موسوعة التفسير

سورةُ الحَشْرِ
الآيات (5-7)

ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ

غريب الكلمات:

لِينَةٍ: اللِّينةُ: النَّخلةُ ما لم تكُنْ عَجوةً أو بَرْنيَّةً [91] البَرْنِيُّ: نَوعٌ مِن أَجْوَدِ التَّمْرِ. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (1/45). . وقيل: هي النَّخلةُ مِن غَيرِ استثناءٍ. وقيل غيرُ ذلك [92] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 459)، ((تفسير ابن جرير)) (22/507)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 407)، ((البسيط)) للواحدي (21/369)، ((تفسير القرطبي)) (18/10). .
وَلِيُخْزِيَ: أي: ولِيُذِلَّ، والخِزيُ: أن يَلحَقَ الرَّجُلَ انكسارٌ مِن غيرِه، وهو ضربٌ مِن الاستِخفافِ، وأصل (خزو) هنا: يدُلُّ على الإبعادِ [93] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/512)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/179)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7387)، ((المفردات)) للراغب (ص: 281). .
أَفَاءَ: أي: رجَعَه ورَدَّه مِن الكُفَّارِ. والفَيءُ هو: ما ناله المُسلِمونَ مِن العَدُوِّ بغيرِ قِتالٍ، وأصلُ (فيأ): يدُلُّ على الرُّجوعِ [94] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/512)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/435)، ((المفردات)) للراغب (ص: 650). .
أَوْجَفْتُمْ: أي: أسرَعْتُم، والإيجافُ: الإسراعُ في السَّيرِ، وقد أوجَفَ دابَّتَه يُوجِفُها إيجافًا: إذا حَثَّها على السُّرعةِ [95] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/512)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 83)، ((المفردات)) للراغب (ص: 857)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 396). .
ركَابٍ: أي: إِبِلٍ، واحِدتُها راحِلةٌ، ولا واحِدَ لها مِن لَفظِها، وأصلُ (ركب): يدُلُّ على عُلُوِّ شَيءٍ شَيئًا [96] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/512)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 249)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/432)، ((البسيط)) للواحدي (21/373)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 412). .
وَابْنِ السَّبِيلِ: أي: المُنقَطِعِ بالطَّريقِ يُريد بلدًا آخَرَ، والسَّبيلُ: الطَّريقُ، وسُمِّيَ الطَّريقُ بذلك؛ لامتِدادِه، وأصلُ (سبل): يدُلُّ على امتِدادِ شَيءٍ [97] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 173)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/129)، ((المفردات)) للراغب (ص: 395)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 26). .
دُولَةً: الدُّولَةُ: اسمٌ للشَّيءِ الَّذي يَتداوَلُه القَومُ بَيْنَهم، وأصلُ (دول): يدُلُّ على تحَوُّلِ شَيءٍ مِن مكانٍ إلى مكانٍ [98] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 460)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 225)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/314)، ((تفسير البغوي)) (8/74)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 412). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مطمئِنًا المؤمنينَ الَّذين شاركوا في إجلاءِ بَني النَّضيرِ وقطْعِ نخيلِهم: ما قطَعْتُم -أيُّها المُسلِمونَ- مِن نخلةٍ في حِصارِكم لبَني النَّضيرِ، أو ترَكْتُموها قائِمةً على جُذوعِها: فإنَّما هو بإذنِ اللهِ تعالى؛ فلا لَومَ عليكم فيما قطَعْتُم أو ترَكْتُم، ولِيُذِلَّ اللهُ الخارِجينَ عن طاعتِه.
 ثمَّ يذكرُ الله تعالى مَن انتقَلَت إليه أموالُهم وأمتعتُهم، فيقولُ: وما ردَّه اللهُ على رَسولِه مِن أموالِ يَهودِ بَني النَّضيرِ، فما أسرَعتُم -أيُّها المسلِمونَ- مِن أجْلِه خَيلًا ولا إبِلًا؛ إذ كانوا قريبينَ مِنكم، ولكِنَّ اللهَ سَلَّط رَسولَه عليهم، واللهُ على كلِّ شَيءٍ قَديرٌ.
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه حُكمَ الفَيءِ الَّذي أفاءَه على المسلمينَ، فيقولُ: ما ردَّه اللهُ على رَسولِه مِن أموالِ مُشرِكي القُرى كبَني النَّضيرِ وغَيرِهم بلا قِتالٍ؛ فهو للهِ يَحكُمُ فيه بما يَشاءُ، ولِرَسولِه، ولقَرابةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولليتامى، ولأهلِ الحاجةِ، وللغَريبِ المسافِرِ المُحتاجِ للمالِ؛ كي لا يكونَ مالُ الفَيءِ للأغنياءِ يَتداوَلونَه بيْنَهم دونَ الفُقَراءِ.
وما آتاكم رَسولُ اللهِ فخُذوه، وما نهاكم عنه فانتَهوا، وخافُوا اللهَ، واحذَروا سَخَطَه بفِعلِ ما أمَرَكم به، وتَركِ ما نهاكم عنه، إنَّ اللهَ شديدُ العِقابِ.

تفسير الآيات:

مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5).
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا دَلَّ اللهُ سُبحانَه على عِزَّتِه وحِكمتِه بما فَعَل ببَني النَّضيرِ الَّذين يقولونَ: إنَّهم أشجَعُ النَّاسِ، وأشَدُّهم شَكيمةً، بما لهم مِن الأصالةِ والاصطفاءِ على العالَمينَ، مع التَّأييدِ بالكِتابِ والحِكمةِ، وخَتَم بأنَّ مَن شاقَّ رَسولَه فقد شاقَّه، ومَن شاقَّه فقد شدَّدَ عِقابَه- أتْبَعَه ببيانِ ما عاقَبَهم به مِن قَطعِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم بأمرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِنَخْلِهم الَّذي هو أعزُّ عليهم مِن أبكارِهم، وهم يَنظُرونَ إليه، لا يُغنُونَ شَيئًا، ولا مَنعةَ لَدَيهم [99] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/415). .
سَبَبُ النُّزولِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((حرَّق رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَخلَ بني النَّضيرِ وقَطَعَ، وهي البُوَيرةُ، فنزلت: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ)) [100] رواه البخاري (4031)، ومسلم (1746). .
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ.
أي: ما قطَعْتُم مِن نخلةٍ -أيُّها المُسلِمونَ- في حِصارِكم لبَني النَّضيرِ، أو ترَكْتُم قَطْعَها، فبَقِيَت قائِمةً على جُذوعِها: إنَّما هو بإذْنِ اللهِ تعالى، فلا لَومَ عليكم فيما قطَعْتُم أو ترَكْتُم [101] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/506، 512)، ((تفسير القرطبي)) (18/6)، ((تفسير ابن كثير)) (8/61)، ((تفسير السعدي)) (ص: 850). قيل: اللِّينةُ تُطلَقُ على جميعِ أنواعِ النَّخلِ ما عدا العَجوةَ والبَرْنيَّ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: أبو عُبَيْدةَ، وابنُ قُتَيْبةَ، والواحديُّ، ونسَبَه ابنُ عاشور إلى جمهورِ أهلِ المدينةِ، وأئمَّةِ اللُّغةِ. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عُبيدة (2/256)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 459)، ((الوسيط)) للواحدي (4/271)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/76، 77). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الزُّهْريُّ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/271). وقيل: اللِّينةُ تُطلَقُ على جميعِ أنواعِ النَّخلِ ما عدا العَجْوةَ. وممَّن اختار هذا القولَ: ابنُ جرير، وابنُ العربي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/507، 508)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/210). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وعِكْرِمةُ، وقَتادةُ، ويَزيدُ بنُ رُومانَ، والزُّهْريُّ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/507)، ((تفسير الثعلبي)) (9/270). وقيل: اللِّينةُ اسمٌ للنَّخلةِ مِن غيرِ أن تختَصَّ بنَوعٍ دونَ آخَرَ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: الخليلُ بنُ أحمدَ الفَراهِيديُّ، والرَّاغبُ -وزاد الراغِبُ أنَّها النَّخلةُ النَّاعِمةُ-، والسعديُّ، ونَسَب الشربيني هذا القَولَ إلى أكثرِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((العين)) للخليل (8/332)، ((المفردات)) للراغب (ص: 752)، ((تفسير الشربيني)) (4/241)، ((تفسير السعدي)) (ص: 850). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهِدٌ، وعَمرُو بنُ مَيمونٍ، وعطيَّةُ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/508)، ((تفسير الثعلبي)) (9/271). وقيل في اللِّينةِ غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/256). ذكر ابنُ القيِّمِ أنَّ الإذْنَ في هذه الآيةِ إذْنٌ دينيٌّ، فمعنى قولِه: فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي: بأمْرِه ورِضاه. يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 282). وقال السعدي: (أخبَر تعالى أنَّ قطْعَ النَّخيلِ إن قطَعوه، أو إبقاءَهم إيَّاه إن أبقَوْه؛ أنَّه بإذْنِه تعالى، وأمْرِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 850). وقال ابن عثيمين: (يعني: أنَّ اللهَ هو الَّذي أذِنَ لنا، وإذا أذِن اللهُ بشَيءٍ صار حلالًا، حتَّى وإن كان جِنسُه حرامًا فإنَّه يكونُ حلالًا). ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (5/474). .
وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ.
أي: ولِيُذِلَّ اللهُ ويُهِينَ الخارِجينَ عن طاعتِه، المخالِفينَ لأمْرِه ونَهْيِه مِن يهودِ بني النَّضيرِ، بما يَصنَعُه المُسلِمونَ في نَخْلِهم، وهم عاجِزونَ عن رَدِّهم واستِنقاذِه منهم [102] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/512)، ((تفسير القرطبي)) (18/10)، ((تفسير ابن كثير)) (8/61)، ((تفسير السعدي)) (ص: 850)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/78). .
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها شُروعٌ في بَيانِ حالِ ما أُخِذَ مِن أموالِ بَني النَّضيرِ، بعْدَ بَيانِ ما حلَّ بأنفُسِهِم مِن العذابِ العاجِلِ والآجِلِ، وما فُعِلَ بدِيارِهِم ونَخيلِهم مِن التَّخريبِ والقطْعِ [103] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/227)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/37، 38). .
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ.
أي: والَّذي ردَّه اللهُ على رَسولِه مِن أموالِ يَهودِ بَني النَّضيرِ، فما حرَّكتُم وأسرَعتُم -أيُّها المسلِمونَ- مِن أجْلِه خَيلًا ولا إبِلًا، ولا قَطَعْتُم مِن أجْلِه مَسافةً؛ إذ كانوا قريبينَ مِنكم، فلم يَحصُلْ لكم كبيرُ مَشَقَّةٍ في أخْذِ أموالِهم [104] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/512، 513)، ((تفسير القرطبي)) (18/10، 11)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/562)، ((تفسير ابن كثير)) (8/65)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/420، 421)، ((تفسير السعدي)) (ص: 850)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/78، 79). قال السعدي: (تعريفُ الفَيءِ في اصطِلاحِ الفُقَهاءِ: هو ما أُخِذَ مِن مالِ الكُفَّارِ بحَقٍّ مِن غيرِ قِتالٍ، كهذا المالِ الَّذي فَرُّوا وترَكوه خَوفًا مِن المسلمينَ، وسُمِّيَ فَيئًا؛ لأنَّه رَجَع مِن الكُفَّارِ الَّذين هم غيرُ مُستحِقِّينَ له، إلى المسلمينَ الَّذين لهم الحَقُّ الأوفَرُ فيه). ((تفسير السعدي)) (ص: 850). ويُنظر: ((الإقناع)) لابن المنذر (2/501)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/563). وقال ابنُ عاشور: (قال أبو بكرِ ابنُ العربيِّ: لا خِلافَ بيْن العُلَماءِ أنَّ الآيةَ الأُولى خاصَّةٌ لِرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. أي: هذه الآيةُ الأُولى مِن الآيتَينِ المذكورتَينِ في هذه السُّورةِ خاصَّةٌ بأموالِ بَني النَّضيرِ، وعلى أنَّها خاصَّةٌ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَضَعُها حيث يَشاءُ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/80). ويُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/213). وقال ابنُ كثير: (كلُّ مالٍ أُخِذَ مِن الكُفَّارِ بغيرِ قِتالٍ ولا إيجافِ خَيلٍ ولا رِكابٍ، كأموالِ بَني النَّضيرِ هذه، فإنَّها مِمَّا لم يُوجِفِ المسلمونَ عليه بخَيلٍ ولا رِكابٍ، أي: لم يُقاتِلوا الأعداءَ فيها بالمبارَزةِ والمُصاوَلةِ، بل نَزَل أولئك مِن الرُّعبِ الَّذي ألقى اللهُ في قُلوبِهم مِن هَيبةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأفاءه اللهُ على رَسولِه؛ ولهذا تصَرَّف فيه كما شاء، فرَدَّه على المسلمينَ في وُجوهِ البِرِّ والمصالحِ الَّتي ذكَرَها الله عزَّ وجلَّ في هذه الآياتِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/65). وقال ابنُ عاشور: (المعنى: فما هو مِن حَقِّكم، أو لا تَسألوا قِسْمَتَه؛ لأنَّكم لم تَنالوه بقِتالِكم، ولكِنَّ اللهَ أعطاه رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نِعمةً منه بلا مشَقَّةٍ ولا نَصَبٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/79). .
وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ.
أي: إنَّ ما خَوَّلَه اللهُ لرَسولِه مِن أموالِ بَني النَّضيرِ شَيءٌ لم تَحصُلوا عليه بالقِتالِ والغَلَبةِ، ولكِنْ سَلَّط اللهُ رَسولَه عليهم وعلى ما في أيديهم، كما كان يُسَلِّطُ رُسُلَه على أعدائِهم؛ فالرَّسولُ أحَقُّ به، والأمرُ فيه مُفَوَّضٌ إليه [105] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/515)، ((الوسيط)) للواحدي (4/272)، ((تفسير الزمخشري)) (4/502)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/79، 80). قال البِقاعي: (يُسَلِّطُ رُسُلَهُ أي: له هذه السُّنَّةُ في كُلِّ زَمَنٍ عَلَى مَنْ يَشَاءُ بجَعلِ ما آتاهم سُبحانَه مِن الهَيبةِ رُعبًا في قُلوبِ أعدائِه). ((نظم الدرر)) (19/421). .
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: واللهُ ذو قُدرةٍ بالغةٍ تامَّةٍ على فِعلِ كُلِّ شَيءٍ، كما سَلَّط رَسولَه على يَهودِ بَني النَّضيرِ؛ فلا يُعجِزُه أحدٌ، ولا يمتَنِعُ عليه شَيءٌ [106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/515)، ((تفسير ابن كثير)) (8/65)، ((تفسير العليمي)) (7/10)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/79، 80)، ((تفسير السعدي)) (ص: 850). .
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا نَزَع اللهُ سُبحانَه أموالَهم مِن أيدي الجَيشِ؛ بيَّنَ مَصرِفَ غَيرِها مِمَّا كان مِثْلَها، بأنْ فَتَح له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بغَيرِ قِتالٍ، فقال مستأنِفًا جوابًا لِمَن كأنَّه قال: هل يَعُمُّ هذا الحُكمُ كُلَّ فَيءٍ يكونُ بعدَ بني النَّضيرِ [107] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/427). ؟
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ.
أي: الَّذي ردَّه اللهُ على رَسولِه مِن أموالِ مُشرِكي القُرى كبَني النَّضيرِ وغَيرِهم بلا قِتالٍ؛ فهو للهِ يَحكُمُ فيه بما يَشاءُ، ولِرَسولِه محمَّدٍ يَصرِفُه ويُقَسِّمُه [108] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/515)، ((البسيط)) للواحدي (21/376)، ((تفسير ابن كثير)) (8/65)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/427، 428)، ((تفسير السعدي)) (ص: 850). قولُه تعالَى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ... اشترَكَ معَ الآيةِ السَّابقةِ: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ في أنَّ كلَّ واحدَةٍ مِنهما تَضَمَّنتْ شيئًا أفاءَه اللَّهُ على رسولِه، واقْتَضَتْ الآيةُ السابقةُ أنَّه حاصِلٌ بغيرِ قِتالٍ؛ لقولِه: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وعريَتْ هذه الآيةُ: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ... عن ذِكْرِ حصولِه لقِتالٍ أو لغيرِ قِتالٍ؛ وقد قال تعالى في سورةِ الأنفالِ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ... [الأنفال: 41] ، فاقتضى أنَّه حاصِلٌ بقتالِ، فنشأَ الخلافُ في هذه الآيةِ مِنْ هاهُنا، فمِنْ طائِفَةٍ قالَتْ: هي مُلْحَقَةٌ بالآيةِ التي سبقتها -وهو مالُ الصُّلْحِ كُلُّه ونحوُه-، ومِنْ طائِفَةٍ قالَتْ: هي مُلْحَقَةٌ بآيةِ الأنفالِ، والَّذينَ قالوا: إنَّها مُلْحَقَةٌ بآيةِ الأنفالِ اختلَفوا: هل هي مَنْسوخَةٌ أو مُحْكَمةٌ؟ يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/214). قال ابن جُزَي: (الصَّحيحُ أنَّه لا تَعارُضَ بيْن هذه الآيةِ وبيْن آيةِ الأنفالِ؛ فإنَّ آيةَ الأنفالِ في حُكمِ الغنيمةِ الَّتي تؤخَذُ بالقتالِ وإيجافِ الخَيلِ والرِّكابِ، فهذا يُخرَجُ منه الخُمُسُ ويُقسَمُ باقيه على الغانِمينَ، وأمَّا هذه الآيةُ ففي حُكمِ الفَيءِ، وهو ما يؤخَذُ مِن أموالِ الكفَّارِ مِن غيرِ قتالٍ ولا إيجافِ خَيلٍ ولا رِكابٍ، وإذا كان كذلك فكلُّ واحدةٍ مِن الآيتَينِ في معنًى غيرِ معنَى الأخرى، ولها حُكمٌ غيرُ حُكمِ الأخرى، فلا تَعارُضَ بيْنَهما ولا نَسْخَ، وانظُرْ كيف ذُكِر هنا لفظُ الفَيءِ، وفي الأنفالِ لفظُ الغَنيمةِ، وقد تقرَّر في الفِقهِ الفرقُ بيْن الفَيءِ والغَنيمةِ، وأنَّ حُكْمَهما مُختلِفٌ. قال أبو محمَّدٍ، ابنُ الفَرَسِ: وهو قولُ الجمهورِ، وبه قال مالكٌ وجميعُ أصحابِه، وهو أظهرُ الأقوالِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/359). ويُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (3/89). وقال الشنقيطي: (بيَّن [الله تعالى] في سورةِ الحشرِ أنَّ ما أفاء الله على رسولِه مِن غيرِ إيجافِ المسلمينَ عليه الخيلَ والرِّكابَ، أنَّه لا يُخمَّسُ، ومصارفُه التي بيَّن أنَّه يُصرَفُ فيها كمصارفِ خُمسِ الغَنيمةِ...، وذلك في قولِه تعالى في فيءِ بني النَّضيرِ: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ الآية [6]، ثمَّ بيَّن شمولَ الحكمِ لكُلِّ ما أفاء الله على رسولِه مِن جميعِ القُرَى بقولِه: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ الآية [7]). ((أضواء البيان)) (2/54). وقال ابنُ تيميَّةَ: (جُمهورُ العُلَماءِ على أنَّ الفَيءَ لا يُخمَسُ، كقَولِ مالِكٍ وأبي حنيفةَ وأحمدَ، وهذا قَولُ السَّلَفِ قاطبةً... والصَّوابُ قَولُ الجمهورِ؛ فإنَّ السُّنَنَ الثَّابتةَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وخُلَفائِه تَقتَضي أنَّهم لم يَخْمُسوا فَيئًا قطُّ ...). ((منهاج السنة النبوية)) (6/ 107-111). ويُنظر: ((الإشراف على مذاهب العلماء)) لابن المنذر (4/81، 82، 168، 169)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (4/211-213)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/565)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/83). وقد اختلَف العلماءُ في تخميسِ الفَيءِ؛ فذهبَتِ الحنَفيَّةُ والمالكيَّةُ والشَّافعيُّ في القديمِ وأحمدُ في روايةٍ إلى أنَّ الفَيءَ لا يُخمَسُ، وإنَّما كلُّه لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومَن ذُكِروا معه. وذهب الشَّافِعيُّ في الجديدِ ومحمَّدٌ مِن الحنفيَّةِ وهو روايةٌ عن أحمدَ إلى أنَّ الفَيءَ يُخمسُ. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (32/230). .
عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (كانت أموالُ بَني النَّضيرِ مِمَّا أفاء اللهُ على رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مِمَّا لم يُوجِفِ المسلِمونَ عليه بخَيلٍ ولا رِكابٍ، فكانت لرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاصَّةً، وكان يُنفِقُ على أهلِه نَفَقةَ سَنَتِه، ثمَّ يَجعَلُ ما بَقِيَ في السِّلاحِ والكُراعِ [109] الكُراع: الخَيْل. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (3/1276). عُدَّةً في سَبيلِ اللهِ) [110] رواه البخاري (2904) واللفظ له، ومسلم (1757). .
وَلِذِي الْقُرْبَى.
أي: ولقَرابةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ممَّن تَحرُمُ عليهم الصَّدقةُ [111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/520)، ((تفسير ابن عطية)) (5/286)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/428)، ((تفسير السعدي)) (ص: 850). قال الزَّجَّاجُ: (وَلِذِي الْقُرْبَى يعني: ذَوي قَراباتِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ لأنَّهم قد مُنِعوا الصَّدقةَ، فَجُعِلَ لهم حقٌّ في الفَيءِ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/145). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بهم بَنو هاشمٍ وبَنو المُطَّلِبِ: النَّحَّاسُ، والثعلبي، والواحدي، والخازن، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/261)، ((تفسير الثعلبي)) (9/274)، ((البسيط)) للواحدي (21/376)، ((تفسير الخازن)) (4/269)، ((تفسير الشوكاني)) (5/236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 850). قال السعدي: (وإنَّما دخَل بَنو المُطَّلِبِ في خُمسِ الخُمسِ مع بَني هاشمٍ، ولم يَدخُلْ بقيَّةُ بَني عبدِ مَنافٍ؛ لأنَّهم شارَكوا بَني هاشمٍ في دُخولِهم الشِّعبَ، حينَ تعاقَدَتْ قُرَيشٌ على هَجرِهم وعداوتِهم، فنصَروا رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، بخِلافِ غيرِهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 850). قال الشنقيطي: في قوله تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال: 41] : (أمَّا ذَوو القُربى: فهم بنو هاشمٍ، وبنو المطَّلبِ على أظهرِ الأقوالِ دليلًا، وإليه ذهَب الشافعيُّ، وأحمدُ بنُ حنبلٍ، وأبو ثورٍ، ومجاهدٌ، وقتادةُ، وابنُ جُريجٍ، ومسلمُ بنُ خالدٍ... عن جُبيرِ بنِ مُطعِمٍ، قال: مشيتُ أنا وعثمانُ بنُ عفَّانَ إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقُلْنا: يا رسولَ الله أعطيْتَ بني المطَّلبِ وتركْتَنا، ونحن وهم منكَ بمنزلةٍ واحدةٍ، فقال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّما بنو المطَّلبِ، وبنو هاشمٍ شيءٌ واحدٌ»... فبهذا الذي بيَّنَّا يتَّضِحُ أنَّ الصَّحيحَ أنَّ المرادَ بذي القُربَى في الآيةِ: بنو هاشمٍ، وبنو المطَّلبِ دونَ بني عبدِ شمسٍ، وبني نوفلٍ. ووجهُه أنَّ بني عبدِ شمسٍ، وبني نوفلٍ عادَوا الهاشميينَ، وظاهَروا عليهم قريشًا، فصاروا كالأباعدِ منهم؛ للعداوةِ، وعدمِ النُّصرةِ... بهذا الحديثِ الصَّحيحِ الذي ذكَرنا: يتَّضِحُ عدمُ صحَّةِ قولِ مَن قال بأنَّهم بنو هاشمٍ فقط، وقولُ مَن قال: إنَّهم قريشٌ كلُّهم). ((أضواء البيان)) (2/61). .
وَالْيَتَامَى.
أي: ولليَتامى الَّذين مات آباؤُهم وهم دونَ سِنِّ البُلوغِ [112] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/520)، ((تفسير ابن كثير)) (4/65)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/428، 429)، ((تفسير السعدي)) (ص: 850). .
وَالْمَسَاكِينِ.
أي: ولأهلِ الحاجةِ والفاقةِ [113] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/520)، ((الوسيط)) للواحدي (2/461)، ((تفسير ابن كثير)) (4/65). .
وَابْنِ السَّبِيلِ.
أي: وللغَريبِ المسافِرِ المُنقَطِعِ، المُحتاجِ للمالِ في غيرِ مَعصيةِ اللهِ [114] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/520)، ((تفسير ابن كثير)) (4/65)، ((تفسير السعدي)) (ص: 850). .
كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ.
أي: أَمَرْنا بصَرفِ مالِ الفَيءِ في هذه الأصنافِ السَّابِقةِ؛ كي لا يكونَ مالُ الفَيءِ خاصًّا للأغنياءِ يَتداوَلونَه بيْنَهم دونَ الفُقَراءِ والضُّعَفاءِ [115] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/520)، ((تفسير القرطبي)) (18/16، 17)، ((تفسير السعدي)) (ص: 851)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/86). .
وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ.
أي: وما أعطاكم رَسولُ اللهِ مِن أموالِ الفَيءِ أو غيرِ ذلك، فخُذوه [116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/522)، ((تفسير القرطبي)) (18/17)، ((تفسير السعدي)) (ص: 851). .
وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا.
أي: وما نهاكم رَسولُ اللهِ عنه، كأخْذِ الغُلولِ وغيرِ ذلك، فانتَهوا عنه [117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/522)، ((تفسير ابن عطية)) (5/286)، ((تفسير القرطبي)) (18/17). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه كان يحَدِّثُ أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((ما نَهيتُكم عنه فاجتَنِبوه، وما أمَرتُكم به فافعَلوا منه ما استَطعتُم؛ فإنَّما أهلَكَ الَّذين مِن قَبْلِكم كَثرةُ مَسائِلِهم، واخِتلافُهم على أنبيائِهم )) [118] رواه البخاريُّ (7288)، ومسلمٌ (1337) واللَّفظُ له. .
وَاتَّقُوا اللَّهَ.
أي: وخافُوا اللهَ واحذَروا سَخَطَه وعَذابَه، بفِعلِ ما أمَرَكم به ورَسولُه، وتَركِ ما نهاكم عنه ورَسولُه [119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/522)، ((تفسير القرطبي)) (18/19)، ((تفسير ابن كثير)) (8/68). .
كما قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] .
إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
أي: إنَّ اللهَ شديدٌ عِقابُه لِمَن يَعصي اللهَ ورَسولَه، ويخالِفُ أمْرَهما ونَهْيَهما [120] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/522)، ((تفسير القرطبي)) (18/19)، ((تفسير ابن كثير)) (8/68). قال ابنُ عاشور: (المعنى: واتَّقوا عِقابَ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ شَديدُ العِقابِ، أي: لِمَن خالَفَ أمْرَه، واقتَحَم نَهْيَه). ((تفسير ابن عاشور)) (28/87). .

الفوائد التربوية:

قال اللهُ تعالى: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ أمَرَ اللهُ بالقاعِدةِ الكُلِّيَّةِ والأصلِ العامِّ، فقال: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وهذا شامِلٌ لأُصولِ الدِّينِ وفُروعِه؛ ظاهِرِه وباطِنِه، وأنَّ ما جاء به الرَّسولُ يتعَيَّنُ على العِبادِ الأخْذُ به واتِّباعُه، ولا تَحِلُّ مُخالَفتُه، وأنَّ نَصَّ الرَّسولِ على حُكمِ الشَّيءِ كنَصِّ اللهِ تعالى، لا رُخصةَ لأحدٍ، ولا عُذرَ له في تَرْكِه، ولا يجوزُ تقديمُ قَولِ أحَدٍ على قَولِه، ثمَّ أمَرَ بتَقْواه الَّتي بها عِمارةُ القُلوبِ والأرواحِ، والدُّنيا والآخِرةِ، وبها السَّعادةُ الدَّائِمةُ والفَوزُ العظيمُ، وبإضاعتِها الشَّقاءُ الأبَديُّ، والعذابُ السَّرْمَديُّ، فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ على مَن تَرَك التَّقوى، وآثَرَ اتِّباعَ الهوى [121] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 850). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ فيه سؤالٌ: لمَ خُصَّت اللِّينةُ بالقَطْعِ؟
الجوابُ: إن كانت مِنَ الألوانِ فلِيَستَبْقوا لأنفُسِهم العَجوةَ والبَرْنيَّةَ، وإن كانت من كِرامِ النَّخلِ فلِيَكونَ غَيظُ اليهودِ أشَدَّ وأشَقَّ [122] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/501). وقال ابنُ حجر: (قال السُّهَيلي: في تخصيصِها بالذِّكرِ إيماءٌ إلى أنَّ الَّذي يجوزُ قَطْعُه مِن شَجَرِ العَدُوِّ ما لا يكونُ مُعَدًّا للاقتياتِ؛ لأنَّهم كانوا يَقتاتونَ العَجْوةَ والبَرْنِيَّ دونَ اللِّينةِ). ((فتح الباري)) (7/333). ويُنظر: ((الروض الأُنُف)) للسهيلي (6/232). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ استَدَلَّ بعضُ الفقهاءِ بهذه الآيةِ على أنَّ كُلَّ مُجتَهِدٍ مُصيبٌ [123] يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/502)، ((تفسير ابن جزي)) (2/358). قال ابنُ العربي: (ورُوِيَ أنَّه كان بعضُ النَّاسِ يَقطَعُ، وبَعضُهم لا يَقطَعُ، فصَوَّبَ اللهُ الفريقَينِ، وخَلَّص الطَّائفتَينِ، فظَنَّ عندَ ذلك بعضُ النَّاسِ أنَّ كُلَّ مجتهدٍ مُصيبٌ يخرجُ من ذلك، وهذا باطِلٌ؛ لأنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان معهم، ولا اجتهادَ مع حُضورِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّما يدُلُّ على اجتهادِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما لم ينزِلْ عليه؛ أخذًا بعُمومِ الإذايةِ للكُفَّارِ، ودُخولًا في الإذنِ للكُلِّ بما يقضي عليهم بالاجتياحِ والبَوارِ، وذلك قَولُه: وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [الحشر: 5] ). ((أحكام القرآن)) (4/211). وقال الشوكاني -بعدَ أن ذكَرَ قولَه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذا حَكَمَ الحاكمُ فاجتهَدَ ثمَّ أصاب فله أجْرانِ، وإذا حكَمَ فاجتهَدَ ثمَّ أخطأ فله أجرٌ» [البخاري (7352)]-: (فهذا الحديثُ يُفيدُك أنَّ الحقَّ واحدٌ، وأنَّ بعضَ المُجتَهِدينَ يُوافِقُه، فيُقالُ له: مُصِيبٌ، ويَستَحِقُّ أجرَينِ، وبعضَ المُجتَهِدينَ يُخالِفُه، ويُقالُ له: مُخْطِئٌ، واستِحقاقُه الأجرَ لا يَستلزِمُ كَوْنَه مُصيبًا، وإطلاقُ اسمِ الخَطأِ عليه لا يَستَلزِمُ ألَّا يَكونَ له أجرٌ، فمَنْ قال: كُلُّ مُجتَهِدٍ مُصِيبٌ، وجَعَل الحقَّ مُتَعدِّدًا بتَعَدُّدِ المُجتَهِدينَ، فقد أخطأ خطَأً بَيِّنًا، وخالَفَ الصَّوابَ مُخالَفةً ظاهرةً). ثمَّ قال: (وأمَّا استِدلالُهم بمِثلِ قَولِه تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ فهو خارِجٌ عن محلِّ النِّزاعِ؛ لأنَّ اللهَ سُبْحانَه قد صَرَّح في هذه الآيةِ بأنَّ ما وقَعَ منهم مِنَ القَطْعِ والتَّركِ هو بإذْنِه عزَّ وجَلَّ، فأفادَ ذلك أنَّ حُكْمَه في هذه الحادِثةِ بِخُصوصِها هو كلُّ واحِدٍ مِنَ الأمْرَينِ، وليس النِّزاعُ إلَّا فيما لم يَرِدِ النَّصُّ فيه «بأنَّه سُبْحانَه يُريدُ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الأمْرَينِ، أو أنَّ حُكْمَه على التَّخْييرِ بيْنَ أُمُورٍ يَختارُ المُكَلَّفُ ما شاء منها، كالواجِبِ المُخَيَّرِ، أو أنَّ حُكْمَه يَجِبُ على الكلِّ، حتَّى يَفعَلَه البعضُ فيَسقُطَ عن الباقِينَ، كفُرُوضِ الكفاياتِ، فتَدَبَّرْ هذا وافْهَمْهُ حقَّ فَهْمِه). ((إرشاد الفحول)) (2/232-234). وسُئل شيخُ الإسلامِ: هل كلُّ مُجتَهِدٍ مصيبٌ؟ أو المصيبُ واحدٌ والباقي مُخطِئون؟ فأجاب: (... لفظُ الخطأِ قد يُرادُ به الإثمُ، وقد يُرادُ به عدَمُ العِلمِ؛ فإن أُريدَ الأوَّلُ فكلُّ مُجتهِدٍ اتَّقى اللهَ ما استطاع فهو مصيبٌ؛ فإنَّه مطيعٌ لله، ليس بآثمٍ ولا مذمومٍ. وإن أُريدَ الثَّاني فقد يُخَصُّ بعضُ المُجتَهِدينَ بعِلمٍ خَفِيَ على غيرِه، ويكونُ ذلك عِلمًا بحقيقةِ الأمرِ لو اطَّلَع عليه الآخَرُ لَوَجَب عليه اتِّباعهُ؛ لكنْ سقَط عنه وُجوبُ اتِّباعِه لعجزِه عنه، وله أجرٌ على اجتِهادهِ، ولكنِ الواصلُ إلى الصَّوابِ له أجْرانِ...). ((مجموع الفتاوى)) (20/19). .
3- قال تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ دَلَّت الآيةُ على جوازِ إفسادِ أموالِ أهلِ الحَرْبِ على أيِّ حالٍ كان، مُثمِرًا كان أو لا، بالتَّحريقِ والتَّغريقِ والهَدْمِ وغَيْرِه [124] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/419). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (29/505)، ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 258). إذا دَعَت إليه المصلحةُ المتعَيِّنةُ [125] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/76). .
4- في قَولِه تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ حُجَّةٌ في قَطْعِ الشَّجَرِ المُثمِرِ وغيرِ المثمِرِ في بلادِ العَدُوِّ، ودليلٌ على أنَّ النَّاسَ فيه بالخِيارِ؛ إنْ شاؤُوا قَطَعوا، وإنْ شاؤُوا تَرَكوا، والاختيارُ القَطْعُ كما قَطَعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَخْلَ بَني النَّضيرِ، والآيةُ نازِلةٌ فيهم [126] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/257). . وذلك حالَ الحِصارِ إذا اقتَضَتْه مصلحةُ القتالِ.
5- في قَولِه تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ رَدٌّ على القَدَريَّةِ الَّذين يَجعلونَ الإذْنَ بمعنى العِلْمِ؛ إذْ لو لم يَكُنِ الإذْنُ إطلاقًا، ما عُلِمَ أنَّ قَطْعَ الشَّجَرةِ مُباحٌ أو غيرُ مباحٍ. أَلَا ترى أنَّ عِلْمَه سُبحانَه محيطٌ بالمحظورِ والمُباحِ معًا؟! وليس كلُّ ما أحاط بفِعلِه عِلْمُه جاز لِفاعِلِه فِعْلُه دونَ إطلاقِه؛ فقد دلَّ هذا بغيرِ إشكالٍ على أنَّ إعدادَ الإذْنِ عِلْمًا خَطَأٌ لا يُشَكُّ فيه [127] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/258). .
6- في قَولِه تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ أنَّ اللهَ إذا أَذِنَ بشَيءٍ صار حلالًا، وحتَّى وإنْ كان جِنْسُه حرامًا فإنَّه يكونُ حلالًا؛ فقَطْعُ النَّخيلِ أو إحراقُ النَّخيلِ إضاعةُ مالٍ لا شكَّ، لكنْ إذا أَذِنَ اللهُ به صار قُرْبَةً؛ فاللهُ تعالى أَذِنَ لنَبِيِّه بأنْ يُحَرِّقَ النَّخيلَ ويَقطَعَه، ثمَّ قال: وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ، وهذه فائدةٌ عظيمةٌ؛ فخِزْيُ الفاسِقِين أمرٌ مطلوبٌ للشَّرعِ حتَّى وإنْ ضاع به المالُ، فبَيَّنَ اللهُ سُبحانَه أنَّ اللهَ أباح له أنْ يَفْعَلَ، وأنَّ مِن فوائدِه إذلالَ الفاسِقِين، يعني: الكافِرِين [128] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام)) لابن عثيمين (5/474). .
7- الإذْنُ على قِسمَينِ: إذْنٍ كَونيٍّ -وهو ما يَتعلَّقُ بالمخلوقاتِ، والتَّقديراتِ-؛ وإذْنٍ شرعيٍّ -وهو ما يتعلَّقُ بالتَّشريعاتِ [129] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (3/78). -، فمِنَ الإذْنِ الشَّرعيِّ الدِّينيِّ قَولُه تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ، ومِن الإذنِ الكَونيِّ قولُه تعالى: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [130] يُنظر: ((أمراض القلوب وشفاؤها)) لابن تيمية (ص: 47). [البقرة: 102].
8- في قَولِه تعالى: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ سُمِّيَ الفَيءُ فَيئًا؛ لأنَّ اللهَ أفاءَه على المُسلِمينَ، أي: رَدَّه عليهم مِن الكُفَّارِ؛ فإنَّ الأصلَ أنَّ اللهَ تعالى إنَّما خَلَقَ الأموالَ إعانةً على عبادتِه؛ لأنَّه إنَّما خَلَقَ الخَلْقَ لعبادتِه، فالكافِرونَ به أباح أنفُسَهم الَّتي لَمْ يَعبُدوه بها، وأموالَهم الَّتي لم يَستَعينوا بها على عبادتِه؛ لعبادِه المؤمِنينَ الَّذين يَعبُدونَه، وأفاء إليهم ما يَستَحِقُّونَه، كما يُعادُ على الرَّجُلِ ما غُصِبَ مِن ميراثِه، وإنْ لم يكُنْ قَبَضَه قَبْلَ ذلك [131] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/275). . فالآيةُ فيها إشعارٌ بأنَّ الفَيءَ كان حَقيقًا بأنْ يكونَ له عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإنَّما وقَعَ في أيْديهِم بغَيرِ حقٍّ، فرَجَعَه اللهُ تَعالى إلى مُستحقِّهِ [132] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/199)، ((تفسير أبي السعود)) (8/227). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ استُدِلَّ به على أنَّ الفَيءَ: ما أُخِذَ مِن الكُفَّارِ بلا قتالٍ وإيجافِ خَيلٍ ورِكابٍ، ومنه ما جَلَوا عنه خَوفًا. والغنيمةُ: ما أُخِذَ منهم بقِتالٍ، خِلافًا لِمَن زَعَم أنَّهما بمعنًى واحِدٍ، أو فرَّقَ بيْنَهما بغيرِ ذلك [133] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 258). .
10- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ يدُلُّ على أنَّ إيجافَ الخَيلِ والرِّكابِ، وقَصْدَ العَدُوِّ إلى الأماكِنِ الشَّاسِعةِ: له وَقعٌ كَبيرٌ في النُّفوسِ، ورُعبٌ عَظيمٌ [134] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/427). .
11- في قَولِه تعالى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أضاف سُبحانَه الأرضَ إلى الرَّسولِ؛ إشارةً إلى أنَّ كلَّ قريةٍ يُفِيئُها اللهُ على أُمَّتِه إلى يومِ القيامةِ فهي مُضافةٌ إلى الرَّسولِ غيرُ مختصَّةٍ بالغانمِينَ، والإمامُ يقومُ مقامَ الرَّسولِ في قِسْمَتِها بالاجتِهادِ، يدُلُّ على ذلك أنَّه جَعَلَها لثلاثةِ أصنافٍ: المهاجِرينَ، والأنصارِ، ومَن جاء بعدَهم مِن المسلِمينَ، وهذا لا يمكنُ في المنقولات قَطعًا؛ لأنَّ المنقولاتِ تُستهلَكُ ويَخْتَصُّ بها مَن يأخُذُها؛ فلا يُمكِنُ اشتِراكُ جميعِ المسلمينَ فيه [135] يُنظر: ((الاستخراج لأحكام الخراج)) لابن رجب (ص: 30). .
12- قَولُ اللهِ تعالى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ بَدا مِن هذا التَّعليلِ: أنَّ مِن مَقاصِدِ الشَّريعةِ أن يكونَ المالُ دُولةً بيْن الأمَّةِ الإسلاميَّةِ، على نِظامٍ مُحكَمٍ في انتِقالِه مِن كُلِّ مالٍ لم يَسبِقْ عليه مِلكٌ لأحَدٍ؛ مِثلُ: المَواتِ، والفَيءِ، واللُّقَطاتِ، والرِّكازِ، أو كان جُزءًا مُعَيَّنًا؛ مِثلُ: الزَّكاةِ، والكفَّاراتِ، وتخميسِ المغانمِ، والخَراجِ، والمواريثِ، وعُقودِ المعامَلاتِ الَّتي بيْن جانِبَي مالٍ وعمَلٍ؛ مِثلُ: القِراضِ، والمُغارَسةِ، والمُساقاةِ، وفي الأموالِ الَّتي يَظفَرُ بها الظَّافِرُ بدُونِ عَمَلٍ وسَعيٍ، مِثلُ: الفَيءِ، والرِّكازِ، وما ألقاه البَحرُ [136] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/85). .
13- في قَولِه تعالى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى إضافةُ الأموالِ الشَّرعيَّةِ إلى اللهِ والرَّسولِ؛ لأنَّ العبدَ الرَّسولَ لا يُعطي أحدًا إلَّا بأمرِ ربِّه، ولا يُعطي مَن يشاءُ ويَحرِمُ مَن يشاءُ، وأمَّا النَّبيُّ المَلِكُ فإنَّه يَفعَلُ ما فَرَضَ اللهُ عليه، ويَترُكُ ما حَرَّمَ اللهُ عليه، ويَتصَرَّفُ في الوِلايةِ والمالِ بما يُحِبُّه ويَختارُ مِن غيرِ إثمٍ عليه، كما في قَولِه تعالى: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [137] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/181). [ص: 39] .
14- قال تعالى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إلى قَولِه سُبحانَه: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر: 10] فأخبَر أنَّ ما أفاء اللهُ على رَسولِه بجُملتِه هو لِمَن ذُكِرَ في هذه الآياتِ، ولم يَخُصَّ منه خُمُسَه بالمذكورِينَ في آيةِ الخُمسِ، بل عَمَّمَ وأَطْلَقَ واستَوعبَ، ويُصرَفُ على المصارفِ الخاصَّةِ، وهم أهلُ الخُمسِ، ثمَّ على المصارفِ العامَّةِ، وهم المهاجِرون والأنصارُ، وأتْباعُهم إلى يومِ الدِّينِ [138] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/77). ، وأمَّا قولُه تعالى: وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فتخصيصُ هؤلاء بالذِّكْرِ هو للاعتناءِ بهم، لا لاختصاصِهم بالمالِ؛ ولهذا قال: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ أي: لا تتداوَلونَه وتَحرِمونَ الفُقراءَ، ولو كان مختصًّا بالفُقراءِ لم يكُنْ للأغنياءِ، فضلًا عن أنْ يكونَ دُولةً [139] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (6/110). قال السيوطي: (قولُه تعالى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى استَدَلَّ بها مَن قال: إنَّ الفَيءَ لا يُصرَفُ منه شيءٌ للمُعَدينَ للقِتالِ، بل يُصرَفُ أربعةُ أخماسِ خُمُسِه إلى الأربعةِ: ذَوِي القُربى، واليتامى، والمساكينِ، وابنِ السَّبيلِ، ويُصرَفُ الخُمسُ والأخماسُ الأربعةُ الباقيةُ الَّتي كانت لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى مصالحِ المُسلِمينَ). ((الإكليل)) (ص: 258). !
15- إنَّ اللهَ تعالى قال في الخُمُسِ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال: 41] فاستفتَحَ الكلامَ بأنْ نَسَبَه إلى نَفْسِه، ثمَّ ذَكَر أهْلَه بَعْدُ، وكذلك قال في الفَيءِ: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ [الحشر: 7] ، فنَسَبَه جَلَّ ثناؤُه إلى نَفْسِه، ثمَّ اقتَصَّ ذِكرَ أهلِه، فصار فيهما الخِيارُ إلى الإمامِ في كُلِّ شَيءٍ يُرادُ اللهُ به، فكان أقرَبَ إليه، ثمَّ ذَكَر الصَّدَقةَ، فقال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة: 60] ولم يَقُلْ: لله، ولِكذا ولِكذا، فأوجَبَها لهم، ولم يجعَلْ لأحدٍ فيها خِيارًا أن يَصرِفَها عن أهلِها إلى مَن سِواهم، ومعنى هذا أنَّ الصَّدَقةَ إنَّما هي مِن أموالِ المُسلِمينَ خاصَّةً، فحُكمُها أن تُؤخَذَ مِن أغنيائِهم، فتُرَدَّ في فُقَرائِهم، فلا يجوزُ منها نَفلٌ ولا عَطاءٌ، فهذه مِن أموالِ المُسلِمينَ، وذاك مِن أموالِ أهلِ الكُفْرِ؛ فافتَرَق حُكمُ الخُمُسِ والصَّدَقةِ لِما ذَكَرْنا [140] يُنظر: ((الأموال)) للقاسم بن سلام (ص: 411). .
16- في قَولِه تعالى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ أنَّ أحكامَ القُرآنِ يُرشِدُ سُبحانَه فيها إلى مَدارِكِها وعِلَلِها، وكقَولِه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [البقرة: 222] ، فأَمَرَ سُبحانَه نَبيَّه أنْ يَذْكُرَ لهم عِلَّةَ الحُكْمِ قبْلَ الحُكْمِ [141] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/124). .
17- في قَولِه تعالى: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ أنَّ الوَقفَ على الأغنياءِ باطِلٌ [142] وهو مذهبُ الحنفيَّةِ، والحنابلةِ، خلافًا للمالكيَّة والشافعيَّةِ، على تفصيلٍ لدى بعضِ هذه المذاهبِ. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (44/140). ؛ فقد أخْبَر سُبحانَه أنَّه شَرَعَ ما ذَكَرَه؛ لئلَّا يكونَ الفَيءُ مُتداوَلًا بيْن الأغنياءِ دونَ الفُقراءِ، فعُلِمَ أنَّه سُبحانَه يَكْرَهُ هذا ويَنهى عنه ويَذُمُّه، فمَن جَعَلَ الوقفَ للأغنياءِ فقط فقد جَعَلَ المالَ دُولةً بيْن الأغنياءِ، فيتداوَلونَه بطنًا بعدَ بطنٍ دونَ الفُقَراءِ، وهذا مُضادٌّ للهِ في أمْرِه ودِينِه؛ فلا يجوزُ ذلك [143] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (31/31). .
18- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا هذا عامٌّ يَدخُلُ فيه قِسمةُ ما أفاء اللهُ، والغنائِمِ، وغَيرِها، حتَّى إنَّه قد استُدِلَّ بهذا العُمومِ على تحريمِ الخَمرِ، وحُكمِ الواشِمةِ والمُستَوشِمةِ [144] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/141). أمَّا تحريمُ الخَمرِ فعن ابنِ عبَّاسٍ وابنِ عُمرَ رضيَ الله عنهما: ((أنَّهما شَهِدا على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّه نهى عن الدُّبَّاءِ، والحَنْتَمِ، والمُزَفَّتِ، والنَّقِيرِ، ثمَّ تلا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ هذهِ الآيةَ: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)). أخرجه النسائيُّ (5643)، وقال الألبانيُّ: (صحيحٌ دونَ تِلاوةِ الآيةِ، وكأنَّها مُدْرَجةٌ). وأمَّا حُكمُ الواشِمةِ والمُستَوشِمةِ فعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رضيَ الله عنه: ((لَعَنَ اللهُ الواشِماتِ والمُستَوشِماتِ، والمُتنَمِّصاتِ، والمُتفَلِّجاتِ للحُسنِ، المُغَيِّراتِ خَلْقَ اللهِ تعالى، ما لي لا ألعَنُ مَن لعَنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! وهو في كتابِ اللهِ: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)). أخرجه البُخاريُّ (5931) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2125). .
19- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا يدُلُّ على أنَّ كُلَّ ما أَمَر به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمْرٌ مِن اللهِ تعالى؛ لأنَّ الآيةَ وإن كانت في الغنائِمِ، فجَميعُ أوامِرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونواهيه داخِلٌ فيها [145] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/580). .
20- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فيه وُجوبُ امتِثالِ أوامِرِه ونواهيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال العُلَماءُ: وكُلُّ ما ثبَتَ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَصِحُّ أن يُقالَ: إنَّه في القُرآنِ؛ مِن هذه الآيةِ [146] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 259). .
21- في قَولِه تعالى: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا أنَّ سُنَّةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَصدرُ تَشريعٍ [147] يُنظر: ((أصول في التفسير)) لابن عثيمين (ص: 7). .
22- في قَولِه تعالى: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا أنَّ صِيغةَ النَّهيِ عندَ الإطلاقِ تَقتَضي تحريمَ المنهيِّ عنه وفَسادَه؛ فالأمرُ بالانتِهاءِ عمَّا نهى عنه يَقتَضي وُجوبَ الانتِهاءِ، ومِن لازِمِ ذلك تحريمُ الفِعلِ [148] يُنظر: ((الأصول من علم الأصول)) لابن عثيمين (ص: 29). ، ولأنَّ استِحبابَ الانتِهاءِ معلومٌ بنَفْسِ النَّهيِ، فلا بدَّ أنْ يُفيدَ هذا الخِطابُ فائدةً زائدةً على جميعِ أنواعِ الاستِحبابِ، وهي وجوبُ الانتهاءِ [149] يُنظر: ((تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل)) لابن تيمية (2/521). .
23- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا هذه الآيةُ جامِعةٌ للأمرِ باتِّباعِ ما يَصدُرُ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن قَولٍ وفِعلٍ، فيَندَرِجُ فيها جميعُ أدِلَّةِ السُّنَّةِ [150] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/87). .
24- في قَولِه تعالى: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا أنَّ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم هو القاسِمُ للفَيءِ والمَغانِمِ، ولو كانت مَقسومةً محدودةً كالفرائضِ لم يكُنْ للرَّسولِ أمرٌ فيها ولا نهيٌ [151] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (6/110). .
25- قوله تعالى: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ عطْفُ الأمْرِ بالتَّقْوى على الأمْرِ بالأخْذِ بالأوامرِ وتَرْكِ المَنهيَّاتِ، يدُلُّ على أنَّ التَّقوى هي امتثالُ الأمْرِ واجتنابُ النَّهيِ [152] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/87). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ استِئنافٌ ابتدائيٌّ أُفْضِيَ به إلى المَقصدِ مِن السُّورةِ عن أحكامِ أمْوالِ بَني النَّضيرِ [153] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/75). .
- وإيثارُ (لِينةٍ) على (نَخلةٍ)؛ لأنَّه أخَفُّ؛ ولذلك لم يَرِدْ لَفظُ (نَخلةٍ) مُفرَدًا في القرآنِ، وإنَّما ورَدَ النَّخلُ اسمَ جمْعٍ [154] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/76، 77). .
- قولُه: مِنْ لِينَةٍ بَيانٌ لإبهامِ (ما) في قولِه: مَا قَطَعْتُمْ [155] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/500)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/76). .
- وجِيءَ بالحالِ في قولِه: قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا؛ لتَصويرِ هَيئتِها وحُسْنِها، وتَعلَّقَ عَلَى أُصُولِهَا بـ قَائِمَةً، والمَقصودُ: زِيادةُ تَصويرِ حُسْنِها، ووَصْفُها بأنَّها قائمةٌ على أُصولِها هو بتَقديرِ: قائمةً فُروعُها على أُصولِها؛ لظُهورِ أنَّ أصْلَ النَّخلةِ بَعضُها. وفيه إيماءٌ إلى أنَّ تَرْكَ القطْعِ أَولى [156] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/77). .
- قولُه: وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ عِلَّةٌ لمَحذوفٍ، أي: وفعَلْتُم، أو وأَذِنَ لكمْ في القطْعِ؛ ليَجْزِيَهم على فِسقِهم بما غاظَهَم منه [157] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/199). .
- وعطْفُ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ مِن عطْفِ العِلَّةِ على السَّببِ، وهو فَبِإِذْنِ اللَّهِ؛ لأنَّ السَّببَ في معْنى العِلَّةِ [158] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/77). .
- والمرادُ بالفاسِقينَ في قولِه: وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ يَهودُ النَّضيرِ، وعُدِل عن الإتيانِ بضَميرِ أهلِ الكِتابِ كما أُتِيَ بضَمائرِهم مِن قبْلُ ومِن بَعْدُ إلى التَّعبيرِ عنهم بوَصْفِ الْفَاسِقِينَ؛ لأنَّ الوصْفَ المُشتقَّ يُؤذِنُ بسَببِ ما اشتُقَّ منه في ثُبوتِ الحكْمِ، أي: ليَجْزِيَهم مِن أجْلِ الفِسقِ [159] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/78). .
2- قولُه تعالَى: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- يَجوزُ أنْ تكونَ هذه الآيةُ عطْفًا على جُملةِ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ [الحشر: 5] الآيةَ؛ فتَكونَ امتِنانًا وتَكملةً لمَصارِفِ أموالِ بَني النَّضيرِ. ويجوزُ أنْ تكونَ عطْفًا على مَجموعِ ما تَقدَّمَ عطْفَ القِصَّةِ على القِصَّةِ، والغرَضِ على الغرَضِ؛ للانتِقالِ إلى التَّعريفِ بمَصيرِ أموالِ بَني النَّضيرِ؛ لئلَّا يَختلِفَ رِجالُ المسلِمينَ في قِسمتِها، ولبَيانِ أنَّ ما فَعَلَه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قِسمةِ أموالِ بَني النَّضيرِ هو عدْلٌ إنْ كانتِ الآيةُ نزَلَت بعْدَ القِسمةِ [160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/78). .
- وفي قولِه: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قالَهُ هنا بواوِ العطفِ، وقاله بعْدُ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ... بحَذْفِها؛ لأنَّه مُستأنَفٌ عمَّا قبْلَه [161] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 556). .
- قولُه: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ هو بصَريحِه امتِنانٌ على المسلمينَ بأنَّ اللهَ ساقَ لهم أموالَ بَني النَّضيرِ دونَ قِتالٍ، ويُفيدُ مع ذلك كِنايةً بأنْ يُقصَدَ بالإخبارِ عنه بأنَّهم لم يُوجِفوا عليه لازِمُ الخَبرِ؛ وهو أنَّه ليس لهم سَببُ حقٍّ فيه، والمعْنى: فما هو مِن حقِّكم، أو لا تَسْأَلوا قِسمتَه؛ لأنَّكم لم تَنالُوه بقِتالِكم، ولكنَّ اللهَ أعطاهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نِعمةً منه بلا مَشقَّةٍ ولا نصَبٍ [162] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/79). .
- وحرْفُ (على) في قولِه تعالَى: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ للتَّعليلِ، وليس لتَعديةِ أَوْجَفْتُمْ؛ لأنَّ معْنى الإيجافِ لا يَتعدَّى إلى الفَيءِ بحرْفِ الجرِّ، أو مُتعلِّقٌ بمَحذوفٍ هو مَصدرُ أَوْجَفْتُمْ، أي: إيجافًا لأجْلِه [163] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/79). .
- و(مِن) في مِنْ خَيْلٍ صِلةٌ داخلةٌ على النَّكرةِ في سِياقِ النَّفيِ؛ للاستِغراقِ، ومَدخولُ (مِنْ) في معْنى المفعولِ به لـ أَوْجَفْتُمْ، أي: ما سُقْتُم خَيلًا ولا رِكابًا [164] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/140)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/79). .
- قولُه: وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ استِدراكٌ على النَّفيِ الَّذي في قولِه تعالى: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ؛ لرفْعِ تَوهُّمِ أنَّه لا حقَّ فيه لأحدٍ، والمرادُ: أنَّ اللهَ سلَّطَ عليه رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فالرَّسولُ أحقُّ به. وهذا التَّركيبُ يُفيدُ قصْرًا مَعنويًّا، كأنَّه قِيل: فما سلَّطَكم اللهُ عليهم، ولكنْ سلَّطَ عليهم رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [165] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/79). .
- وفيه إيجازُ حَذْفٍ؛ لأنَّ التَّقديرَ: ولكنَّ اللهَ سلَّطَ عليهم رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واللهُ يُسلِّطُ رُسلَه على مَن يَشاءُ، وكان هذا بمَنزلةِ التَّذييلِ لعُمومِه، وهو دالٌّ على المُقدَّرِ. وعُمومُ مَنْ يَشَاءُ؛ لشُمولِ أنَّه يُسلِّطُ رُسلَه على المُقاتِلينَ، ويُسلِّطُهم على غيرِ المُقاتِلينَ، والمعْنى: وما أفاء اللهُ على رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما هو بتَسليطِ اللهِ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليهم، وإلْقاءِ الرُّعبِ في قُلوبِهم، واللهُ يُسلِّطُ رُسلَه على مَن يَشاءُ؛ فأغْنى التَّذييلُ عن المَحذوفِ [166] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/79، 80). .
3- قولُه تعالَى: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ هذه الآيةُ ابتِداءُ كلامٍ، أي: على الاستِئنافِ الابتدائيِّ، وقُصِدَ منها حُكْمٌ غيرُ الحُكْمِ الَّذي تَضمَّنَتْه الآيةُ الَّتي قبْلَها؛ فمَضمونُ الآيةِ الَّتي قبْلَها أموالُ بَني النَّضيرِ خاصَّةً، ومَضمونُ هذه الآيةِ إخبارٌ عن حُكْمِ الأَفْياءِ الَّتي حصَلَت عندَ فتْحِ قُرًى أُخرى بعْدَ غَزوةِ بَني النَّضيرِ؛ مِثل قُرَيْظَةَ سَنةَ خمْسٍ، وفَدَكٍ سَنةَ سَبْعٍ، ونحوِهما، فعيَّنَتْه هذه الآيةُ للأصنافِ المذكورةِ فيها، ولا حقَّ في ذلك لأهلِ الجَيشِ أيضًا، وهو الَّذي يَقْتضيهِ تَغييرُ أُسلوبِ التَّعبيرِ بقولِه هنا: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى بعْدَ أنْ قال في الَّتي قبْلَها: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ [الحشر: 6] ؛ فإنَّ ضَميرَ مِنْهُمْ راجعٌ لـ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [الحشر: 2] ، وهم بَنو النَّضيرِ لا مَحالةَ. ويَجوزُ جَعْلُ هذه الآيةِ تَكملةً وبَيانًا للآيةِ الَّتي قبْلَها، أي: بَيانًا للإجمالِ الواقعِ في قولِه تعالى: فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ الآيةَ [الحشر: 6] ؛ لأنَّ الآيةَ الَّتي قبْلَها اقتَصَرَت على الإعلامِ بأنَّ أهلَ الجَيشِ لا حقَّ لهم فيه، ولم تُبيِّنْ مُستحِقَّه، وأشْعَرَ قولُه: وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [الحشر: 6] أنَّه مالٌ للهِ تَعالى يَضَعُه حيث شاءَ على يَدِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقدْ بيَّنَ اللهُ له مُستحقِّيه مِن غيرِ أهلِ الجيشِ، فمَوقعُ هذه الآيةِ مِن الَّتي قبْلَها مَوقعُ عطْفِ البَيانِ؛ ولذلك فُصِلَت [167] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/502)، ((تفسير البيضاوي)) (5/199)، ((تفسير أبي حيان)) (10/140، 141)، ((تفسير أبي السعود)) (8/227)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/ 81)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/38، 39). .
- وعلى أنَّ هذه الآيةَ بَيانٌ للآيةِ الَّتي قبْلَها فإعادةُ عَينِ العبارةِ الأُولى لزِيادةِ التَّقريرِ، ووَضْعُ أَهْلِ الْقُرَى مَوضعَ ضَميرِهم -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ للإشعارِ بشُمولِ ما -في قولِه مَا أَفَاءَ اللَّهُ- لعِقاراتِهم [168] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/227، 228). .
- وتَقييدُ الفَيءِ بفَيءِ القُرى جَرى على الغالِبِ؛ لأنَّ الغالبَ ألَّا تُفتَحَ إلَّا القُرى؛ لأنَّ أهلَها يُحاصَرون فيَسْتسلِمون ويُعطُون ما بأيْديهم إذا اشتدَّ عليهم الحصارُ، فأمَّا النَّازِلون بالبوادي فلا يُغلَبون إلَّا بعْدَ إيجافٍ وقتالٍ؛ فليس لقَيدِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى مَفهومٌ [169] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/82، 83). .
- والتَّعريفُ في قولِه تعالى: مِنْ أَهْلِ الْقُرَى تَعريفُ العهدِ، وهي قُرًى مَعروفةٌ [170] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/82). .
- وقولُه: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ... تَعليلٌ لِما اقتضاهُ لامُ التَّمليكِ مِن جَعْلِه مِلْكًا لأصنافٍ كثيرةِ الأفرادِ، أي: جَعَلْناه مَقسومًا على هؤلاء؛ مِن أجْلِ ألَّا يكونَ الفَيءُ دُولةً بيْن الأغنياءِ مِن المسلِمينَ، أي: لئلَّا يَتداوَلَه الأغنياءُ، ولا يَنالَ أهْلَ الحاجةِ نَصيبٌ منه [171] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/84). .
- قولُه: وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ... اعتِراضٌ ذُيِّلَ به حُكْمُ فَيْءِ بَني النَّضيرِ؛ إذ هو أمْرٌ بالأخْذِ بكلِّ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والقصْدُ مِن هذا التَّذييلِ إزالةُ ما في نُفوسِ بَعضِ الجيشِ مِن حَزازةِ حِرمانِهم ممَّا أفاءَ اللهُ على رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أرضِ النَّضيرِ [172] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/86). .
- والإيتاءُ مُعبَّرٌ به هنا عن تَبليغِ الأمْرِ إليهم؛ جَعَلَ تَشريعَه وتَبليغَه كإيتاءِ شَيءٍ بأيْدِيهم، وعُبِّرَ بالأخْذِ عن قَبولِ الأمْرِ والرِّضا به والعمَلِ، وقَرينةُ ذلك مُقابَلتُه بقولِه تعالى: وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وهو تَتْميمٌ لنَوعَيِ التَّشريعِ [173] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/86، 87). .
- وقد جاءَ هذا التَّذييلُ على هذه الآيةِ بقولِه تعالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ؛ إيذانًا بأنَّ هذا التَّكليفَ لا هَوادةَ فيه، وأنَّه مُلزِمٌ للأُمَّةِ سرًّا وعلَنًا، وأنَّ مَن خالَفَ شَيئًا منه يَتوجَّهُ إليه هذا الإنذارُ الشَّديدُ؛ لأنَّ معصيتَه معصيةٌ لله، وطاعتَه مِن طاعةِ الله؛ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [174] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/42). [النساء: 80] .