موسوعة التفسير

سورةُ الحَديدِ
الآيات (1-6)

ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ

غريب الكلمات:

وَالظَّاهِرُ: أي: الغالِبُ، العالي بذاتِه على كُلِّ شَيءٍ مِن خَلْقِه، فلا شَيءَ فَوقَه؛ مِنَ الظُّهورِ بمعنى القَهرِ والغَلَبةِ وكَمالِ القُدرةِ، ومعنى الظُّهورِ يَقتَضي العُلُوَّ، ومنه: ظَهَر فلانٌ على فلانٍ: إذا علاه وغَلَبَه. وظاهِرُ الشَّيءِ: هو ما علا منه وأحاط بباطِنِه، وأصلُ (ظهر) يدلُّ على قوَّةٍ وبروزٍ .
وَالْبَاطِنُ: أي: العالِمُ بما بَطَن، مِن قَولِهم: فُلانٌ يَبطُنُ أمرَ فُلانٍ، أي: يَعلَمُ داخِلةَ أمْرِه، وبُطونُه سُبحانَه: إحاطتُه بكُلِّ شَيءٍ، ويجوزُ أن يكونَ المعنى: المُحتَجِبُ عن الأبصارِ والعُقولِ، وأصلُ (بطن): يدُلُّ على خِلافِ الظَّهرِ .
يَلِجُ: أي: يَدخُلُ، يَلِجُ: أي: يُدخِلُ، وأصلُ (ولج): يدُلُّ على دُخولِ شَيءٍ .
يَعْرُجُ: أي: يَصعَدُ ويَرقَى، وأصلُ (عرج): يدُلُّ على ارتِقاءٍ .
بِذَاتِ الصُّدُورِ: أي: بما تُكِنُّه الضَّمائِرُ، وقيل: حاجةِ الصُّدورِ، وقيل: بخَفِيَّاتِ القلوبِ، وقيل: بحقيقةِ ما في الصُّدورِ، وذاتُ الشَّيءِ: نَفْسُه وحَقيقتُه .

المعنى الإجمالي:

ابتدأ اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكَريمةَ بالإخبارِ بأنَّه نزَّهَه -تعالى- عن النَّقائِصِ والعُيوبِ كُلُّ مَن في السَّمَواتِ ومَن في الأرضِ، وأنَّه هو الغالِبُ الَّذي لا يُغلَبُ، ولا يَمتَنِعُ عليه شَيءٌ، الحَكيمُ الَّذي يَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه الصَّحيحِ اللَّائِقِ به، وأنَّ له وَحْدَه سُلطانَ السَّمَواتِ والأرضِ، يُحيي ويُميتُ، وهو على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ.
ثمَّ ذكَر سبحانَه مِن صفاتِه أيضًا أنَّه هو وَحْدَه الموَجودُ أزَلًا قبْلَ كُلِّ شَيءٍ، بلا بدايةٍ، والباقي دائِمًا بعْدَ كُلِّ شَيءٍ بلا نِهايةٍ، وهو وَحْدَه العالي بذاتِه على كُلِّ شَيءٍ، والباطِنُ الَّذي لا شَيءَ دُونَه، وهو بكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ.
ثمَّ ذكَر تعالى مِن الأدلَّةِ على وحدانيَّتِه وقدرتِه أنَّه هو الَّذي خلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ في ستَّةِ أيَّامٍ، ثمَّ علا على العَرشِ عُلُوًّا يَليقُ بجَلالِه، يَعلَمُ سُبحانَه ما يَدخُلُ في الأرضِ وما يَخرُجُ مِنها، وما يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ، وما يَصعَدُ إليها، واللهُ معكم أينما كُنتُم بعِلْمِه وإحاطتِه، وهو سُبحانَه بَصيرٌ بما تَعمَلونَ.
له وَحْدَه سُلطانُ السَّمَواتِ والأرضِ، وإليه وَحْدَه تَرجِعُ الأُمورُ.
 يُدخِلُ سُبحانَه ظُلْمةَ اللَّيلِ في ضَوءِ النَّهارِ، وضَوءَ النَّهارِ في ظُلمةِ اللَّيل، وهو وَحْدَه عليمٌ بضَمائِرِ القُلوبِ وأسرارِها.

تفسير الآيات:

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1).
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: نَزَّهَ اللهَ تعالى عن النَّقائِصِ والعُيوبِ كُلُّ مَن في السَّمَواتِ ومَن في الأرضِ .
كما قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44] .
وقال سُبحانَه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [النور: 41] .
وقال عزَّ وجلَّ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: 1] .
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أي: واللهُ هو الغالِبُ الَّذي لا يُغلَبُ، ولا يَمتَنِعُ عليه شَيءٌ، الحَكيمُ الَّذي يَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه الصَّحيحِ اللَّائِقِ به .
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2).
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: لله وَحْدَه سُلطانُ السَّمَواتِ والأرضِ؛ فلا شَريكَ له في خَلْقِهما، ولا في تَدبيرِهما والتَّصَرُّفِ فيهما .
يُحْيِي وَيُمِيتُ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَرَ بأنَّه له المُلْكُ؛ أخبَرَ عن ذاتِه بهذَينِ الوصفَينِ العَظيمَينِ اللَّذَينِ بهما تَمامُ التَّصرُّفِ في المُلكِ، وهو إيجادُ ما شاءَ، وإعدامُ ما شاءَ؛ ولذلك أُعقِبَ بالقُدرةِ الَّتي بها الإحياءُ والإماتةُ .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر سُبحانَه مِن دَلائِلِ الآفاقِ مُلْكَ السَّمَواتِ والأرضِ؛ ذَكَر بعْدَه دَلائِلَ الأنفُسِ؛ فقال :
يُحْيِي وَيُمِيتُ.
أي: يُحيي ما يَشاءُ، ويُميتُ ما يَشاءُ مِن خَلْقِه .
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تعالى دَلائِلَ الآفاقِ أوَّلًا، ودَلائِلَ الأنفُسِ ثانيًا؛ ذَكَر لَفظًا يَتناوَلُ الكُلَّ؛ فقال :
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: وهو ذو قُدرةٍ بالِغةٍ، فلا يُعجِزُه شَيءٌ، سُبحانَه .
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَر بتمامِ القدرةِ، دلَّ على ذلك بقولِه :
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ.
أي: هو وَحْدَه الموَجودُ أزَلًا قبْلَ كُلِّ شَيءٍ، بلا بِدايةٍ مُفتَتَحةٍ، والباقي دائِمًا بعْدَ كُلِّ شَيءٍ بلا نِهايةٍ مُنقَضِيةٍ .
وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ.
أي: وهو وَحْدَه العالي بذاتِه على كُلِّ شَيءٍ مِن خَلْقِه؛ فلا شَيءَ فَوقَه، وهو وَحْدَه الباطِنُ الَّذي لا شَيءَ دُونَه، قد أحاط بكُلِّ شَيءٍ، بحيثُ يكونُ أقرَبَ إليه مِن نَفْسِه .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأمُرُنا إذا أخَذْنا مَضجَعَنا أن نَقولَ: اللَّهمَّ رَبَّ السَّمَواتِ ورَبَّ الأرضِ ورَبَّ العَرشِ العَظيمِ، رَبَّنا ورَبَّ كُلِّ شَيءٍ، فالِقَ الحَبِّ والنَّوى، ومُنزِلَ التَّوراةِ والإنجيلِ والفُرقانِ، أعوذُ بك مِن شَرِّ كُلِّ شَيءٍ أنت آخِذٌ بناصيتِه، اللَّهمَّ أنت الأوَّلُ فليس قَبْلَك شَيءٌ، وأنت الآخِرُ فليس بَعْدَك شَيءٌ، وأنت الظَّاهِرُ فليس فَوقَك شَيءٌ، وأنت الباطِنُ فليس دُونَك شَيءٌ، اقْضِ عنَّا الدَّينَ، وأغْنِنا مِن الفَقرِ )) .
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مَن ظَهَر لِشَيءٍ بَطَن عن غَيرِه، ومَن بَطَن لشَيءٍ غاب عنه عِلمُه، وكان سُبحانَه في ظُهورِه على ذلك بمعنى أنَّه ليس فَوقَه شَيءٌ، وفي بُطونِه بحيثُ ليس دُونَه شَيءٌ؛ فقد جَمَعت الأوصافُ إحاطةَ العِلمِ والقُدرةِ- أعلَمَ نَتيجةَ ذلك، فقال :
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أي: وهو ذو عِلمٍ بالِغٍ تامٍّ بكُلِّ شَيءٍ، فلا يَخفَى عليه شَيءٌ .
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4).
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.
أي: هو وَحْدَه الَّذي أوجَدَ السَّمَواتِ والأرضَ في ستَّةِ أيَّامٍ .
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ.
أي: ثمَّ علا على عَرشِه بعْدَ خَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ عُلُوًّا يَليقُ بجَلالِه .
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا.
أي: يَعلَمُ اللهُ ما يَدخُلُ في الأرضِ فيَغيبُ فيها مِن ماءٍ وبُذورٍ وحَيَواناتٍ، وأَمواتٍ وكُنوزٍ وغَيرِها، ويَعلَمُ ما يَخرُجُ مِن الأرضِ مِن نَباتٍ وحَيوانٍ، ومَعادِنَ وغَيرِها .
وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا.
أي: ويَعلَمُ اللهُ تعالى ما يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ مِن الملائِكةِ، والأمطارِ والبَرَدِ والثُّلوجِ والصَّواعِقِ، والأرزاقِ والوَحيِ وغَيرِ ذلك، ويَعلَمُ ما يَصعَدُ في السَّماءِ مِنَ الملائِكةِ والأرواحِ والأعمالِ، والأبخِرةِ وغَيرِها .
قال سُبحانَه: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج: 4] .
وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قام فينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخَمسِ كَلِماتٍ، فقال: إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ لا يَنامُ، ولا يَنبغي له أن يَنامَ، يَخفِضُ القِسطَ ويَرفَعُه، يُرفَعُ إليه عَمَلُ اللَّيلِ قبْلَ عَمَلِ النَّهارِ، وعَمَلُ النَّهارِ قبْلَ عَمَلِ اللَّيلِ ...)) الحديثَ.
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ.
أي: واللهُ معَكم بعِلمِه وإحاطتِه، رَقِيبٌ عليكم، شَهيدٌ على أعمالِكم في أيِّ مَوضِعٍ كُنتُم فيه مِن بَرٍّ أو بحرٍ، في لَيلٍ أو نهارٍ .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة: 7] .
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
أي: ولا يَخفى عليه شَيءٌ مِن أعمالِكم، وسيُجازيكم عليها .
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان صانِعُ الشَّيءِ قد لا يَكونُ مَلِكًا، وكان المَلِكُ لا يَكمُلُ مُلكُه إلَّا بعِلمِ جَميعِ ما يكونُ في مَملكتِه، والقُدرةِ عليه، وكان إنكارُهم للبَعثِ إنكارًا لأن يكونَ مَلِكًا؛ أكَّدَ ذلك بتَكريرِ الإخبارِ به، فقال :
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: لله وَحْدَه سُلطانُ السَّمَواتِ والأرضِ، فلا شَريكَ له في خَلْقِهما، ولا في تَدبيرِهما والتَّصَرُّفِ فيهما .
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
أنَّ الله تعالى دَلَّ على دوامِ مُلكِه وإحاطتِه، عاطِفًا على ما تَقديرُه: «فمِنَ اللهِ المَبدَأُ»، مُعَبِّرًا بالاسمِ الأعظَمِ الجامِعِ؛ لئَلَّا يُظَنَّ الخُصوصُ بأمورِ ما تقَدَّمَ، فقال تعالى :
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
أي: وإلى اللهِ وَحْدَه لا إلى غَيرِه مَرجِعُ جَميعِ الأُمورِ .
كما قال تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود: 123] .
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
مُناسَبةُ ذِكرِه هذه الجُملةَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ أنَّ تَقديرَ اللَّيلِ والنَّهارِ وتَعاقُبَهما مِن التَّصرُّفاتِ الإلهيَّةِ المُشاهَدةِ في أحوالِ السَّمواتِ والأرضِ، ومُلابساتِ أحوالِ الإنسانِ؛ فهذه الجُملةُ بدَلُ اشتمالٍ مِن جُملةِ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد: 5] ، وهو أيضًا مُناسِبٌ لمَضمونِ جُملةِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [الحديد: 5] ؛ تذكيرًا للمُشرِكين بأنَّ المُتصرِّفَ في سَببِ الفناءِ هو اللهُ تعالى؛ فإنَّهم يَعتقِدون أنَّ اللَّيلَ والنَّهارَ هما اللَّذانِ يُفنيانِ النَّاسَ، وحَكَى اللهُ عنهم قولَهم: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] ، فلمَّا قال: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [الحديد: 5] ، أبطَلَ بعْدَه اعتقادَ أهلِ الشِّركِ أنَّ للزَّمانِ -الَّذي هو تَعاقُبُ اللَّيلِ والنَّهارِ، والمُعبَّرُ عنه بالدَّهرِ- تَصرُّفًا فيهم .
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ.
أي: يُدخِلُ اللهُ ظُلْمةَ اللَّيلِ في ضَوءِ النَّهارِ، فيَغيبُ فيه .
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ.
أي: ويُدخِلُ اللهُ ضَوءَ النَّهارِ في ظُلمةِ اللَّيلِ، فيَغيبُ فيه .
وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تصَرُّفَ اللهِ في اللَّيلِ -وكان اللَّيلُ وَقتَ إخفاءِ الأشياءِ- أعقَبَ ذِكرَه بأنَّ اللهَ عَليمٌ بأخفى الخفايا -وهي النِّيَّاتُ-؛ فإنَّها مع كَونِها معانيَ غائِبةً عن الحواسِّ كانت مَكنونةً في ظُلمةِ باطِنِ الإنسانِ؛ فلا يَطَّلِعُ عليها عالِمٌ إلَّا اللهُ تعالى .
وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
أي: وهو وَحْدَه البالِغُ العِلمِ بضَمائِرِ عِبادِه وسَرائِرِهم، لا يخفَى عليه شَيءٌ منها .

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ مَعرِفةُ هذه الأسماءِ الأربَعةِ -وهي: الأوَّلُ، والآخِرُ، والظَّاهِرُ، والباطِنُ- هي أركانُ العِلمِ والمَعرِفةِ؛ فحَقيقٌ بالعَبدِ أن يَبلُغَ في مَعرفتِها إلى حيثُ ينتهي به قُواه وفَهمُه، واعلَمْ أنَّ لك أنت أوَّلًا وآخِرًا، وظاهِرًا وباطِنًا، بل كلُّ شَيءٍ فله أوَّلٌ وآخِرٌ، وظاهِرٌ وباطِنٌ، حتَّى الخَطرةُ واللَّحظةُ والنَّفَسُ، وأدنى مِن ذلك وأكثَرُ؛ فأوَّلِيَّةُ اللهِ عزَّ وجَلَّ سابِقةٌ على أوَّليَّةِ كُلِّ ما سِواه، وآخِريَّتُه ثابِتةٌ بعْدَ آخِريَّةِ كُلِّ ما سِواه؛ فأوَّلِيَّتُه سَبْقُه لكُلِّ شَيءٍ، وآخِريَّتُه بقاؤُه بعدَ كُلِّ شَيءٍ، وظاهِريَّتُه -سُبحانَه- فَوقيَّتُه وعُلُوُّه على كُلِّ شَيءٍ، ومعنى الظُّهورِ يَقتَضي العُلُوَّ، وظاهِرُ الشَّيءِ: هو ما علا منه وأحاط بباطِنِه. وبُطونُه سُبحانَه: إحاطتُه بكُلِّ شَيءٍ، بحيثُ يكونُ أقرَبَ إليه مِن نَفسِه، وهذا قُربٌ غَيرُ قُربِ المحِبِّ مِن حَبيبِه؛ هذا لَونٌ، وهذا لَونٌ؛ فمَدارُ هذه الأسماءِ الأربَعةِ على الإحاطةِ، وهي إحاطتانِ: زمانيَّةٌ ومَكانيَّةٌ؛ فأحاطت أوَّلِيَّتُه وآخِريَّتُه بالقَبلِ والبَعدِ، فكُلُّ سابِقٍ انتهى إلى أوَّلِيَّتِه، وكُلُّ آخِرٍ انتهى إلى آخِريَّتِه، فأحاطت أوَّلِيَّتُه وآخِريَّتُه بالأوائِلِ والأواخِرِ، وأحاطت ظاهِريَّتُه وباطِنيَّتُه بكُلِّ ظاهِرٍ وباطِنٍ؛ فما مِن ظاهِرٍ إلَّا واللهُ فَوقَه، وما مِن باطِنٍ إلَّا واللهُ دُونَه، وما مِن أوَّلٍ إلَّا واللهُ قَبْلَه، وما مِن آخِرٍ إلَّا واللهُ بَعْدَه؛ فالأوَّلُ قِدَمُه، والآخِرُ دوامُه وبَقاؤُه، والظَّاهِرُ عُلُوُّه وعَظَمتُه، والباطِنُ قُربُه ودُنُوُّه، فسَبَقَ كُلَّ شَيءٍ بأوَّلِيَّتِه، وبَقِيَ بعدَ كُلِّ شَيءٍ بآخِريَّتِه، وعلا على كُلِّ شَيءٍ بظُهورِه، ودنا مِن كُلِّ شَيءٍ ببُطونِه، فلا تُواري منه سَماءٌ سَماءً، ولا أرضٌ أرضًا، ولا يَحجُبُ عنه ظاهِرٌ باطِنًا، بل الباطِنُ له ظاهِرٌ، والغَيبُ عِندَه شَهادةٌ، والبَعيدُ منه قَريبٌ، والسِّرُّ عِندَه عَلانيَةٌ؛ فهذه الأسماءُ الأربَعةُ تَشتَمِلُ على أركانِ التَّوحيدِ؛ فهو الأوَّلُ في آخِريَّتِه، والآخِرُ في أوَّلِيَّتِه، والظَّاهِرُ في بُطونِه، والباطِنُ في ظُهورِه، لم يَزَلْ أوَّلًا وآخِرًا، وظاهِرًا وباطِنًا -سُبحانَه وبِحَمدِه !
2- يُستفادُ مِن قولِه تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ كمالُ مُراقَبةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وخَشيتِه؛ بحيث لا يَفْقِدُه حيثُ أمَرَه، ولا يَراه حيثُ نَهاه .
3- في قَولِه تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تحذيرُ المرءِ مِن المُخالَفةِ، فإذا سَوَّلَت لك نفْسُك مَعصيةً للهِ عزَّ وجلَّ فاعرِضْ عليها مِثْلَ هذه الآيةِ وأشباهَ ذلك مِن الأشياءِ الَّتي يَجِبُ على المرءِ إذا هَمَّ بسَيِّئةٍ أنْ يَستعرِضَها؛ حتَّى تَمنَعَه .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ رَدٌّ على «أهلِ الوَحْدةِ» الَّذين يَحتجُّون بنُصوصِ «المَعِيَّةِ» و«القُرْبِ» على أنَّ الوُجودَ واحِدٌ، ويَتأوَّلونَ نُصوصَ العُلُوِّ والاستِواءِ، وكلُّ نَصٍّ يَحتجُّون به حُجَّةٌ عليهم؛ فإنَّ «المَعِيَّةَ» أكثرُها خاصَّةٌ بأنبيائِه وأوليائِه، وعِندَهم أنَّه -تعالى وتَقَدَّس- في كلِّ مَكانٍ، وفي نُصوصِهم ما يُبَيِّنُ نَقيضَ قَولِهم؛ ففي قَولِه تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أنَّ كلَّ مَن في السَّمَواتِ والأرضِ يُسَبِّحُ، والمُسَبِّحُ غيرُ المُسَبَّحِ !
2- قال تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ افتتاحُ هذِه السُّورةِ بذِكرِ تَسبيحِ اللهِ وتَنزيهِه مُؤْذِنٌ بأنَّ أهمَّ ما اشتَمَلَت عليه إثباتُ وصْفِ اللهِ بالصِّفاتِ الجليلةِ المُقتضيةِ أنَّه مُنزَّهٌ عمَّا ضلَّ في شأْنِه أهلُ الضَّلالِ مِن وصْفِه بما لا يَليقُ بجَلالِه، وأوَّلُ التَّنزيهِ هو نفْيُ الشَّريكِ له في الإلهيَّةِ؛ فإنَّ الوَحدانيَّةَ هي أكبرُ صِفةٍ ضلَّ في كُنْهِها المُشرِكون والمانويَّةُ ونحْوُهم مِن أهلِ التَّثنيةِ، وأصحابِ التَّثليثِ والبَراهمةِ ، وهي الصِّفةُ الَّتي يُنبِئُ عنها اسمُه العَلَمُ (الله)؛ لأنَّ أصْلَه الإلهُ، أي: المُنفرِدُ بالإلهيَّةِ، وأُتبِعَ هذا الاسمُ بصِفاتٍ رَبَّانيَّةٍ تدُلُّ على كَمالِ اللهِ تعالى وتَنزُّهِه عن النَّقصِ، فكانتْ هذه الفاتحةُ بَراعةَ استِهلالٍ لهذه السُّورةِ؛ ولذلك أُتبِعَ اسْمُه العَلَمُ بعَشْرِ صِفاتٍ هي جامِعةٌ لصِفاتِ الكمالِ؛ وهي: الْعَزِيزُ، الْحَكِيمُ، لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الْأَوَّلُ، وَالْآَخِرُ، وَالظَّاهِرُ، وَالْبَاطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .
3- في قَولِه تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أنَّ جَميعَ ما في السَّمَواتِ والأرضِ مِنَ الحَيواناتِ النَّاطِقةِ والصَّامِتةِ وغَيرِها، والجوامِدِ: تُسَبِّحُ بحَمدِ رَبِّها، وتُنَزِّهُه عمَّا لا يَليقُ بجَلالِه، وأنَّها قانِتةٌ لرَبِّها، مُنقادةٌ لعِزَّتِه، قد ظهَرَت فيها آثارُ حِكمتِه؛ ولهذا قال تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فهذا فيه بَيانُ عُمومِ افتِقارِ المَخلوقاتِ العُلويَّةِ والسُّفْليَّةِ لرَبِّها في جَميعِ أحوالِها، وعُمومِ عِزَّتِه وقَهرِه للأشياءِ كُلِّها، وعُمومِ حِكمتِه في خَلْقِه وأمْرِه !
4- قولُه تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ فَسَّرَه النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنَّه الَّذي ليس قَبْلَه شيءٌ، ففَسَّرَ الإثباتَ بالنَّفيِ؛ فجَعَل هذه الصِّفةَ الثُّبوتيَّةَ صِفةً سَلبيَّةً، مع أنَّ الصِّفاتِ الثُّبوتيَّةَ أكمَلُ وأكثَرُ؛ وذلك لتوكيدِ الأوَّليَّةِ، يعني أنَّها مُطلَقةٌ، أوَّلِيَّةٌ ليست أوَّلِيَّةً إضافيَّةً؛ فيُقالُ: هذا أوَّلٌ باعتِبارِ ما بَعْدَه، وهناك شَيءٌ آخَرُ قَبْلَه، فصار تَفسيرُها بأمرٍ سَلبيٍّ أدَلَّ على العُمومِ باعتبارِ التَّقَدُّمِ الزَّمَنيِّ .
5- في قَولِه تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ حَسَّنَ العطفَ هنا التَّغايرُ الظَّاهرُ، وكلَّما كان التَّغايُرُ أبْيَنَ كان العطفُ أحسَنَ، فإنَّ الأَوَّلِيَّةَ لا تُجامِعُ الآخِرِيَّةَ! ولهذا فَسَّرَها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقولِه: ((أنت الأوَّلُ؛ فليس قَبْلَك شَيءٌ، وأنت الآخِرُ؛ فليس بَعْدَك شَي ءٌ)) ، فأوَّلِيَّتُه أزَلِيَّتُه، وآخِرِيَّتُه أبَدِيَّتُه.
فإنْ قيلَ: فما تَصنَعُ بقولِه: وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ؛ فإنَّ ظُهورَه تعالى ثابتٌ مع بُطونِه، فيَجتمِعُ في حقِّه الظُّهورُ والبُطونُ، والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فَسَّر «الظَّاهرَ» بأنَّه الَّذي ليس فوقَه شَيءٌ، و«الباطنَ» بأنَّه الَّذي ليس دونَه شيءٌ، وهذا العُلُوُّ والفوقيَّةُ مجامِعٌ لهذا القُرْبِ والدُّنُوِّ والإحاطةِ؟
والجوابُ: الَّذي حَسَّنَ دخولَ «الواوِ» هاهنا أنَّ هذه الصِّفاتِ مُتقابِلةٌ مُتضادَّةٌ؛ وقد عُطِفَ الثَّاني منها على الأوَّلِ للمُقابَلةِ الَّتي بيْنَهما، والصِّفتانِ الأُخْرَيانِ كالأُولَيَيْنِ في المُقابَلةِ، ونِسبةُ الباطنِ إلى الظَّاهرِ كنِسبةِ الآخِرِ إلى الأوَّلِ؛ فكما حَسُنَ العطفُ بيْنَ الأُولَيَيْنِ حَسُنَ بيْن الأُخْرَيَينِ .
6- في قَولِه تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ هذا الوَصفُ يَستلزِمُ صِفةَ الغِنى المُطلَقِ؛ لأنَّ الأوَّلَ هنا معناه الموجودُ لِذَاتِه دون سَبْقِ عَدَمٍ، ثمَّ هذه الأوَّلِيَّةُ في الوُجودِ تقتَضي أن تَثبُتَ لله جميعُ صِفاتِ الكَمالِ .
7- في قَولِه تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ الظَّاهِرُ أنَّ المُتقابِلَ مِن هذه الأسماءِ مُتلازِمٌ؛ فإذا قلتَ: «الأوَّلُ» فقُلِ: «الآخِرُ»، وإذا قُلتَ: «الظَّاهِرُ» فقُلِ: «الباطِنُ»؛ لِئلَّا تَفوتَ صِفةُ المقابَلةِ الدَّالَّةِ على الإحاطةِ .
8- قال اللهُ تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قَولُه: الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ اشتَمَلا على عُمومِ الزَّمانِ، وقَولُه: وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ على عُمومِ المَكانِ .
9- يُستفادُ مِن قَولِه تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إثباتُ أربعةِ أسماءٍ للهِ تعالى، وهي: الأوَّلُ، والآخِرُ، والظَّاهِرُ، والباطِنُ، واستفَدْنا منها خَمسَ صِفاتٍ: الأَوَّلِيَّةُ، والآخِريَّةُ، والظَّاهريَّةُ، والباطنيَّةُ، وعُمومُ العِلمِ، واستَفَدْنا مِن مَجموعِ الأسماءِ: إحاطةَ اللهِ تعالى بكلِّ شَيءٍ زَمانًا ومَكانًا؛ لأنَّه قد يَحصُلُ مِن اجتِماعِ الأوصافِ زيادةُ صِفةٍ .
10- في قَولِه تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إرشادٌ إلى بُطلانِ التَّسَلسُلِ الباطِلِ ببَديهةِ العَقلِ، وأنَّ سِلسِلةَ المخلوقاتِ في ابتِدائِها تَنتَهي إلى أوَّلٍ ليس قَبْلَه شَيءٌ، كما تَنتَهي في آخِرِها إلى آخِرٍ ليس بعدَه شَيءٌ، كما أنَّ ظُهورَه هو العُلوُّ الَّذي ليس فَوقَه شَيءٌ، وبُطونَه هو الإحاطةُ الَّتي لا يكونُ دُونَه فيها شَيءٌ، ولو كان قَبْلَه شيءٌ يكونُ مُؤثِّرًا فيه لَكان ذلك هو الرَّبَّ الخَلَّاقَ! ولا بُدَّ أنْ يَنتهيَ الأمرُ إلى خالقٍ غَيرِ مَخلوقٍ، وغَنيٍّ عن غَيرِه، وكلُّ شَيءٍ فقيرٌ إليه، قائِمٍ بنَفْسِه وكُلُّ شَيءٍ قائِمٌ به، مَوجودٍ بذاتِه وكلُّ شَيءٍ مَوجودٌ به، قَديمٍ لا أوَّلَ له، وكُلُّ ما سِواه فوُجودُه بَعْدَ عَدَمِه، باقٍ بذاتِه وبَقاءُ كلِّ شيءٍ به؛ فهو الأوَّلُ الَّذي ليس قَبْلَه شَيءٌ، والآخِرُ الَّذي ليس بَعْدَه شَيءٌ، الظَّاهِرُ الَّذي ليس فَوقَه شَيءٌ، الباطِنُ الَّذي ليس دُونَه شَيءٌ .
11- في قَولِه تعالى: وَالْآَخِرُ فَسَّرَه النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنَّه الَّذي ليس بَعْدَه شَيءٌ ، ولا يُتوهَّمُ أنَّ هذا يدُلُّ على غايةٍ لآخِريَّتِه؛ لأنَّ هناك أشياءَ أبَديَّةً وهي مِن المَخلوقاتِ،كالجَنَّةِ والنَّارِ، وعليه فيَكونُ معنى: وَالْآَخِرُ أنَّه مُحيطٌ بكُلِّ شَيءٍ، حتَّى الَّذي لا نِهايةَ له .
12- يُستفادُ مِن اسمِ اللهِ «الظَّاهِرُ» عُلُوُّ اللهِ تعالى .
13- في قَولِه تعالى: وَالْبَاطِنُ فَسَّرَه النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنَّه الَّذي ليس دُونَه شَيءٌ ، وهذا كِنايةٌ عن إحاطتِه بكُلِّ شَيءٍ، ولكِنَّ المعنى أنَّه مع عُلُوِّهِ -عزَّ وجلَّ- فهو باطِنٌ؛ فعُلُوُّه لا يُنافي قُرْبَه عزَّ وجلَّ، فـ «الباطِنُ» قَريبٌ مِن معنى «القَريبِ» .
14- في قَولِه تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ سُؤالٌ: أنَّ هذا يدُلُّ على أنَّه تعالى مُستَوٍ على عَرْشِه، عالٍ على جَميعِ خَلْقِه، وقَولُه تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ يُوهِمُ خِلافَ ذلك! فما الجَوابُ؟
الجَوابُ مِن أوجُهٍ:
الأوَّلُ: أنَّه تعالى مُستَوٍ على عَرشِه -كما قال، بلا كَيفٍ ولا تَشبيهٍ- استِواءً لائِقًا بكَمالِه وجَلالِه، وجميعُ الخلائِقِ في يَدِه أصغَرُ مِن حَبَّةِ خَردَلٍ! فهو مع جَميعِهم بالإحاطةِ الكامِلةِ، والعِلمِ التَّامِّ، ونُفوذِ القُدرةِ -سُبحانَه وتعالى عُلُوًّا كَبيرًا؛ فلا مُنافاةَ بيْنَ عُلُوِّه على عَرشِه ومَعِيَّتِه لجَميعِ الخَلائِقِ؛ ألَا تَرى -ولله المَثَلُ الأَعلى- أنَّ أحَدَنا لو جَعَل في يَدِه حَبَّةً مِن خَردَلٍ، أنَّه ليس داخِلًا في شَيءٍ مِن أجزاءِ تلك الحَبَّةِ، معَ أنَّه مُحيطٌ بجَميعِ أجزائِها، ومع جَميعِ أجزائِها، والسَّمَواتُ والأرضُ ومَن فيهما في يَدِه تعالى أصغَرُ مِن حَبَّةِ خَردَلٍ في يَدِ أحَدِنا -وله المَثَلُ الأعلى سُبحانَه وتعالى عُلُوًّا كَبيرًا-؛ فمعَ أنَّه مُستَوٍ على عَرشِه، لا يَخفى عليه شَيءٌ مِن عَمَلِ خَلْقِه جَلَّ وعلا !
الثَّاني: أنَّه ذَكَرَ استِواءَه على العَرشِ، ثمَّ قال: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ، وإذا جَمَع اللهُ لنَفْسِه بيْن وَصْفَينِ فإنَّنا نَعلَمُ عِلْمَ اليَقينِ أنَّهما لا يَتناقَضانِ؛ لأنَّهما لو تناقَضَا لاستَحالَ اجتِماعُهما؛ إذِ المُتناقِضانِ لا يَجتَمِعانِ ولا يَرتَفِعانِ؛ فلا بُدَّ مِن وُجودِ أحدِهما وانتِفاءِ الثَّاني، ولو كان هناك تَناقُضٌ لَزِمَ أنْ يكونَ أوَّلُ الآيةِ مُكَذِّبًا لآخِرِها، أو بالعكسِ!
 الثَّالثُ: أنَّه قد يَجتَمِعُ العُلُوُّ والمَعيَّةُ في المخلوقاتِ، كما في قَولِ النَّاسِ: «ما زِلْنا نَسيرُ والقَمَرُ مَعَنا».
الرَّابعُ: لو فُرِضَ تعارُضُهما بالنِّسبةِ للمَخلوقِ لم يَلزَمْ ذلك بالنِّسبةِ للخالِقِ؛ لأنَّ اللهَ ليس كمِثْلِه شَيءٌ سُبحانَه .
15- قَولُه تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ مِن أدَلِّ شَيءٍ على مُبايَنةِ الرَّبِّ تعالى لِخَلْقِه؛ فإنَّه لم يَخلُقْهم في ذاتِه، بل خَلَقَهم خارِجًا عن ذاتِه، ثمَّ بانَ عنهم باستِوائِه على عَرْشِه، وهو يَعلَمُ ما هم عليه، فيَراهم، ويَنْفُذُهم بَصَرُه، ويُحيطُ بهم عِلمًا وقُدرةً وإرادةً، وسَمعًا وبَصَرًا، فهذا معنى كَونِه سُبحانَه «معهم أينَما كانوا» !
16- في قَولِه تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ دَلالةٌ على أنَّ خَلْقَ العَرشِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ؛ فإنَّه يَقتَضي أنَّه استوى على العَرشِ بعدَ خَلْقِ السَّمَواتِ والأرضِ، ولم يَذْكُرْ أنَّه خَلَقَه حينَئذٍ، ولو كان خَلَقَه حينَئذٍ لَكان قد ذَكَر خَلْقَه ثُمَّ استِواءَه عليه، ولأنَّ ذِكْرَه للاستِواءِ عليه دونَ خَلْقِه دَليلٌ على أنَّه كان مخلوقًا قبْلَ ذلك .
17- في قَولِه تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أنَّ الاستِواءَ مِن الصِّفاتِ الفِعليَّةِ، وليس مِن الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ؛ لأنَّه مُرتَّبٌ بعدَ خَلْقِ السَّمَواتِ -يعني: حادِثًا - ولا شَكَّ أنَّ قيامَ الأفعالِ الاختياريَّةِ باللهِ عزَّ وجلَّ مِن كَمالِ اللهِ، فمِن كَمالِه أنْ يكونَ فاعِلًا؛ متى شاء فَعَل، ومتى شاء لم يَفْعَلْ. وأمَّا مَن قال: إنَّه يَلْزَمُ مِن قيامِ الحوادِثِ به أنْ يكونَ حادِثًا، فهذه قَضيَّةٌ غَيرُ مُسَلَّمةٍ ولا صَحيحةٍ .
18- في قَولِه تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ سُؤالٌ: كيف الجَمعُ بيْنَ هذه الآيةِ وبيْنَ قَولِه سُبحانَه وتعالى في آيةِ الكُرسيِّ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [البقرة: 255]؟
الجوابُ: لا يُوجَدُ خلِافٌ بَيْنَهما؛ فالكُرسيُّ شامِلٌ للسَّمَواتِ والأرضِ، يعني لِعِظَمِه وكِبَرِه يكونُ واسِعًا لهما جَميعًا، أي لكلِّ السَّمَواتِ والأرضِ، والعَرشُ فَوْقَه .
19- في قَولِه تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ إثباتُ عُلُوِّ اللهِ تعالى، والعَرشُ أعلى المخلوقاتِ .
20- في قَولِه تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أنَّه إذا قُلْنا: استوى على العَرشِ -بمعنى: علا- فهاهنا سُؤالٌ: وهو: أنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَواتِ ثمَّ استوى على العَرشِ، فهل يَستلزِمُ أنَّه قبْلَ ذلك ليس عاليًا؟
فالجوابُ: لا يَستلزِمُ ذلك؛ لأنَّ الاستواءَ على العَرشِ أخَصُّ مِن مُطلَقِ العُلُوِّ؛ لأنَّ الاستِواءَ على العَرشِ عُلُوٌّ خاصٌّ به، والعُلُوُّ شامِلٌ على جَميعِ المخلوقاتِ؛ فعُلُوُّه عزَّ وجلَّ ثابِتٌ له أزَلًا وأبَدًا، لم يَزَلْ عاليًا على كُلِّ شَيءٍ قبْلَ أنْ يَخلُقَ العَرشَ، ولا يَلزَمُ مِن عَدَمِ استِوائِه على العَرشِ عَدَمُ عُلُوِّه، بل هو عالٍ، ثمَّ بعْدَ خَلْقِ السَّمَواتِ والأرضِ عَلَا عُلُوًّا خاصًّا على العَرشِ .
21- في قَولِه تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ إبطالُ قَولِ المُعَطِّلةِ والجَهْميَّةِ الَّذين يَقولونَ: ليس على العَرشِ شَيءٌ سِوى العَدَمِ! وأنَّ اللهَ ليس مُستويًا على عرْشِه! ولا تُرفَعُ إليه الأيدي! ولا يَصْعَدُ إليه الكَلِمُ الطَّيِّبُ! ولا رَفَعَ المسيحَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- إليه! ولا عُرِجَ برَسولِه مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم إليه! ولا تَعرُجُ الملائِكةُ والرُّوحُ إليه! ولا يَنْزِلُ مِن عندِه جِبريلُ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- ولا غيرُه! ولا يَنْزِلُ هو كُلَّ لَيلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا! ولا يخافُه عبادُه مِن الملائِكةِ وغَيرِهم مِن فَوقِهم! ولا يَراه المؤمِنونَ في الدَّارِ الآخِرةِ عِيانًا بأبصارِهم مِن فَوقِهم! ولا تجوزُ الإشارةُ إليه بالأصابِعِ إلى فَوقٍ كما أشار إليه النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في أعظَمِ مَجامِعِه؛ في حَجَّةِ الوداعِ، ((وجَعَلَ يَرفعُ إصْبَعَه إلى السَّماءِ ويَنْكُتُها إلى النَّاسِ ، ويقولُ: اللَّهُمَّ اشهَدْ)) !
22- في قَولِه تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أنَّه سُبحانَه على العَرشِ بذاتِه، فإنْ قالوا: فإنَّ العَرَبَ يقولونَ: «استوى فُلانٌ على بَلَدِ كذا وكذا»: إذا استولى عليه وقَهَرَ.
فالجوابُ مِن أوجهٍ:
أحدُها: أنَّه لو كان «استوى» بمعنى «استولى» لم يكُنْ لتَخصيصِه العَرشَ بالاستواءِ مَعنًى؛ لأنَّه مُسْتَولٍ على كُلِّ شَيءٍ غَيرِه، فكان يجوزُ أنْ يقالَ: الرَّحمنُ على الجَبَلِ استَوى! وهذا باطلٌ.
الثَّاني: أنَّ العربَ لا تُدْخِلُ «ثُمَّ» إلَّا لأمرٍ مُستقبَلٍ سيكونُ، واللهُ تعالى لم يَزَلْ قاهِرًا قادِرًا مُستَولِيًا على الأشياءِ؛ فلم يكُنْ -بزَعمِهم- لِقَولِه: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَعنًى.
الثَّالِثُ: أنَّ «الاستواءَ» بمعنى «الاستيلاءِ» لا يكونُ عندَ العربِ إلَّا بعدَ أنْ يكونَ ثَمَّ مُغَالِبٌ يُغالِبُه، فإذا غَلَبَه وقَهَرَه قيل: قد استَولى عليه، فلمَّا لم يكُنْ مع اللهِ مُغالِبٌ لم يكُنْ معنى استِوائِه على عَرْشِه استيلاءَه عليه وغَلَبَتَه، وصَحَّ أنَّ استواءَه عليه هو عُلُوُّه وارتِفاعُه عليه بلا حَدٍّ ولا كَيفٍ ولا تَشبيهٍ.
الرَّابعُ -وهو قولُ أئمَّةِ اللُّغَةِ-: أنَّ الاستواءَ في اللُّغةِ: هو العُلُوُّ والرِّفْعةُ؛ لأنَّهم يقولونَ: «استَوَتِ الشَّمسُ»: إذا تعالتْ، و«استوى الرَّجُلُ على ظَهرِ دابَّتِه»: إذا علاها، وقولُه تعالى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود: 44] ، أي: ارتفَعتْ عليه، وقولُه تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى [القصص: 14] أي: ارتفَعَ عن حالِ النُّقصانِ إلى حالِ الكَمالِ، ويقالُ: استوى أَمْرُ فلانٍ، أي: ارتفعَ وعلا عنِ الحالِ الَّتي كان عليها مِن الضَّعْفِ وسُوءِ الحالِ .
23- في قَولِه تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ دَلالةٌ على بُطلانِ تأويلِ «الاستواءِ» بمعنى «المُلْكِ»؛ لأنَّه سُبحانَه أخبَرَ أنَّه خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ في سِتَّةِ أيَّامٍ، ثمَّ استوى على العَرشِ، وقد أخبَرَ أنَّ العَرشَ كان مَوجودًا قبْلَ خَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ -كما دلَّ على ذلك الكِتابُ والسُّنَّةُ-، وحينَئذٍ فهو مِن حِينِ خلَقَ العَرشَ مالِكٌ له مُسْتَولٍ عليه؛ فكيف يكونُ الاستواءُ عليه مُؤخَّرًا عن خَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ؟! وأيضًا فاللهُ مالِكٌ لكُلِّ شَيءٍ، مُستَولٍ عليه؛ فكيف يُخصُّ العَرشُ بالاستِواءِ ؟!
24- قال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وهذه المَعِيَّةُ مَعِيَّةُ العِلمِ والاطِّلاعِ؛ ولهذا تَوعَّد ووَعَد على المُجازاةِ بالأعمالِ، بقَولِه: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، أي: هو تعالى بصيرٌ بما يَصدُرُ منكم مِنَ الأعمالِ، وما صدَرَت عنه تلك الأعمالُ مِن بِرٍّ وفُجورٍ، فمُجازيكم عليها، وحافِظُها عليكم .
25- قال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ، وقال أيضًا: وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة: 7] ، وقد فسَّر السَّلفُ مَعيَّةَ اللهِ تعالى لِخَلقِه في الآيتَينِ بالعِلمِ، وهم بذلك لم يُؤَوِّلوها تأويلَ أهلِ التَّعطيلِ، ولم يَصرِفوا الكلامَ عن ظاهرِه؛ وذلك مِن وُجوهٍ ثلاثةٍ:
الأوَّل: أنَّ اللهَ تعالى ذكَرها في سورةِ (المجادلةِ) بيْنَ عِلمَينِ، فقال في أوَّلِ الآيةِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وقال في آخِرِها: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ؛ فدلَّ ذلك على أنَّ المرادَ أنَّه يَعلَمُهم، ولا يخفَى عليه شيءٌ مِن أحوالِهم.
الثَّاني: أنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَها مَقرونةً باستِوائِه على عَرْشِه -الَّذي هو أعلى المخلوقاتِ-؛ فدَلَّ على أنَّ المرادَ مَعِيَّةُ الإحاطةِ بهم عِلمًا وبَصَرًا، لا أنَّه معهم بذاتِه في كلِّ مَكانٍ، وإلَّا لَكان أوَّلُ الآيةِ وآخِرُها مُتناقِضًا.
الثَّالِثُ: أنَّ العِلمَ مِن لوازمِ المَعِيَّةِ .
26- قَولُه تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي: إلى حيثُ لا مالِكَ سِواه، ودَلَّ بهذا القَولِ على إثباتِ المَعادِ .
27- في قَولِه تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ تمامُ قُدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وسُلطانِه في كَونِه يُولِجُ اللَّيلَ في النَّهارِ، ويُولِجُ النَّهارَ في اللَّيلِ .
28- في قَولِه تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ إثباتُ حِكمةِ اللهِ تعالى؛ لأنَّ هذا الإيلاجَ له حِكمةٌ عَظيمةٌ لا تقومُ مَصالِحُ الخَلْقِ إلَّا بها؛ لأنَّه يَترتَّبُ على هذا الإيلاجِ اختِلافُ فُصولِ السَّنةِ الَّتي يَترتَّبُ على اختِلافِها نُمُوُّ الأجسادِ والنَّباتِ؛ فمِن النَّباتِ ما يكونُ شَتْويًّا، ومِن النَّباتِ ما يكونُ صَيفيًّا .
29- في قَولِه تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ أنَّ الإنسانَ يَعرِفُ به ضَعْفَه وافتِقارَه إلى ربِّه؛ إنْ جاء البَرْدُ صار يَتَطَلَّبُ ما يُدفِّئُه، وإنْ جاء الحَرُّ صار يَتَطَلَّبُ ما يُبَرِّدُه؛ فهو محتاجٌ إلى ربِّه في الحالَينِ، وهذا مِن فوائدِ اختِلافِ الحَرِّ والبَرْدِ .
30- في قَولِه تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ دَليلٌ على رَحمةِ اللهِ تعالى؛ لأنَّ تناوُبَ اللَّيلِ والنَّهارِ بالزِّيادةِ والنَّقصِ فيه مَصلحةٌ عَظيمةٌ جِدًّا؛ لأنَّ اللَّيلَ إذا طال حَصَلَ البَرْدُ والشِّتاءُ، وظَهَرتْ أشجارُ الشِّتاءِ، وماتتِ الحَشَراتُ الَّتي قد يكونُ بقاؤها ضارًّا بالإنسانِ والنَّباتِ، وكذلك إذا ازدادَ النَّهارُ ازدادَ الحَرُّ فنَضِجَتِ الثِّمارُ، وزال البُخارُ مِن الأرضِ، وماتتْ بذلك حَشَراتٌ كثيرةٌ مِن أجْلِ الحَرِّ، لو أنَّها بَقِيَتْ وتنامَتْ لأَضَرَّتْ بالنَّاسِ، فيكونُ هذا أيضًا فيه دَليلٌ على كَمالِ الحِكمةِ والرَّحمةِ مع القُدرةِ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
- عُبِّر هنا وفي سُورتَي (الحَشْرِ) و(الصَّفِّ) بالمُضِيِّ: سَبَّحَ، وفي سُورتَي (الجُمُعةِ) و(التَّغابُنِ) بالمُضارِعِ: يُسَبِّحُ، وفي سُورةِ (الأعْلى) بالأمْرِ: سَبِّحِ، وفي سُورةِ (الإسراءِ) بالمصدَرِ: سُبْحَانَ؛ استيعابًا للجِهاتِ المشهورةِ لهذه الكَلِمةِ، وللإيذانِ بتَحقُّقِه في جَميعِ الأوقاتِ. وأنَّ هذه الأشياءَ مسبِّحةٌ في كلِّ الأوقاتِ، لا يختصُّ بوقتٍ دونَ وقتٍ؛ بل هي مسبِّحةٌ أبدًا في الماضي، وستكونُ مسبِّحةً أبدًا في المستقبَلِ. وبدَأَ بالمَصدرِ في (الإسراءِ)؛ لأنَّه الأصلُ، ولأنَّه أبلَغُ مِن حيثُ إنَّه يُشعِرُ بإطلاقِه على استِحقاقِ التَّسبيحِ مِن كلِّ شَيءٍ وفي كلِّ حالٍ، ثم بالمُضِيِّ لسَبْقِ زَمَنِه، ثمَّ بالمضارعِ؛ لشُمولِه الحالَ والمستقبَلَ، ثمَّ بالأمرِ؛ لخُصوصِه بالحالِ، مع تأخُّرِه في النُّطقِ به في قولِهم: فَعلَ، يَفْعلُ، افْعلْ . وقيل: جاء في بَعضِ الفواتحِ (سبَّح) على لَفظِ الماضي، وفي بَعضِها على لَفظِ المضارِعِ، وكلُّ واحدٍ منهما معناهُ: أنَّ مِن شأْنِ مَن أُسنِدَ إليه التَّسبيحُ أنْ يُسبِّحَه، وذلك هِجِّيراهُ ودَيدنُه .
- وصِيغَ فِعلُ التَّسبيحِ هنا بصِيغةِ الماضي؛ للدَّلالةِ على أنَّ تَنزيهَه تعالى أمْرٌ مُقرَّرٌ، أمَرَ اللهُ به عِبادَه مِن قبْلُ، وألْهَمَه النَّاسَ، وأودَعَ دَلائلَه في أحوالِ ما لا اختيارَ له، كما دلَّ عليه قولُه تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ [الرعد: 15] ، وقولُه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44] ؛ ففي قولِه: سَبَّحَ تَعريضٌ بالمُشرِكين الَّذين أهْمَلوا أهمَّ التَّسبيحِ، وهو تَسبيحُه عن الشَّريكِ والنِّدِّ .
- واللَّامُ في لِلَّهِ إمَّا أنْ تكونَ بمَنزلةِ اللَّامِ في: نصَحْتُ لِزَيدٍ، يُقالُ: سبَّحَ اللهَ، كما يُقالُ: نصَحْتُ زَيدًا؛ فجِيءَ باللَّامِ لتَقويةِ وُصولِ الفِعلِ إلى المفعولِ. وإمَّا أنْ تكونَ لامَ التَّعليلِ، أي: أحدَثَ التَّسبيحَ مِن أجْلِ اللهِ، أي: لوَجْهِه خالِصًا . وقيل: دخلتِ «اللَّامُ» هنا؛ لأنَّ المرادَ هو التَّسبيحُ الَّذي هو السُّجودُ والخُضوعُ والطَّاعةُ، وليس التَّنزيهَ والذِّكْرَ المُجَرَّدَ !
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بحذْفِ (ما) بيْنَ السَّمواتِ والأرضِ؛ مُوافَقةً لقولِه بعْدُ: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد: 2] ، وخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [الحديد: 4] ، ولأنَّ التَّقديرَ في هذه السُّورةِ: «سبَّحَ للهِ خلْقُ السَّمواتِ والأرضِ»، وكذلك قال في آخِرِ (الحشرِ) بعْدَ قولِه: الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحشر: 24] ، أي: خلْقُهما، وقاله في سُوَرِ (الحَشْرِ)، و(الصَّفِّ)، و(الجُمعةِ)، و(التَّغابُنِ) بإثباتِها؛ عمَلًا بالأصْلِ .
- قولُه: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ حالٌ، أو اعتِراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَه، مُشعِرٌ بعِلَّةِ الحكمِ .
2- قولُه تعالَى: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- هو استِئنافٌ ابتدائيٌّ بذِكرِ صِفةٍ عَظيمةٍ مِن صِفاتِ اللهِ الَّتي مُتعلَّقُها أحوالُ الكائناتِ في السَّمواتِ والأرضِ، وخاصَّةً أهلَ الإدراكِ منهم، ومَضمونُ هذه الجُملةِ يُؤْذِنُ بتَعليلِ تَسبيحِ اللهِ تعالى؛ لأنَّ مَن له مُلكُ العوالِمِ العُليا والعالَمِ الدُّنيويِّ حَقيقٌ بأنْ يَعرِفَ النَّاسُ صِفاتِ كَمالِه .
- وأفاد تَعريفُ المُسنَدِ قصْرَ المُسنَدِ على المُسنَدِ إليه، وهو قصْرٌ ادِّعائيٌّ لعدَمِ الاعتِدادِ بمُلكِ غَيرِه في الأرضِ؛ إذ هو مُلكٌ ناقصٌ؛ فإنَّ المُلوكَ مُفتقِرونَ إلى مَن يَدفَعُ عنهم العواديَ بالأحلافِ والجُندِ، وإلى مَن يُدبِّرُ لهم نِظامَ الممْلكةِ مِن وُزراءَ وقُوَّادٍ، وإلى أخْذِ الجِبايةِ والجِزيةِ، ونحوِ ذلك، أو هو قَصْرٌ حَقيقيٌّ، إذا اعتُبِرَتْ إضافةُ (مُلْك) إلى مَجموعِ السَّمواتِ والأرضِ؛ فإنَّه لا مُلكَ لمالكٍ على الأرضِ كلِّها بَلْهَ السَّمواتِ معه سبحانه .
- وقولُه: يُحْيِي وَيُمِيتُ بدَلُ اشتِمالٍ مِن مَضمونِ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ فإنَّ الإحياءَ والإماتةَ ممَّا يَشتمِلُ عليه معْنى مُلكِ السَّمواتِ والأرضِ؛ لأنَّهما مِن أحوالِ ما عليهما. وتَخصيصُ صِفتَيِ الإحياءِ والإماتةِ بالذِّكرِ للاهتِمامِ بهما؛ لدَلالتِهما على دَقيقِ الحِكمةِ في التَّصرُّفِ في السَّماءِ والأرضِ، ولظُهورِ أنَّ هذَينِ الفِعلَينِ لا يَستطيعُ المخلوقُ ادِّعاءَ أنَّ له عمَلًا فيهما، وللتَّذكيرِ بدَليلِ إمكانِ البعثِ الَّذي جحَدَه المشرِكون، وللتَّعريضِ بإبطالِ زَعْمِهم إلهيَّةَ أصنامِهم، كما قال تعالى: وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [الفرقان: 3] . وقيل: قولُه: يُحْيِي وَيُمِيتُ استِئنافٌ مُبيِّنٌ لبَعضِ أحكامِ المُلكِ والتَّصرُّفِ .
- وجُملةُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُفيدُ مُفادَ التَّذييلِ لجُملةِ يُحْيِي وَيُمِيتُ؛ لتَعميمِ ما دلَّ عليه قولُه: يُحْيِي وَيُمِيتُ مِن بَيانِ جُملةِ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وإنَّما عُطِفَت بالواوِ، وكان حقُّ التَّذييلِ أنْ يكونَ مَفصولًا؛ لقصْدِ إيثارِ الإخبارِ عن اللهِ تعالى بعُمومِ القدرةِ على كلِّ مَوجودٍ، وذلك لا يُفِيتُ قصْدَ التَّذييلِ؛ لأنَّ التَّذييلَ يَحصُلُ بالمعْنى .
3- قولُه تعالَى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ استِئنافٌ في سِياقِ تَبْيينِ أنَّ للهِ مُلكَ السَّمواتِ والأرضِ، وبأنَّ مُلكَه دائمٌ في عُمومِ الأزمانِ، وتصرُّفَه فيهما في كلِّ الأحوالِ .
- قولُه: الْأَوَّلُ ولم يُذكَرْ لهذا الوصْفِ هنا مُتعلِّقٌ -بكسْرِ اللَّامِ-، ولا ما يدُلُّ على مُتعلِّقٍ؛ لأنَّ المقصودَ أنَّه الأوَّلُ بدونِ تَقييدٍ .
- قولُه: وَالْآَخِرُ، أي: هو الآخِرُ بعدَ جَميعِ مَوجوداتِ السَّماءِ والأرضِ، وهو معْنى قولِه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم: 40] ، وقولِه: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] ؛ فتَقديرُ المعْنى: والآخِرُ في ذلك، أي: في استِمرارِ الوُجودِ الَّذي تَقرَّرَ بوَصْفِه بأنَّه الأوَّلُ، فآلَ معْنى (الآخِر) إلى معْنى (الباقي)، وإنَّما أُوثِرَ وصْفُ (الآخِرِ) بالذِّكرِ مع وَصْفِ (الأوَّل)؛ لأنَّه مُقْتضَى البَلاغةِ؛ ليَتِمَّ الطِّباقُ بيْن الوصْفينِ المُتضادَّينِ .
- وفي قولِه: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ دَلالةُ قصْرٍ مِن طَريقِ تَعريفِ جُزْأيِ الجُملةِ؛ فأمَّا قصْرُ الأوَّليَّةِ على اللهِ تعالى في صِفةِ الوُجودِ فظاهرٌ، وأمَّا قصْرُ الآخِريَّةِ عليه في ذلك، وهو معْنى البَقاءِ، فإنْ أُرِيدَ به البقاءُ في العالَمِ الدُّنيويِّ، عرَضَ إشكالُ المُتعارِضِ بما ورَدَ مِن بَقاءِ الأرواحِ، وحديثِ أنَّ عجْبَ الذَّنَبِ لا يَفْنى، وأنَّ الإنسانَ منه يُعادُ . ورفْعُ هذا الإشكالِ أنْ يُجعَلَ القَصْرُ ادِّعائيًّا ؛ لعدَمِ الاعتِدادِ ببقاءِ غيرِه تعالى؛ لأنَّه بقاءٌ غيرُ واجبٍ، بلْ هو بجَعْلِ اللهِ تعالَى .
- وفائدةُ إجراءِ الوَصفَينِ المُتضادَّينِ على اسمِ اللهِ تعالَى هنا: التَّنبيهُ على عِظَمِ شأْنِ اللهِ تعالى؛ ليَتدبَّرَ العالِمون في مَواقِعِها .
- قَولُه: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ هذه الأسماءُ الأربعةُ متقابِلةٌ؛ وكلُّها خبرٌ عن مبتدأٍ واحدٍ لكنْ بواسطةِ حرفِ العطفِ، والإخبارُ بواسطةِ حرفِ العطفِ أقوى مِن الإخبارِ بدونِ واسطةِ حرفِ العطفِ، وفائدتُها: أوَّلًا: توكيدُ السَّابقِ؛ لأنَّك إذا عَطَفْتَ عليه جَعَلْتَه أصلًا، والأصلُ ثابتٌ، ثانيًا: إفادةُ الجمعِ، ولا يَستَلْزِمُ ذلك تعدُّدَ الموصوفَ، فإذا قيل: المعروفُ أنَّ العطفَ يَقتضي المُغايَرةَ! فالجوابُ: نعمْ، لكنَّ المغايرةَ تارةً تكونُ بالأعيانِ، وتارةً تكونُ بالأوصافِ؛ وهذا تغايُرُ أوصافٍ .
4- قولُه تعالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
- قولُه: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ استِئنافٌ ثانٍ مُفيدٌ الاستِدلالَ على انفِرادِه تعالَى بالإلهيَّةِ؛ ليُقلِعوا عن الإشراكِ به. ويُفيدُ أيضًا بيانًا لمَضمونِ جُملةِ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد: 2] ، وجُملةِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحديد: 2] ؛ فإنَّ الَّذي خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ قادرٌ على عَظيمِ الإبداعِ .
- وبَدَأَ سُبحانَه بالسَّمَواتِ، مع أنَّ الأرضَ سابِقةٌ على السَّماءِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال في سُورةِ «فُصِّلَت» لَمَّا ذَكَر خَلْقَ الأرضِ؛ قال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت: 11] ؛ لأنَّها أشرَفُ وأعلى مِن الأرضِ .
- ولعلَّ تَقديمَ الخَلْقِ على العِلمِ؛ لأنَّه دَليلٌ عليه .
- قولُه: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا استِئنافٌ لتَقريرِ عُمومِ عِلمِه تعالَى بكلِّ شَيءٍ؛ فكان بيانَ جُملةِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحديد: 2] وجُملةِ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3] جاريًا على طَريقةِ النَّشرِ لِلَّفِّ على التَّرتيبِ .
- وقولُه: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا بدأ بما يُمَاسُّ الإنسانَ -وإنْ كان غيرُه أشرَفَ منه-؛ لأنَّه تَحَدَّثَ عمَّا يَلِجُ في الأرضِ وما يَخْرُجُ منها قبْلَ التحدُّثِ عمَّا يَنْزِلُ مِن السماءِ وما يَعْرُجُ فيها .
- والتَّعبيرُ بالمضارعِ (يَلِجُ، يَخْرُجُ، يَنْزِلُ، يَعْرُجُ) فيه دَلالةٌ على ما أُودِعَ في الخافِقَينِ مِنَ القُوى؛ فصارَا بحيث يتجَدَّدُ منهما ذلك بخَلْقِه تجَدُّدَ استِمرارٍ إلى حينِ خَرابِهما .
- وقَولُه: وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا جاءتْ بلفظِ «فيها» بدلَ «إليها»؛ لنستفيدَ فائدتَينِ:
الفائِدةُ الأُولى: العُروجُ، يعني: الصُّعودَ.
الفائدةُ الثَّانيةُ: الدُّخولُ؛ لأنَّ «في» يُناسِبُها مِن الأفعالِ الدُّخولُ، تقولُ: «دَخَلَ في المكانِ»، أمَّا «عَرَجَ» و «يَعْرُجُ» فالَّذي يُناسِبُها «إلى»، لكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ عَدَلَ عن قولِه: «يَعْرُجُ إليها» إلى قوله: وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا؛ ليُفيدَ الصُّعودَ والدُّخولَ .
- وقولُه: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ هو عطْفُ معنًى خاصٍّ على معْنًى شَمِلَه وغيرَه؛ لقَصْدِ الاهتِمامِ بالمعطوفِ .
- وأَيْنَ مَا ظَرفٌ للدَّلالةِ على تَعميمِ الأمْكِنةِ .
- وجُملةُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تَكملةٌ لمَضمونِ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ، وكان حقُّها ألَّا تُعطَفَ، وإنَّما عُطِفَت تَرجيحًا لجانِبِ ما تَحْتوي عليه مِن الخبَرِ عن هذه الصِّفةِ .
5- قولُه تعالَى: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
- قولُه: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تأْكيدٌ لنَظيرِه الَّذي في أوَّلِ هذه السُّورةِ؛ كُرِّر ليُبْنى عليه قولُه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ؛ فكان ذِكرُه في أوَّلِ السُّورةِ مَبنيًّا عليه التَّصرُّفُ في الموجوداتِ القابِلةِ للحَياةِ والموتِ في الدُّنيا، وكان ذِكرُه هنا مَبنيًّا عليه أنَّ أُمورَ الموجوداتِ كلِّها تَرجِعُ إلى تَصرُّفِه .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، وقال قبْلَها بآيتَينِ: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ فأعاد لَفظةَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ووُصِلَت الأُولَى بقولِه: يُحْيِي وَيُمِيتُ، ووُصِلَتْ الأُخرى بقولِه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ المعنَى له المُلْكُ أوَّلًا وآخِرًا؛ فالأوَّلُ في الدُّنيا، وهو وقْتُ الإحياءِ والإماتةِ، والآخَرُ في الآخِرةِ حِينَ تَرجِعُ الأمورُ إليه؛ فقَرَنَ بالأوَّلِ: يُحْيِي وَيُمِيتُ لأنَّهما مِن أماراتِ الملْكِ، وقَرَنَ بالآخَرِ ما يكونُ في الآخِرةِ مِن مَرجِعِ الخَلْقِ وجَزائِهم بالثَّوابِ والعِقابِ إليه؛ فجاء في كلِّ مكانٍ ما اقتضاهُ وما شاكَلَ معْناه .
- وتَقديمُ المُسنَدِ لَهُ؛ لقَصْرِ الإلهيَّةِ عليه تعالى؛ فيُفيدُ صِفةَ الواحدِ .
- وعطَفَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ على لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عطْفَ الخاصِّ مِن وجهٍ على العامِّ منه فيما يَتعلَّقُ بالأمورِ الجاريةِ في الدُّنيا، وعطْفَ المُغايرِ فيما يَتعلَّقُ بالأمورِ التي تَجري يومَ القِيامةِ، فإذا كان المعْنى: تَرجِعُ أفعالُ النَّاسِ إلى اللهِ -أي: تَرجِعُ في الحشرِ-؛ فالمرادُ: رُجوعُ أهلِها للجزاءِ على أعمالِهم؛ إذ لا يَتعلَّقُ الرُّجوعُ بحَقائقِها، فعطْفُ قولِه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ تَتميمٌ لجُملةِ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أي: له مُلكُ العوالمِ في الدُّنيا، وله التَّصرُّفُ في أعمالِ العُقلاءِ مِن أهلِها في الآخرةِ. وإنْ أخَذْنا بشُمولِ اسمِ الأمورِ للذَّواتِ، كان مُفيدًا لإثباتِ البعثِ، أي: الذَّواتُ الَّتي كانتْ في الدُّنيا تَصيرُ إلى اللهِ يومَ القيامةِ، فيُجازِيها على أعمالِها .
- وتَعريفُ الجمْعِ في الْأُمُورُ مِن صِيَغِ العُمومِ .
- وتَقديمُ المُجرورِ على مُتعلَّقِه في قولِه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ للاهتِمامِ لا للقَصْرِ؛ إذ لا مُقْتضَى للقصْرِ الحَقيقيِّ، ولا داعيَ للقَصْرِ الإضافيِّ؛ إذ لا يُوجَدُ مِن الكفَّارِ مَن يُثبِتُ البَعثَ، ولا مَن زَعَموا أنَّ الناسَ يَصيرونَ في تَصرُّفِ غيرِ اللهِ سُبحانَه .
- وإظهارُ اسمِ الجلالةِ دونَ أنْ يقولَ: (وإليه تُرجَعُ الأمورُ)؛ لتَكونَ الجُملةُ مُستقِلَّةً بما دلَّتْ عليه، فتَكونَ كالمَثَلِ صالحةً للتَّسييرِ .