موسوعة التفسير

سورةُ المُمْتَحَنةِ
الآيات (4-6)

ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ

غريب الكلمات:

أُسْوَةٌ: أي: قُدوةٌ وائتِمامٌ واتِّباعٌ، وأصلُ (أسو): يدُلُّ على المُداواةِ والإصلاحِ [90] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 461)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 109)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/105)، ((المفردات)) للراغب (ص: 76). .
بُرَآَءُ: جَمعٌ على فُعلاءَ، مُفردُه بريءٌ، مِثلُ: شُركاءَ وشَريكٍ، مِن (برِئ)، بمعنى التَّفصِّي والتَّنزُّهِ ونفْيِ المُخالَطةِ، فالبريءُ: الخليُّ عن التَّلبُّسِ بشَيءٍ وعن مُخالَطتِه، وأصلُ (برأ) هنا: يدُلُّ على التَّباعُدِ مِن الشَّيءِ ومُزايَلتِه [91] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/236)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (1/160)، ((المفردات)) للراغب (ص: 121)، ((تفسير الشوكاني)) (5/253)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 231)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/322) و (11/176). .
الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ: العَداوةُ: اختِلافَ القُلوبِ والنِّيَّاتِ والتَّباعُدُ بها، مأخوذةٌ مِن عَدْوَتَيِ الجَبلِ، وهما طَرَفاه؛ سُمِّيَا بذلك لبُعدِ ما بيْنَهما، وقيل: مِن عدا، أي: ظَلَم. والبُغضاءُ: البُغضُ، وهو نِفارُ النَّفْسِ عن الشَّيءِ الَّذي تَرغَبُ عنه، وأصلُ البُغضِ: خِلافُ الحبِّ. والعَداوةُ أخصُّ مِن البَغضاءِ؛ لأنَّ كلَّ عدُوٍّ مبغِضٌ، وقد يُبغَضُ مَن ليس بعَدُوٍّ [92] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 56)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/273)، ((المفردات)) للراغب (ص: 136، 553)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 68، 149)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 644). وقال العسكري: (الفرقُ بيْن العَداوةِ والبِغضةِ: أنَّ العَداوةَ البِعادُ مِن حالِ النُّصْرةِ، ونقيضُها الولايةُ، وهي الهرَبُ مِن حالِ النُّصْرةِ. والبِغضةَ: إرادةُ الاستِحقارِ والإهانةِ، ونقيضُها المحبَّةُ، وهو إرادةُ الإعظامِ والإجلالِ). ((الفروق اللغوية)) (ص: 131). .
أَنَبْنَا: أي: رجَعْنا، وأصلُ (نوب): يدُلُّ على الرُّجوعِ [93] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/568)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/367)، ((المفردات)) للراغب (ص: 827)، ((تفسير القرطبي)) (18/57). .
فِتْنَةً: الفِتنةُ في الأصلِ: الاختِبارُ والابتلاءُ والامتِحانُ، مأخوذةٌ مِن الفَتْنِ: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جَودتُه مِن رداءتِه، وتُطلَقُ الفِتنةُ على الضَّلالِ والشِّرْكِ والكُفرِ والشَّرِّ والعَذابِ [94] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 76، 101)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472، 473)، ((المفردات)) للراغب (ص: 624)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 29، 139- 140)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 692). .
يَتَوَلَّ: أي: يُعْرِضْ، وتولَّى إذا عُدِّي بـ (عن) لفظًا أو تقديرًا -كما هنا- اقتضَى معنى الإعراضِ، وإذا عُدِّي بنَفْسِه اقتَضَى مَعنى الوَلايةِ والقُرْبِ [95] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 422)، ((تفسير ابن جرير)) (21/534)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 63)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141)، ((المفردات)) للراغب (ص: 885، 886)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 89). .
الْحَمِيدُ: أي: المحمودُ على كلِّ حالٍ، وفي جميعِ أفعالِه وأقوالِه، وشَرْعِه وقَدَرِه، والمحمودُ على ما لَه مِن الكَمالِ، وعلى نِعَمِه الَّتي أنْعَمها على خلْقِه، المستحِقُّ لكلِّ حمْدٍ، والحمدُ إخبارٌ عن مَحاسنِ المحمودِ معَ حُبِّه وإجلالِه وتَعظيمِه، وقيل: هو أيضًا بمعنى حامِدٍ، يَحمَدُ كُلَّ مَن يَستحِقُّ الحَمدَ منه، وأصلُ (حمد): يدُلُّ على خِلافِ الذَّمِّ [96] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/571)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (ص: 78)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/100)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (2/490)، ((المفردات)) للراغب (ص: 256)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/93)، ((تفسير ابن كثير)) (1/699)، ((تفسير السعدي)) (ص: 208، 758)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 133). .

المعنى الإجمالي:

يذكرُ الله تعالى جانبًا مِن قصَّةِ إبراهيمَ -عليه السَّلامُ- ويأمُرُ بالاقتِداءِ به، فيقولُ تعالى: قد كانت لكم -أيُّها المؤمِنونَ- قُدوةٌ صالِحةٌ في إبراهيمَ والَّذين معه مِن المُؤمِنينَ، حينَ قالوا لِقَومِهم المُشرِكينَ: إنَّا نتبَرَّأُ منكم ومِمَّا تَعبُدونَ مِن دونِ اللهِ، كفَرْنا بكم، وظهَرَ بيْنَنا وبيْنَكم العداوةُ والكراهيةُ أبدًا إلى أن تُؤمِنوا بالله وَحْدَه، إلَّا قَولَ إبراهيمَ لأبيه المُشرِكِ: لَأستَغفِرَنَّ لك اللهَ؛ فلا تتَأَسَّوا به في هذا القَولِ؛ إذ لا ينبغي لأحَدٍ أن يَستَغفِرَ للمُشرِكينَ ولو كانوا ذَوِي قُرْبَى. قال إبراهيمُ عليه السَّلامُ لأبيه: والحالُ أنِّي لا أدفَعُ عنك عُقوبةَ اللهِ.
ثمَّ يخبرُ الله تعالى عن قولِ إبراهيمَ والَّذين معَه، حينَ فارَقوا قومَهم وتبرَّؤوا منهم، فلَجَؤوا إلى الله وتضرَّعوا إليه، فقالوا: رَبَّنا عليك وَحْدَك توَكَّلْنا، وإليك وَحْدَك تُبْنَا، وإليك مَرجِعُنا في الآخِرةِ، يا ربَّنا لا تُسلِّطْهم علينا فيَفْتِنونا، ويُميلونا عمَّا نحن عليه مِن الحقِّ، ويُفتَنونَ أيضًا بأنفُسِهم؛ فإنَّهم إذا رأوا لهم الغلَبةَ ظنُّوا أنَّهم على الحقِّ وأنَّا على الباطلِ، فازدادوا كفرًا وطغيانًا، وامْحُ عنَّا ذُنوبَنا يا رَبَّنا؛ إنَّك أنت العزيزُ الَّذي لا يُغلَبُ، الحَكيمُ الَّذي يَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به.
 ثمَّ يكرِّرُ الله تعالى الحثَّ لهم على الاقتداءِ بهم، فيقولُ: لقد كان لكم -أيُّها المؤمِنونَ- قُدوةٌ صالِحةٌ في إبراهيمَ ومَن معه مِن المؤمِنينَ؛ لِمَن يرجو رِضوانَ اللهِ والنَّجاةَ مِن عَذابِه، ومَن يُعرِضْ عن طاعةِ اللهِ والتَّأسِّي برُسُلِه، فإنَّ اللهَ هو الغَنيُّ المحمودُ في ذاتِه وأسمائِه وصِفاتِه.

تفسير الآيات:

قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه بعْدَ الفراغِ مِن بَيانِ خطَأِ مَن يُوالي عدُوَّ اللهِ بما يَجُرُّ إلى أصحابِه مِن مَضارَّ في الدُّنيا وفي الآخِرةِ؛ تَحذيرًا لهمْ مِن ذلك، انتُقِلَ إلى تَمثيلِ الحالةِ الصَّالحةِ بمِثالٍ مِن فِعلِ أهلِ الإيمانِ الصَّادقِ، والاستِقامةِ القويمةِ، وناهيكَ بها أُسوةً [97] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/142). ، فلَمَّا نَهَى عن مُوالاةِ الكفَّارِ؛ ذكَرَ قصَّةَ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأنَّ مِن سِيرتِه التَّبرُّؤَ مِن الكفَّارِ؛ ليَقتدُوا به في ذلك ويَتأسَّوا [98] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/154). .
وأيضًا لَمَّا أبلغَ اللهُ سُبحانَه في وَعْظِهم في ذلك، وكانت عادتُه التَّربيةَ بالماضِينَ؛ كان مَوضِعَ توَقُّعِ ذلك [99] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/496). .
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ.
أي: قد كانت لكم -أيُّها المؤمِنونَ- قُدوةٌ صالِحةٌ في إبراهيمَ والَّذين معه مِن المُؤمِنينَ [100] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/300)، ((تفسير القرطبي)) (18/56)، ((تفسير ابن كثير)) (8/87)، ((تفسير السعدي)) (ص: 856). ممَّن قال بأنَّ المرادَ بـ (الَّذِينَ مَعَهُ): أتْباعُه المؤمنونَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والقرطبيُّ، وابنُ كثير، والسعديُّ. يُنظر: المصادر السابقة. قال ابنُ عاشور: (المرادُ بـ «الَّذِينَ مَعَهُ»: الَّذين آمَنوا به واتَّبَعوا هَدْيَه، وهم زَوجُه سارَةُ، وابنُ أخيه لوطٌ، ولم يكُنْ لإبراهيمَ أبناءٌ؛ فضميرُ «إِذْ قَالُوا» عائدٌ إلى إبراهيمَ والَّذين معه، فهم ثلاثةٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (13/255). وقيل: المرادُ: الَّذين معه مِن أنبياءِ اللهِ تعالى. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/566). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/496). قال ابن عطيَّة: (واختلَف النَّاسُ في الَّذين معه؛ فقال قومٌ مِن المتأوِّلينَ: أراد: مَنْ آمَنَ به مِنَ النَّاسِ. وقال الطَّبريُّ وغيرُه: أراد الأنبياءَ الَّذين كانوا في عصرِه وقريبًا مِن عصرِه، وهذا القولُ أرجَحُ؛ لأنَّه لم يُروَ أنَّ إبراهيمَ كان له أتْباعٌ مؤمنونَ في مكافحتِه نُمْرُودًا). ((تفسير ابن عطية)) (5/295). .
إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
أي: حينَ قال إبراهيمُ ومَن معه مِن المؤمِنينَ لِقَومِهم المُشرِكينَ الكافِرينَ: إنَّا نتبَرَّأُ منكم ومِمَّا تَعبُدونَ مِن دونِ اللهِ مِن الأصنامِ تبَرُّؤًا عظيمًا [101] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/566)، ((تفسير القرطبي)) (18/56)، ((تفسير ابن كثير)) (8/87)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/496، 497)، ((تفسير السعدي)) (ص: 856). قال ابنُ عاشور: (المرادُ بقَولِهم هذا لقَومِهم أنَّهم قالوه مقالَ الصَّادقِ في قَولِه؛ فالائتِساءُ بهم في ذلك القَولِ، والعَمَلِ بما يُترجِمُ عليه القَولُ مِمَّا في النُّفوسِ، فالمؤتَسى به أنَّهم كاشَفُوا قَومَهم بالمنافَرةِ، وصَرَّحوا لهم بالبَغضاءِ؛ لأجْلِ كُفرِهم باللهِ، ولم يُصانِعوهم ويَغُضُّوا عن كُفرِهم لاكتسابِ موَدَّتِهم كما فَعَل الموبَّخُ بهذه الآيةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/145). .
كما قال تعالى حاكيًا قَولَ إبراهيمَ لأبيه وقَومِه: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم: 48] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 26 - 28] .
كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا.
أي: أنكَرْنا ما أنتم عليه مِن الكُفرِ، وجَحَدْنا أن تكونَ آلهتُكم حَقًّا، وظهَرَ بيْنَنا وبيْنَكم المُعاداةُ والكراهيةُ الدَّائِمةُ ما دُمتُم مُستَمِرِّينَ على كُفرِكم بالله تعالى [102] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/566)، ((تفسير القرطبي)) (18/56)، ((تفسير ابن كثير)) (8/87)، ((تفسير السعدي)) (ص: 856)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/144، 145). قال الماوَرْدي: (كَفَرْنَا بِكُمْ يحتمِلُ وجهَينِ؛ أحدُهما: كفَرْنا بما آمَنْتُم به مِن الأوثانِ. الثَّاني: بأفعالِكم، وكذَّبْنا بها). ((تفسير الماوردي)) (5/518). وقال البيضاوي: (كَفَرْنَا بِكُمْ أي: بدينِكم أو بمَعبودِكم، أو بكم وبه، فلا نَعتَدُّ بشأنِكم وآلهتِكم). ((تفسير البيضاوي)) (5/205). وقال ابن جرير: (كَفَرْنَا بِكُمْ: أنكَرْنا ما كنتُم عليه مِن الكفرِ بالله، وجحَدْنا عِبادتَكم ما تَعبُدون مِن دونِ الله أن تكونَ حقًّا). ((تفسير ابن جرير)) (22/566). وقال ابن عطيَّة: (قولُه: كَفَرْنَا بِكُمْ أي: كذَّبْناكم في أقوالِكم، ولم نؤمنْ بشَيءٍ منها). ((تفسير ابن عطية)) (5/295). وقال البِقاعي: (كَفَرْنَا بِكُمْ أي: أوجَدْنا السترَ لكلِّ ما يَنبغي سترُه حالَ كَونِنا مُكَذِّبينَ بكلِّ ما يكونُ مِن جِهتِكم مِن دينٍ وغيرِه الَّذي يَلزَمُ منه الإيمانُ، وهو إيقاعُ الأمانِ مِن التَّكذيبِ لِمَن يُخبِرُنا بسببِ كلِّ ما يُضادُّه، مُصَدِّقينَ بذلك). ((نظم الدرر)) (19/497). .
حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ.
أي: إلى أن تُؤمِنوا بتوحيدِ اللهِ، فتَعبُدوه وَحْدَه لا شَريكَ له، فحينَئذٍ تَزولُ البَغضاءُ والعَداوةُ، وتَنقَلِبُ موَدَّةً ووَلايةً [103] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/566)، ((تفسير ابن كثير)) (8/87)، ((تفسير السعدي)) (ص: 856). .
إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ.
أي: لا تَتأَسَّوا -أيُّها المؤمِنونَ- بقَولِ إبراهيمَ لأبيه المُشرِكِ: لَأستَغفِرَنَّ لك اللهَ؛ إذ لا ينبغي لأحَدٍ أن يَستَغفِرَ للمُشرِكينَ ولو كانوا ذَوِي قُرْبَى [104] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/567)، ((تفسير القرطبي)) (18/56)، ((تفسير ابن كثير)) (8/87، 88)، ((تفسير السعدي)) (ص: 856)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/145). قال الشوكاني: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ هو استِثناءٌ مُتَّصِلٌ مِن قولِه: فِي إِبْرَاهِيمَ بتقديرِ مُضافٍ مَحذوفٍ لِيَصِحَّ الاستِثناءُ، أي: قد كانت لكم أسْوةٌ حسَنةٌ في مقالاتِ إبراهيمَ، إلَّا قولَه لأبيه. أو مِن أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وصحَّ ذلك لأنَّ القولَ مِن جملةِ الأسْوةِ، كأنَّه قيل: قد كانت أسوةٌ حسَنةٌ في إبراهيمَ في جميعِ أقوالِه وأفعالِه إلَّا قولَه لأبيه. أو مِن التَّبرِّي والقطيعةِ الَّتي ذُكِرَتْ، أي: لم يواصِلْه إلَّا قولَه، ذكر هذا ابنُ عطيَّة. أو هو منقطِعٌ، أي: لكنْ قولُ إبراهيمَ لأبيه لَأستَغفِرَنَّ لك، فلا تأتَسوا به، فتَستغفِرون للمشرِكين). ((تفسير الشوكاني)) (5/253). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/295). ونسَبَ الألوسي إلى الأكثَرِ أنَّه استِثناءٌ مُنقَطِعٌ. يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (14/265). .
كما قال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة: 113، 114].
وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا وَعَده بالاستِغفارِ تَرغيبًا له؛ رهَّبَه لئلَّا يَترُكَ السَّعيَ في النَّجاةِ، بما معناه أنَّه ليس في يَدِي غيرُ الاستِغفارِ، فقال [105] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/500). :
وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.
أي: قال إبراهيمُ لأبيه: والحالُ أنِّي لا أدفَعُ عنك عُقوبةَ اللهِ إنْ عاقَبَك على كُفْرِك به، ولا أقدِرُ أن أنفَعَك عندَ اللهِ بشَيءٍ [106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/568)، ((الوسيط)) للواحدي (4/284)، ((تفسير القرطبي)) (18/57)، ((تفسير السعدي)) (ص: 856). .
رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا.
أي: قال إبراهيمُ والَّذين معه مِن المؤمِنينَ: رَبَّنا عليك وَحْدَك توَكَّلْنا، ففَوَّضْنا جميعَ أُمورِنا إليك، واعتَمَدْنا  عليك في إصلاحِ أُمورِنا، ودَفْعِ ما يَضُرُّنا [107] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/568)، ((تفسير القرطبي)) (18/57)، ((تفسير ابن كثير)) (8/88)، ((تفسير الشوكاني)) (5/253)، ((تفسير السعدي)) (ص: 856). وممَّن قال بأنَّه مِن كلامِ إبراهيمَ والمؤمنينَ معه: ابنُ الجوزي، والقرطبيُّ، وابنُ جُزَي، وابنُ كثير، والسعديُّ، واستظهره ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/269)، ((تفسير القرطبي)) (18/57)، ((تفسير ابن جزي)) (2/366)، ((تفسير ابن كثير)) (8/88)، ((تفسير السعدي)) (ص: 856)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/146). قال ابنُ جُزَي: (هذا مِن كلامِ سَيِّدِنا إبراهيمَ عليه السَّلامُ والَّذين معه، وهو متَّصِلٌ بما قبْلَ الاستِثناءِ، فهو مِن جملةِ ما أُمِروا أن يَقتَدوا به). ((تفسير ابن جزي)) (2/366). وقال ابنُ عاشور: (الأظهرُ أن يكونَ هذا مِن كلامِ إبراهيمَ وقَومِه). ((تفسير ابن عاشور)) (28/ 146). وذكر ابنُ جرير أنَّه مِن كلامِ إبراهيمَ وأنبياءِ اللهِ عليهم السَّلامُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/ 568). وقيل: المرادُ: قولوا أنتم: ربَّنا عليك توَكَّلْنا...، وممَّن اختاره: الفرَّاءُ، والسمرقنديُّ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/150)، ((تفسير السمرقندي)) (3/437). قال ابنُ عاشور: (يحتَمِلُ أن يكونَ تعليمًا للمؤمِنينَ أن يقولوا هذا الكلامَ، ويَستَحضِروا معانيَه؛ لِيَجريَ عَمَلُهم بمُقتَضاه، فهو على تقديرِ أمرٍ بقَولٍ محذوفٍ، والمقصودُ مِن القَولِ العَمَلُ بالقولِ؛ فإنَّ الكلامَ يُجَدِّدُ المعنى في نفْسِ المتكَلِّمِ به، ويُذكِّرُ السَّامِعَ مِن غَفلتِه). ((تفسير ابن عاشور)) (28/146). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/514). .
وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا.
أي: وإليك وَحْدَك رجَعْنا بالتَّوبةِ مِمَّا تَكرَهُ مِن مَعصيتِك إلى ما تُحِبُّ مِن طاعتِك [108] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/568)، ((تفسير القرطبي)) (18/57)، ((تفسير السعدي)) (ص: 856). .
وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
أي: وإليك وَحْدَك -يا رَبَّنا- مَرجِعُنا في الآخِرةِ [109] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/568)، ((تفسير القرطبي)) (18/57)، ((تفسير ابن كثير)) (8/88)، ((تفسير الشوكاني)) (5/253)، ((تفسير السعدي)) (ص: 856)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/147). قال ابن عاشور: (فإنَّ المصيرَ مَصيرانِ: مَصيرٌ بعدَ الحياةِ، ومَصيرٌ بعدَ البَعثِ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/147). .
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5).
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا.
أي: يا ربَّنا لا تُسلِّطْهم علينا، فيَفْتِنونا، ويَمْنَعونا ممَّا يَقْدِرون عليه مِن أمورِ الإيمانِ، ويُميلونا عمَّا نحن عليه مِن الحقِّ، ويُفتنون أيضًا بأنفُسِهم؛ فإنَّهم إذا رأوا لهم الغلَبةَ، ظنُّوا أنَّهم على الحقِّ وأنَّا على الباطلِ، فازدادوا كفرًا وطُغيانًا [110] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/569)، ((تفسير القرطبي)) (18/57)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/501، 502)، ((تفسير السعدي)) (ص: 856). قال الماوَرْدي: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا فيه تأويلانِ: أحَدُهما: معناه: لا تُسَلِّطْهم علينا فيَفتِنونا. قاله ابنُ عبَّاسٍ. الثَّاني: لا تُعَذِّبْنا بأيديهم ولا بعذابٍ مِن عِندِك، فنَصيرَ فِتنةً لهم، فيقولوا: لو كانوا على حَقٍّ ما عُذِّبوا. قاله مجاهِدٌ). ((تفسير الماوردي)) (5/518). وممَّن جمَع بيْن المعنيَينِ: البِقاعي، والسعدي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/501، 502)، ((تفسير السعدي)) (ص: 856). وممَّن ذهب إلى المعنى الثَّاني في الجملةِ: ابنُ جرير، وابن هُبَيرةَ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/569)، ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (2/151)، ((تفسير القرطبي)) (18/57). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، ومجاهِدٌ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/569)، ((تفسير ابن كثير)) (8/88)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/129). قال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا تُقَتِّرْ علينا بالرِّزقِ، وتَبسُطْ لهم في الرِّزقِ؛ فنَحتاجَ إليهم، فيكونَ ذلك فِتنةً لنا). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/301). وقال ابنُ عاشور: (معنى جَعْلِهم فِتنةً للَّذين كَفَروا: جَعْلُهم مَفتونينَ يَفتِنُهم الَّذين كَفَروا، فيَصدُقُ ذلك بأن يتسَلَّطَ عليهم الَّذين كَفَروا فيُفتَنونَ، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ [البروج: 10] إلخ. ويَصدُقُ أيضًا بأن تختَلَّ أمورُ دينِهم بسَبَبِ الَّذين كَفَروا، أي: بمحَبَّتِهم والتَّقَرُّبِ منهم، كقَولِه تعالى حكايةً عن دُعاءِ موسى: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ [الأعراف: 155] . وعلى الوَجهَينِ فالفِتنةُ مِن إطلاقِ المصدَرِ على اسمِ المفعولِ... واللَّامُ في لِلَّذِينَ كَفَرُوا على الوَجهَينِ للمِلْكِ، أي: مفتونينَ مُسَخَّرينَ لهم. ويجوزُ عندي أن تكونَ فِتْنَةً مصدرًا بمعنى اسمِ الفاعِلِ، أي: لا تجعَلْنا فاتِنينَ، أي: سَبَبَ فِتنةٍ للَّذينَ كفَروا، فيكونَ كنايةً عن معنى: لا تُغَلِّبِ الَّذين كفَروا علينا، واصرِفْ عنَّا ما يكونُ به اختِلالُ أمرِنا، وسوءُ الأحوالِ؛ كي لا يكونَ شَيءٌ مِن ذلك فاتِنًا الَّذين كَفَروا، أي: مُقَوِّيًا فِتنتَهم، فيُفتتَنوا في دينِهم، أي: يَزدادوا كُفرًا، وهو فِتنةٌ في الدِّينِ، أي: فيَظنُّوا أنَّا على الباطِلِ وأنَّهم على الحَقِّ، وقد تُطلَقُ الفِتنةُ على ما يُفضِي إلى غُرورٍ في الدِّينِ، كما في قَولِه تعالى: بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ [الزمر: 49] ، وقَولِه: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [الأنبياء: 111] . واللَّامُ على هذا الوَجهِ لامُ التَّبليغِ، وهذه مَعانٍ جَمَّةٌ أفادَتْها الآيةُ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/148). .
كما قال اللهُ حاكيًا قَولَ قَومِ موسى: فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس: 85] .
وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان رأسُ مالِ المسلِمِ الأعظَمُ الاعتِرافَ بالتَّقصيرِ وإن بَلَغ النِّهايةَ في المجاهَدةِ؛ فإنَّ الإلهَ في غايةِ العظَمةِ، والعَبدَ في نهايةِ الضَّعفِ، فبُلوغُه ما يَحِقُّ له سُبحانَه لا يمكِنُ بوَجهٍ- قالوا [111] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/502). :
وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا.
أي: وامْحُ عنَّا ذُنوبَنا؛ واستُرْها وأزِلْ آثارَها، وقِنَا واكْفِنا شَرَّها [112] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/569)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/314)، ((تفسير ابن كثير)) (8/88)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/502). .
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أي: إنَّك أنت -يا رَبَّنا- العزيزُ الَّذي يَغلِبُ ولا يُغلَبُ، فلا يُضامُ مَن لاذ بجَنابِه، الحَكيمُ الَّذي يَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه الصَّحيحِ اللَّائِقِ به [113] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/569)، ((تفسير ابن كثير)) (8/88)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/502، 503)، ((تفسير السعدي)) (ص: 856). قال السعدي: (فبعِزَّتِك وحِكمَتِك انصُرْنا على أعدائِنا، واغفِرْ لنا ذُنوبَنا، وأصلِحْ عُيوبَنا). ((تفسير السعدي)) (ص: 856). قال البقاعي: (مَن كان كذلك فهو حقيقٌ بأنْ يُعطِيَ مَن أمَّله فَوقَ ما طَلَب). ((نظم الدرر)) (19/ 503). .
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6).
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ.
أي: لقد كان لكم -أيُّها المؤمِنونَ- قُدوةٌ صالِحةٌ في إبراهيمَ ومَن معه مِن المؤمِنينَ؛ لِمَن يَطمَعُ في رِضوانِ اللهِ وثَوابِه، ويَرجو النَّجاةَ مِن عَذابِه [114] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/570)، ((تفسير السمرقندي)) (3/436، 437)، ((تفسير القرطبي)) (18/57)، ((تفسير ابن كثير)) (8/88)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/503، 504). .
وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
أي: ومَن يُعرِضْ عن طاعةِ اللهِ والتَّأسِّي برُسُلِه، فيُوالِ أعداءَه؛ فإنَّ اللهَ ذو الغِنى التَّامِّ المُطلَقِ عن كُلِّ أحَدٍ؛ فليس به حاجةٌ إلى إيمانِه وطاعتِه، وهو المحمودُ في ذاتِه وأسمائِه وصِفاتِه، وأفعالِه وأقوالِه؛ فلا يَضُرُّه كُفرُ أحَدٍ وعِصيانُه [115] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/570)، ((الوسيط)) للواحدي (4/284)، ((تفسير القرطبي)) (18/58)، ((تفسير ابن كثير)) (8/88)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/504، 505)، ((تفسير السعدي)) (ص: 856). قال ابن عاشور: (فِعْلُ يَتَوَلَّ مضارِعُ توَلَّى، فيجوزُ أن يكونَ ماضيه بمعنى الإعراضِ، أي: مَن لا يرجُو اللهَ واليومَ الآخِرَ، ويُعرِضُ عن نَهْيِ اللهِ؛ فإنَّ اللهَ غَنيٌّ عن امتِثالِه. ويجوزُ عندي أن يكونَ ماضيه مِن التَّوَلِّي بمعنى اتِّخاذِ الوَليِّ، أي: مَن يتَّخِذ عَدُوَّ اللهِ أولياءَ فإنَّ اللهَ غنيٌّ عن وَلايتِه، كما في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51] ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/150). ويُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/89). وقال الرازي: (الحميدُ قد يكونُ بمعنى الحامدِ، وبمعنى المحمودِ؛ فالمحمودُ أي: يَستحِقُّ الحمدَ مِن خَلقِه بما أنعَمَ عليهم، والحامدُ أي: يَحمَدُ الخَلقَ، ويَشكُرُهم حيث يَجزيهم بالكثيرِ مِن الثَّوابِ عن القليلِ مِن الأعمالِ). ((تفسير الرازي)) (29/520). ويُنظر ما تقدَّم في تفسير سورة الحديد الآية (24). .
كما قال تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم: 8] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إلى قولِه: حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ تحذيرُ وُلاةِ الأمورِ وعامَّةِ النَّاسِ مِن الكُفَّارِ ووَلايتِهم، ونُصْحُهم بأنْ يَتَّخِذوهم أعداءً حقيقيِّينَ، كما هو الواقعُ [116] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/288). .
2- قَولُ الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ فيه أنَّه ليس كُلُّ أحدٍ تَسهُلُ عليه هذه الأُسوةُ، وإنَّما تَسهُلُ على مَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ؛ فإنَّ الإيمانَ واحتِسابَ الأجرِ والثَّوابِ يُسَهِّلُ على العَبدِ كُلَّ عَسيرٍ، ويُقَلِّلُ لَدَيه كُلَّ كثيرٍ، ويُوجِبُ له الإكثارَ مِن الاقتداءِ بعِبادِ اللهِ الصَّالِحينَ، والأنبياءِ والمُرسَلينَ؛ فإنَّه يرى نَفْسَه مُفتَقِرًا ومُضطرًّا إلى ذلك غايةَ الاضطرارِ [117] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 856). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ فيه وُجوبُ الاقتِداءِ بإبراهيمَ ومِلَّتِه إلَّا ما ثبت في شَرعِنا نَسْخُه [118] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 260). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/ 56). .
وقد استُدِلَّ به على أنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا شَرْعٌ لنا ما لَمْ يأتِ شَرْعُنا بخِلافِه، ونحن نَتَّبعُ شَرْعَ مَن قَبْلَنا؛ لا لأنَّه شَرْعُ مَن قَبْلَنا، ولكنْ لأنَّ شَرْعَنا دَلَّنا على العَمَلِ به [119] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 393). . فالآيةُ نصٌّ في الأمرِ بالاقتِداءِ بإبراهيمَ صلَّى الله عليه وسلَّم في فِعلِه، وذلك يُصحِّحُ أنَّ شرْعَ مَن قبْلَنا شرعٌ لنا فيما أخبَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ ورسولُه صلَّى الله عليه وسلَّم [120] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/56). .
2- في قَولِه تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إثباتُ العَداوةِ والوَلايةِ، وهو أصلٌ في الدِّينِ؛ فإنَّ وَلايةَ المؤمِنينَ مِن واجبِ المؤمنِ، والبَراءةَ مِن الكُفَّارِ مِن واجبِ المؤمِنِ [121] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- القصص)) (ص: 73). ، فالمُسلِمُ يجِبُ عليه أنْ يُبغِضَ أعداءَ اللهِ، ويَتَبرَّأَ منهم؛ لأنَّ هذه هي طريقةُ الرُّسُلِ وأتْباعِهم [122] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (3/31). ، وإبراهيمُ والَّذين آمَنوا معه تبَرَّؤُوا مِن قَومِهم المُشرِكينَ قبْلَ أنْ يَتبرَّؤوا مِن الأصنامِ [123] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/288). .
3- قال الله تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ في هذا دَلالةٌ على تفضيلِ نَبيِّنا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على سائِرِ الأنبياءِ؛ لأنَّا حينَ أُمِرْنا بالاقتداءِ به أُمِرْنا أمرًا مُطلَقًا في قَولِه تعالى: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] ، وحين أُمِرْنا بالاقتداءِ بإبراهيمَ عليه السَّلامُ استَثنى بَعْضَ أفعالِه [124] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/57). . وذلك بِناءً على أنَّ الاستثناءَ مُتَّصِلٌ.
4- في قَولِه تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أنَّه سُبحانَه يَحكُمُ في الأُمورِ المتماثِلةِ بأحكامٍ مُتماثِلةٍ [125] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/23). .
5- أنَّ جمهورَ المُشرِكينَ كانوا مُقِرِّين بربِّ العالَمينَ، والمُنكِرُ له قليلٌ، مِثلُ فِرعَونَ ونحوِه؛ فقومُ إبراهيمَ كانوا مُقِرِّين بالصَّانعِ؛ ولهذا قال لهم إبراهيمُ الخليلُ: إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى قَولِه: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [126] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/549). .
6- قَولُ الله تعالى: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، فيه سؤالٌ: إن كان قولُه: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مُستثنًى مِن القولِ الَّذي سبَق، وهو: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، فما بالُ قولِه: وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، وهو غيرُ حقيقٍ بالاستثناءِ، ألا ترَى إلى قولِه تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [الفتح: 11] ؟
الجواب: أراد الله تعالى استثناءَ جملةِ قولِه لأبيه، والقصدَ إلى موعدِ الاستغفارِ له، وما بَعْدَه مبنيٌّ عليه، وتابعٌ له، كأنَّه قال: أنا أستغفِرُ لك، وما وُسعي إلَّا الاستِغفارُ [127] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/519). ، فمَوردُ الاستثناءِ نفْسُ الاستغفارِ لا قيدُه الَّذي هو في نفْسِه مِن خِصالِ الخَيرِ؛ لِكَونِه إظهارًا للعجزِ، وتفويضًا للأمرِ إلى الله تعالى [128] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/237). .
وقيل: قولُه: وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ مِن تمامِ قولِه المُستثنَى، ولا يَلزَمُ مِنِ استِثناءِ المجموعِ استِثناءُ جميعِ أجزائِه [129] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/205). .
7- قَولُ الله تعالى: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ إنَّما جرَى ذلك؛ لأنَّه ظَنَّ أنَّه أسلَمَ، فلمَّا بان أنَّه لم يُسلِمْ تبَرَّأَ منه، وعلى هذا يجوزُ الاستغفارُ لِمَن يُظنُّ أنَّه أسلَمَ [130] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (19/18). . أو أنَّه كان يَرْجو إيمانَه، فقال له: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فمَنِ اسْتَغْفَر لحَيٍّ يَرْجو إيمانَه، يَقْصِدُ سُؤالَ اللهِ أنْ يَهْدِيَه لِمَا يكونُ به أهلًا للمغفرةِ فلا بأسَ. قال ابنُ عبَّاسٍ: لم يَزَلْ إبراهيمُ يَستَغفِرُ لأبيه حتَّى مات، فلَمَّا مات تَبَيَّن له أنَّه عدُوٌّ للهِ فتَبَرَّأ منه. وفي روايةٍ عنه: لَمَّا مات على كُفْرِه [131] يُنظر: ((الدر المنثور في التفسير بالمأثور)) للسيوطي (4/305). . وقيل: إنَّه تَبَيَّن له ذلك بوَحْيٍ مِن اللهِ تعالَى، فحينَئِذٍ تَبَرَّأ منه ومِن قَرابَتِه، وتَرَك الاستغفارَ له كما هو مُقتضَى الإيمانِ [132] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/48). .
8- في قَولِه تعالى: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا دليلٌ على أنَّ اللهَ جلَّ وتعالى قد يَفتِنُ الكافِرينَ بما شاء، لولا ذلك ما كان لهذا الدُّعاءِ معنًى، فهو ردٌّ على المُعتزلةِ والقَدَريَّةِ [133] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/264). . وذلك على أحدِ المعنَيَينِ في تفسيرِ الآيةِ.
9- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ دليلٌ على أنَّ الإنسانَ الَّذي يَتولَّى عن طاعةِ اللهِ إنَّما يَضُرُّ نفْسَه، ولا يَضُرُّ اللهَ شيئًا؛ فإنَّ اللهَ غنيٌّ. وفي الحديثِ القُدُسيِّ: ((يا عِبادي، لو أنَّ أَوَّلَكم وآخِرَكم وإِنْسَكم وجِنَّكم كانوا على أفْجَرِ قلبِ رجُلٍ واحدٍ منكم، ما نَقَصَ ذلك مِن مُلْكي شيئًا)) [134] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 417). والحديث أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذَرٍّ رضي الله عنه. .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لضرْبِ المِثالِ الجَديرِ بالاحتِذاءِ في النَّهيِ عن مُوالاةِ الكُفَّارِ، والرُّكونِ إلى الأعداءِ، وأنَّ الصُّدورَ المَطويَّةَ على الضِّغنِ يَجِبُ أنْ تَبقَى على عَدائِها حتَّى يَزولَ السَّببُ القائمُ، فإذا زال انقَلَبَت العَداوةُ مَودَّةً، والبَغضاءُ مَحبَّةً [135] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/62). .
- وصَدْرُ هذه الآيةِ -قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ...- يُفيدُ تأْكيدًا لمَضمونِ جُملةِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ [الممتحنة: 2] ، وجُملةِ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ [الممتحنة: 3] ؛ لأنَّها بما تضمَّنَتْه مِن أنَّ المُوجَّهَ إليهم التَّوبيخُ خالَفوا الأُسوةَ الحَسَنةَ، تُقوِّي إثباتَ الخَطَأِ المُستوجِبِ للتَّوبيخِ [136] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/142). .
- وافتِتاحُ الكلامِ بكَلِمتَيْ قَدْ كَانَتْ لتَأْكيدِ الخبَرِ؛ فإنَّ (قَدْ) مع فِعلِ الكَونِ يُرادُ بهما التَّعريضُ بالإنكارِ على المُخاطَبِ، ولَومُه في الإعراضِ عن العمَلِ بما تَضمَّنَه الخبَرُ [137] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/142، 143). .
- وعطْفُ وَالَّذِينَ مَعَهُ؛ ليَتِمَّ التَّمثيلُ لحالِ المسلمينَ مع رَسولِهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بحالِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ والَّذين معه، أي: أنْ يكونَ المسلمونَ تابِعينَ لِرِضا رَسولِهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما كان الَّذين مع إبراهيمَ عليه السَّلامُ [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/143). .
- والأسوةُ: القُدوةُ الَّتي يُقتدَى بها في فِعلٍ ما؛ فوُصِفَت في الآيةِ بـ حَسَنَةٌ وصْفًا للمدْحِ؛ لأنَّ كَونَها حَسَنةً قد عُلِمَ مِن سِياقِ ما قبْلَه وما بعْدَه [139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/143). .
- وحرْفُ (فِي) مُعبَّرٌ به هنا عن قُوَّةِ الملابَسةِ؛ إذ جُعِلَ تَلبُّسُ إبراهيمَ والَّذين معه بكَونِهم أُسوةً حَسنةً، بمَنزِلةِ تَلبُّسِ الظَّرفِ بالمظروفِ في شِدَّةِ التَّمكُّنِ مِن الوصْفِ، ولذلك كان المعْنى: قدْ كان لكم إبراهيمُ والَّذين معه أسوةً في حِينِ قَولِهم لقَومِهم؛ فليس قولُه: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ مِن قَبيلِ التَّجريدِ [140] التَّجريد: هو اعتقادُ أنَّ في الشَّيءِ مِن نفْسِه معنًى آخَرَ كأنَّه مباينٌ له، فيخرجُ ذلك إلى ألفاظِه بما اعتقَد ذلك؛ كقولِهم: لئن لَقيتَ زَيدًا لَتلقيَنَّ معه الأسدَ؛ فظاهرُ هذا أنَّ فيه مِن نفْسِه أسدًا، وهو عينُه هو الأسدُ، لا أنَّ هناك شيئًا منفصلًا. ويُطلقُ عندَ البعضِ على عطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ كأنَّ الخاصَّ جُرِّد مِن العامِّ، وأُفرِد بالذِّكرِ؛ تفضيلًا. وله إطلاقاتٌ أخرى في البديعِ والمعاني. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 160 - 163)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/448)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 46)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 243، 244). ؛ لأنَّ الأسوةَ هنا هي قولُ إبراهيمَ والَّذين معَه لا أنفُسُهم [141] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/144). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ بتَأنيثِ الفِعلِ (كانتْ) مع الفاصِلِ (لكُمْ)؛ لقُرْبِه وإنْ جاز التَّذكيرُ، وأعادَهُ في قولِه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة: 6] ، بتَذكيرِه مع الفاصِلِ؛ لكَثرتِه وإنْ جاز التَّأنيثُ؛ فلم تتَّصِلْ بفِعلِ (كان) تاءُ تأْنيثٍ مع أنَّ اسْمَها مُؤنَّثُ اللَّفظِ؛ لأنَّ تأْنيثَ (أُسوة) غيرُ حَقيقيٍّ، ولوُقوعِ الفَصْلِ بيْن الفِعلِ ومَرفوعِه بالجارِّ والمجرورِ. وإنَّما كرَّر ذلك؛ لأنَّ الأوَّلَ في القولِ، والثَّانيَ في الفِعلِ. وقيل: الأوَّلُ في إبراهيمَ، والثَّاني في محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [142] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 236)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/461)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 560)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/149). .
وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّه أعادَ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؛ لأنَّ الإسلامَ بُنِيَ أوَّلُه على التَّبرُّؤِ مِن الآلهةِ ومِن عَبَدتِها، ومِن الأصنامِ وعَبَدتِها، فقولُ مَن يَشهَدُ بالتَّوحيدِ: إنَّه يَنْفي الآلهةَ أوَّلًا بقولِه: (لا إلهَ)، ويُثبِتُ ثانيًا بقولِه: (إلَّا اللهُ) الواحدُ الَّذي تَحِقُّ له العبادةُ، فقال في الأُسوةِ الأُولى المتعلِّقةِ بالبَراءةِ مِن الكُفَّارِ ومِن فِعْلِهم: إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وإنَّهم يُعادُونَهم إلى أنْ يُؤمِنوا، فهذه الأُسوةُ تَفصِلُ المؤمنَ مِن الكافرِ؛ ليَتميَّزَ عنه في الظَّاهرِ، ويَتبرَّأَ مِن صَداقتِه، ويَتحقَّقَ بعَداوتِه. والثَّانيةُ معْناها: تَأسَّوا بهم لتَنالُوا مِثلَ ثَوابِهم، وتَنقلِبوا إلى الآخِرةِ كانْقِلابِهم مُبشَّرينَ بالجنَّةِ، غيرَ خائفينَ مِن العُقوبةِ [143] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1267، 1268). .
وفيه وَجْهٌ آخَرُ: أنَّ هذا مِن دُعاءِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وإنَّما تَكرَّرت الأُسوةُ بهذا؛ إذ كان مِن إبراهيمَ فِعلٌ حسَنٌ، وهو التَّبرُّؤُ مِن أبيهِ وقومِه الكافرينَ، وقولٌ حسَنٌ، وهو هذا الدُّعاءُ [144] يُنظر: ((باهر البرهان)) لبيان الحق الغزنوي (3/1495). .
- وجُملةُ كَفَرْنَا بِكُمْ وما عُطِفَ عليها بَيانٌ لمعْنى جُملةِ إِنَّا بُرَآَءُ [145] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/144). .
- قولُه: رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ الأظهرُ أنْ يكونَ هذا مِن كَلامِ إبراهيمَ وقَومِه، وجُملةُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ إلى آخِرِها مُعترِضةً بيْنَ أجزاءِ القَولِ؛ فهو ممَّا أُمِرَ المسلِمونَ أنْ يأتَسُوا به، وبه يكونُ الكلامُ شَديدَ الاتِّصالِ معَ قولِه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة: 6] . ويَحتمِلُ أنْ يكونَ تَعليمًا للمؤمنينَ أنْ يَقولوا هذا الكلامَ ويَستحضِروا مَعانِيَه؛ ليَجرِيَ عَمَلُهم بمُقتضاهُ، فهو على تَقديرِ أمْرٍ بقَولٍ مَحذوفٍ، والمَقصودُ مِن القولِ العمَلُ بالقولِ؛ فإنَّ الكلامَ يُجدِّدُ المعْنى في نفْسِ المُتكلِّمِ به، ويُذكِّرُ السَّامعَ مِن غَفلَتِه. وهذا تَتميمٌ لِما أَوصاهم به مِن مُقاطَعةِ الكُفَّارِ بعْدَ التَّحريضِ على الائتساءِ بإبراهيمَ ومَن معه؛ فعلى المعْنى الأوَّلِ يكونُ حِكايةً لِما قاله إبراهيمُ وقومُه بما يُفيدُ حاصلَ مَعانِيه؛ فقدْ يكونُ هو معْنى ما حَكاهُ اللهُ عن إبراهيمَ مِن قولِه: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء: 78- 82] ؛ فإنَّ التَّوكُّلَ على اللهِ في أُمورِ الحياةِ بسُؤالِه النَّجاحَ فيما يُصلِحُ أعمالَ العبدِ في مَساعِيه، وأعظَمُه النَّجاحُ في دِينِه وما فيه قِوامُ عَيشِه، ثمَّ ما فيه دفْعُ الضُّرِّ، وقد جَمَعَها قولُ إبراهيمَ هناك: فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وهذا جمَعَه قولُه هنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ جَمَعَه قولُه: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ؛ فإنَّ المصيرَ مَصيرانِ: مَصيرٌ بعْدَ الحياةِ، ومَصيرٌ بعْدَ البعثِ، وقولُه: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي؛ فإنَّ وَسيلةَ الطَّمعِ هي التَّوبةُ، وقد تَضمَّنَها قولُه: وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وعلى المعْنى الثَّاني هو تَعليمٌ للمُؤمنينَ أنْ يَصرِفوا تَوجُّهَهم إلى اللهِ بإرضائِه، ولا يَلتفِتوا إلى ما لا يَرْضاهُ وإنْ حَسِبوا أنَّهم يَنتفِعون به؛ فإنَّ رِضا اللهِ مُقدَّمٌ على ما دُونَه [146] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/514)، ((تفسير البيضاوي)) (5/205)، ((تفسير أبي حيان)) (10/155، 156)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/146، 147)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/64). .
- وتَقديمُ المجرورِ عَلَيْكَ و(إِلَيْكَ) على هذه الأفعالِ تَوَكَّلْنَا وأَنَبْنَا؛ لإفادةِ القَصْرِ، وهو قصْرٌ بَعضُه ادِّعائيٌّ وبَعضُه حَقيقيٌّ [147] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، كما تَصرِفُ إليه القَرينةُ [148] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/237)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/147). .
2- قولُه تعالَى: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيه إعادةُ النِّداءِ بقولِهم: رَبَّنَا؛ لتأْكيدِ إظهارِ التَّضرُّعِ والجُؤارِ مع كلِّ دَعوةٍ مِن الدَّعواتِ الثَّلاثِ [149] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/238)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/147)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/64). .
- وفي قولِهم: وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا أعْقَبوا دَعواتِهم الَّتي تَعودُ إلى إصلاحِ دِينِهم في الحياةِ الدُّنيا بطَلَبِ ما يُصلِحُ أُمورَهم في الحياةِ الآخِرةِ، وما يُوجِبُ رِضا اللهِ عنهم في الدُّنيا؛ فإنَّ رِضاهُ يُفْضي إلى عِنايتِه بهم بتَسييرِ أُمورِهم في الحياتَينِ. وللإشعارِ بالمُغايَرةِ بيْن الدَّعوتينِ عَطَفَتْ هذه الواوُ ولم تَعطِفِ الَّتي قبْلَها [150] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/148). .
- قولُه: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَعليلٌ للدَّعواتِ كلِّها؛ فإنَّ التَّوكُّلَ والإنابةَ والمصيرَ تُناسِبُ صِفةَ العزيزِ؛ إذ مِثلُه يُعامِلُ بمِثلِ ذلك، وطلَبَ ألَّا يَجعَلَهم فِتنةً باختِلافِ مَعانِيه يُناسِبُ صِفةَ الحكيمِ، وكذلك طَلَبُ المغفرةِ؛ لأنَّهم لَمَّا ابتَهَلوا إليه ألَّا يَجعَلَهم فِتنةً للكافِرين، وأنْ يَغفِرَ لهم؛ رَأَوا أنَّ حِكمتَه تُناسِبُها إجابةُ دُعائِهم؛ لِما فيه مِن صَلاحِهم وقدْ جاؤوا سائلِينَه [151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/149). .
3- قولُه تعالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ تَكريرٌ لقولِه آنفًا: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ ... [الممتحنة: 4] ؛ أُعِيدَ لتأْكيدِ التَّحريضِ والحثِّ على عدَمِ إضاعةِ الائتساءِ بإبراهيمَ ومَن معه، وليُبْنى عليه قولُه: لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ ...، وقُرِنَ هذا التَّأكيدُ بلامِ القسَمِ مُبالَغةً في التَّأكيدِ. وقولُه: لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ بدَلٌ مِن ضَميرِ الخِطابِ في قولِه: لَكُمْ، وهو شاملٌ لجَميعِ المُخاطَبينَ؛ لأنَّ المُخاطَبينَ بضَميرِ لَكُمْ المؤمنونَ في قولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة: 1] ؛ فليس ذِكرُ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ تَخصيصًا لبَعضِ المؤمنينَ، ولكنَّه ذُكِرَ للتَّذكيرِ بأنَّ الإيمانَ باللهِ واليومِ الآخِرِ يَقْتضي تأَسِّيَهم بالمؤمنينَ السَّابقينَ، وهمْ إبراهيمُ والَّذين معَه. وأُعِيدَ حرْفُ الجرِّ -وهو اللَّامُ- العاملُ في المُبدَلِ منه؛ لتَأكيدِ أنَّ الإيمانَ يَستلزِمُ ذلك، والقصْدُ هو زِيادةُ الحثِّ على الائتساءِ بإبراهيمَ ومَن معَه، وليُرتَّبَ عليه قولُه: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وهذا تَحذيرٌ مِن العَودِ لِما نُهُوا عنه [152] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/514)، ((تفسير البيضاوي)) (5/205)، ((تفسير أبي حيان)) (10/156)، ((تفسير أبي السعود)) (8/238)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/149). .
- وقيل: لَمَّا سلَّى اللهُ تَعالى المسلِمينَ في قطْعِ مُوالاةِ أقْربائِهم الكُفَّارِ بالائتساءِ بإبراهيمَ والَّذين معَه، واستَثْنى منه استِغفارَه لأبيهِ لَمَّا لم يَظهَرْ له أمارةٌ أو نصٌّ مِن اللهِ بالبَراءةِ الكُلِّيَّةِ منه، كما ظَهَرَ للمسلمينَ بقولِه: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة: 1] ؛ كرَّرَ الائتساءَ به، وتَرَكَه مُطلقًا لِيَكونَ صالحًا لجميعِ ما يَجِبُ أنْ يُؤتَسَى به، يَشهَدُ لذلك قولُه: وَمَنْ يَتَوَلَّ، بخِلافِه في الأوَّلِ، حيثُ أُبدِلَ مِن المُؤتَسى فيه قولُه: إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ [الممتحنة: 4] ؛ ليَكونَ تَعميمًا بعْدَ تَخصيصٍ [153] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/362). .
- وضَميرُ الفصْلِ (هو) في قولِه: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ تَوكيدٌ للحَصْرِ الَّذي أفادَهُ تَعريفُ الجُزأينِ، وهو حصْرٌ ادِّعائيٌّ [154] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). لعَدَمِ الاعتدادِ بغِنى غيرِه ولا بحمْدِه -على قولٍ في معنَى الحميدِ-، أي: هو الغنيُّ عن المُتولِّينَ؛ لأنَّ النَّهيَ عمَّا نُهُوا عنه إنَّما هو لفائدتِهم لا يُفيدُ اللهَ شيئًا؛ فهو الغنيُّ عن كلِّ شَيءٍ [155] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/150). .
- وإتْباعُ الْغَنِيُّ بوَصْفِ الْحَمِيدُ تَتميمٌ [156]  التَّتميم: مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ من الكلام نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو: هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو: هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللَّبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ. ومِن أمثلةِ التَّتميمِ قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العزَّةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. يُنظر:  ((تحرير التَّحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 127)، ((التِّبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 217)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و (2/332، 333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدِّين درويش (1/44)، ((مفاتيح التَّفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/240، 241). ، أي: الحميدُ لمَن يَمتثِلُ أمْرَه ولا يُعرِضُ عنه، أو الحَميدُ لِمَن لا يتَّخِذُ عدُوَّه وليًّا، على نحْوِ قولِه: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [157] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/150). [الزمر: 7] . على قولٍ في معنى الحميدِ.
أو المرادُ: المحمودُ على غِناه؛ لأنَّه ليس كلُّ غنيٍّ يكونُ محمودًا، فالغنيُّ البخيلُ غيرُ محمودٍ، لكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ غنيٌّ حميدٌ يُحمَدُ على غِناه؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ واسعُ العَطاءِ كثيرُه [158] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 417). .
- والآيةُ مِنَ الاحتباكِ [159] الاحتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصِر إعجازِه، وهو مِن ألْطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). : ذَكَرَ الرَّجاءَ أوَّلًا؛ دليلًا على ضِدِّه ثانيًا، والتَّوَلِّيَ ثانيًا؛ دليلًا على ضِدِّه أوَّلًا، وسِرُّه: أنَّه ذَكَر سَبَبَ السَّعادةِ ترغيبًا، وسَبَبَ الشَّقاوةِ تَرهيبًا [160] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/505). .