: اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ؛ للإشعارِ بأنَّ مَن لم يَتَّصِفْ به لم يَستحِقَّ الأُلوهيَّةَ، ولتَكونَ كلُّ جُملةٍ منْهما مُستقِلَّةً بذاتِها، غيرَ مُحتاجةٍ إلى ما قبْلَها .
- وصِيغةُ اللَّهُ الصَّمَدُ صِيغةُ قصْرٍ بسَببِ تَعريفِ المُسنَدِ؛ فتُفيدُ قصْرَ صِفةِ الصَّمَديَّةِ على اللهِ تعالَى، وهو قصْرُ قَلبٍ لإبطالِ ما تَعوَّدَه أهلُ الشِّركِ في الجاهليَّةِ مِن دُعائِهم أصنامَهم في حَوائجِهم، والفزَعِ إليها في نَوائبِهم حتَّى نَسُوا اللهَ .
3- قولُه تعالَى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ
- قولُه: لَمْ يَلِدْ إمَّا كِنايةٌ عن كَونِه تعالَى مُتعاليًا عن الجِنسيَّةِ؛ لأنَّ مَن جانَسَ شيئًا اتَّخَذَ مِن جِنسِه صاحبةً، ومَن اتَّخَذَ صاحبةً حصَلَ التَّوالدُ. أو بالعكْسِ؛ بأنْ يُقالَ: كيف يَكونُ له وَلَدٌ وأنَّه ما اتَّخَذَ صاحبةً؟ لأنَّ الولادةَ لا تكونُ إلَّا بيْن زَوجينِ مِن جِنسٍ واحدٍ، وهو مُتعالٍ عن مُجانِسٍ، فلم يَصِحَّ أنْ تَكونَ له صاحبةٌ، فلم تَصحَّ الوِلادةُ .
- وأيضًا جُملةُ وَلَمْ يُولَدْ عطْفٌ على جُملةِ لَمْ يَلِدْ، أي: ولم يَلِدْه غيرُه، وهي بمَنزلةِ الاحتِراسِ ؛ سَدًّا لتَجويزِ أنْ يكونَ له والدٌ، فأُردِفَ نفْيُ الولدِ بنَفْيِ الوالدِ، وإنَّما قُدِّمَ نفْيُ الولَدِ -معَ أنَّ التَّولُّدَ أسبقُ وُقوعًا عن الولادةِ في حقِّ مَن هو متوَلِّدٌ-؛ وذلك لأنَّه أهمُّ؛ إذ قد نَسَبَ أهلُ الضَّلالةِ الولَدَ إلى اللهِ تعالَى ولم يَنسُبوا إلى اللهِ والدًا، فالولادةُ لم يَدَّعِها أحدٌ في حقِّه سُبحانَه، وإنما ادَّعَوا أنَّه وَلَدَ؛ فإنَّ مُشرِكي العَربِ قالوا: الملائكةُ بَناتُ الله، وقالت اليَهودُ: عُزَيْرٌ ابنُ الله، وقالت النَّصارَى: المَسيحُ ابنُ الله، ولم يَدَّعِ أحَدٌ أنَّ له والِدًا، فلهذا السببِ بَدأَ بالأَهمِّ، فقال: لَمْ يَلِدْ، ثُم أشارَ إلى الحُجَّةِ، فقال: وَلَمْ يُولَدْ، كأنَّه قِيلَ: الدَّليلُ على امتِناعِ الوَلَدِيَّةِ، اتِّفاقُنا على أنَّه ما كان وَلدًا لغيرِه .
وفيه الإيماءُ إلى أنَّ مَن يكونُ مَولودًا مِثلَ عِيسى لا يكونُ إلهًا؛ لأنَّه لو كان الإلهُ مَولودًا لَكان وُجودُه مَسبوقًا بعَدَمٍ لا مَحالةَ، وذلك مُحالٌ؛ لأنَّه لو كان مَسبوقًا بعَدَمٍ لَكان مُفتقِرًا إلى مَن يُخصِّصُه بالوُجودِ بعْدَ العدَمِ، فحَصَلَ مِن مَجموعِ جُملةِ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ إبطالُ أنْ يكونَ اللهُ والدًا لمَولودٍ، أو مَولودًا مِن والدٍ بالصَّراحةِ، وبَطَلَت إلَهيَّةُ كلِّ مَولودٍ بطَريقِ الكِنايةِ، فبَطَلَت العقائدُ المَبنيَّةُ على تَولُّدِ الإلهِ، فلمَّا أبْطَلَت الجُملةُ الأُولى إلَهيَّةَ إلهٍ غيرِ اللهِ بالأصالةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وأبطَلَت الجُملةُ الثَّانيةُ إلَهيَّةَ غيرِ اللهِ بالاستحقاقِ اللَّهُ الصَّمَدُ؛ أبْطَلَت هذه الجُملةُ إلَهيَّةَ غيرِ اللهِ بالفَرعيَّةِ والتَّولُّدِ بطَريقِ الكِنايةِ .
- وكذلِك قولُه: لَمْ يَلِدْ تَنصيصٌ على إبطالِ زعْمِ المُفترِينَ في حقِّ المَلائكةِ والمَسيحِ؛ ولذلكَ ورَدَ النَّفيُ على صِيغةِ الماضِي، أو ليُطابِقَ قولَه: وَلَمْ يُولَدْ .
- والتَّصريحُ بقولِه: وَلَمْ يُولَدْ مع كَونِهم مُعترِفين بمَضمونِه؛ لتَقريرِ ما قبْلَه وتَحقيقِه بالإشارةِ إلى أنَّهما مُتلازِمانِ؛ إذِ المَعهودُ أنَّ ما يَلِدُ يُولَدُ، وما لا فَلا، ومِن قَضيَّةِ الاعترافِ بأنَّه لم يُولَدِ الاعترافُ بأنَّه لا يَلِدُ .
- وجُملةُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ في معْنى التَّذييلِ للجُمَلِ الَّتي قبْلَها؛ لأنَّها أعمُّ مِن مَضمونِها؛ لأنَّ تلك الصِّفاتِ المُتقدِّمةَ -صَريحَها، وكِنايتَها، وضِمْنيَّها- لا يُشبِهُه فيها غيرُه، مع إفادةِ هذه انتفاءَ شَبيهٍ له فيما عَداها، مِثلَ صِفاتِ الأفعالِ، والواوُ في قَولِه: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ اعتراضيَّةٌ، وهي واوُ الحالِ. ويَجوزُ كَونُ الواوِ عاطفةً إنْ جُعِلَت الواوُ الأُولى عاطفةً، فيكونُ المَقصودُ مِن الجُملةِ إثباتَ وصْفِ مُخالَفتِه تعالَى للحوادثِ، وتكونُ استفادةُ معْنى التَّذييلِ تَبَعًا للمعْنى، والنُّكَتُ لا تَتزاحَمُ . فيصحُّ أن يَشتمِلَ الكلامُ على أكثَرَ مِن نُكتةٍ دونَ أن تتعارَضَ.
- وتَقديمُ خبَرِ (كان) كُفُوًا على اسْمِها أَحَدٌ؛ للرِّعايةِ على الفاصلةِ، وللاهتِمامِ بذِكرِ الكُفؤِ عَقِبَ الفِعلِ المنفيِّ؛ ليَكونَ أسْبَقَ إلى السَّمعِ. وتَقديمُ المجرورِ لَهُ على مُتعلَّقِه -وهو كُفُوًا-؛ للاهتمامِ باستحقاقِ اللهِ نفْيَ كَفاءةِ أحدٍ له، فكان هذا الاهتمامُ مُرجِّحًا تَقديمَ المجرورِ على مُتعلَّقِه وإنْ كان الأصلُ تَأخيرَ المتعلَّقِ إذا كان ظَرْفًا لَغْوًا .
- وارتَبَطَت هذه الجُمَلُ الثَّلاثُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ بالواوِ دونَ الثَّلاثِ الأُولى؛ لأنَّ قولَه: اللَّهُ الصَّمَدُ مُحقِّقٌ ومُقرِّرٌ لِما قبْلَه، وكذلك تَرْكُ العطْفِ في قَولِه: لَمْ يَلِدْ؛ لأنَّه مُؤكِّدٌ للصَّمَديَّةِ؛ لأنَّ الغنيَّ عن كلِّ شَيءٍ المُحتاجَ إليه كلُّ ما سِواهُ، لا يكونُ والدًا ولا مَولودًا، ووَصَلَ بيْن الثَّلاثِ المتأخِّرةِ؛ لأنَّها سِيقَت لغَرَضٍ ومعْنًى واحدٍ، وهو نفْيُ المُماثَلةِ والمُناسَبةِ عنه تعالَى بوَجْهٍ مِن الوُجوهِ .
- وتَتميَّزُ سُورةُ الإخلاصِ بالإيجازِ، ويُبيِّنُ ذلك أنَّها:
أ- اشتَمَلَت على اسمينِ مِن أسماءِ اللهِ تعالَى يَتضَمَّنانِ جَميعَ أوصافِ الكَمالِ، وهما الأحَدُ والصَّمَدُ؛ لأنَّهما يدُلَّانِ على أَحَديَّةِ الذَّاتِ المُقدَّسةِ المَوصوفةِ بجَميعِ أوصافِ الكَمالِ، وبَيانُ ذلك أنَّ الأحَدَ يُشعِرُ بوُجودِه الخاصِّ الَّذي لا يُشارِكُه فيه غيرُه، والصَّمَدَ يُشعِرُ بجَميعِ أوصافِ الكَمالِ؛ لأنَّه الَّذي انْتَهى إليه سُؤْدُدُه، فكان مَرجِعُ الطَّلبِ منه وإليه، ولا يَتِمُّ ذلك على وَجْهِ التَّحقيقِ إلَّا لِمَن حاز جَميعَ صِفاتِ الكَمالِ، وذلك لا يَصلُحُ إلَّا للهِ تعالَى.
ب- تَضمَّنَت تَوجيهَ الاعتقادِ وصِدقَ المَعرفةِ، وما يَجِبُ إثباتُه للهِ مِن الأَحَديَّةِ المُنافيةِ لمُطلَقِ الشَّرِكةِ، والصَّمَديَّةِ المُثبِتةِ له جَميعَ صِفاتِ الكَمالِ الَّذي لا يَلحَقُه نقْصٌ.
ج- وتَضمَّنَت نفْيَ الولدِ والوالدِ المُقرِّرَ لكَمالِ الغنَى.
د- وتَضمَّنَت نَفْيَ الكُفْءِ المُتضمِّنَ لنفْيِ الشَّبيهِ والنَّظيرِ .