موسوعة التفسير

سُورة الأنفالِ
الآيتان (41-42)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ

غريب الكلمات:

غَنِمْتُمْ: المَغنَمُ والغنيمةُ: ما أُصيبَ مِن أموالِ المُحاربينَ قهرًا. وأصلُ (غنم) يدلُّ على إفادةِ شَيءٍ لم يُملَك مِن قَبلُ .
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا: أي: بِجانب الوادي ممَّا يلي المدينةَ. وأصلُ (عدو) يدلُّ على تَجاوُزٍ في الشَّيءِ .
بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى: أي: بالجانِبِ الأبعدِ مِن المدينةِ. وأصلُ (قصو) يدلُّ على بُعدٍ وإبعادٍ .
وَالرَّكْبُ: أي: راكِبو الإبِلِ، والمقصودُ عِيرُ أبي سفيانَ أي: ركبُ التجارةِ. وَأصلُ (ركب): يدلُّ على عُلوِّ شيءٍ شَيئًا .
بَيِّنَةٍ: أي: حُجَّةٍ. والبيِّنةُ كذلك: الدَّلالةُ الواضِحةُ؛ يقالُ: بان الشيءُ وأبان، إذا اتَّضَحَ وانكَشَفَ .

مشكل الإعراب:

قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ: (ما) في أنَّما اسمُ أنَّ، وهي موصولةٌ بمعنى (الذي)، وغَنِمْتُمْ صِلَتُها، وعائِدُها محذوفٌ، أي: غَنِمتُموه. ومِنْ شَيْءٍ جارٌّ ومجرورٌ مُتعَلِّقٌ بمحذوفٍ، حالٌ مِن عائِدِ الصِّلةِ، والتقديرُ: ما غَنِمتُموه كائنًا من شَيءٍ، أي: قليلًا أو كثيرًا. فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ: الفاءُ داخلةٌ تشبيهًا للموصولِ بالشَّرطِ، و(أنَّ) وما عَمِلَتْ فيه في محلِّ رفعٍ، خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، تقديرُه: فحُكمُه أنَّ لِلَّه خُمُسَه، والجملةُ مِن هذا المبتدأِ والخَبرِ في محَلِّ رَفعٍ، خَبرُ (أنَّ). وأَنَّما غَنِمْتُمْ وما بعدَها سدَّ مسدَّ مفعولَي اعْلَمُوا .

المعنى الإجمالي:

اعلَموا- أيُّها المؤمنونَ- أنَّ ما تظفرونَه مِن الكُفَّارِ غنيمةً بعدَ انتِصارِكم عليهم؛ فحُكمُه أنَّ لله خُمُسَه، وللرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولِقرابَتِه مِن بني هاشمٍ وحُلفائِهم من بني المطَّلبِ، ولليتامى والمساكينِ، وللمُسافِرِ الذي يحتاجُ المالَ في سَفَرِه، وأمَّا بقيةُ الأخماسِ الأربعةِ فهي للمقاتلينَ، إن كُنتم آمَنتُم باللهِ تعالى، وما أنزَلَ على عبدِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن آياتِ القرآنِ، يومَ فَرَقَ اللهُ بين الحقِّ والباطِلِ، وذلك يوم التقى جمعُ المسلمينَ وجمعُ الكفَّار ببدرٍ، واللهُ على كلِّ شَيءٍ قديرٌ حيثُ نصَركم أيُّها المسلمونَ على قلةِ عددِكم، وخذَل الكفارَ على كثرتِهم.
فاذكروا - أيُّها المُؤمنونَ- حين كنتم على جانِبِ وادي بدرٍ الأقرَبِ للمدينةِ، وهم على الجانِبِ الأبعَدِ، وأصحابُ الإبِلِ الذين معهم تجارةُ المُشركينَ أسفَلَ منكم ممَّا يلي ساحِلَ البَحرِ، ولو تواعَدْتُم- أنتم والمشركونَ- على مكانٍ وزمانٍ تتقاتلونَ فيه، لَما اجتمَعتُم في ذلك المَوعِد، ولكنَّ الله دبَّر لهذا التلاقي لِيَقضيَ أمرًا مُقَدَّرًا لا بدَّ مِن وقوعِه، لِيَهلِكَ مَن هلكَ باستمرارِه على الكُفرِ بعد قيامِ الحجَّةِ عليه، ويؤمِنَ مَن آمنَ بعد ظهورِ الحُجَّة له، وإنَّ اللهَ لَسميعٌ عليمٌ.

تفسير الآيتين:

وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أمَرَ بالمُقاتلةِ في قَولِه: وَقَاتِلُوهُمْ وكان مِن المَعلومِ أنَّ عند المُقاتلةِ قد تحصُلُ الغنيمةُ؛ لا جرَمَ ذَكَرَ تعالى حُكمَ الغنيمةِ .
وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ.
أي: واعلَمُوا - أيُّها المؤمنونَ الغانِمونَ- أنَّ أيَّ مالٍ تأخذونَه مِن الكفَّارِ قَهرًا، إذا انتصَرتُم عليهم ، فحقُّه أنَّ للَّهِ خُمُسَه، يُصرَفُ فيما أمَرَ اللهُ به .
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((قَدِمَ وَفدُ عبدِ القَيسِ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّا- هذا الحيَّ- مِن ربيعةَ، وقد حالتْ بينَنا وبَينَك كُفَّارُ مُضَرَ، فلا نَخلُصُ إليك إلَّا في شَهرِ الحرامِ، فمُرْنا بأمرٍ نَعمَلُ به، وندعو إليه مَن وَراءَنا، قال: آمُرُكم بأربَعٍ، وأنهاكم عن أربَعٍ: الإيمانُ باللهِ، ثمَّ فَسَّرَها لهم فقال: شهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، وإقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الَّزكاةِ، وأنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ ما غَنِمْتُم )) .
وعن عبدِ اللهِ بنِ شَقيقٍ، عن رجُلٍ مِن بُلقينَ، قال: ((أتيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو بوادي القُرى، وهو يَعرِضُ فَرسًا، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما تقولُ في الغنيمةِ؟ فقال: لِلَّه خُمُسُها، وأربعةُ أخماسٍ للجَيشِ. قلتُ: فما أحدٌ أَوْلَى به مِن أحَدٍ؟ قال: لا، ولا السَّهمُ تَستخرِجُه مِن جَنبِك، ليس أنت أحَقَّ به مِن أخيك المُسلِم)) .
وَلِلرَّسُولِ.
أي: ولِمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ يتصَرَّفُ فيما جعَلَه اللهُ له من الخُمُسِ بما شاء في مصالِحِه ومصالِحِ المُسلمين .
عن عمرِو بنِ عَبَسةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: صلَّى بنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بَعيرٍ مِن المَغنمِ، فلمَّا سلَّم أخَذَ وَبرةً مِن جَنبِ البَعيرِ، ثمَّ قال: ((ولا يحِلُّ لي مِن غَنائِمِكم مِثلُ هذا إلَّا الخُمُسُ، والخُمُسُ مَردودٌ فيكم )) .
وَلِذِي الْقُرْبَى.
أي: ولقرابةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن بني هاشمٍ وبني المطَّلِبِ .
عن جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((مَشَيتُ أنا وعثمانُ بنُ عُفَّانَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلنا: يا رسولَ اللهِ، أعطيتَ بني المُطَّلِب وتركتَنا، ونحنُ وهم منكَ بِمَنزلةٍ واحدةٍ! فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّما بنو المُطَّلِبِ وبنو هاشمٍ شَيءٌ واحِدٌ )). ولم يقسِمِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لبني عبدِ شَمسٍ، ولا لبني نَوفَل، قال ابنُ إسحاقَ: عبدُ شمسٍ وهاشمٌ والمُطَّلِبُ: إخوةٌ لأُمٍّ، وأمُّهُم عاتكةُ بنتُ مُرَّةَ، وكان نَوفَل أخاهم لأبيهم .
وَالْيَتَامَى.
أي: ولِيَتامى المُسلمينَ، الذين مات آباؤُهم وهم أطفالٌ .
وَالْمَسَاكِينِ.
أي: وللمُحتاجينَ مِن المُسلِمينَ .
وَابْنِ السَّبِيلِ.
أي: وللمُسافِرِ المُحتاجِ للمالِ في سَفَرِه .
إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ.
أي: امتَثِلوا- أيُّها المؤمنونَ- ما شَرَعْناه لكم في قِسمةِ الغَنائِمِ، إن كُنتُم آمَنتُم باللهِ تعالى، وآمَنتُم بما أنزَلْنا على عَبدِنا محمَّدٍ، مِن آياتِ كِتابِنا ، يومَ فرَقَ اللهُ بين الحَقِّ والباطِلِ، يومَ الْتَقى جمعُ المُسلمينَ وجَمعُ الكُفَّارِ بِبَدرٍ .
وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: واللهُ على كلِّ شَيءٍ قديرٌ، لا يُعجِزُه شَيءٌ، ومِن ذلك قُدرَتُه على نَصرِ المُؤمنينَ على الكافرينَ، وإن كانوا قِلَّةً أذلَّةً، كما وقع يومَ بَدرٍ .
إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ لهم يومَ مُلتَقاهم، صوَّرَ لهم حالَتَهم الموضِّحةَ للأمرِ، المُبَيِّنةَ لِمَا كانوا فيه مِن اعترافِهم بالعَجزِ؛ تذكيرًا لهم بذلك، رَدعًا عن المُنازَعةِ، وردًّا إلى المُطاوَعةِ، فقال :
إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ.
أي: فرَقَ اللهُ بينَ الحَقِّ والباطِلِ حينَ كُنتم نازلينَ بِضَفَّةِ وادي بَدرٍ، التي هي أقرَبُ إلى المدينةِ، ومُشرِكو قُريشٍ نازِلونَ بِضَفَّةِ وادي بَدرٍ، التي هي أبعَدُ من المدينةِ، وأصحابُ الإبِلِ الذين معهم تجارةُ المُشركينَ؛ في موضعٍ أسفَلَ منكم ممَّا يلي ساحِلَ البَحرِ .
وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ.
أي: ولو اتَّفَقتُم- أيُّها المؤمنونَ- مع المُشركينَ على القتالِ في مكانٍ وزمانٍ مُحَدَّدينِ؛ لَمَا اجتمَعْتُم في ذلك المَوعِد .
وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً.
أي: ولكِن جَمَعَكم اللهُ ببدرٍ على غيرِ ميعادٍ بينكم وبينهم؛ لِينصُرَ اللهُ المؤمنينَ ويُعِزَّهم، ويُهلِكَ الكافرينَ ويُذِلَّهم، وكان ذلك قضاءً مُقدَّرًا لا بدَّ مِن وُقوعِه .
عن كعبِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (إنَّما خرج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُسلمونَ، يريدونَ عيرَ قُريشٍ، حتى جمَعَ اللهُ بينهم وبين عَدُوِّهم على غيرِ مِيعادٍ) .
لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ.
أي: جمعَ اللهُ بين المؤمنينَ والكافرينَ بِبَدرٍ، ونصَرَ المؤمنينَ عليهم؛ وفرَق بين الحقِّ والباطِلِ؛ من أجلِ أن يستمِرَّ في الكُفرِ مَن استمَرَّ فيه بعد قيامِ الحُجَّةِ عليه، ووضوحِ الأمرِ ببطلانِ الكُفْرِ، فلا يبقَى له عذرٌ عندَ الله، ويؤمِنَ مَن آمنَ بعد ظُهورِ الحجَّةِ له، ووضوحِ الأمرِ بما لا شكَّ فيه أنَّ الإسلامَ حقٌّ .
كما قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 122] .
وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ.
أي: وإنَّ اللهَ لَسَميعٌ لِجَميعِ الأصواتِ، ومِن ذلك أنه سميعٌ لدُعائِكم، وتَضَرُّعِكم، واسْتِغاثَتِكم به، عليمٌ بكُلِّ شَيءٍ؛ فيعلمُ الظواهرَ والضمائرَ والسرائرَ، والغيبَ والشهادةَ، وكلِّ ما يفعلُه خلقُه، لا تخفَى عليه خافِيةٌ، ومِن ذلك علمُه أنَّكم تستحِقُّون النَّصْرَ على أعدائِكم الكفرةِ المعانِدينَ، فاتَّقوا ربَّكم في منطِقِكم أنْ تنطِقوا بغيرِ حَقٍّ، وفي قُلوبِكم أنْ تعتقِدوا فيها غيرَ الرَّشَدِ .

الفوائد التربوية:

- قال الله تعالى: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ الغَرَضُ مِن التَّقييدِ بهذا الوَقتِ وبتلك الحالةِ: إحضارُها في ذِكرِهم؛ لأجلِ ما يلزَمُ ذلك من شُكرِ نِعمةِ الله، ومِن حُسنِ الظَّنِّ بوَعدِه، والاعتمادِ عليه في أمورِهم؛ فإنَّهم كانوا حينئذٍ في أشَدِّ ما يكونُ فيه جيشٌ تِجاهَ عَدُوِّه؛ لأنَّهم يعلمونَ أنَّ تلك الحالةَ كان ظاهِرُها مُلائمًا للعَدُوِّ؛ إذ كان العدوُّ في شَوكةٍ، واكتمالِ عُدَّةٍ، وقد تمهَّدَت له أسبابُ الغَلَبةِ بحُسنِ مَوقِعِ جيشِه؛ إذ كان بالعُدوةِ التي فيها الماءُ لِسُقياهم، والتي أرْضُها مُتوسِّطةُ الصَّلابةِ، فأمَّا جَيشُ المسلمينَ فقد وَجَدوا أنفُسَهم أمامَ العَدُوِّ في عُدوةٍ تَسوخُ في أرضِها الأرجُلُ؛ مِن لِينِ رَملِها، مع قِلَّةِ مائِها، وكانت العِيرُ قد فاتت المسلمينَ، وحلَّتْ وراءَ ظُهورِ جَيشِ المُشركينَ، فكانت في مأمَنٍ مِن أن ينالَها المُسلمونَ، وكان المُشركونَ واثِقينَ بتَمَكُّنِهم مِنَ الذَّبِّ عن عِيرِهم، فكانت ظاهرةُ هذه الحالةِ ظاهرةَ خَيبةٍ وخَوفٍ للمُسلمينَ، وظاهرةَ فَوزٍ وقُوَّةٍ للمُشركينَ، فكان مِن عجيبِ عِنايةِ اللهِ بالمُسلمينَ أنْ قَلَب تلك الحالةَ رأسًا على عَقِبٍ، فأنزل مِن السَّماءِ مَطَرًا تعبَّدَت به الأرضُ لِجَيشِ المُسلمينَ، فساروا فيها غيرَ مَشقوقٍ عليهم، وتطَهَّروا وسَقَوا، وصارت به الأرضُ لِجَيشِ المُشركينَ وَحلًا يثقُلُ فيها السَّيرُ، وفاضت المياهُ عليهم .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فيه أنَّ تخليةَ الخُمُس للأصنافِ الخمسةِ مِنَ الإيمانِ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ استدَلَّ بِعُمومِه مَن قال باستحقاقِ الأغنياءِ مِن الأربعةِ المَذكورينَ أو بَعضِهم، كالفُقَراءِ، ومَن قال باستواءِ ذَكَرِهم وأُنثاهم .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ استُدِلَّ بإضافةِ الغَنيمةِ لهم، على أنَّ الغانِمينَ مَلَكوها بمجَرَّدِ الغَنيمةِ .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ دلَّ على جوازِ قسمةِ الغنائمِ في دارِ الحربِ، كما هو قولُ الشافعيِّ رحمه الله؛ لأنَّ قوله: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى... يقتضي ثبوتَ الملكِ لهؤلاء في الغنيمةِ، وإذا حصَل الملكُ لهم فيه، وجَب جوازُ القسمةِ؛ لأنَّه لا معنَى للقسمةِ على هذا التقديرِ إلا صرفُ الملكِ إلى المالكِ، وذلك جائزٌ بالاتفاقِ .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ افتتاحُه بِقَولِه: وَاعْلَمُوا للاهتمامِ بِشَأنِه، والتَّنبيهِ على رعايةِ العَمَلِ به؛ فإنَّ المقصودَ بالعِلمِ تَقَرُّرُ الجَزمِ بأنَّ ذلك حُكمُ اللهِ، والعَمَلُ بذلك المَعلومِ .
6- قال الله تعالى: وَلِذِي الْقُرْبَى وهم قَرابةُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مِن بَني هاشِمٍ وبني المُطَّلِب، وأضافَه اللهُ إلى القرابةِ دليلًا على أنَّ العِلَّةَ فيه مُجرَّدُ القَرابةِ، فيستوي فيه غَنِيُّهم وفَقيرُهم، ذَكَرُهم وأُنثاهم .
7- قَولُ اللهِ تعالى: وَالْيَتَامَى جعَلَ اللهُ لهم خُمُسَ الخُمُسِ رحمةً بهم؛ حيث كانوا عاجزينَ عن القِيامِ بمَصالِحِهم، وقد فُقِدَ مَن يقومُ بمَصالِحِهم .
8- قولُه تعالى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أضاف اللهُ الغنيمةَ إلى الغانمينَ، وأخرَج منها خُمسَها، فدلَّ على أنَّ الباقيَ لهم، يُقسَمُ على ما قَسَمه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: للراجلِ سهمٌ، وللفارسِ سهمانِ لفرسِه، وسهمٌ له، وأمَّا هذا الخُمسُ، فيُقسَمُ خمسةَ أسهمٍ؛ سهمٌ للهِ ولرسولِه، يُصرفُ في مصالحِ المسلمينَ العامةِ، مِن غيرِ تعيينٍ لمصلحةٍ؛ لأنَّ الله جعَله له ولرسولِه، واللهُ ورسولُه غنيَّانِ عنه، فعُلِم أنَّه لعبادِ الله. فإذا لم يُعيِّنِ الله له مصرفًا، دلَّ على أنَّ مصرفَه للمصالحِ العامةِ، والخمسُ الثاني: لذي القربَى، والخمسُ الثالثُ لليتامَى، والخمسُ الرابعُ للمساكينِ، والخمسُ الخامسُ لابنِ السبيلِ .
9- قَولُه تعالى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ جَرَت العادةُ بِذِكرِه قُدرَتَه عند نَصْرِه الضِّعافَ مِن عبادِه المتمَسِّكينَ بِدينِه، كما قال في الأحزابِ: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الأحزاب: 27] . وقال في الحُدَيبيةِ: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الفتح:21] كلُّ هذه الآياتِ على وتيرةٍ واحدةٍ، معناها: إنْ كُنتُم ضعافًا عاجزينَ، فهو- جلَّ وعَلا- قادِرٌ قَوِيٌّ، لا يَعجِزُ عن شَيءٍ؛ فإنَّه ينصُرُ أولياءَه ويُقَوِّيهم ويُقْدِرُهم على مَن هو أقوى مِنهم .

بلاغة الآيتين:

1- قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيه الانتقالُ لبيانِ ما أُجمل مِن حُكمِ الأنفال، الذي افتُتحتْ به السُّورةُ؛ ناسَبَ الانتقالَ إليه ما جَرَى مِنَ الأمْر بقِتالِ المشرِكينَ إنْ عادوا إلى قِتالِ المُسلِمينَ. والافتتاحُ بـواعْلَمُوا؛ للاهتِمامِ بشأنِه، والتَّنبيهِ على رِعايةِ العَملِ به؛ فإنَّ المقصودَ بالعِلمِ تَقرُّرُ الجزمِ بأنَّ ذلك حُكمُ اللهِ، والعملُ بذلك المعلومِ؛ فيكونُ واعْلَمُوا كنايةً مُرادًا به صريحُه ولازمُه .
- وقولُه: مِنْ شَيْءٍ بيانٌ لعُمومِ (ما)؛ لئلَّا يُتوهَّمَ أنَّ المقصودَ غنيمةٌ مُعيَّنةٌ خاصَّةٌ .
- وفيه أيضًا: حُسنُ تَركيبٍ؛ حيثُ أفْرَد كَينونةَ الخُمْسِ لله، وفَصَل بين اسمِه تعالى وبين المعاطيفِ بقولِهِ: خُمُسَهُ؛ ليَظْهَرَ انفرادُه تعالى بكينونةِ الخُمُسِ له، ثمَّ أَشْرَكَ المعاطيفَ معه على سَبيلِ التَّبعيَّةِ له، ولم يأتِ التركيبُ (فأنَّ للهِ خُمُسه وللرِّسولِ ولذي القُربى واليتامى والمساكين وابن السبيل خُمُسه) .
- وإعادةُ اللامِ في وَلِذِي الْقُرْبَى دون غيرِهم مِن الأصنافِ الثَّلاثةِ؛ لدَفْعِ تَوهُّمِ اشتراكِهم في سَهمِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لمزيدِ اتِّصالِهم به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
- وفي قولِه: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ جِيءَ في الشَّرطِ بحرفِ (إنْ) التي شأنُ شَرطِها أن يكونَ مشكوكًا في وقوعِه؛ زيادةً في حثِّهم على الطاعةِ، حيثُ يَفرِضُ حالَهم في صُورةِ المشكوكِ في حُصولِ شَرْطِه؛ إلهابًا لهم؛ ليَبْعثَهم على إظهارِ تحقُّقِ الشَّرطِ فيهم ؛ فهو من بابِ خِطابِ التَّهييجِ .
- إضافةُ (يومٍ) إلى (الفُرْقانِ) في قولِه: يَوْمَ الْفُرْقَانِ إضافةُ تنويهٍ به، وتشريفٍ .
- قولُه: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اعتراضٌ بتذييل الآياتِ السَّابقةِ، وهو مُتعلِّقٌ ببعضِ جُمْلةِ الشَّرْطِ في قولِهِ: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ؛ فإن ذلك دليلٌ على أنَّه لا يَتعاصَى على قُدرتِه شيءٌ .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ خَتَم بصِفةِ القُدرةِ قَدِيرٌ؛ لأنَّه تعالى نصَرَ المؤمنينَ على قِلَّتهم على الكافرينَ على كَثْرتِهم ذلك اليومَ .
2- قوله: إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ
- كَانَ تدلُّ على تحقُّق ثُبوتِ معنى خَبرِها لاسمِها من الماضي؛ فمعنى كَانَ مَفْعُولًا أنَّه ثَبَتَ له في عِلْمِ اللهِ أنَّه يُفعَل ، وعبَّر بقولِه: مَفْعُولًا لتَحقُّق كَوْنه .
- وتَنكيرُ أَمْرًا هنا؛ للتَّعظيمِ .
- وقولُه: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ فيه دخولُ لامِ التَّعليلِ على فِعْل ليَهْلِكَ وهو تأكيدٌ لِلَّامِ الدَّاخِلةِ على ليَقْضِيَ في الجُملةِ المُبدَل منها .
- ودلَّ معنى المجاوزةِ الذي في عَنْ على أنَّ المعنى أنْ يكونَ الهلاكُ والحياةُ صادرَينِ عن بيِّنةٍ، وبارزَينِ منها .
- قولُه: وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ تذييلٌ يشيرُ إلى أنَّ الله سميعُ دُعاءِ المسلمين طلبَ النَّصْرِ، وسميعُ ما جرَى بينهم مِن الحوارِ في شأنِ الخروجِ إلى بَدْرٍ، ومِن مودَّتهم أن تكونَ غيرُ ذاتِ الشَّوكةِ هي إحْدى الطائفتَينِ التي يُلاقونها، وغير ذلك، وعليمٌ بما يجولُ في خواطِرهم من غير الأمورِ المسموعةِ، وبما يَصْلُح بهم، ويُبْنى عليه مَجْدُ مُستقبلِهم .