موسوعة التفسير

سورة هود
الآيات (120-123)

ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: ونَقصُّ عليك- أيُّها النَّبيُّ- من أخبارِ الرُّسُلِ- الذين كانوا قَبلَك- كلَّ ما تحتاجُ إليه ممَّا يُقوِّي قَلبَك للقيامِ بأعباءِ الرِّسالةِ، وقد جاءك في هذه السُّورةِ وما اشتَمَلت عليه من أخبارٍ بيانُ الحقِّ الذي أنت عليه، ومَوعِظةٌ مِن اللهِ- يتَّعظ بها المؤمنون إذا سَمِعوا فيها ما نزَل بالأُمَم مِن العذابِ- وتذكيرٌ للمؤمنينَ، وقُلْ- يا محمَّدُ- للكافرينَ الذين لا يُقرُّونَ بوحدانيَّةِ اللهِ: اعمَلوا ما أنتم عامِلونَ، على حالتِكم وطريقَتِكم في مقاومةِ الدَّعوةِ، وإيذاءِ الرَّسولِ والمُستَجيبينَ له، فإنَّا عامِلونَ على مكانَتِنا وطريقَتِنا مِن الثَّباتِ على دينِنا، وتَنفيذِ أمرِ اللهِ، وانتَظِروا عاقِبةَ أمرِنا؛ فإنَّا مُنتَظِرونَ عاقِبةَ أمرِكم، ولله سُبحانَه وتعالى عِلمُ كُلِّ ما غاب في السَّمَواتِ والأرضِ، وإليه يُرجَعُ الأمرُ كلُّه يومَ القيامةِ، فاعبُدْه- أيُّها النبيُّ- وفوِّضْ أمرَك إليه، وما ربُّك بغافِلٍ عمَّا تعملونَ مِن الخيرِ والشَّرِّ، وسيُجازي كُلًّا بعَمَلِه.

تفسير الآيات:

وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ الله تعالى في هذه السُّورةِ مِن أخبارِ الأنبياءِ ما ذكَرَ؛ ذكَرَ الحِكمةَ في ذِكرِ ذلك [1291] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:392). ، فقال:
وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ.
أي: ونَقُصُّ عليك- يا مُحمَّدُ- كلَّ ما تحتاجُ إلى مَعرفتِه مِن أخبارِ الرُّسُلِ المتقَدِّمينَ؛ ما نُثَبِّتُ به قَلبَك، فتزدادُ إيمانًا ويقينًا وصبرًا على تكذيبِ قَومِك، كما صبَرَ المُرسَلونَ مِن قَبلِك [1292] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/642)، ((تفسير البغوي)) (2/472)، ((تفسير القرطبي)) (9/116)، ((تفسير ابن كثير)) (4/363)، ((تفسير السعدي)) (ص: 392). .
وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ.
أي: وجاءك- يا مُحمَّدُ- في هذه السُّورةِ الحَقُّ الذي لا شَكَّ فيه [1293] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/647)، ((تفسير ابن كثير)) (4/363)، ((تفسير السعدي)) (ص: 392). .
وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ.
أي: وجاءَك في هذه السورةِ أيضًا مَوعِظةٌ مِن اللهِ يتَّعظ بها المؤمنون إذا سَمِعوا فيها ما نزَل بالأُمَم مِن العذابِ، ويَحترِزونَ عمَّا أهلكها، فتلينُ قلوبُهم لسلوكِ الحقِّ- وتذكيرٌ للمؤمنينَ [1294] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (11/593)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/410)، ((تفسير ابن عطية)) (3/216)، ((تفسير القرطبي)) (9/116)،  ((تفسير أبي حيان)) (6/229)، ((تفسير الشوكاني)) (2/606)، ((تفسير القاسمي)) (6/142)، ((تفسير السعدي)) (ص: 392)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/193). وممن قال بأنَّ الموعظةَ والذكرى كلاهما للمؤمنينَ: الواحدي وابنُ الجوزي، وابنُ عطية، والقرطبي، وأبو حيان، والشوكاني، والقاسمي، والسعدي، وابنُ عاشورٍ. يُنظر: المصادر السابقة. وقال ابن جرير: (وجاءَك موعظةٌ تَعِظُ الجاهلينَ بالله). ((تفسير ابن جرير)) (12/647). وقال ابنُ كثيرٍ: (وموعظةٌ يرتَدِعُ بها الكافرونَ). ((تفسير ابن كثير)) (4/363). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57] .
وقال سُبحانه: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55].
وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بالغَ تعالى في الإعذارِ والإنذارِ، والتَّرغيبِ والتَّرهيبِ؛ أتبَعَ ذلك بالتَّهديدِ والوَعيدِ [1295] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (10/604). .
وأيضًا فإنَّها عَطفٌ على جُملةِ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ [هود: 120] ؛ لأنَّها لَمَّا اشتَمَلت على أنَّ في هذه القِصَّةِ ذِكرى للمُؤمنين؛ أُمِرَ بأن يُخاطِبَ الذين لا يُؤمِنونَ بما فيها خطابَ الآيسِ مِن انتفاعِهم بالذِّكرى، الذي لا يعبأُ بإعراضِهم، ولا يصُدُّه عن دَعوتِه إلى الحَقِّ تألُّبُهم على باطِلِهم، ومقاومتُهم الحَقَّ [1296] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/193). .
وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121).
أي: وقُلْ- يا محمَّدُ- للذين لا يُقرُّونَ بتوحيدِ اللهِ، ولا يصدِّقونَك: اعمَلوا على طَريقتِكم وحالتِكم التي أنتم عليها، متمَكِّنينَ مِن العمَلِ الذي تعملونَه، إنَّا مُستَمِرُّونَ على العمَلِ بمَنهجِنا الذي أمَرَنا اللهُ به [1297] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/648)، ((تفسير ابن كثير)) (4/364)، ((تفسير السعدي)) (ص: 392). .
وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122).
أي: وانتَظِروا ما يحُلُّ بنا من رحمةِ اللهِ، إنَّا مُنتَظِرونَ ما وعدَنا اللهُ مِن عُقوبتِكم ونَصْرِنا عليكم [1298] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/648)، ((تفسير البغوي)) (2/472)، ((تفسير السعدي)) (ص: 392). .
كما قال تعالى حكايةً عن شُعَيبٍ عليه السَّلامُ: وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ [هود: 93] .
وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123).
وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.
أي: ولله مُلكُ كُلِّ ما غاب عن عبادِه في السَّموات والأرضِ، وهو العالمُ بكُلِّ ما فيهما من الخَفايا والغُيوبِ [1299] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/648)، ((تفسير القرطبي)) (9/117)، ((تفسير ابن كثير)) (4/364)، ((تفسير السعدي)) (ص: 392). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [فاطر: 38] .
وقال سُبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحجرات: 18] .
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ.
أي: وإلى الله وَحْدَه مَرجِعُ كُلِّ عاملٍ وعَمَلِه، فيُجازيهم يومَ القيامةِ على جميعِ أعمالِهم [1300] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/648)، ((تفسير القرطبي)) (9/117)، ((تفسير ابن كثير)) (4/364)، ((تفسير السعدي)) (ص: 392). .
كما قال تعالى: أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 53] .
فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ.
أي: فاعبُدِ اللهَ وَحدَه- يا محمَّدُ- وفوِّضْ إليه جميعَ أمورِك، واستَعِنْ به [1301] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/649)، ((تفسير القرطبي)) (9/117)، ((تفسير السعدي)) (ص: 392). .
وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
أي: وما ربُّك- يا محمَّدُ- بغافلٍ عمَّا تَعملونَ مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، وسيُجازي كلَّ واحدٍ بعَمَلِه [1302] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/117)، ((تفسير ابن كثير)) (4/364)، ((تفسير السعدي)) (ص: 392). .

الفوائد التربوية:

1- قولُه تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ فيه أنَّ سَماع أخبارِ الأخيارِ فيه تقويةٌ للعزائم،ِ وإعانةٌ على اتِّباعِ تلك الآثارِ؛ فإنَّ النفوسَ تأنسُ بالاقتداءِ، وتنشطُ على الأعمالِ، وتريدُ المنافسةَ لغيرِها، ويتأيَّد الحقُّ بذكرِ شواهدِه، وكثرةِ مَن قام به [1303] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (2/477)، ((تفسير السعدي)) (ص:392). .
2- قال الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ تضمَّنَت الآيةُ الاعتبارَ مِن قَصَصِ الرُّسُل، بما فيها مِن حُسنِ صَبرِهم على أُمَمِهم، واجتهادِهم على دُعائِهم إلى عبادةِ الله بالحَقِّ، وتذكير الخيرِ والشَّرِّ، وما يدعو إليه كلٌّ منهما مِن عاقبةِ النَّفعِ والضُّرِّ؛ للثَّباتِ على ذلك جميعِه اقتداءً بهم [1304] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/405). .
3- قولُ الله تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ اشتَمل على خمسِ جُملٍ: الجملةُ الأولى: دلَّت على أنَّ عِلمَه محيطٌ بجميعِ الكائناتِ؛ كُلِيِّها وجُزئيِّها، حاضِرِها وغائِبِها؛ لأنَّه إذا أحاط عِلمُه بما غاب فهو بما حضر مُحيطٌ؛ إذ عِلمُه تعالى لا يتفاوَتُ. والجُملةُ الثانية: دلَّت على القُدرةِ النَّافذة والمَشيئة. والجملة الثالثة: دلَّت على الأمرِ بإفرادِ مَن هذه صِفاتُه، بالعبادةِ الجسَديَّة والقَلبيَّة، والجملة الرابعة: دلَّت على الأمرِ بالتوكُّلِ. والجملة الخامسة: تضمَّنَت التنبيهَ على المجازاة، فلا يُضيعُ طاعةَ مُطيعٍ، ولا يُهمِلُ حالَ متمَرِّدٍ [1305] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/230). .
4- قال الله تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ التوكُّلُ لا يصِحُّ بغير العبادةِ، والأخذِ بالأسبابِ المُستطاعةِ، وإنَّما يكونُ بدونِهما من التمنِّي الكاذبِ، والآمالِ الخادعةِ، كما أنَّ العِبادةَ- وهي ما يُرادُ به وَجهُ اللهِ مِن كُلِّ عَملٍ- لا تَكمُلُ إلَّا بالتوكُّلِ الذي يَكمُلُ به التَّوحيدُ [1306] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/163). ، فصلاحُ العبدِ وسعادتُه فى تحقيقِ معنى قولِه تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] ، وقد جمَع الله سبحانه بين هذين الأصلين فى مواضعَ من كتابِه، كقوله عن نبيِّه شعيبٍ: وَمَا تَوْفِيقِى إلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: 88] وقوله: وَتَوَكّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحمدِهِ [الفرقان: 58] ، وقوله: وَتَبَتّلْ إِلَيْهِ تَبْتيلاً رَبُّ المشْرِقِ والمغْرِبِ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [المزمل: 8-9] ، وقولِه: قُلْ هُوَ رَبِّى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ [الرعد: 30] ، وقوله عن الحنفاءِ أتباعِ إبراهيمَ عليه السلام: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكّلْنَا وَإلَيْكَ أنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصِيُر [الممتحنة: 4] فهذه سبعةُ مواضعَ تنتظمُ هذين الأصلين الجامعين لمعنيى التوحيدِ، اللذين لا سعادةَ للعبدِ بدونهما البتةَ [1307] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/27). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ ذكَرَ العُلَماءُ في تخصيصِ هذه السورةِ بوَصفِها بالحَقِّ- والقرآنُ كُلُّه حقٌّ- أوجُهًا:
الوجهُ الأولُ: أنَّ ذلك يتضمَّنُ معنى الوعيدِ للكَفَرةِ والتَّنبيهِ للنَّاظر، أي: جاءك في هذه السُّورةِ الحَقُّ الذي أصاب الأُمَم الظَّالمة، وهذا كما يُقالُ عند الشَّدائدِ: جاء الحقُّ، وإن كان الحقُّ يأتي في غيرِ شَديدةٍ وغيرِ ما وجهٍ، ولا تستَعملُ في ذلك جاء الحقُّ [1308] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/229). .
الوجهُ الثاني: خصَّ هذه السُّورةَ؛ لأنَّ فيها أخبارَ الأنبياءِ والجنَّةِ والنَّارِ.
الوجهُ الثالثُ: خصَّها بالذِّكرِ تأكيدًا، وإن كان الحقُّ في كلِّ القُرآنِ، وهذا تشريفٌ لهذه السورة؛ لأنَّ غيرَها من السُّوَرِ قد جاء فيها الحقُّ والموعِظةُ والذِّكرى [1309] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/116). .
2- قَولُ الله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ في أمرِ اللهِ رَسولَه بأن يقولَ ذلك على لسانِ المُؤمنين شهادةٌ مِن اللهِ بصِدقِ إيمانِهم، وفيه التَّفويضُ إلى رأسِ الأمَّةِ بأن يقطعَ أمرًا عن أُمَّتِه؛ ثِقةً بأنَّهم لا يردُّونَ فِعلَه [1310] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/194). .
3- ختم اللهُ سورةَ هودٍ بقولِه تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ إلى آخِرِها، كما افتَتَحها بقولِه تعالى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ فذَكَرَ التوحيدَ والإيمانَ بالرُّسُلِ، وهذا فيه بيانُ دينِ اللهِ في الأوَّلِين والآخِرينَ [1311] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/104). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ
- قولُه: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ تذييلٌ وحَوْصَلةٌ لِمَا تقَدَّم مِن أنباءِ القُرى وأنباءِ الرُّسلِ [1312] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/191). .
- وكُلًّا منصوبٌ على المفعوليَّةِ للفِعْلِ نَقُصُّ، وتَقديمُه على فِعلِه؛ للاهتمامِ، ولِمَا فيه مِن الإبهامِ؛ لِيَأتِيَ بَيانُه بعدَه فيَكونَ أرسَخَ في ذِهْنِ السَّامعِ [1313] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/191). .
- قولُه: مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ بيانٌ لـ كُلًّا أو بدَلٌ منه، وفائدتُه: التَّنبيهُ على المقصودِ مِن الاقتِصاصِ، وهو زِيادةُ يَقينِه، وطُمأنينَةُ قلْبِه، وثَباتُ نَفْسِه على أداءِ الرِّسالةِ، واحتِمالِ أذى الكفَّارِ [1314] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/152). .
- قولُه: وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ فيه تقديمُ الظَّرفِ فِي هَذِهِ على الفاعلِ الْحَقُّ؛ لأنَّ المقصودَ بَيانُ مَنافِعِ السُّورةِ أو الأنباءِ المقصوصةِ فيها، واشتِمالِها على ما ذُكِر مِن المنافعِ المفصَّلةِ، لا بَيانُ كَوْنِ ذلك فيها لا في غَيرِها، ولأنَّ عِندَ تَأخيرِ ما حَقُّه التَّقديمُ تَبْقى النَّفسُ مُترقِّبةً له؛ فيتَمكَّنُ فيها عندَ الوُرود فضْلَ تَمكُّنٍ، ولأنَّ في المؤخَّرِ نَوعَ طُولٍ يُخِلُّ تَقديمُه بتَجاوُبِ أطرافِ النَّظْمِ الكريمِ [1315] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/248). .
- قولُه: وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى فيه تنكيرُ الموعظةِ والذِّكْرى؛ للتَّعظيمِ [1316] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/193). .
- قوله: وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ خَصَّ المؤمنينَ؛ لكونِهم المتأهِّلينَ للاتعاظِ والتذكُّرِ، وهم المتَّعِظونَ إذا سَمِعوا قَصَص الأنبياءِ [1317] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/116)، ((تفسير الشوكاني)) (2/606). .
- قولُه: اعْمَلُوا صيغةُ أمرٍ، ومعناه: التَّهديدُ والوعيدُ [1318] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/229). .
- قولُه: وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أمرٌ فيه تهديدٌ ووَعيدٌ [1319] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/229)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/194). ، مع ما في تأكيدِ الكلامِ بـ (إنَّ) واسميَّةِ الجُمْلةِ.
2- قولُه تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
- قولُه: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ كلامٌ جامعٌ، وهو تذييلٌ للسُّورةِ مُؤْذِنٌ بخِتامِها، فهو مِن بَراعةِ المَقطَعِ [1320] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/194). .
- وتقديمُ المجرورَينِ في قولِه: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ لإفادةِ الاختصاصِ، وهو تَعريضٌ بفَسادِ آراءِ الَّذين عبَدوا غيرَه؛ لأنَّ مَن لم يَكُنْ كذلك لا يَستحِقُّ أن يُعبَدَ، ومَن كان كذلك كان حَقيقًا بأن يُفْرَدَ بالعبادةِ [1321] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/195-194). .
- والتَّعريفُ في الْأَمْرُ تعريفُ الجنسِ فيَعُمُّ الأمورَ، وتأكيدُ الْأَمْرُ بـ كُلُّهُ للتَّنصيصِ على العُمومِ [1322] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/195). .
- قولُه: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ في تأخيرِ الأمْرِ بالتَّوكُّلِ عن الأمرِ بالعبادةِ: إشعارٌ بأنَّه لا يَنفَعُ دُونَها [1323] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/249). .
- وخصَّ التوكل بِالذكر وهو الاسْتِعانَة وهِي من عبَادَة الله؛ ليقصدها المتعبد بخصوصها، فإِنَّها هِيَ العونُ على سَائِرِ أنواعِ العبادَةِ؛ إِذْ هو سبحانَه لا يُعبدُ إِلَّا بمعونتِه [1324] يُنظر: ((العبودية)) لابن تيمية (ص: 75). .
- قولُه: وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تَذييلٌ لِمَا تَقدَّم؛ فإنَّ عدَمَ غَفلَتِه عن أيِّ عمَلٍ تَعني أنَّه يُعْطي كلَّ عامِلٍ جَزاءَ عمَلِه؛ إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشَرٌّ؛ ولذلك عُلِّق وصْفُ الغافِلِ بالعمَلِ، ولم يُعلَّقْ بالذَّواتِ نَحْوُ: (بغافِلٍ عَنكُم)؛ إيماءً إلى أنَّ على العمَلِ جزاءً [1325] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/196). .