موسوعة التفسير

سورةُ المُمْتَحَنةِ
الآيات (4-6)

ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ

غريب الكلمات:

أُسْوَةٌ: أي: قُدوةٌ وائتِمامٌ واتِّباعٌ، وأصلُ (أسو): يدُلُّ على المُداواةِ والإصلاحِ .
بُرَآَءُ: جَمعٌ على فُعلاءَ، مُفردُه بريءٌ، مِثلُ: شُركاءَ وشَريكٍ، مِن (برِئ)، بمعنى التَّفصِّي والتَّنزُّهِ ونفْيِ المُخالَطةِ، فالبريءُ: الخليُّ عن التَّلبُّسِ بشَيءٍ وعن مُخالَطتِه، وأصلُ (برأ) هنا: يدُلُّ على التَّباعُدِ مِن الشَّيءِ ومُزايَلتِه .
الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ: العَداوةُ: اختِلافَ القُلوبِ والنِّيَّاتِ والتَّباعُدُ بها، مأخوذةٌ مِن عَدْوَتَيِ الجَبلِ، وهما طَرَفاه؛ سُمِّيَا بذلك لبُعدِ ما بيْنَهما، وقيل: مِن عدا، أي: ظَلَم. والبُغضاءُ: البُغضُ، وهو نِفارُ النَّفْسِ عن الشَّيءِ الَّذي تَرغَبُ عنه، وأصلُ البُغضِ: خِلافُ الحبِّ. والعَداوةُ أخصُّ مِن البَغضاءِ؛ لأنَّ كلَّ عدُوٍّ مبغِضٌ، وقد يُبغَضُ مَن ليس بعَدُوٍّ .
أَنَبْنَا: أي: رجَعْنا، وأصلُ (نوب): يدُلُّ على الرُّجوعِ .
فِتْنَةً: الفِتنةُ في الأصلِ: الاختِبارُ والابتلاءُ والامتِحانُ، مأخوذةٌ مِن الفَتْنِ: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جَودتُه مِن رداءتِه، وتُطلَقُ الفِتنةُ على الضَّلالِ والشِّرْكِ والكُفرِ والشَّرِّ والعَذابِ .
يَتَوَلَّ: أي: يُعْرِضْ، وتولَّى إذا عُدِّي بـ (عن) لفظًا أو تقديرًا -كما هنا- اقتضَى معنى الإعراضِ، وإذا عُدِّي بنَفْسِه اقتَضَى مَعنى الوَلايةِ والقُرْبِ .
الْحَمِيدُ: أي: المحمودُ على كلِّ حالٍ، وفي جميعِ أفعالِه وأقوالِه، وشَرْعِه وقَدَرِه، والمحمودُ على ما لَه مِن الكَمالِ، وعلى نِعَمِه الَّتي أنْعَمها على خلْقِه، المستحِقُّ لكلِّ حمْدٍ، والحمدُ إخبارٌ عن مَحاسنِ المحمودِ معَ حُبِّه وإجلالِه وتَعظيمِه، وقيل: هو أيضًا بمعنى حامِدٍ، يَحمَدُ كُلَّ مَن يَستحِقُّ الحَمدَ منه، وأصلُ (حمد): يدُلُّ على خِلافِ الذَّمِّ .

المعنى الإجمالي:

يذكرُ الله تعالى جانبًا مِن قصَّةِ إبراهيمَ -عليه السَّلامُ- ويأمُرُ بالاقتِداءِ به، فيقولُ تعالى: قد كانت لكم -أيُّها المؤمِنونَ- قُدوةٌ صالِحةٌ في إبراهيمَ والَّذين معه مِن المُؤمِنينَ، حينَ قالوا لِقَومِهم المُشرِكينَ: إنَّا نتبَرَّأُ منكم ومِمَّا تَعبُدونَ مِن دونِ اللهِ، كفَرْنا بكم، وظهَرَ بيْنَنا وبيْنَكم العداوةُ والكراهيةُ أبدًا إلى أن تُؤمِنوا بالله وَحْدَه، إلَّا قَولَ إبراهيمَ لأبيه المُشرِكِ: لَأستَغفِرَنَّ لك اللهَ؛ فلا تتَأَسَّوا به في هذا القَولِ؛ إذ لا ينبغي لأحَدٍ أن يَستَغفِرَ للمُشرِكينَ ولو كانوا ذَوِي قُرْبَى. قال إبراهيمُ عليه السَّلامُ لأبيه: والحالُ أنِّي لا أدفَعُ عنك عُقوبةَ اللهِ.
ثمَّ يخبرُ الله تعالى عن قولِ إبراهيمَ والَّذين معَه، حينَ فارَقوا قومَهم وتبرَّؤوا منهم، فلَجَؤوا إلى الله وتضرَّعوا إليه، فقالوا: رَبَّنا عليك وَحْدَك توَكَّلْنا، وإليك وَحْدَك تُبْنَا، وإليك مَرجِعُنا في الآخِرةِ، يا ربَّنا لا تُسلِّطْهم علينا فيَفْتِنونا، ويُميلونا عمَّا نحن عليه مِن الحقِّ، ويُفتَنونَ أيضًا بأنفُسِهم؛ فإنَّهم إذا رأوا لهم الغلَبةَ ظنُّوا أنَّهم على الحقِّ وأنَّا على الباطلِ، فازدادوا كفرًا وطغيانًا، وامْحُ عنَّا ذُنوبَنا يا رَبَّنا؛ إنَّك أنت العزيزُ الَّذي لا يُغلَبُ، الحَكيمُ الَّذي يَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به.
 ثمَّ يكرِّرُ الله تعالى الحثَّ لهم على الاقتداءِ بهم، فيقولُ: لقد كان لكم -أيُّها المؤمِنونَ- قُدوةٌ صالِحةٌ في إبراهيمَ ومَن معه مِن المؤمِنينَ؛ لِمَن يرجو رِضوانَ اللهِ والنَّجاةَ مِن عَذابِه، ومَن يُعرِضْ عن طاعةِ اللهِ والتَّأسِّي برُسُلِه، فإنَّ اللهَ هو الغَنيُّ المحمودُ في ذاتِه وأسمائِه وصِفاتِه.

تفسير الآيات:

قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه بعْدَ الفراغِ مِن بَيانِ خطَأِ مَن يُوالي عدُوَّ اللهِ بما يَجُرُّ إلى أصحابِه مِن مَضارَّ في الدُّنيا وفي الآخِرةِ؛ تَحذيرًا لهمْ مِن ذلك، انتُقِلَ إلى تَمثيلِ الحالةِ الصَّالحةِ بمِثالٍ مِن فِعلِ أهلِ الإيمانِ الصَّادقِ، والاستِقامةِ القويمةِ، وناهيكَ بها أُسوةً ، فلَمَّا نَهَى عن مُوالاةِ الكفَّارِ؛ ذكَرَ قصَّةَ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأنَّ مِن سِيرتِه التَّبرُّؤَ مِن الكفَّارِ؛ ليَقتدُوا به في ذلك ويَتأسَّوا .
وأيضًا لَمَّا أبلغَ اللهُ سُبحانَه في وَعْظِهم في ذلك، وكانت عادتُه التَّربيةَ بالماضِينَ؛ كان مَوضِعَ توَقُّعِ ذلك .
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ.
أي: قد كانت لكم -أيُّها المؤمِنونَ- قُدوةٌ صالِحةٌ في إبراهيمَ والَّذين معه مِن المُؤمِنينَ .
إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
أي: حينَ قال إبراهيمُ ومَن معه مِن المؤمِنينَ لِقَومِهم المُشرِكينَ الكافِرينَ: إنَّا نتبَرَّأُ منكم ومِمَّا تَعبُدونَ مِن دونِ اللهِ مِن الأصنامِ تبَرُّؤًا عظيمًا .
كما قال تعالى حاكيًا قَولَ إبراهيمَ لأبيه وقَومِه: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم: 48] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 26 - 28] .
كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا.
أي: أنكَرْنا ما أنتم عليه مِن الكُفرِ، وجَحَدْنا أن تكونَ آلهتُكم حَقًّا، وظهَرَ بيْنَنا وبيْنَكم المُعاداةُ والكراهيةُ الدَّائِمةُ ما دُمتُم مُستَمِرِّينَ على كُفرِكم بالله تعالى .
حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ.
أي: إلى أن تُؤمِنوا بتوحيدِ اللهِ، فتَعبُدوه وَحْدَه لا شَريكَ له، فحينَئذٍ تَزولُ البَغضاءُ والعَداوةُ، وتَنقَلِبُ موَدَّةً ووَلايةً .
إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ.
أي: لا تَتأَسَّوا -أيُّها المؤمِنونَ- بقَولِ إبراهيمَ لأبيه المُشرِكِ: لَأستَغفِرَنَّ لك اللهَ؛ إذ لا ينبغي لأحَدٍ أن يَستَغفِرَ للمُشرِكينَ ولو كانوا ذَوِي قُرْبَى .
كما قال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة: 113، 114].
وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا وَعَده بالاستِغفارِ تَرغيبًا له؛ رهَّبَه لئلَّا يَترُكَ السَّعيَ في النَّجاةِ، بما معناه أنَّه ليس في يَدِي غيرُ الاستِغفارِ، فقال :
وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.
أي: قال إبراهيمُ لأبيه: والحالُ أنِّي لا أدفَعُ عنك عُقوبةَ اللهِ إنْ عاقَبَك على كُفْرِك به، ولا أقدِرُ أن أنفَعَك عندَ اللهِ بشَيءٍ .
رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا.
أي: قال إبراهيمُ والَّذين معه مِن المؤمِنينَ: رَبَّنا عليك وَحْدَك توَكَّلْنا، ففَوَّضْنا جميعَ أُمورِنا إليك، واعتَمَدْنا  عليك في إصلاحِ أُمورِنا، ودَفْعِ ما يَضُرُّنا .
وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا.
أي: وإليك وَحْدَك رجَعْنا بالتَّوبةِ مِمَّا تَكرَهُ مِن مَعصيتِك إلى ما تُحِبُّ مِن طاعتِك .
وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
أي: وإليك وَحْدَك -يا رَبَّنا- مَرجِعُنا في الآخِرةِ .
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5).
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا.
أي: يا ربَّنا لا تُسلِّطْهم علينا، فيَفْتِنونا، ويَمْنَعونا ممَّا يَقْدِرون عليه مِن أمورِ الإيمانِ، ويُميلونا عمَّا نحن عليه مِن الحقِّ، ويُفتنون أيضًا بأنفُسِهم؛ فإنَّهم إذا رأوا لهم الغلَبةَ، ظنُّوا أنَّهم على الحقِّ وأنَّا على الباطلِ، فازدادوا كفرًا وطُغيانًا .
كما قال اللهُ حاكيًا قَولَ قَومِ موسى: فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس: 85] .
وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان رأسُ مالِ المسلِمِ الأعظَمُ الاعتِرافَ بالتَّقصيرِ وإن بَلَغ النِّهايةَ في المجاهَدةِ؛ فإنَّ الإلهَ في غايةِ العظَمةِ، والعَبدَ في نهايةِ الضَّعفِ، فبُلوغُه ما يَحِقُّ له سُبحانَه لا يمكِنُ بوَجهٍ- قالوا :
وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا.
أي: وامْحُ عنَّا ذُنوبَنا؛ واستُرْها وأزِلْ آثارَها، وقِنَا واكْفِنا شَرَّها .
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
أي: إنَّك أنت -يا رَبَّنا- العزيزُ الَّذي يَغلِبُ ولا يُغلَبُ، فلا يُضامُ مَن لاذ بجَنابِه، الحَكيمُ الَّذي يَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه الصَّحيحِ اللَّائِقِ به .
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6).
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ.
أي: لقد كان لكم -أيُّها المؤمِنونَ- قُدوةٌ صالِحةٌ في إبراهيمَ ومَن معه مِن المؤمِنينَ؛ لِمَن يَطمَعُ في رِضوانِ اللهِ وثَوابِه، ويَرجو النَّجاةَ مِن عَذابِه .
وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
أي: ومَن يُعرِضْ عن طاعةِ اللهِ والتَّأسِّي برُسُلِه، فيُوالِ أعداءَه؛ فإنَّ اللهَ ذو الغِنى التَّامِّ المُطلَقِ عن كُلِّ أحَدٍ؛ فليس به حاجةٌ إلى إيمانِه وطاعتِه، وهو المحمودُ في ذاتِه وأسمائِه وصِفاتِه، وأفعالِه وأقوالِه؛ فلا يَضُرُّه كُفرُ أحَدٍ وعِصيانُه .
كما قال تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم: 8] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إلى قولِه: حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ تحذيرُ وُلاةِ الأمورِ وعامَّةِ النَّاسِ مِن الكُفَّارِ ووَلايتِهم، ونُصْحُهم بأنْ يَتَّخِذوهم أعداءً حقيقيِّينَ، كما هو الواقعُ .
2- قَولُ الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ فيه أنَّه ليس كُلُّ أحدٍ تَسهُلُ عليه هذه الأُسوةُ، وإنَّما تَسهُلُ على مَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ؛ فإنَّ الإيمانَ واحتِسابَ الأجرِ والثَّوابِ يُسَهِّلُ على العَبدِ كُلَّ عَسيرٍ، ويُقَلِّلُ لَدَيه كُلَّ كثيرٍ، ويُوجِبُ له الإكثارَ مِن الاقتداءِ بعِبادِ اللهِ الصَّالِحينَ، والأنبياءِ والمُرسَلينَ؛ فإنَّه يرى نَفْسَه مُفتَقِرًا ومُضطرًّا إلى ذلك غايةَ الاضطرارِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ فيه وُجوبُ الاقتِداءِ بإبراهيمَ ومِلَّتِه إلَّا ما ثبت في شَرعِنا نَسْخُه .
وقد استُدِلَّ به على أنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا شَرْعٌ لنا ما لَمْ يأتِ شَرْعُنا بخِلافِه، ونحن نَتَّبعُ شَرْعَ مَن قَبْلَنا؛ لا لأنَّه شَرْعُ مَن قَبْلَنا، ولكنْ لأنَّ شَرْعَنا دَلَّنا على العَمَلِ به . فالآيةُ نصٌّ في الأمرِ بالاقتِداءِ بإبراهيمَ صلَّى الله عليه وسلَّم في فِعلِه، وذلك يُصحِّحُ أنَّ شرْعَ مَن قبْلَنا شرعٌ لنا فيما أخبَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ ورسولُه صلَّى الله عليه وسلَّم .
2- في قَولِه تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إثباتُ العَداوةِ والوَلايةِ، وهو أصلٌ في الدِّينِ؛ فإنَّ وَلايةَ المؤمِنينَ مِن واجبِ المؤمنِ، والبَراءةَ مِن الكُفَّارِ مِن واجبِ المؤمِنِ ، فالمُسلِمُ يجِبُ عليه أنْ يُبغِضَ أعداءَ اللهِ، ويَتَبرَّأَ منهم؛ لأنَّ هذه هي طريقةُ الرُّسُلِ وأتْباعِهم ، وإبراهيمُ والَّذين آمَنوا معه تبَرَّؤُوا مِن قَومِهم المُشرِكينَ قبْلَ أنْ يَتبرَّؤوا مِن الأصنامِ .
3- قال الله تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ في هذا دَلالةٌ على تفضيلِ نَبيِّنا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على سائِرِ الأنبياءِ؛ لأنَّا حينَ أُمِرْنا بالاقتداءِ به أُمِرْنا أمرًا مُطلَقًا في قَولِه تعالى: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] ، وحين أُمِرْنا بالاقتداءِ بإبراهيمَ عليه السَّلامُ استَثنى بَعْضَ أفعالِه . وذلك بِناءً على أنَّ الاستثناءَ مُتَّصِلٌ.
4- في قَولِه تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أنَّه سُبحانَه يَحكُمُ في الأُمورِ المتماثِلةِ بأحكامٍ مُتماثِلةٍ .
5- أنَّ جمهورَ المُشرِكينَ كانوا مُقِرِّين بربِّ العالَمينَ، والمُنكِرُ له قليلٌ، مِثلُ فِرعَونَ ونحوِه؛ فقومُ إبراهيمَ كانوا مُقِرِّين بالصَّانعِ؛ ولهذا قال لهم إبراهيمُ الخليلُ: إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى قَولِه: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ .
6- قَولُ الله تعالى: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، فيه سؤالٌ: إن كان قولُه: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مُستثنًى مِن القولِ الَّذي سبَق، وهو: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، فما بالُ قولِه: وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، وهو غيرُ حقيقٍ بالاستثناءِ، ألا ترَى إلى قولِه تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [الفتح: 11] ؟
الجواب: أراد الله تعالى استثناءَ جملةِ قولِه لأبيه، والقصدَ إلى موعدِ الاستغفارِ له، وما بَعْدَه مبنيٌّ عليه، وتابعٌ له، كأنَّه قال: أنا أستغفِرُ لك، وما وُسعي إلَّا الاستِغفارُ ، فمَوردُ الاستثناءِ نفْسُ الاستغفارِ لا قيدُه الَّذي هو في نفْسِه مِن خِصالِ الخَيرِ؛ لِكَونِه إظهارًا للعجزِ، وتفويضًا للأمرِ إلى الله تعالى .
وقيل: قولُه: وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ مِن تمامِ قولِه المُستثنَى، ولا يَلزَمُ مِنِ استِثناءِ المجموعِ استِثناءُ جميعِ أجزائِه .
7- قَولُ الله تعالى: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ إنَّما جرَى ذلك؛ لأنَّه ظَنَّ أنَّه أسلَمَ، فلمَّا بان أنَّه لم يُسلِمْ تبَرَّأَ منه، وعلى هذا يجوزُ الاستغفارُ لِمَن يُظنُّ أنَّه أسلَمَ . أو أنَّه كان يَرْجو إيمانَه، فقال له: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فمَنِ اسْتَغْفَر لحَيٍّ يَرْجو إيمانَه، يَقْصِدُ سُؤالَ اللهِ أنْ يَهْدِيَه لِمَا يكونُ به أهلًا للمغفرةِ فلا بأسَ. قال ابنُ عبَّاسٍ: لم يَزَلْ إبراهيمُ يَستَغفِرُ لأبيه حتَّى مات، فلَمَّا مات تَبَيَّن له أنَّه عدُوٌّ للهِ فتَبَرَّأ منه. وفي روايةٍ عنه: لَمَّا مات على كُفْرِه . وقيل: إنَّه تَبَيَّن له ذلك بوَحْيٍ مِن اللهِ تعالَى، فحينَئِذٍ تَبَرَّأ منه ومِن قَرابَتِه، وتَرَك الاستغفارَ له كما هو مُقتضَى الإيمانِ .
8- في قَولِه تعالى: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا دليلٌ على أنَّ اللهَ جلَّ وتعالى قد يَفتِنُ الكافِرينَ بما شاء، لولا ذلك ما كان لهذا الدُّعاءِ معنًى، فهو ردٌّ على المُعتزلةِ والقَدَريَّةِ . وذلك على أحدِ المعنَيَينِ في تفسيرِ الآيةِ.
9- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ دليلٌ على أنَّ الإنسانَ الَّذي يَتولَّى عن طاعةِ اللهِ إنَّما يَضُرُّ نفْسَه، ولا يَضُرُّ اللهَ شيئًا؛ فإنَّ اللهَ غنيٌّ. وفي الحديثِ القُدُسيِّ: ((يا عِبادي، لو أنَّ أَوَّلَكم وآخِرَكم وإِنْسَكم وجِنَّكم كانوا على أفْجَرِ قلبِ رجُلٍ واحدٍ منكم، ما نَقَصَ ذلك مِن مُلْكي شيئًا)) .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لضرْبِ المِثالِ الجَديرِ بالاحتِذاءِ في النَّهيِ عن مُوالاةِ الكُفَّارِ، والرُّكونِ إلى الأعداءِ، وأنَّ الصُّدورَ المَطويَّةَ على الضِّغنِ يَجِبُ أنْ تَبقَى على عَدائِها حتَّى يَزولَ السَّببُ القائمُ، فإذا زال انقَلَبَت العَداوةُ مَودَّةً، والبَغضاءُ مَحبَّةً .
- وصَدْرُ هذه الآيةِ -قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ...- يُفيدُ تأْكيدًا لمَضمونِ جُملةِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ [الممتحنة: 2] ، وجُملةِ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ [الممتحنة: 3] ؛ لأنَّها بما تضمَّنَتْه مِن أنَّ المُوجَّهَ إليهم التَّوبيخُ خالَفوا الأُسوةَ الحَسَنةَ، تُقوِّي إثباتَ الخَطَأِ المُستوجِبِ للتَّوبيخِ .
- وافتِتاحُ الكلامِ بكَلِمتَيْ قَدْ كَانَتْ لتَأْكيدِ الخبَرِ؛ فإنَّ (قَدْ) مع فِعلِ الكَونِ يُرادُ بهما التَّعريضُ بالإنكارِ على المُخاطَبِ، ولَومُه في الإعراضِ عن العمَلِ بما تَضمَّنَه الخبَرُ .
- وعطْفُ وَالَّذِينَ مَعَهُ؛ ليَتِمَّ التَّمثيلُ لحالِ المسلمينَ مع رَسولِهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بحالِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ والَّذين معه، أي: أنْ يكونَ المسلمونَ تابِعينَ لِرِضا رَسولِهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما كان الَّذين مع إبراهيمَ عليه السَّلامُ .
- والأسوةُ: القُدوةُ الَّتي يُقتدَى بها في فِعلٍ ما؛ فوُصِفَت في الآيةِ بـ حَسَنَةٌ وصْفًا للمدْحِ؛ لأنَّ كَونَها حَسَنةً قد عُلِمَ مِن سِياقِ ما قبْلَه وما بعْدَه .
- وحرْفُ (فِي) مُعبَّرٌ به هنا عن قُوَّةِ الملابَسةِ؛ إذ جُعِلَ تَلبُّسُ إبراهيمَ والَّذين معه بكَونِهم أُسوةً حَسنةً، بمَنزِلةِ تَلبُّسِ الظَّرفِ بالمظروفِ في شِدَّةِ التَّمكُّنِ مِن الوصْفِ، ولذلك كان المعْنى: قدْ كان لكم إبراهيمُ والَّذين معه أسوةً في حِينِ قَولِهم لقَومِهم؛ فليس قولُه: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ مِن قَبيلِ التَّجريدِ ؛ لأنَّ الأسوةَ هنا هي قولُ إبراهيمَ والَّذين معَه لا أنفُسُهم .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ بتَأنيثِ الفِعلِ (كانتْ) مع الفاصِلِ (لكُمْ)؛ لقُرْبِه وإنْ جاز التَّذكيرُ، وأعادَهُ في قولِه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة: 6] ، بتَذكيرِه مع الفاصِلِ؛ لكَثرتِه وإنْ جاز التَّأنيثُ؛ فلم تتَّصِلْ بفِعلِ (كان) تاءُ تأْنيثٍ مع أنَّ اسْمَها مُؤنَّثُ اللَّفظِ؛ لأنَّ تأْنيثَ (أُسوة) غيرُ حَقيقيٍّ، ولوُقوعِ الفَصْلِ بيْن الفِعلِ ومَرفوعِه بالجارِّ والمجرورِ. وإنَّما كرَّر ذلك؛ لأنَّ الأوَّلَ في القولِ، والثَّانيَ في الفِعلِ. وقيل: الأوَّلُ في إبراهيمَ، والثَّاني في محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّه أعادَ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؛ لأنَّ الإسلامَ بُنِيَ أوَّلُه على التَّبرُّؤِ مِن الآلهةِ ومِن عَبَدتِها، ومِن الأصنامِ وعَبَدتِها، فقولُ مَن يَشهَدُ بالتَّوحيدِ: إنَّه يَنْفي الآلهةَ أوَّلًا بقولِه: (لا إلهَ)، ويُثبِتُ ثانيًا بقولِه: (إلَّا اللهُ) الواحدُ الَّذي تَحِقُّ له العبادةُ، فقال في الأُسوةِ الأُولى المتعلِّقةِ بالبَراءةِ مِن الكُفَّارِ ومِن فِعْلِهم: إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وإنَّهم يُعادُونَهم إلى أنْ يُؤمِنوا، فهذه الأُسوةُ تَفصِلُ المؤمنَ مِن الكافرِ؛ ليَتميَّزَ عنه في الظَّاهرِ، ويَتبرَّأَ مِن صَداقتِه، ويَتحقَّقَ بعَداوتِه. والثَّانيةُ معْناها: تَأسَّوا بهم لتَنالُوا مِثلَ ثَوابِهم، وتَنقلِبوا إلى الآخِرةِ كانْقِلابِهم مُبشَّرينَ بالجنَّةِ، غيرَ خائفينَ مِن العُقوبةِ .
وفيه وَجْهٌ آخَرُ: أنَّ هذا مِن دُعاءِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وإنَّما تَكرَّرت الأُسوةُ بهذا؛ إذ كان مِن إبراهيمَ فِعلٌ حسَنٌ، وهو التَّبرُّؤُ مِن أبيهِ وقومِه الكافرينَ، وقولٌ حسَنٌ، وهو هذا الدُّعاءُ .
- وجُملةُ كَفَرْنَا بِكُمْ وما عُطِفَ عليها بَيانٌ لمعْنى جُملةِ إِنَّا بُرَآَءُ .
- قولُه: رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ الأظهرُ أنْ يكونَ هذا مِن كَلامِ إبراهيمَ وقَومِه، وجُملةُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ إلى آخِرِها مُعترِضةً بيْنَ أجزاءِ القَولِ؛ فهو ممَّا أُمِرَ المسلِمونَ أنْ يأتَسُوا به، وبه يكونُ الكلامُ شَديدَ الاتِّصالِ معَ قولِه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الممتحنة: 6] . ويَحتمِلُ أنْ يكونَ تَعليمًا للمؤمنينَ أنْ يَقولوا هذا الكلامَ ويَستحضِروا مَعانِيَه؛ ليَجرِيَ عَمَلُهم بمُقتضاهُ، فهو على تَقديرِ أمْرٍ بقَولٍ مَحذوفٍ، والمَقصودُ مِن القولِ العمَلُ بالقولِ؛ فإنَّ الكلامَ يُجدِّدُ المعْنى في نفْسِ المُتكلِّمِ به، ويُذكِّرُ السَّامعَ مِن غَفلَتِه. وهذا تَتميمٌ لِما أَوصاهم به مِن مُقاطَعةِ الكُفَّارِ بعْدَ التَّحريضِ على الائتساءِ بإبراهيمَ ومَن معه؛ فعلى المعْنى الأوَّلِ يكونُ حِكايةً لِما قاله إبراهيمُ وقومُه بما يُفيدُ حاصلَ مَعانِيه؛ فقدْ يكونُ هو معْنى ما حَكاهُ اللهُ عن إبراهيمَ مِن قولِه: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء: 78- 82] ؛ فإنَّ التَّوكُّلَ على اللهِ في أُمورِ الحياةِ بسُؤالِه النَّجاحَ فيما يُصلِحُ أعمالَ العبدِ في مَساعِيه، وأعظَمُه النَّجاحُ في دِينِه وما فيه قِوامُ عَيشِه، ثمَّ ما فيه دفْعُ الضُّرِّ، وقد جَمَعَها قولُ إبراهيمَ هناك: فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وهذا جمَعَه قولُه هنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ جَمَعَه قولُه: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ؛ فإنَّ المصيرَ مَصيرانِ: مَصيرٌ بعْدَ الحياةِ، ومَصيرٌ بعْدَ البعثِ، وقولُه: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي؛ فإنَّ وَسيلةَ الطَّمعِ هي التَّوبةُ، وقد تَضمَّنَها قولُه: وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وعلى المعْنى الثَّاني هو تَعليمٌ للمُؤمنينَ أنْ يَصرِفوا تَوجُّهَهم إلى اللهِ بإرضائِه، ولا يَلتفِتوا إلى ما لا يَرْضاهُ وإنْ حَسِبوا أنَّهم يَنتفِعون به؛ فإنَّ رِضا اللهِ مُقدَّمٌ على ما دُونَه .
- وتَقديمُ المجرورِ عَلَيْكَ و(إِلَيْكَ) على هذه الأفعالِ تَوَكَّلْنَا وأَنَبْنَا؛ لإفادةِ القَصْرِ، وهو قصْرٌ بَعضُه ادِّعائيٌّ وبَعضُه حَقيقيٌّ ، كما تَصرِفُ إليه القَرينةُ .
2- قولُه تعالَى: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيه إعادةُ النِّداءِ بقولِهم: رَبَّنَا؛ لتأْكيدِ إظهارِ التَّضرُّعِ والجُؤارِ مع كلِّ دَعوةٍ مِن الدَّعواتِ الثَّلاثِ .
- وفي قولِهم: وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا أعْقَبوا دَعواتِهم الَّتي تَعودُ إلى إصلاحِ دِينِهم في الحياةِ الدُّنيا بطَلَبِ ما يُصلِحُ أُمورَهم في الحياةِ الآخِرةِ، وما يُوجِبُ رِضا اللهِ عنهم في الدُّنيا؛ فإنَّ رِضاهُ يُفْضي إلى عِنايتِه بهم بتَسييرِ أُمورِهم في الحياتَينِ. وللإشعارِ بالمُغايَرةِ بيْن الدَّعوتينِ عَطَفَتْ هذه الواوُ ولم تَعطِفِ الَّتي قبْلَها .
- قولُه: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَعليلٌ للدَّعواتِ كلِّها؛ فإنَّ التَّوكُّلَ والإنابةَ والمصيرَ تُناسِبُ صِفةَ العزيزِ؛ إذ مِثلُه يُعامِلُ بمِثلِ ذلك، وطلَبَ ألَّا يَجعَلَهم فِتنةً باختِلافِ مَعانِيه يُناسِبُ صِفةَ الحكيمِ، وكذلك طَلَبُ المغفرةِ؛ لأنَّهم لَمَّا ابتَهَلوا إليه ألَّا يَجعَلَهم فِتنةً للكافِرين، وأنْ يَغفِرَ لهم؛ رَأَوا أنَّ حِكمتَه تُناسِبُها إجابةُ دُعائِهم؛ لِما فيه مِن صَلاحِهم وقدْ جاؤوا سائلِينَه .
3- قولُه تعالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ تَكريرٌ لقولِه آنفًا: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ ... [الممتحنة: 4] ؛ أُعِيدَ لتأْكيدِ التَّحريضِ والحثِّ على عدَمِ إضاعةِ الائتساءِ بإبراهيمَ ومَن معه، وليُبْنى عليه قولُه: لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ ...، وقُرِنَ هذا التَّأكيدُ بلامِ القسَمِ مُبالَغةً في التَّأكيدِ. وقولُه: لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ بدَلٌ مِن ضَميرِ الخِطابِ في قولِه: لَكُمْ، وهو شاملٌ لجَميعِ المُخاطَبينَ؛ لأنَّ المُخاطَبينَ بضَميرِ لَكُمْ المؤمنونَ في قولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة: 1] ؛ فليس ذِكرُ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ تَخصيصًا لبَعضِ المؤمنينَ، ولكنَّه ذُكِرَ للتَّذكيرِ بأنَّ الإيمانَ باللهِ واليومِ الآخِرِ يَقْتضي تأَسِّيَهم بالمؤمنينَ السَّابقينَ، وهمْ إبراهيمُ والَّذين معَه. وأُعِيدَ حرْفُ الجرِّ -وهو اللَّامُ- العاملُ في المُبدَلِ منه؛ لتَأكيدِ أنَّ الإيمانَ يَستلزِمُ ذلك، والقصْدُ هو زِيادةُ الحثِّ على الائتساءِ بإبراهيمَ ومَن معَه، وليُرتَّبَ عليه قولُه: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وهذا تَحذيرٌ مِن العَودِ لِما نُهُوا عنه .
- وقيل: لَمَّا سلَّى اللهُ تَعالى المسلِمينَ في قطْعِ مُوالاةِ أقْربائِهم الكُفَّارِ بالائتساءِ بإبراهيمَ والَّذين معَه، واستَثْنى منه استِغفارَه لأبيهِ لَمَّا لم يَظهَرْ له أمارةٌ أو نصٌّ مِن اللهِ بالبَراءةِ الكُلِّيَّةِ منه، كما ظَهَرَ للمسلمينَ بقولِه: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة: 1] ؛ كرَّرَ الائتساءَ به، وتَرَكَه مُطلقًا لِيَكونَ صالحًا لجميعِ ما يَجِبُ أنْ يُؤتَسَى به، يَشهَدُ لذلك قولُه: وَمَنْ يَتَوَلَّ، بخِلافِه في الأوَّلِ، حيثُ أُبدِلَ مِن المُؤتَسى فيه قولُه: إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ [الممتحنة: 4] ؛ ليَكونَ تَعميمًا بعْدَ تَخصيصٍ .
- وضَميرُ الفصْلِ (هو) في قولِه: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ تَوكيدٌ للحَصْرِ الَّذي أفادَهُ تَعريفُ الجُزأينِ، وهو حصْرٌ ادِّعائيٌّ لعَدَمِ الاعتدادِ بغِنى غيرِه ولا بحمْدِه -على قولٍ في معنَى الحميدِ-، أي: هو الغنيُّ عن المُتولِّينَ؛ لأنَّ النَّهيَ عمَّا نُهُوا عنه إنَّما هو لفائدتِهم لا يُفيدُ اللهَ شيئًا؛ فهو الغنيُّ عن كلِّ شَيءٍ .
- وإتْباعُ الْغَنِيُّ بوَصْفِ الْحَمِيدُ تَتميمٌ ، أي: الحميدُ لمَن يَمتثِلُ أمْرَه ولا يُعرِضُ عنه، أو الحَميدُ لِمَن لا يتَّخِذُ عدُوَّه وليًّا، على نحْوِ قولِه: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر: 7] . على قولٍ في معنى الحميدِ.
أو المرادُ: المحمودُ على غِناه؛ لأنَّه ليس كلُّ غنيٍّ يكونُ محمودًا، فالغنيُّ البخيلُ غيرُ محمودٍ، لكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ غنيٌّ حميدٌ يُحمَدُ على غِناه؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ واسعُ العَطاءِ كثيرُه .
- والآيةُ مِنَ الاحتباكِ : ذَكَرَ الرَّجاءَ أوَّلًا؛ دليلًا على ضِدِّه ثانيًا، والتَّوَلِّيَ ثانيًا؛ دليلًا على ضِدِّه أوَّلًا، وسِرُّه: أنَّه ذَكَر سَبَبَ السَّعادةِ ترغيبًا، وسَبَبَ الشَّقاوةِ تَرهيبًا .