موسوعة التفسير

سورة الزمر
الآيات (49-52)

ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ

غريب الكلمات:

خَوَّلْنَاهُ: أي: مَلَّكْناه وأعطَيْناه، وأصلُه: يدُلُّ على تَعهُّدِ الشَّيءِ [1009] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 157)، ((تفسير ابن جرير)) (20/221)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 206)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2 /230)، ((المفردات)) للراغب (ص: 304). .
فِتْنَةٌ: أي: اختبارٌ، وابتلاءٌ، وامتحانٌ، وأصلُ الفَتْنِ: إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لِتَظهَرَ جَودتُه مِن رداءتِه [1010] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 76، 101)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472، 473)، ((المفردات)) للراغب (ص: 624)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 29، 139 - 140). .
يَبْسُطُ: أي: يُوَسِّعُ، وأصلُ (بسط): يدُلُّ على امتِدادِ الشَّيءِ [1011] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 254)، ((تفسير ابن جرير)) (13/516)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/247)، ((تفسير ابن كثير)) (7/194). .
وَيَقْدِرُ: أي: يُضَيِّقُ، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبلغِ الشَّيءِ ونِهايتِه، كأنَّما جُعِلَ رِزقُه بقَدْرٍ يَسيرٍ [1012] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 254)، ((تفسير ابن جرير)) (13/516)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 466)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/62)، ((المفردات)) للراغب (ص: 659)، ((تفسير ابن كثير)) (7/194)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 297). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا أحوالَ الإنسانِ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ: فإذا أصاب الإنسانَ ضَرَرٌ أو كَربٌ دَعانا؛ لِنَكشِفَ عنه ما أصابه، ثمَّ إذا أعطَيْناه نِعمةً مِنَّا قال: إنَّما أُعطيتُ ذلك على عِلمٍ! بل هذه النِّعمةُ فِتنةٌ له، ولكِنَّ أكثَرَهم لا يَعلَمونَ ذلك.
ثمَّ يُبيِّنُ تعالى المصيرَ السَّيِّئَ لقائلِ تلك المقالةِ، فيقولُ: قد قال هذه المقالةَ مَنْ سبَقَهم مِنَ الأُمَمِ الماضيةِ، فما أغْنَى عنهم ما كَسَبوه شَيئًا مِن العَذابِ. فحَلَّ عليهم عِقابُ كَسبِهم، والَّذين ظَلَموا مِن كُفَّارِ قُرَيشٍ سيُصيبُهم أيضًا عِقابُ كَسبِهم، وما هم بمُعجِزينَ اللهَ تعالى؛ فهو قادِرٌ على عِقابِهم.
ثمَّ يقولُ تعالى مبيِّنًا عظيمَ قدرتِه، وبديعَ حكمتِه: أوَلَمْ يَعلَموا أنَّ اللهَ يُوسِّعُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِه، ويُضَيِّقُه على مَن يَشاءُ منهم، إنَّ في ذلك لَدَلالاتٍ وعَلاماتٍ لِقَومٍ يُؤمِنونَ.

تفسير الآيات:

فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49).
مناسبة الآية لما قبلها:
هذه حكايةُ طريقةٍ أُخرَى مِن طرائقِهم الفاسدةِ [1013] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/458). ، فبَعْدَ أنْ حكَى عن المشركينَ بعضَ هَنَواتِهم [1014] الهَنَوات: خِصالُ سُوءٍ. يُنظر: ((أساس البلاغة)) للزمخشري (2/381)، ((لسان العرب)) لابن منظور (15/366). الفاسِدةِ- حكَى عنهم هَناةً أخرَى [1015] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (24/18). .
وأيضًا لَمَّا قال تعالى: وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا، وأخبَرَ عن ظُهورِ هذا لهم؛ عَلَّلَه بأنَّهم كانوا يَفعَلونَ ما لم يَكُنْ في العادةِ يُتوقَّعُ منهم، وهو مُجازاةُ الإحسانِ بالإساءةِ، وقد كانوا جَديرينَ بضِدِّه؛ فقال [1016] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/527). :
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا.
أي: فإذا أصاب الإنسانَ [1017] قيل: المرادُ: جِنسُ الإنسانِ. وممَّن قال بذلك: ابنُ عطيَّة، والبيضاوي، وأبو السعود، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/535)، ((تفسير البيضاوي)) (5/45)، ((تفسير أبي السعود)) (7/258)، ((تفسير السعدي)) (ص: 727). قال أبو السعود: (إخبارٌ عن الجنسِ بما يَفعَلُه غالبُ أفرادِه). ((تفسير أبي السعود)) (7/258). وقال السعدي: (يخبِرُ تعالى عن حالةِ الإنسانِ وطبيعتِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 727). وقيل: المرادُ بالإنسانِ: كُلُّ مُشرِكٍ. وممَّن قال بهذا القولِ: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/35). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 349). ضَرَرٌ وشِدَّةٌ وكَربٌ دعانا؛ لِنَكشِفَ عنه ذلك [1018] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/220)، ((تفسير ابن كثير)) (7/105)، ((تفسير السعدي)) (ص: 727)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/35). .
كما قال تعالى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 51] .
ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ.
أي: ثمَّ إذا أعطَيْناه نِعمةً مِن غِنًى أو عافيةٍ أو غَيرِ ذلك، قال: إنَّما أُعطِيتُ ذلك على عِلمٍ [1019] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/220، 221)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/22)، ((تفسير القرطبي)) (15/266)، ((تفسير ابن كثير)) (7/105)، ((تفسير السعدي)) (ص: 727). قيل: معنى قَولِه: أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ: أي: على عِلمٍ مِنِّي بطُرُقِ اكتِسابِها. واستظهر هذا المعنى ابنُ جُزَي، وذهب إليه البِقاعي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/223)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/529)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/35). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ في روايةٍ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/536). وقيل: المعنى: على عِلمٍ مِن اللهِ بأنِّي له أهلٌ، ومُستَحِقٌّ له؛ لِشَرَفي، ورِضاه بعَمَلي، وكَرَمي عليه. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/220)، ((تفسير ابن كثير)) (7/105)، ((تفسير السعدي)) (ص: 727). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ، وقَتادةُ في روايةٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/221)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/234). وممَّن جمع بيْنَ المعنيَينِ السَّابِقَينِ: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 351). قال ابنُ عطية: (يحتمِلُ أنْ يريدَ: على عِلمٍ مِنِّي بوَجهِ المكاسِبِ والتِّجاراتِ، وغير ذلك. قاله قَتادةُ؛ ففي هذا التَّأويلِ إعجابٌ بالنَّفْسِ، وتعاطٍ مُفرطٌ، ونحوُ هذا. ويحتمِلُ أن يريدَ: على عِلمٍ مِنَ الله فيَّ، وشَيءٍ سَبَق لي، واستِحقاقٍ حُزتُه عندَ اللهِ لا يَضُرُّني معه شَيءٌ؛ ففي هذا التَّأويلِ اغتِرارٌ باللهِ تعالى، وعَجزٌ وتَمَنٍّ على اللهِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/536). !
كما قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي [فصلت: 50] .
بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ.
أي: ليس الأمرُ كما يَزعُمُ؛ أنَّه أُوتِيَ تلك النِّعمةَ على عِلمٍ، إنَّما هذه النِّعمةُ الَّتي أنعَمْنا بها عليه بلاءٌ واختبارٌ [1020] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/221)، ((تفسير القرطبي)) (15/266)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 37)، ((تفسير ابن كثير)) (7/105)، ((تفسير السعدي)) (ص: 727). وممَّن قال بأنَّ الفِتنةَ هنا عائِدةٌ على النِّعمةِ الَّتي خَوَّله اللهُ تعالى إيَّاها: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، وابن القيم، وابن كثير، والبِقاعي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/221)، ((تفسير القرطبي)) (15/266)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 37)، ((تفسير ابن كثير)) (7/105)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/530)، ((تفسير السعدي)) (ص: 727). وقيل: المرادُ بالفِتنةِ: قَولُه: أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/36). !
كما قال تعالى: أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن: 15] .
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
أي: ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لجَهلِهم لا يَعلَمونَ أنَّ اللهَ يُعطي النِّعَمَ لعِبادِه؛ فِتنةً لهم [1021] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/221)، ((تفسير القرطبي)) (15/266)، ((تفسير البيضاوي)) (5/45)، ((تفسير السعدي)) (ص: 727)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/36)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 353). .
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا كان كُفَّارُ قُرَيشٍ مَقصودينَ بهذا قَصدًا عَظيمًا، وإن كان شامِلًا بإطلاقِه غَيرَهم مِن الأوَّلِينَ والآخِرينَ؛ قال مُوَضِّحًا لذلك [1022] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/530). :
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
أي: قد قال هذه المقالةَ -إنَّما أُوتِيتُه على عِلمٍ- وادَّعى هذه الدَّعوَى: مَنْ سلَف مِنَ الأُمَمِ الماضيةِ [1023] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/222)، ((تفسير القرطبي)) (15/266)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 37)، ((تفسير ابن كثير)) (7/105)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/530). قال الرازي: (والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هم قارونُ وقومُه، حيثُ قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ [القصص: 78] ، وقومُه راضونَ به، فكأنَّهم قالوها. ويجوزُ أيضًا أنْ يكونَ في الأُمَمِ الخاليةِ قائِلونَ مِثْلَها). ((تفسير الرازي)) (26/459). وقال ابن جرير: (يقولُ تعالَى ذِكْرُه: قد قال هذه المَقالةَ -يعني قولَهم لنعمةِ اللهِ الَّتي خَوَّلهم وهم مشركونَ: أُوتِيناه على عِلْمٍ عِندَنا- الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: الَّذينَ مِن قَبلِ مشركي قُريشٍ مِن الأُمَمِ الخالِيةِ لِرُسُلِها؛ تكذيبًا منهم لهم، واستِهزاءً بهم). ((تفسير ابن جرير)) (20/222). .
كما قال تعالى حاكيًا عن قارونَ: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص: 78] .
وقال سُبحانَه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: 34، 35].
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.
أي: فما دفَع عنهم ما كَسَبوه شَيئًا مِن العَذابِ لَمَّا جاءَهم [1024] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/222)، ((تفسير القرطبي)) (15/266)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 37)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/37). قيل: المرادُ بقولِه: مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ: الشِّركُ والكفرُ. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، ومكِّي، والواحدي، والبغوي، والخازن. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/222)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6353)، ((الوسيط)) للواحدي (3/586)، ((تفسير البغوي)) (4/93)، ((تفسير الخازن)) (4/60). وقيل: المرادُ: ما كانوا يَكْسِبونَ مِن أموالٍ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: السمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنين، والثعالبي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/190)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/116)، ((تفسير الثعالبي)) (5/96)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/37). وقيل: ما كانوا يَكْسِبونَ مِن أموالٍ وأولادٍ. وممَّن قال بهذا المعنى: القرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/266). وقيل: ما كانوا يَكْسِبونَ مِن المالِ والجاهِ. وممَّن قال بهذا المعنى: البِقاعي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/531)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 358). وقيل: المرادُ: ما كانوا يَكْسِبونَ مِن مَتاعِ الدُّنيا. وممَّن اختاره: البيضاويُّ، والنسفي، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/45)، ((تفسير النسفي)) (3/187)، ((تفسير أبي السعود)) (7/259). .
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51).
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا.
أي: فأصابَهم جزاءُ سَيِّئاتِ أعمالِهم، وحلَّ عليهم وَبالُ ما كَسَبوه [1025] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/222، 223)، ((تفسير القرطبي)) (15/267)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/37). قال البِقاعي: (تسبَّب عن عدَمِ الإغناءِ أنَّه أصابَهم سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا، أي: وَبالُ ذلك، وما يَسوءُ مِن آثارِه). ((نظم الدرر)) (16/531). .
كما قال تعالى عن قارونَ: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ [القصص: 81].
وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا.
أي: والَّذين ظَلَموا مِن كُفَّارِ قُرَيشٍ سيُصيبُهم أيضًا وَبالُ ما كَسَبوه [1026] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/223)، ((تفسير ابن كثير)) (7/105)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/531)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/38). .
وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ.
أي: ولن يُعجِزوا اللهَ فيَغلِبوه أو يَفُوتُوه ويَسبِقُوه بالهَربِ في الأرضِ؛ فلا يَقدِرَ على عِقابِهم [1027] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/223)، ((تفسير السمعاني)) (4/474)، ((تفسير القرطبي)) (15/267)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/38)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 360). !
ثمَّ أقام سبحانَه الدَّليلَ على عظيمِ قدرتِه، وبديعِ حكمتِه، فقال [1028] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (24/20). :
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52).
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ.
أي: أوَلَم يَعلَمْ أولئك الَّذين يَزعُمونَ أنَّهم أُوتُوا النِّعَمَ على عِلمٍ: أنَّ اللهَ يُوَسِّعُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِه، ويُضَيِّقُه على مَن يَشاءُ منهم [1029] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/223، 224)، ((تفسير ابن كثير)) (7/105)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/532)، ((تفسير السعدي)) (ص: 727). ؟
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
أي: إنَّ في توسيعِ اللهِ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ، وتَضييقِه على مَن يَشاءُ: لَدَلالاتٍ وعَلاماتٍ للمُؤمِنينَ، فيَستَدِلُّونَ بها على وَحدانيَّةِ اللهِ تعالى، وعلى حِكمتِه ورَحمتِه، وتفَرُّدِه بالتَّصَرُّفِ في أرزاقِ عِبادِه، وغيرِ ذلك [1030] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/224)، ((تفسير ابن كثير)) (7/105)، ((تفسير السعدي)) (ص: 727)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/39)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 363). .

الفوائد التربوية:

في قَولِه تعالى: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أنَّه يجبُ على الإنسانِ اللُّجوءُ إلى اللهِ تعالى؛ حيثُ إنَّ جميعَ ما كَسَبه مِن مالٍ أو جاهٍ، أو ولدٍ أو زوجةٍ، أو غيرِه: لا يُغْني عنه مِن اللهِ تعالى شَيئًا، فلا يُرجَعُ إلَّا إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ [1031] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 358). . وذلك على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ.

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا أنَّ المشركين في زمانِنا الَّذين يَدْعُون مع اللهِ تعالى غيرَه أشَدُّ شِرْكًا مِن السَّابِقينَ؛ لأنَّ السَّابِقينَ إنَّما كانوا يُشرِكون في الرَّخاءِ، وإذا مَسَّهم الضُّرُّ لَجَؤُوا إلى اللهِ تعالى، أمَّا اللَّاحِقون فإنَّهم يُشرِكون في حالِ الشِّدَّةِ كما يُشرِكون في حالِ الرَّخاءِ إذا أصابَهم الضُّرُّ؛ فيُنادُون: يا فُلانُ! يا فلانُ! يا فلانُ! فهذا أشدُّ شِرْكًا مِن الأوَّلِينَ، وهذا أيضًا مخالِفٌ للفِطرةِ الَّتي فُطِرَ النَّاسُ عليها؛ لأنَّ الإنسانَ لا يَلْجَأُ عندَ الشدائدِ إلَّا بمَن يُؤمِنُ أنَّه يَكْشِفُ هذه الشدائدَ [1032] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 354). .
2- قَولُه تعالى: بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ فيه أنَّ اللهَ تعالى يَبتَلي بالنِّعَمِ كما يَبتَلي بالنِّقَمِ؛ وقد قال سُلَيمانُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل: 40] [1033] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 354). ، وأكثرُ النَّاسِ غافِلونَ عن هذه المسألةِ؛ أي: عن كَونِ اللهِ سُبحانَه وتعالى يَبْتَلِيهم بالنِّعَمِ، فيَظُنُّون أنَّ النِّعَمَ دليلٌ على الرِّضا، فيَستمِرُّونَ في معاصيهم، وقد يكونُ هذا مِن بابِ الاستِدراجِ بالنِّعَم حتَّى يَهْلِكَ الإنسانُ، وقد قال اللهُ تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران: 178] ، وصحَّ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنَّ اللهَ لَيُمْلِي للظَّالِمِ حتَّى إذا أخَذَه لم يُفْلِتْهُ )) [1034] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 354). والحديث أخرجه البخاري (4686) واللَّفظُ له، ومسلم (2583) من حديث أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه. .
3- قولُه تعالى: مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فيه أنَّ عَمَلَ الإنسانِ كَسْبٌ له، وفيه ردٌّ على الجبريةِ الذين يقولونَ: إنَّ الإنسانَ مُجْبَرٌ على عملِه؛ فليس كسبًا له؛ ولا يُضافُ إليه [1035] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 358). !
4- في قَولِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أنَّ الإيمانَ وسيلةٌ للاهتِداءِ ومعرفةِ الآياتِ، وإذا كان هذا الحُكْمُ مُعَلَّقًا على هذا الوصفِ؛ فإنَّ القاعدةَ: أنَّ ما عُلِّقَ على وَصْفٍ فإنَّه يَقوى بقوَّتِه، ويَضْعُفُ بضَعْفِه، فكُلَّما قَوِيَ الإيمانُ ظَهَرَ للإنسانِ مِن آياتِ اللهِ تعالى ما لم يَظْهَرْ له مع ضَعفِ الإيمانِ، وكلَّما ضَعُفَ الإيمانُ ضَعُفَتْ معرفةُ الإنسانِ وإدراكُه للآياتِ الَّتي يُنْزِلُها اللهُ عزَّ وجلَّ مِن الوَحيِ؛ والَّتي يُقَدِّرُها مِن القضاءِ [1036] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 364، 365). .
5- قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خُصَّ المؤمِنُ بالذِّكرِ؛ لأنَّه هو الَّذي يَتدَبَّرُ الآياتِ ويَنتفِعُ بها، ويَعلَمُ أنَّ سَعةَ الرِّزقِ قد تكونُ مَكرًا واستِدراجًا، وتَقتيرَه رِفْعةً وإعظامًا [1037] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/267). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ عُطِفَتْ هذه الآيةُ بالفاءِ هاهنا، وعُطِفَ مِثلُها في أوَّلِ السُّورةِ بالواوِ، وفي ذلك وَجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّ الفاءَ لِتَفريعِ هذا الكلامِ على قولِه: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ [الزمر: 45] الآيةَ، وما بيْنَهما اعتِراضٌ مُسلسَلٌ بعضُه مع بعضٍ للمُناسَباتِ. وتَفريعُ ما بعْدَ الفاءِ تَفريعُ وَصْفِ بعْضٍ مِن غرائبِ أحوالِهم على بعْضٍ، وهل أغرَبُ مِن فَزَعِهم إلى اللهِ وَحْدَه بالدُّعاءِ إذا مَسَّهمُ الضُّرُّ وقد كانوا يَشمَئِزُّونَ مِن ذِكرِ اسمِه وَحْدَه؟! فهذا تَناقُضٌ مِن أفعالِهم وتَعكيسٌ؛ فإنَّه تَسَبُّبُ حَديثٍ على حَديثٍ، وليس تَسَبُّبًا على الوُجودِ. وهذه النُّكتةُ هي الفارِقةُ بيْن العَطفِ بالفاءِ هنا وعَطفِ نَظيرِها بالواوِ في قَولِه أوَّلَ السُّورةِ: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ [الزمر: 8] ؛ فإنَّها لم تَقَعْ مُسَبَّبةً، بل ناسَبَتْ ما قَبْلَها، فعُطِفتْ عليه بالواوِ.
الوجهُ الثَّاني: أنَّ الَّذي يَظهَرُ في الرَّبطِ: أنَّه لَمَّا قال سُبحانَه: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا [الزمر: 47] الآيةَ، كان ذلك إشعارًا بما يَنالُ الظَّالِمينَ مِن شِدَّةِ العَذابِ، وأنَّه يَظهَرُ لهم يَومَ القِيامةِ مِنَ العَذابِ ما لم يَكُنْ في حِسابِهم؛ أتْبَعَ ذلك بما يدُلُّ على ظُلمِ الإنسانِ وبَغْيِه؛ إذْ كان إذا مَسَّه ضُرٌّ دعا رَبَّه، فإذا أحسَنَ إليه لم يَنسِبْ ذلك إليه [1038] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/134)، ((تفسير الرازي)) (26/458)، ((تفسير البيضاوي)) (5/45)، ((تفسير أبي حيان)) (9/210)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/433)، ((تفسير أبي السعود)) (7/258)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/34، 35)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/430). !
- والمقصودُ بالتَّفريعِ هو قولُه: فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا، وأمَّا ما بعْدَه فتَتميمٌ واستطرادٌ [1039] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/35). .
- تَقدَّمَ نَظيرُ صَدْرِ هذه الآيةِ في قولِه: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ [الزمر: 8] الآيةَ، والمرادُ بالإنسانِ كلُّ مُشرِكٍ -على قولٍ-؛ فالتَّعريفُ تَعريفُ الجِنسِ، والمُرادُ جَماعةٌ مِنَ الناسِ، وهم أهلُ الشِّركِ؛ فهو لِلاستِغراقِ العُرفيِّ، والمُخالَفةُ بَيْنَ الآيَتَينِ تَفَنُّنٌ، ولِئَلَّا تَخلُوَ إعادةُ الآيةِ مِن فائِدةٍ زائِدةٍ كما هو عادةُ القرآنِ في القصصِ المكرَّرةِ [1040] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/35). .
- وتَخصيصُ ذِكرِ الإنسانِ مِن إقامةِ المُظهَرِ مَوضِعَ المُضمَرِ؛ لِلتَّلويحِ إلى قَولِه: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [1041] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/405). [عبس: 17] .
- وتَذكيرُ ضَميرِ الغائِبِ في قَولِه: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ وإنْ كان عائِدًا إلى نِعْمَةً؛ لِأنَّ مَعناها مُذَكَّرٌ، وهو الإنعامُ والإحسانُ أو المالُ، أو المَعنى: شَيئًا مِنَ النِّعمةِ، أو لِأنَّها تَشتَمِلُ على مُذَكَّرٍ ومُؤَنَّثٍ، فغُلِّبَ المُذَكَّرُ، أو على تَأويلِ حِكايةِ مَقالَتِهم بأنَّها صادِرةٌ منهم في حالِ حُضورِ ما بيْنَ أيديهم مِن أنواعِ النِّعَمِ، فهو مِن عَودِ الضَّميرِ إلى ذاتٍ مُشاهَدةٍ، فالضَّميرُ بمَنزِلةِ اسمِ الإشارةِ، كقَولِه: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف: 24] [1042] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/210)، ((تفسير أبي السعود)) (7/258)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/35)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/430). . وقيل غيرُ ذلك [1043] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/530). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ خُولِفَ بيْنَ هذه الآيةِ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ وبيْنَ آيةِ سُورةِ (القَصَصِ) في قَولِه: عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص: 78] ، فلم يَذكُرْ هنا عِنْدِي؛ لِأنَّ المُرادَ بالعِلمِ هنا مُجرَّدُ الفِطنةِ والتَّدبيرِ -على قول في التفسيرِ-، وأُريدَ هنالك عِلْمٌ خاصٌّ به، قيل: هو الَّذي اكتَسب قارونُ بسببِ معرفتِه به مالًا عظيمًا، وأمَّا ما هنا فهو العِلْمُ الَّذي يُوجَدُ في جَميعِ أهلِ الرَّأيِ والتَّدبيرِ، والمَعنى: أنَّه يَقولُ ذلك إذا ذَكَّرَه بنِعمةِ اللهِ عليه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أو أحَدُ المُؤمِنينَ، وبذلك يَظهَرُ مَوقِعُ صيغةِ الحَصرِ؛ لِأنَّه قَصَدَ قَلْبَ كَلامِ مَن يَقولُ له: إنَّ ذلك مِن رَحمةِ اللهِ به [1044] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/35، 36). .
- قولُه: بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ حَرفُ (بَلْ) لِلإضرابِ الإبطاليِّ، إضرابٌ عن دَعْواه أنَّه إنَّما أُوتيَ على عِلْمٍ، بل تلك النِّعمةُ فِتنةٌ -على قولٍ-، أيْ: مِحنةٌ وابتِلاءٌ له أيَشكُرُ أمْ يَكفُرُ، وهو رَدٌّ لِمَا قالَه، وتَغييرُ السَّبكِ؛ لِلمُبالَغةِ فيهِ، والإيذانِ بأنَّ ذلك ليس مِن بابِ الإيتاءِ المُنبِئِ عنِ الكَرامةِ، وإنَّما هو أمْرٌ مُبايِنٌ له بالكُلِّيَّةِ [1045] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/134)، ((تفسير أبي حيان)) (9/210)، ((تفسير أبي السعود)) (7/258)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/36). .
2- قولُه تعالَى: قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
- جُملةُ قَدْ قَالَهَا ... مُبيِّنةٌ لِمَضمونِ هِيَ فِتْنَةٌ [الزمر: 49] ؛ لأنَّ بَيانَ مَغَبَّةِ الَّذين قالوا هذا القولَ في شأْنِ النِّعمةِ الَّتي تَنالُهم، يُبيِّنُ أنَّ نِعمةَ هؤلاء كانتْ فِتنةً لهم [1046] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/37). .
- والفاءُ في قَولِه: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ لِتَفريعِ عَدَمِ إغناءِ ما كَسَبوه على مَقالَتِهم تلك؛ فإنَّ عَدَمَ الإغناءِ مُشعِرٌ بأنَّهم حَلَّ بهم مِنَ السُّوءِ ما شَأنُ مِثلِه أنْ يَتطَلَّبَ صاحِبُه الافتِداءَ منه، فإذا كان ذلك السُّوءُ عَظيمًا لم يَكُنْ له فِداءٌ؛ ففي الكَلامِ إيجازُ حَذفٍ يُبَيِّنُه قَولُه بَعْدَه: فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا [الزمر: 51] ، فالفاءُ فيها مُفرَّعةٌ على جُملةِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ، أيْ: تَسَبَّبَ على انتِفاءِ إغناءِ الكَسبِ عنهم حُلولُ العِقابِ بهم، وكان مُقتَضى الظَّاهِرِ في تَرتيبِ الجُمَلِ أنْ تَكونَ جُملةُ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا [الزمر: 51] مُقَدَّمةً على جُملةِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ؛ لأنَّ الإغناءَ إنَّما يُتَرقَّبُ عِندَ حُلولِ الضَّيرِ بهم، فإذا تَقرَّرَ عَدَمُ الإغناءِ يُذكَرُ بَعْدَه حُلولُ المُصيبةِ، فعُكِسَ التَّرتيبُ على خِلافِ مُقتَضى الظَّاهِرِ؛ لِقَصدِ التَّعجيلِ بإبطالِ مَقالةِ قائِلِهم إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ [الزمر: 49] ، أيْ: لو كان لِعِلْمِهم أثَرٌ في جَلبِ النِّعمةِ لهم لَكانَ له أثَرٌ في دَفعِ الضُّرِّ عنهم [1047] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/37، 38). .
3- قولُه تعالَى: فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ
- قولُه: فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا أيْ: جَزاءُ سَيِّئاتِ أعمالِهم، أو جَزاءُ أعمالِهم، وسَمَّاه سَيِّئةً؛ لِأنَّه في مُقابَلةِ أعمالِهمُ السَّيِّئةِ؛ رَمْزًا إلى أنَّ جَميعَ أعمالِهم كذلك [1048] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/45)، ((تفسير أبي السعود)) (7/259). .
4- قولُه تعالَى: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ عطْفٌ على جُملةِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 49] ؛ فبَعْدَ أنْ وصَفَ أكثرَهم بانتفاءِ العِلمِ بأنَّ الرَّحمةَ لهم فِتنةٌ وابتلاءٌ، عطَفَ عليه إنكارَ انتفاءِ عِلمِهم بذلك، وإهمالَهم النَّظرَ في الأدلَّةِ المفيدةِ للعِلمِ، وصَمَّهم آذانَهم عن الآياتِ الَّتي تُذكِّرُهم بذلك، حتَّى بَقُوا في جَهالةٍ مُركَّبةٍ، وكان الشَّأنُ أنْ يَعلَموا أنَّ اللهَ يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشاءُ ويَقدِرُ، أي: يُعطي الخيرَ مَن يَشاءُ، ويمنعُ مَن يَشاءُ [1049] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/38). .
- والاستِفهامُ في قَولِه: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ لِلإنكارِ على المُشرِكينَ في انتِفاءِ عِلْمِهم بذلك؛ لأنَّهم تَسبَّبوا في انتِفاءِ العِلمِ، فالإنكارُ عليهم يَتضَمَّنُ تَوبيخًا. واقتُصِرَ في الإنكارِ على إنكارِ انتِفاءِ العِلمِ بأنَّ بَسْطَ الرِّزقِ وقَدْرَه مِن فِعلِ اللهِ تعالى؛ لِأنَّه أدْنى لمُشاهَدَتِهم أحوالَ قَومِهم، فكمْ مِن كادٍّ غيرُ مَرزوقٍ، وكم مِن آخَرَ يَجيئُه الرِّزقُ مِن حيث لا يَحتَسِبُ [1050] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/38، 39)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/432). !
- وفي قَولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ جُعِل في ذلك آياتٌ كثيرةٌ؛ لِأنَّ اختِلافَ أحوالِ الرِّزقِ الدَّالَّةِ على أنَّ التَّصرُّفَ بيَدِ اللهِ تعالى يُنبِئُ عن بَقيَّةِ الأحوالِ، فتَحصُلُ في ذلك آياتٌ كثيرةٌ دالَّةٌ على انفِرادِ اللهِ تعالى بالتَّصرُّفِ في نفْسِ الأمرِ [1051] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/39). .
- قولُه: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ جُعِلتِ الآياتُ لِقَومٍ يُؤمِنونَ وخُصُّوا بالذِّكرِ؛ لِأنَّ المُؤمِنينَ قد عَلِموا ذلك وتَخَلَّقوا به، ولم تَكُنْ فيه آياتٌ لِلمُشرِكينَ الغافِلينَ عنه [1052] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/39). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ، وقال في سُورةِ (الرُّومِ): أَوَلَمْ يَرَوْا [الروم: 37]؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّه في (الزُّمَرِ) اتَّصَل بقولِه: أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ، وبعْدَه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ؛ فحَسُنَ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا. وأمَّا في سُورةِ (الرُّومِ)؛ فلأنَّ بَسْطَ الرِّزقِ هو ممَّا يُشاهَدُ ويُرى؛ فجاء في تلك السُّورةِ على ما يَقْتضيهِ اللَّفظُ والمعنى، مع فصاحةِ التَّفنُّنِ [1053] يُنظر: ((كشف المعاني في المتشابه من المثاني)) لابن جماعة (ص: 294، 295)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/369). .