موسوعة التفسير

سورةُ المُمْتَحَنةِ
الآيتان (10-11)

ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ

غريب الكلمات:

جُنَاحَ: أي: إثْمٌ وحَرَجٌ، وسُمِّيَ بذلك؛ لِمَيلِه عن طَريقِ الحَقِّ، وأصلُ (جنح): يدُلُّ على مَيلٍ وتَعَدٍّ [229] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 66)، ((تفسير ابن جرير)) (2/712)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/484)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 98). .
بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ: أي: بعقدِ نكاحِ النِّساءِ الكوافِرِ، والكوافِرُ: جَمعُ كافِرةٍ، والعِصَمُ: جمعُ عِصْمةٍ، وهي ما اعتُصِمَ به مِنَ العَقدِ والسَّبَبِ، وأصلُ (عصم): يدُلُّ على إمساكٍ ومَنعٍ ومُلازَمةٍ [230] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/583)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 347)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/331)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (3/85)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 414)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 598). .
فَعَاقَبْتُمْ: قيل: هو مِن العُقْبى، أي: أصَبْتُم عُقْبى، وهي الغنيمةُ. وقيل: مِن العُقْبةِ، وهي النَّوبةُ والتَّعاقُبُ على الشَّيءِ، أي: فجاءتُ عقبتُكم -أي: نَوبتُكم- مِن أداءِ المهرِ. وقيل: المعنى: فعَلْتُم ما فُعِل بكم، أي: ظَفِرتُم، وهو مِن قَولِك: العُقْبى لفُلانِ، أي: العاقِبةُ بعدَ الأُولى. وقيل: غزَوْتُم مُعاقِبينَ غَزوًا بعدَ غَزوٍ. وقيل: المعنى: أصَبْتُموهم في القتالِ بعُقوبةٍ حتَّى غَنِمتُم، وأصل (عقب) هنا: يدُلُّ على تأخيرِ شَيءٍ وإتيانِه بعدَ غَيْرِه [231] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/257)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 462)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/77)، ((البسيط)) للواحدي (21/422)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 400)، ((تفسير ابن جزي)) (2/368)، ((تفسير أبي السعود)) (8/240). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا بعضَ الأحكامِ الَّتي تتعلَّقُ بالنِّساءِ المؤمناتِ، اللَّاتي ترَكْنَ أزواجَهنَّ الكفَّارَ، ورَغِبْنَ في الهجرةِ: يا أيُّها الَّذين آمَنوا إذا جاءَكم المُؤمِناتُ مُهاجِراتٍ إليكم فاختَبِروهنَّ، اللهُ أعلمُ بحَقيقةِ إيمانِهنَّ، فإنْ عَلِمْتُم بعدَ اختِبارِهنَّ أنَّهنَّ مُؤمِناتٌ فلا تَرُدُّوهنَّ إلى الكُفَّارِ؛ فليست المُؤمِناتُ بمُباحاتٍ للكافِرينَ بالنِّكاحِ، ولا الكُفَّارُ يَحِلُّونَ للمُؤمِناتِ بالنِّكاحِ، وأعطُوا أزواجَ مَن هاجَرْنَ إليكم ما دَفَعوا إليهنَّ مِن مُهورٍ، ولا إثمَ عليكم -أيُّها المؤمِنونَ- أن تتزَوَّجوا المؤمِناتِ المُهاجِراتِ إليكم إذا أعطيتُموهُنَّ مُهورَهنَّ.
ومَن كانت له منكم -أيُّها المؤمِنونَ- زوجةٌ مُشرِكةٌ فلْيُطلِّقْها ولا يُمسِكْها عندَه، واسألوا -أيُّها المؤمِنونَ- ما دفَعْتُم مِن المهورِ إلى أزواجِكم اللَّاتي فارَقْتُموهنَّ لكُفْرِهنَّ، ولْيَسألِ المُشرِكونَ ما دَفَعوا مِن المُهورِ إلى أزواجِهم المؤمِناتِ اللَّاتي هاجَرْنَ إليكم، وذلكم هو حُكمُ اللهِ الَّذي يَقضيه بيْنَكم وبيْنَ الكُفَّارِ، واللهُ عليمٌ حكيمٌ.
وإن فرَّ بعضُ أزواجِكم -أيُّها المؤمِنونَ- إلى الكُفَّارِ ولم يُعطوكم مُهورَهنَّ، فعاقَبْتُم، فأعطُوا المؤمِنينَ الَّذين فَرَّت أزواجُهم إلى الكُفَّارِ ما دَفَعوه إليهنَّ مِن مُهورٍ، وخافوا اللهَ الَّذي أنتم به مُؤمِنونَ.

تفسير الآيتين:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
مُناسَبةُ وُرودِ هذه الآيةِ بعْدَ ما قبْلَها -أي: النَّهيِ عن مُوالاةِ المشركين- يَتطرَّقُ إلى ما بيْن المسلمينَ والمشرِكين مِن عُقودِ النِّكاحِ والمُصاهَرةِ؛ فقد يكونُ المسلمُ زَوجًا لمشركةٍ، وتكونُ المسلمةُ زَوجًا لمُشرِكٍ، فتَحدُثُ في ذلك حَوادثُ لا يَسْتغني المسلِمون عن مَعرفةِ حُكْمِ الشَّريعةِ في مِثلِها [232] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/154). ؛ لذا بَيَّنَ أحكامَ مُهاجَرةِ النِّساءِ [233] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/61). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ.
سَبَبُ النُّزولِ:
عن المِسْوَرِ بنِ مَخْرمةَ ومَرْوانَ بنِ الحَكَمِ عن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قِصَّةِ الحُدَيبيَةِ: ((جاءت المُؤمِناتُ مُهاجِراتٍ، وكانت أمُّ كُلثومٍ بنتُ عُقْبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ مِمَّن خَرَج إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَئذٍ وهي عاتِقٌ [234] العاتِقُ: الشَّابَّةُ أوَّلَ ما تُدْرِكُ. وقيل: هي الَّتي لم تَبِنْ مِنْ والِدَيها، ولم تُزَوَّجْ، وقد أدْركَت وشَبَّت. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/179). ، فجاء أهلُها يَسألونَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَرجِعَها إليهم، فلم يَرجِعْها إليهم؛ لِمَا أنزَلَ اللهُ فيهنَّ: أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ)). وفي روايةٍ: ((ثُمَّ جاءَه نِسْوةٌ مُؤْمِناتٌ فأنْزَل اللَّهُ تعالى: أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ...)) [235] رواه البخاري (2711) (2731 و2732). ويُنظر ما يأتي (ص: 84). قال ابنُ تيميَّة: (نزَلَت باتِّفاقِ المُسلِمينَ في قَضيَّةِ الصُّلحِ الَّذي كان بيْن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبيْن أهلِ مكَّةَ؛ صُلحِ الحُدَيبيَةِ، لَمَّا شَرَط عليهم أن يَرُدَّ المسلمونَ مَن جاءَهم مُسلِمًا، وألَّا يَرُدَّ أهلُ مكَّةَ مَن ذهبَ إليهم مُرتَدًّا، فهاجَرَ نِسوةٌ كأمِّ كُلثومٍ بِنتِ عُقبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ، فنَسَخ اللهُ تعالى الرَّدَّ في النِّساءِ، وأمَرَ برَدِّ المهرِ عِوَضًا عن رَدِّ المرأةِ). ((مختصر الفتاوى المصرية)) للبعلي (ص: 540). ويُنظر: ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (2/678). وقال ابن حجر: (اختُلِف في تَركِ ردِّ النِّساءِ إلى أهلِ مكَّةَ مع وُقوعِ الصُّلحِ بيْنَهم وبيْن المسلمينَ في الحُدَيبيَةِ على أنَّ مَن جاء منهم إلى المسلمينَ ردُّوه، ومَن جاء مِن المسلمينَ إليهم لم يَرُدُّوه: هل نُسِخ حُكمُ النِّساءَ مِن ذلك فمُنِع المُسلمونَ مِن رَدِّهِنَّ، أو لم يَدخُلْنَ في أصلِ الصُّلحِ، أو هو عامٌّ أُريدَ به الخُصوصُ وبُيِّن ذلك عندَ نُزولِ الآيةِ؟). ((فتح الباري)) (9/419). وقال القرطبي: (أكثَرُ العُلماءِ على أنَّ هذا ناسخٌ لِما كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عاهَد عليه قُرَيشًا، مِن أنَّه يَرُدُّ إليهم مَن جاءه منهم مُسلِمًا، فنُسِخ مِن ذلك النِّساءُ. وهذا مذهبُ مَن يَرى نَسْخَ السُّنَّةِ بالقرآنِ). ((تفسير القرطبي)) (18/63). ويُنظر: ((قواطع الأدلة في الأصول)) للسمعاني (1/433)، ((كشف الأسرار شرح أصول البزدوي)) (3/183). .
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ.
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا إذا جاءَكم النِّساءُ المُؤمِناتُ مُهاجِراتٍ مِن بِلادِ الكُفرِ إلى بِلادِ الإسلامِ، فاختَبِروهنَّ [236] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (5/47)، ((تفسير ابن جرير)) (22/575)، ((تفسير السمرقندي)) (3/438)، ((تفسير السعدي)) (ص: 857)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/156). قال الماوَرْدي: (لأنَّه يُعلَمُ بالامتحانِ ظاهِرُ إيمانِهنَّ، واللهُ يَعلَمُ باطِنَ إيمانِهنَّ). ((تفسير الماوردي)) (5/520). قال القرطبي: (اختُلِفَ فيما كان يمتَحِنُهنَّ به؛ على ثلاثةِ أقوالٍ: الأوَّلُ: قال ابنُ عبَّاسٍ: كانت المحنةُ أن تُستحلَفَ باللهِ أنَّها ما خرَجَت مِن بُغضِ زَوجِها، ولا رغبةً مِن أرضٍ إلى أرضٍ، ولا التِماسَ دُنيا، ولا عِشقًا لرجُلٍ مِنَّا، بل حُبًّا لله ولرَسولِه. فإذا حلَفَت باللهِ الَّذي لا إلهَ إلَّا هو على ذلك، أعطى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زَوْجَها مَهْرَها وما أنفَقَ عليها، ولم يَرُدَّها، فذلك قَولُه تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ. الثَّاني: أنَّ المحنةَ كانت أن تَشهَدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ. قاله ابنُ عبَّاسٍ أيضًا. الثَّالثُ: بما بَيَّنَه في السُّورةِ بَعْدُ مِن قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ [الممتحنة: 12] ، قالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: ما كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يمتَحِنُ إلَّا بالآيةِ الَّتي قال اللهُ: إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ [الممتحنة: 12] . رواه مَعمَرٌ عن الزُّهريِّ عن عائشةَ. خَرَّجه التِّرمذيُّ [3306]، وقال: هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ). ((تفسير القرطبي)) (18/62). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: السمرقنديُّ، ومكِّي، وجلال الدين المحلي، والبِقاعي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/438)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7423)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 737)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/512)، ((تفسير السعدي)) (ص: 857). ومعنى فَامْتَحِنُوهُنَّ أي: اختَبِروهنَّ بما يَغلِبُ على ظنِّكم مُوافَقةُ قُلوبِهنَّ لألسِنَتِهنَّ في الإِيمانِ. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/206)، ((تفسير النسفي)) (3/470)، ((تفسير أبي السعود)) (8/239)، ((تفسير القاسمي)) (9/208). .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((إنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يمتَحِنُ مَن هاجَرَ مِن المؤمِناتِ بهذه الآيةِ: أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ [الممتحنة: 12] )) [237] رواه البخاريُّ (4182) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (1866). .
اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ.
أي: اللهُ أعلمُ بحَقيقةِ إيمانِ أولئك المهاجِراتِ، وما يُسْرِرْنَه في قُلوبِهنَّ؛ فاحكُموا لهنَّ بما يَظهَرُ لكم مِنَ الدَّلائِلِ [238] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (5/47)، ((تفسير ابن جرير)) (22/578)، ((تفسير القرطبي)) (18/63)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/514)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/156). .
فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ.
أي: فإن عَلِمْتُم بعدَ اختبارِهنَّ أنَّهنَّ مُؤمِناتٌ، فلا تَرُدُّوهنَّ إلى الكُفَّارِ [239] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (5/47)، ((تفسير ابن جرير)) (22/578)، ((تفسير الزمخشري)) (4/517)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/229). .
لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ.
النَّاسِخُ والمنسوخُ:
هذه الآيةُ نَسَخَت ما كان في أوَّلِ الإسلامِ مِن إباحةِ نِكاحِ الكافِرِ للمُسلِمةِ [240] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/231)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/120)، ((تفسير ابن كثير)) (8/93). قال ابنُ العربي: (قال أهلُ التَّفسيرِ: أمَرَ اللهُ تعالى مَن كان له زوجةٌ مُشرِكةٌ أن يُطَلِّقَها. وقد كان الكُفَّارُ يَتزَوَّجون المُسلِماتِ، والمسلِمونَ يتزَوَّجونَ المُشرِكاتِ، ثمَّ نَسَخ اللهُ ذلك في هذه الآيةِ وغَيرِها، وكان ذلك نَسْخَ الإقرارِ على الأفعالِ بالأقوالِ). ((أحكام القرآن)) (4/231). ويُنظر: ((الناسخ والمنسوخ)) لأبي بكر بن العربي (2/385). وقال ابن كثير: (هذه الآيةُ هي الَّتي حرَّمت المسلِماتِ على المُشرِكينَ، وقد كان جائِزًا في ابتداءِ الإسلامِ أن يتزوَّجَ المُشرِكُ المُؤمِنةَ). ((تفسير ابن كثير)) (8/93). .
لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ.
أي: ليست المُؤمِناتُ بمُباحاتٍ للكافِرينَ بالنِّكاحِ، ولا الكُفَّارُ بجَميعِ مِلَلِهم يَحِلُّونَ للمُؤمِناتِ بالنِّكاحِ؛ فقد حَرَّم اللهُ نِكاحَ الكافِرِ للمُؤمِنةِ تَحريمًا مُؤَكَّدًا في جميعِ الأحوالِ والأزمانِ [241] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/578)، ((تفسير السمعاني)) (5/418)، ((تفسير ابن عطية)) (5/297)، ((تفسير الشوكاني)) (5/256). .
قال تعالى: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [البقرة: 221] .
وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا.
أي: وأعطُوا مَن كانوا أزواجًا للَّاتي أسلَمْنَ وهاجَرْنَ إليكم، ما دَفَعوا إليهنَّ مِن مُهورٍ [242] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/579)، ((تفسير الزمخشري)) (4/517)، ((تفسير القرطبي)) (18/65)، ((تفسير ابن كثير)) (8/94)، ((تفسير الشوكاني)) (5/256)، ((تفسير السعدي)) (ص: 857). قال القرطبي: (أمَرَ اللهُ تعالى إذا أُمسِكَت المرأةُ المسلمةُ أن يُرَدَّ على زَوجِها ما أنفَقَ، وذلك مِن الوفاءِ بالعَهدِ؛ لأنَّه لَمَّا مُنِع مِن أهلِه بحُرمةِ الإسلامِ أُمِرَ برَدِّ المالِ إليه؛ حتَّى لا يَقَعَ عليهم خُسرانٌ مِن الوَجهَينِ: الزَّوجةِ، والمالِ). ((تفسير القرطبي)) (18/64). ويُنظر: ((البسيط)) للواحدي (21/419). وقال ابنُ عاشور: (المكلَّفُ بإرجاعِ مُهورِ الأزواجِ المُشرِكينَ إليهم هم وُلاةُ أُمورِ المُسلِمينَ مِمَّا بيْنَ أيديهم مِن أموالِ المُسلِمينَ العامَّةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/159). ويُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/230). .
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
أي: ولا إثمَ عليكم -أيُّها المؤمِنونَ- أن تتزَوَّجوا المؤمِناتِ المُهاجِراتِ إليكم بعدَ انقِضاءِ عِدَّتِهنَّ، ولو كان لهنَّ أزواجٌ مِن الكُفَّارِ في دارِ الشِّركِ، بشَرطِ إعطائِهنَّ مُهورَهنَّ [243] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/582)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/159)، ((تفسير القرطبي)) (18/65)، ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (2/687)، ((تفسير ابن كثير)) (8/94)، ((تفسير السعدي)) (ص: 857). .
وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ.
أي: ومَن كانت له منكم -أيُّها المؤمِنونَ- زوجةٌ مُشرِكةٌ فلْيُطلِّقْها [244] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/583)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 400)، ((تفسير القرطبي)) (18/65)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/214)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 94)، ((تفسير ابن عجيبة)) (7/28). .
عن المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمةَ ومَروانَ بنِ الحَكَمِ: (أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جاءه نِسْوةٌ مُؤمِناتٌ، فأنزَلَ اللَّهُ تعالى: أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ [الممتحنة: 10] حتَّى بَلَغَ: بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ، فطَلَّق عُمَرُ يومَئذٍ امرأتَينِ كانتا له في الشِّركِ، فتزوَّج إحداهما مُعاويةُ بنُ أبي سُفيانَ، والأُخرى صَفوانُ بنُ أُميَّةَ) [245] رواه البخاري (2731). .
وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا.
أي: وطالِبوا -أيُّها المؤمِنونَ- بما دفَعْتُم مِن المهورِ إلى أزواجِكم اللَّاتي فارقتُموهنَّ لكُفْرِهنَّ، ولْيُطالِبِ المُشرِكونَ بما دَفَعوا مِن المُهورِ إلى أزواجِهم المؤمِناتِ اللَّاتي هاجَرْنَ إليكم [246] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/586)، ((تفسير ابن كثير)) (8/94، 95)، ((تفسير السعدي)) (ص: 857). قال الجصَّاص: (هذه الأحكامُ في رَدِّ المَهرِ وأخْذِه مِن الكُفَّارِ، وتَعويضِ الزَّوجِ مِن الغنيمةِ أو مِن صِداقٍ قد وَجَب رَدُّه على أهلِ الحَربِ: مَنسوخٌ عندَ جماعةِ أهلِ العِلمِ، غيرُ ثابتِ الحُكمِ إلَّا شَيئًا رُوِيَ عن عطاءٍ؛ فإنَّ عبدَ الرَّزَّاقِ روى عن ابنِ جُرَيجٍ قال: قُلتُ لعَطاءٍ: أرأَيْتَ لو أنَّ امرأةً مِن أهلِ الشِّركِ جاءت المسلِمينَ فأسلَمَت، أيُعَوَّضُ زَوجُها منها شيئًا؛ لِقَولِه تعالى في المُمتَحَنةِ: وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا؟ قال: إنَّما كان ذلك بيْن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبيْنَ أهلِ عَهْدِه. قُلتُ: فجاءت امرأةٌ الآنَ مِن أهلِ عَهدٍ؟ قال: نعمْ، يُعاضُ. فهذا مَذهَبُ عَطاءٍ في ذلك، وهو خِلافُ الإجماعِ). ((أحكام القرآن)) (3/589). ويُنظر: ((مصنَّف عبد الرزاق)) (12707). وقال ابن العربي: (قال المفَسِّرون: كُلُّ مَن ذَهَب مِن المسلِماتِ مُرتدَّاتٍ مِن أهلِ العَهدِ إلى الكُفَّارِ، يُقالُ للكُفَّارِ: هاتوا مَهْرَها، ويُقالُ للمُسلِمينَ إذا جاء أحدٌ مِن الكافِراتِ مُسلِمةً مُهاجِرةً: رُدُّوا إلى الكُفَّارِ مَهْرَها، وكان ذلك نَصَفًا وعَدلًا بيْنَ الحالتَينِ، وكان هذا حُكمَ اللهِ مَخصوصًا بذلك الزَّمانِ في تلك النَّازِلةِ خاصَّةً، بإجماعِ الأمَّةِ). ((أحكام القرآن)) (4/231). ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/523)، ((تفسير السمعاني)) (5/419)، ((تفسير القرطبي)) (18/68). وقال ابنُ عاشور: (كانت هذه الأحكامُ الَّتي في هذه الآياتِ مِن التَّرادِّ في المهورِ شَرعًا في أحوالٍ مخصوصةٍ اقتضاها اختِلاطُ الأمرِ بيْنَ أهلِ الشِّركِ والمؤمِنينَ، وما كان مِن عَهدِ المُهادَنةِ بيْن المُسلِمينَ والمُشرِكينَ في أوائِلِ أمرِ الإسلامِ خاصًّا بذلك الزَّمانِ بإجماعِ أهلِ العِلمِ، قاله ابنُ العربي، والقرطبيُّ، وأبو بكرٍ الجصَّاصُ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/161). .
ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ.
أي: ما بيَّنه اللهُ تعالى لكم في هذه الآيةِ مِن إرجاعِ مُهورِ النِّساءِ اللَّاتي يَذهَبْنَ إلى الفَريقِ الآخَرِ: هو حُكمُ اللهِ الَّذي يَقضيه بيْنَكم وبيْنَ الكُفَّارِ بالعَدلِ التَّامِّ [247] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/305)، ((تفسير ابن جرير)) (22/587)، ((تفسير السمرقندي)) (3/439)، ((تفسير السعدي)) (ص: 857)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/161). .
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
أي: واللهُ عليمٌ بما يُصلِحُ عِبادَه، حكيمٌ في تدبيرِهم بما يَشرَعُه لهم مِن الأحكامِ، فيُعطي كُلَّ ذي حَقٍّ حَقَّه [248] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/588)، ((تفسير ابن كثير)) (8/95)، ((تفسير السعدي)) (ص: 857)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/161). .
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11).
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا.
أي: وإن فرَّ بعضُ أزواجِكم -أيُّها المؤمِنونَ- إلى الكُفَّارِ ولم يُعطوكم مُهورَهنَّ، فعاقَبْتُم [249] قيل: المعنى: فغَنِمْتُم مِن العدُوِّ شَيئًا بأن صارت العاقِبةُ في الظَّفَرِ لكم، فأعطُوا الأزواجَ مِن الغنيمةِ ما أنفَقوا عليهنَّ مِن المهرِ. وممَّن قال بهذا القَولِ: مقاتلُ بنُ سليمان، والواحديُّ، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/305)، ((الوسيط)) للواحدي (4/286)، ((تفسير السعدي)) (ص: 857)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/162، 163). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ، وقَتادةُ، ومسروقٌ، وإبراهيمُ، والضَّحَّاكُ، وسفيانُ بنُ حُسَينٍ، والزُّهريُّ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/591)، ((تفسير ابن كثير)) (8/95). وقيل: هو مِن العُقْبةِ، وهي النَّوبةُ، والمعنى: فآتُوا مَن فاتَتْه امرأتُه إلى الكُفَّارِ مِثلَ مَهرِها مِن مَهرِ المهاجِرةِ، ولا تُؤتُوه زَوجَها الكافِرَ. وممَّن قال بهذا المعنى: الزمخشريُّ، وابنُ عطية. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/519)، ((تفسير ابن عطية)) (5/298). ويُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/233). وذكَر ابنُ كثيرٍ أنَّه لا تنافيَ بينَ القولَينِ السَّابقَينِ، وأنَّه إذا أمكَنَ عَدَمُ إعطاءِ المهاجِرةِ شَيئًا في مقابِلِ فِرارِ زَوجةِ المؤمِنِ، فهو أولى، وإلَّا فمِن الغنائمِ اللَّاتي تؤخَذُ مِن أيدي الكُفَّارِ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/95). وأيضًا ذهب ابنُ جريرٍ إلى عدمِ تخصيصِ إيتائِهم ذلك مِن مالٍ دونَ مالٍ؛ فعليهم أن يُعطوهم ذلك مِن كُلِّ تلك الأموالِ المذكورةِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/593). قال الرَّسْعَني: (وفي المالِ الَّذي يُرَدُّ منه هذا المهرُ ثلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: مِن أموالِ غنائمِهم. قاله ابنُ عبَّاسٍ. الثَّاني: مِن أموالِ الفَيءِ. قاله الزُّهْريُّ. الثَّالثُ: مِن صَداقِ مَن أسلَمْنَ مِنهُنَّ عن زَوجٍ كافرٍ. وهذا مرويٌّ عن الزُّهْريِّ أيضًا). ((تفسير الرسعني)) (8/97). ؛ فأعطُوا المؤمِنينَ الَّذين فَرَّت أزواجُهم إلى الكُفَّارِ ما دَفَعوه إليهنَّ مِن مُهورٍ [250] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/588، 589، 593)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/160)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/309)، ((تفسير ابن كثير)) (8/95)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/520، 521)، ((تفسير الإيجي)) (4/303)، ((تفسير السعدي)) (ص: 857)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/162، 163). ذكر النَّحَّاسُ أنَّ هذه الآيةَ وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ ... مَنسوخةٌ عندَ أكثَرِ العُلَماءِ، وحكاه السمرقنديُّ إجماعًا. يُنظر: ((الناسخ والمنسوخ)) للنحاس (ص: 742)، ((تفسير السمرقندي)) (3/440). وقال ابنُ عطيَّة: (هذه الآيةُ كُلُّها قد ارتفَعَ حُكمُها). ((تفسير ابن عطية)) (5/298). ويُنظر: ((نواسخ القرآن)) لابن الجوزي (2/608، 609). وقال الشوكاني: (هذه الآيةُ منسوخةٌ، قد انقطَع حُكمُها بعدَ الفتحِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/257). وقال ابن العربي: (قولُه تعالى: وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا قال بعضُهم: المرادُ بهذه الآيةِ: إنِ ارتدَّتِ امرأةٌ منكم فذهبتْ منكم إلى الكفَّارِ فأَعْطوا زوْجَها مِثلَ ما أنفَق عليها -يعني: مِن صَداقٍ-، ثمَّ نسَخ اللهُ ذلك. واختُلِف في نَسخِه على ثلاثةِ أقوالٍ: الأوَّلُ: أنَّه منسوخٌ بقولِه: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الآية [الأنفال: 41] . الثَّاني: أنَّه منسوخٌ بآيةِ القتالِ. الثَّالثُ: أنَّ آيةَ «براءة» نسخَتْ أحكامَ هذه السُّورةِ). ((الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم)) (2/386). وقال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (كلُّ هؤلاء الآياتِ نسَخَتْها فى «براءة» آيةُ السَّيفِ). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/306). وقال ابن عاشور: (عن ابنِ عبَّاسٍ والجمهورِ: الَّذين فاتَهم أزواجُهم إلى الكفَّارِ يُعطَوْنَ مُهورَ نسائِهم مِن مَغانمِ المسلمينَ. وهذا يَقتضي أن تكونَ الآيةُ منسوخةً بآيةِ سورةِ «براءة»: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ [التوبة: 7] ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/162). .
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ.
أي: وخافوا اللهَ واحذَروا سَخَطَه وعذابَه، بطاعتِه واجتنابِ مَعصيتِه؛ الَّذي أنتم مُؤمِنونَ بوحدانيَّتِه وصِفاتِه، وثوابِه وعِقابِه [251] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/594)، ((تفسير ابن عطية)) (5/298)، ((تفسير القرطبي)) (18/70)، ((تفسير السعدي)) (ص: 857). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ أنَّ المؤمِنَ مُحتاجٌ إلى امتحانِ مَن يريدُ أنْ يُصاحِبَه ويُقارِنَه بنِكاحٍ وغَيرِه [252] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/328). .
2- قَولُ الله تعالى: أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ في الجُملةِ: الامتِحانُ طَريقٌ إلى المعرفةِ، وجواهِرُ النَّاسِ تتبَيَّنُ بالتَّجرِبةِ، ومَن أقدَمَ على شَىءٍ مِن غيرِ تجرِبةٍ تحسَّى كأسَ النَّدَمِ [253] يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/573). .
3- قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ نَدَب تعالى إلى التَّقوى وأوجَبَها، وذَكَر العِلَّةَ الَّتي بها يجِبُ التَّقوى، وهي الإيمانُ باللهِ، والتَّصديقُ بوَحدانيَّتِه وصِفاتِه، وعِقابِه وإنعامِه [254] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/298). ، فالإيمانُ به عزَّ وجلَّ يقتضي التَّقوى منه سُبحانَه وتعالى [255] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (14/273). .
4- قَولُ الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ فيه تحريضٌ للمُسلِمينَ على الوَفاءِ بما أمَرَهم اللهُ، وألَّا يَصُدَّهم عن الوَفاءِ ببَعضِه مُعامَلةُ المُشرِكينَ لهم بالجَورِ، وقِلَّةِ النَّصَفةِ [256] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/164). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- المعانِدُ لا يخلو مِن أحَدِ أحوالٍ ثلاثةٍ: إمَّا أن يستَمِرَّ عِنادُه، أو يُرجَى منه أن يترُكَ العِنادَ، أو يترُكَ العِنادَ ويَستسلِمَ، وقد بَيَّن اللهُ تعالى في هذه الآياتِ أحوالَهم، وأمَرَ المسلِمينَ أن يُعامِلوهم في كُلِّ حالةٍ على ما يَقتَضيه الحالُ؛ أمَّا قَولُه تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ [الممتحنة: 4] فهو إشارةٌ إلى الحالةِ الأُولى، ثمَّ قَولُه: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [الممتحنة: 7] إشارةٌ إلى الحالةِ الثَّانيةِ، ثمَّ قَولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ [الممتحنة: 10] إشارةٌ إلى الحالةِ الثَّالثةِ [257] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/521). .
2- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ نَزَل في شَرطِ صُلحِ الحُدَيبيَةِ أن يُرَدَّ إلى المُشرِكينَ مَن جاء مُسلِمًا مِن أهلِ مَكَّةَ، فاستُدِلَّ به على أنَّه لا يجوزُ في الهُدنةِ شَرطُ رَدِّ مُسلِمةٍ تأتينا منهم، وأنَّه إن لم يُذكَرْ رَدٌّ أو شُرِطَ رَدُّ مَن جاءَنا منهم، فجاءت امرأةٌ؛ لا يجوزُ رَدُّها [258] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 260). .
3- إذا تعارضتْ سَيِّئتانِ لا يمكنُ الخُلُوُّ منهما، فإنَّه يُدفَعُ أسوأُهما باحتِمالِ أدناهما، كما في تقديمِ المرأةِ المهاجِرةِ لسَفَرِ الهِجرةِ بلا مَحْرَمٍ على بقائِها بدارِ الحَربِ، كما فعَلَت أمُّ كُلثومٍ الَّتي أنزَلَ اللهُ فيها آيةَ الامتِحانِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ [259] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/51). .
4- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ دلَّ على أنَّ مجرَّدَ إظهارِ الإسلامِ لا يكونُ دليلًا على الإيمانِ في الباطنِ؛ إِذْ لو كان كذلك لم تَحْتَجِ المهاجِراتُ اللَّاتي جِئْنَ مُسلِماتٍ إلى الامتِحانِ [260] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/581). .
5- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ مَفهومُه أنَّ الرِّجالَ المهاجِرينَ لا يُمتَحَنونَ، وفِعلًا لم يكنِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يمتَحِنُ مَن هاجَرَ إليه، والسَّبَبُ في امتِحانِهنَّ دونَ الرِّجالِ هو ما أشارت إليه هذه الآيةُ في قَولِه تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ، كأنَّ الهِجرةَ وَحْدَها لا تَكفي في حَقِّهنَّ بخِلافِ الرِّجالِ؛ فقد شَهِدَ اللهُ لهم بصِدقِ إيمانِهم بالهِجرةِ، في قَولِه تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر: 8] ؛ وذلك أنَّ الرَّجُلَ إذا خرجَ مُهاجِرًا يَعلَمُ أنَّ عليه تَبِعةَ الجِهادِ والنُّصرةِ، فلا يُهاجِرُ إلَّا وهو صادِقُ الإيمانِ، فلا يَحتاجُ إلى امتِحانٍ، بخِلافِ النِّساءِ؛ فليس عليهنَّ جِهادٌ، ولا يَلزَمُهنَّ بالهِجرةِ أيَّةُ تَبَعيَّةٍ، فأيُّ سَبَبٍ يواجِهُهنَّ في حياتِهنَّ سَواءٌ كان بسَبَبِ الزَّوجِ أو غَيرِه، فإنَّهنَّ يَخرُجنَ باسمِ الهِجرةِ؛ فكان ذلك مُوجِبًا للتَّوثُّقِ مِن هِجرتِهنَّ بامتِحانِهنَّ؛ لِيُعلَمَ إيمانُهنَّ، ويُرشِّحُ لهذا المعنى قَولُه تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ، وفي حَقِّ الرِّجالِ: أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [الحشر: 8] ، وكذلك مِن جانبٍ آخَرَ، وهو أنَّ هِجرةَ المؤمِناتِ يَتعَلَّقُ عليها حَقٌّ مع طَرَفٍ آخَرَ، وهو الزَّوجُ، فيُفسَخُ نِكاحُها منه، ويُعَوَّضُ هو عمَّا أنفَقَ عليها، وإسقاطُ حَقِّه في النِّكاحِ، وإيجابُ حَقِّه في العِوَضِ قضايا حقوقيَّةٌ تتطَلَّبُ إثباتًا، بخِلافِ هِجرةِ الرِّجالِ. واللهُ تعالى أعلَمُ [261] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/97، 98). .
6- قَولُ الله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فيه سُؤالٌ: ما الفائِدةُ في قَولِه: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ، وذلك معلومٌ مِن غَيرِ شَكٍّ؟
الجوابُ: فائِدتُه بيانُ أنْ لا سَبيلَ إلى ما تَطمَئِنُّ به النَّفْسُ مِن الإحاطةِ بحَقيقةِ إيمانِهنَّ؛ فإنَّ ذلك ممَّا استأثَرَ به علَّامُ الغُيوبِ، وأنَّ ما يُؤدِّي إليه الامتحانُ مِن العِلمِ كافٍ في ذلك، وأنَّ تَكليفَكم لا يَعْدُوه [262] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/518)، ((تفسير الرازي)) (29/522). .
7- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ لم يُرِدْ حَقيقةَ العِلْمِ بضَمائِرِهنَّ واعتقادِهنَّ، وإنَّما أراد ما ظَهَر مِن إيمانِهنَّ بالقَولِ، وجَعَل ذلك عِلْمًا؛ فدَلَّ على أنَّه لا اعتبارَ بالضَّميرِ في أحكامِ الدُّنيا، وإنَّما الاعتبارُ بما يَظهَرُ مِنَ القَولِ [263] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (2/360). ؛ فقَولُه تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ يعني: بسرائِرهنَّ في إيمانِهنَّ، وهذا يدُلُّ على أنْ لم يُعْطَ أحَدٌ مِن بني آدَمَ أن يَحكُمَ على غيرِ ظاهِرٍ [264] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (5/47). .
8- قَولُ الله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فيه سُؤالٌ: كيف سُمِّيَ الظَّنُّ عِلْمًا؟
الجوابُ: أنَّه مِن بابِ أنَّ الظَّنَّ الغالِبَ، وما يُفضي إليه الاجتِهادُ والقياسُ: جارٍ مَجرى العِلمِ، وأنَّ صاحِبَه غَيرُ داخِلٍ في قَولِه تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [265] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/523). [الإسراء: 36] .
9- قَولُ الله تعالى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ. ما الفائِدةُ في قَولِه تعالى: وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، ويُمكِنُ أن يكونَ في أحَدِ الجانِبَينِ دونَ الآخَرِ؟
الجوابُ: هذا باعتِبارِ الإيمانِ مِن جانِبِهنَّ ومِن جانِبِهم؛ إذ الإيمانُ مِن الجانبَينِ شَرطٌ للحِلِّ، ولأنَّ الذِّكْرَ مِن الجانِبَينِ مُؤَكِّدٌ لارتفاعِ الحِلِّ، وفيه مِن الإفادةِ ما لا يكونُ في غَيرِه [266] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/522). .
10- في قَولِه تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ تخصيصُ السُّنَّةِ بالكِتابِ، وهو قليلٌ؛ فإنَّ مِن الشُّروطِ الَّتي بيْن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُشرِكينَ في الحُديبيَةِ: أنَّ مَن جاء مِن المُشرِكينَ مُسلِمًا يُرَدُّ إليهم، وهذا الشَّرطُ عامٌّ يَشملُ الذَّكَرَ والأُنثى؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى الآيةَ [267] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (9/505). ويُنظر أيضًا: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/230)، ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/99). قال البغوي: (واختلَف القولُ في أنَّ ردَّ مهرِ مَن أسلمَتْ مِن النِّساءِ إلى أزواجِهنَّ، كان واجبًا أو مندوبًا؟ وأصلُه أنَّ الصُّلحَ هل كان وقَع على ردِّ النِّساءِ؟ فيه قَولانِ: أحدُهما: أنَّه وقَع على ردِّ الرِّجالِ والنِّساءِ جميعًا؛ لِما رُوِّينا: «أنَّه لا يَأتيك مِنَّا أحدٌ وإن كان على دينِك إلَّا ردَدْتَه إلينا»، ثمَّ صار الحُكمُ في ردِّ النِّساءِ منسوخًا بقولِه: فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ. فعلى هذا كان ردُّ المهرِ واجبًا. والقولُ الآخَرُ: أنَّ الصُّلحَ لم يقَعْ على ردِّ النِّساءِ؛ لأنَّه يُروى: «على أنَّه لا يأتيك مِنَّا رجُلٌ وإن كان على دينِك إلَّا ردَدْتَه إلينا»؛ وذلك لأنَّ الرَّجُلَ لا يُخشى عليه مِن الفِتنةِ في الرَّدِّ ما يُخشى على المرأةِ مِن إصابةِ المشركِ إيَّاها، وأنَّه لا يُؤْمَنُ عليها الرِّدَّةُ إذا خُوِّفَتْ وأُكرِهَتْ عليها؛ لِضَعفِ قلبِها، وقلَّةِ هدايتِها إلى المَخرَجِ منها بإظهارِ كلمةِ الكفرِ مع التَّوريةِ وإضمارِ الإيمانِ، ولا يُخشى ذلك على الرَّجُلِ؛ لقوَّتِه وهِدايتِه إلى التَّقِيَّةِ. فعلى هذا كان ردُّ المهرِ مندوبًا. واختلَفوا في أنَّه هل يجبُ العملُ به اليومَ في ردِّ المالِ إذا شُرِط في مُعاقَدةِ الكفَّارِ؟ فقال قَومٌ: لا يجِبُ، وزعَموا أنَّ الآيةَ منسوخةٌ، وهو قولُ عَطاءٍ ومجاهِدٍ وقَتادةَ. وقال قومٌ: هي غيرُ منسوخةٍ، ويُرَدُّ إليهم ما أنفَقوا). ((تفسير البغوي)) (5/75). وقال ابنُ القَيِّمِ: (الصَّحيحُ أنَّ الصُّلحَ كان عامًّا على رَدِّ مَن جاء مُسلِمًا مُطلَقًا ولم يكُنْ فيه تخصيصٌ، بل وقع بصيغةِ «مَنْ» المتناوِلةِ للرِّجالِ والنِّساءِ، ثمَّ أبطل اللهُ منه رَدَّ النِّساءِ، وعَوَّض منه رَدَّ مُهورِهنَّ، وهذه شُبهةُ مَن قال: إنَّ حُكمَ هذه الآيةِ مَنسوخٌ، ولم يُنسَخْ منه إلَّا رَدُّ النِّساءِ خاصَّةً، وكان ردُّ المهورِ مأمورًا به، والظَّاهِرُ أنَّه كان واجِبًا؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة: 10] ؛ فثَبَت أنَّ رَدَّ المهورِ حَقٌّ لِمن يَسألُه، فيَجِبُ رَدُّه إليه). ((بدائع الفوائد)) (3/166، 167). . وهذا على قولٍ.
11- في قَولِه تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ أنَّ أنكِحةَ الكُفَّارِ لها حُكْمُ الصِّحَّةِ، لا يُحكَمُ عليها بالبُطلانِ [268] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/127). .
12- قَولُ الله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ هذا أوَّلُ دَليلٍ على أنَّ الَّذي أوجَبَ فُرقةَ المُسلِمةِ مِن زَوجِها الكافِرِ إسلامُها لا هِجرتُها [269] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (19/25). ، ففيه تحريمُ المؤمِناتِ على الكافِرينَ [270] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/99). ، وأنَّ الكافِرَ لا يَحِلُّ له نِكاحُ المُسلِمةِ بحالٍ، وأنَّ إسلامَها تحتَه يَفسَخُ النِّكاحَ؛ لأنَّه جَعَل عَدَمَ الإرجاعِ مُرَتَّبًا على الإيمانِ، لا على اختِلافِ الدَّارِ [271] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 260). قال ابنُ القَيِّمِ: (لا رَيْبَ أنَّ الإسلامَ لو كان بمُجَرَّدِه فُرقةً، لم تكُنْ فُرقةً رَجْعيَّةً، بل بائِنةٌ، فلا أَثَرَ للعِدَّةِ في بقاءِ النِّكاحِ، وإنَّما أَثرُها في مَنْعِ نكاحِها للغَيرِ، فلو كان الإسلامُ قد نَجَز الفُرقةَ بيْنَهما، لم يكُنْ أحَقَّ بها في العِدَّةِ، ولكِنَّ الَّذي دلَّ عليه حُكمُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ النِّكاحَ موقوفٌ، فإنْ أسلَمَ قبل انِقضاءِ عِدَّتِها فهي زوجُته، وإن انقَضَت عِدَّتُها فلها أن تَنكِحَ مَن شاءت، وإن أحَبَّت انتظَرَتْه، فإن أسلَمَ كانت زوجتَه مِن غَيرِ حاجةٍ إلى تجديدِ النِّكاحِ. ولا نعلَمُ أحدًا جَدَّدَ للإسلامِ نِكاحَه البتَّةَ، بل كان الواقِعُ أحدَ أمْرَينِ: إمَّا افتراقُهما ونِكاحُها غيرَه، وإمَّا بقاؤُها عليه وإن تأخَّرَ إسلامُها أو إسلامُه. وأمَّا تنجيزُ الفُرقةِ أو مُراعاةُ العِدَّةِ، فلا نَعلَمُ أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قضى بواحدةٍ منهما مع كثرةِ مَن أسلَمَ في عَهْدِه مِن الرِّجالِ وأزواجِهنَّ، وقُربِ إسلامِ أحدِ الزَّوجينِ مِن الآخَرِ وبُعْدِه منه، ولولا إقرارُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الزَّوجَينِ على نكاحِهما وإن تأخَّرَ إسلامُ أحَدِهما عن الآخَرِ بَعْدَ صُلحِ الحُدَيبيَةِ وزَمَن الفَتْحِ، لَقُلْنا بتَعجيلِ الفُرقةِ بالإسلامِ مِن غيرِ اعتبارِ عِدَّةٍ؛ لِقَولِه تعالى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة: 10] ، وقَولِه: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ [الممتحنة: 10] ، وأنَّ الإسلامَ سَبَّب الفُرقةَ، وكُلُّ ما كان سببًا للفُرقةِ تَعْقُبُه الفُرقةُ، كالرَّضاعِ، والخُلْعِ، والطَّلاقِ، وهذا اختيارُ الخَلَّالِ، وأبي بكرٍ صاحِبِه، وابنِ المنذِرِ، وابنِ حَزمٍ، وهو مَذهَبُ الحسَنِ، وطاووسٍ، وعِكْرِمةَ، وقَتادةَ، والحَكَمِ). ((زاد المعاد)) (5/125، 126). وقال أيضًا: (إذا أسلَمَت المرأةُ أوَّلًا فلها أن تتَربَّصَ بإسلامِ زَوْجِها، أيَّ وَقتٍ أسلَمَ فهي امرأتُه، وإذا أسلم الرَّجُلُ فليس له أن يحبِسَ المرأةَ على نَفْسِه، ويُمسِكَ بعِصْمَتِها، فلا يُكرِهْها على الإسلاِم، ولا يحبِسْها على نَفْسِه، فلا يَظلِمْها في الدِّينِ ولا في النِّكاحِ، بل إن اختارت هي أن تترَبَّصَ بإسلامِه ترَبَّصَت، طالت المدَّةُ أو قَصُرت، وإن اختارت أن تتزوَّجَ غَيْرَه بَعْدَ انقضاءِ عِدَّتِها فلها ذلك، والعِدَّةُ هاهنا لحِفظِ ماءِ الزَّوجِ الأوَّلِ، وأيُّهما أسلَمَ في العِدَّةِ أو بَعْدَها فالنِّكاحُ بحالِه، إلَّا أن يختارَ الرَّجُلُ الطَّلاقَ، فيُطَلِّقُ، كما طَلَّق عُمَرُ رَضِيَ الله عنه امرأتينِ له مُشرِكتينِ لَمَّا أنزل اللهُ تعالى: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ، أو تختارَ المرأةُ أن تُزَوَّجَ بعدَ استبرائِها فلها ذلك، وأيضًا فإنَّ في هذا تنفيرًا عن الإسلامِ؛ فإنَّ المرأةَ إذا عَلِمَت أو الزَّوجَ أنَّه بمجَرَّدِ الإسلامِ يَزولُ النِّكاحُ، ويفارِقُ مَن يحِبُّ، ولم يَبْقَ له عليها سبيلٌ إلَّا برضاها وِرضا وَلِيِّها، ومَهْرٍ جديدٍ؛ نَفَر عن الدُّخولِ في الإسلامِ، بخِلافِ ما إذا عَلِمَ كلٌّ منهما أنَّه متى أسلم فالنِّكاحُ بحالِه، ولا فِراقَ بيْنَهما إلَّا أن يختارَ هو المفارَقةَ، كان في ذلك مِن التَّرغيبِ في الإسلامِ ومحَبَّتِه ما هو أدعى إلى الدُّخولِ فيه). ((أحكام أهل الذمة)) (2/694). .
13- قَولُه تعالى: وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا يدُلُّ على أنَّ الفُرقةَ إذا جاءت بسَبَبٍ مِن جِهةِ الزَّوجةِ أنَّ عليها ردَّ ما أنفَقَ الزَّوجُ عليها [272] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/100). .
14- قَولُ الله تعالى: وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا استَدَلَّ به من أوجَبَ رَدَّ مَهرِ المِثْلِ إلى زَوجِها [273] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 260). .
15- في قَولِه تعالى: وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا إلى قوله: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا أنَّ خروجَ البُضْعِ مُتَقَوَّمٌ؛ حيثُ أَمَرَ سُبحانَه برَدِّ المَهرِ عِوَضًا عن ردِّ المرأةِ، فذلك قولُه تعالى: وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا، فأَمَرَ أنْ يُؤتَى الأزواجُ ما أَنفَقوا على المرأةِ المُمتحَنةِ الَّتي لا تُرَدُّ، والَّذي أَنفَقوا هو المسَمَّى وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ، فشَرَعَ للمؤمِنينَ أنْ يَسألوا الكُفَّارَ ما أَنفَقوا على النِّسوةِ اللَّاتي ارتدَدْنَ إليهم، وأنْ يَسألَ الكُفَّارُ ما أَنفَقوا على النِّساءِ المهاجراتِ، فلمَّا حَكَمَ اللهُ سُبحانَه وتعالى بذلك دلَّ على أنَّ خروجَ البُضْعِ مُتَقَوَّمٌ، وأنَّه بالمَهرِ المُسَمَّى، ودَلَّتِ الآيةُ على أنَّ المرأةَ إذا أَفسدَتْ نكاحَها رَجَعَ عليها زوجُها بالمَهرِ [274] يُنظر: ((مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية)) للبعلي (ص: 540). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 857). .
16- في قَولِه تعالى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ المرادُ بالأُجورِ هنا الصَّدَاقُ، وسمَّاه اللهُ أجرًا؛ لأنَّه عِوَضٌ عنِ استمتاعِ الرَّجُلِ بالمرأةِ، فكأنَّه عِوَضٌ في الإجارةِ [275] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (2/395). .
17- قال تعالى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ للتَّنبيهِ على خُصوصِ قولِه: إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ؛ لئلَّا يُظَنَّ أنَّ ما دُفِعَ للزَّوجِ السَّابقِ مُسقِطٌ استِحقاقَ المرأةِ المهرَ ممَّن يَرُومُ تَزويجَها، ومَعلومٌ أنَّ نِكاحَها بعْدَ استبرائِها بثلاثةِ أقراءٍ [276] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/159). قال القرطبي: (قولُه تعالى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ يعني: إذا أسلَمْنَ وانقضَتْ عدَّتُهنَّ؛ لِما ثبت مِن تحريمِ نكاحِ المشركةِ والمعتَدَّةِ. فإن أسلمَتْ قبْلَ الدُّخولِ ثبَتَ النِّكاحُ في الحالِ، ولها التَّزوُّجُ). ((تفسير القرطبي)) (18/65). .
18- في قَولِه تعالى: إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أنَّ النِّكاحَ بغيرِ صَداقٍ غيرُ جائزٍ؛ لأنَّ اللهَ تبارك وتعالى أباح النِّكاحَ في هذه الأمكِنةِ مَقرونًا بإيتاءِ الأُجورِ، وابتغائِه بالمالِ، وليس إفرادُ ذِكْرِه في أماكِنَ بمؤَثِّرٍ -واللهُ أعلمُ- في المواضِعِ المقرونةِ بما ذَكَرْنا، بلِ المفسَّرُ أَحرى أنْ يَحْكُمَ على المُجمَلِ [277] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/274). .
19- قال الله تعالى: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ إذا نهَى عن الإمساكِ بعِصمتِها، فالنَّهيُ عن ابتداءِ تَزويجِها أَولى [278] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 857). .
20- في قَولِه تعالى: وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ أنَّه لا يَحِلُّ لمسلمٍ وَطْءُ كافرةٍ إلَّا الكتابيَّةَ المُستثناةَ له بقَولِه تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [279] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/274). [المائدة: 5] .
21- في قَولِه تعالى: ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أنَّه ما مِن حُكْمٍ مِن أحكامِ الشَّريعةِ إلَّا وله حِكمةٌ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ، لكنْ قد تَظهَرُ لنا بالنَّصِّ أو بالإجماعِ أو بالاستِنباطِ، وقد لا تَظهَرُ؛ وذلك لقُصورِنا، أو لِتَقصيرِنا في طَلَبِ الحِكمةِ [280] يُنظر: ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (6/380). .
22- إنَّ حُكْمَ اللهِ نوعانِ: حكمٌ كَونيٌّ، كقَولِه: قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ [الأنبياء: 112] ، أي: افعَلْ ما تَنْصُرُ به عبادَك، وتخذُلُ به أعداءَك. وحكمٌ دينيٌّ، كقَولِه: ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ، وقَولِه: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة: 1] ، وقد يَرِدُ بالمعنيَينِ معًا، كقَولِه: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف: 26] ، فهذا يتناولُ حُكْمَه الكونيَّ وحُكْمَه الشَّرعيَّ [281] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 280). .
23- في قَولِه تعالى: وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا أنَّ الضَّمانَ بيْنَ الطَّوائفِ المُقتَتِلةِ مِن المسلِمينَ يَقَعُ على مجموعِ الطَّائفةِ، يَستوي فيه الرِّدْءُ والمباشِرُ، لا يقالُ: انظُروا مَن قَتَل صاحِبَكم هذا فطالِبوه بدِيَتِه، بل يقالُ: دِيَتُه عليكم كلِّكم؛ فإنَّكم جميعًا قتَلْتُموه؛ لأنَّ المباشِرَ إنَّما تَمَكَّنَ بمعاونةِ الرِّدْءِ له.
ووجهُ الدَّلالةِ: أنَّ أولئك الكُفَّارَ كان عليهم مِثلُ صَداقِ هذه المرأةِ الَّتي ذَهبتْ إليهم، فإذا لم يُؤَدُّوه أُخِذَ مِن أموالِهم الَّتي يَقدِرُ المسلِمونَ عليها، مِثلُ امرأةٍ جاءتْ منهم يَستحِقُّونَ صَداقَها، فيُعطَى المسلمُ زَوْجُ تلك المرتَدَّةِ صَداقَها مِن صَداقِ هذه المُسلِمةِ المهاجرةِ الَّذي يَستَحِقُّه الكُفَّارُ؛ لكَونِها أَسْلَمَتْ وهاجَرتْ، وفَوَّتَتْ زوجَها بُضْعَها، كما فَوَّتَتْ المرتَدَّةُ بُضْعَها لزَوجِها، وإنْ كان زوجُ المهاجرةِ ليس هو الَّذي تزوَّجَ بالمرتَدَّةِ؛ لأنَّ الطَّائفةَ لَمَّا كانت ممتَنِعةً؛ يَمنَعُ بعضُها بعضًا، صارتْ كالشَّخصِ الواحِدِ [282] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/83). .
24- قال تعالى: وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ ... أشارت الآيةُ إلى نِسوةٍ مِن نِساءِ المهاجِرينَ لم يُسْلِمْنَ [283] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/163). قال ابن عاشور: (وهُنَّ ثماني نِساءٍ: أمُّ الحَكَمِ بنتُ أبي سفيانَ كانت تحتَ عِياضِ بنِ شَدَّادٍ، وفاطِمةُ بنتُ أبي أُمَيَّةَ -ويُقالُ: قُرَيبةُ، وهي أُختُ أمِّ سَلَمةَ- كانت تحتَ عُمرَ بنِ الخَطَّابِ، وأمُّ كُلثومٍ بنتُ جَرْوَل كانت تحتَ عُمَرَ، وبَرْوَعُ -بفتح الباءِ على الأصَحِّ، والمحَدِّثون يَكسِرونَه- بنتُ عُقبةَ كانت تحتَ شَمَّاسِ بنِ عُثمانَ، وشَهبةُ بنتُ غَيْلانَ، وعَبدةُ بنتُ عبدِ العُزَّى كانت تحتَ هِشامِ بنِ العاصِ، وقيل: تحت عَمرِو بنِ عَبدٍ، وهِندُ بنتُ أبي جهلٍ كانت تحتَ هِشامِ ابنِ العاصِ، وأَرْوى بنتُ رَبيعةَ بنِ الحارثِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ كانت تحتَ طلحةَ بنِ عُبَيدِ اللهِ). ((المصدر السابق)). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/584)، ((فتح الباري)) لابن حجر (9/ 419). .
25- في قَولِه تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أنَّ الإيمانَ باللهِ عزَّ وجلَّ مُستَلزِمٌ لِتَقواه، فلِإيمانكم يَلْزَمُكم التَّقوى، فمَن قال: إنَه مُؤمِنٌ ولكنْ لم يَتَّقِ اللهَ، فهو إمَّا فاقدٌ للإيمانِ بالكُلِّيَّةِ، وإمَّا ناقِصُ الإيمانِ [284] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/307). .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ بَيانٌ لحُكْمِ مَن يُظهِرُ الإيمانَ بعْدَ بَيانِ حُكمِ فَريقَيِ الكافرينَ [285] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/239). .
- وجُملةُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ مُعترِضةٌ، أي: إنَّ اللهَ يَعلَمُ سَرائرَهنَّ، ولكنْ عليكم أنْ تَختبِروا ذلك بما تَسْتطيعون مِن الدَّلائلِ؛ ولذلك فُرِّعَ على ما قبْلَ الاعتِراضِ قولُه: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ... إلخ، أي: إنْ حَصَل لكم العِلمُ بأنَّهنَّ مُؤمناتٌ غيرُ كاذباتٍ في دَعواهنَّ [286] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/239)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/156). .
- ومَوقعُ قولِه: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ مَوقعُ البيانِ والتَّفصيلِ للنَّهيِ في قولِه: فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ؛ تَحقيقًا لوُجوبِ التَّفرقةِ بيْن المرأةِ المؤمنةِ وزَوجِها الكافرِ [287] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/156). . أو تَعليلٌ للنَّهيِ عن رَجْعِهنَّ إلى الكفَّارِ [288] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/239). .
- فإنْ قِيل: ما وجْهُ الإتيانِ بالجُملتينِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، ووَجْه التَّعاكُسِ في تَرتيبِ أجْزائِهما؟
فالجوابُ: أنَّ رُجوعَ المرأةِ المؤمنةِ إلى الزَّوجِ الكافرِ يقَعُ على صُورتَينِ؛ إحداهما: أنْ تَرجِعَ المرأةُ المؤمنةُ إلى زَوجِها في بِلادِ الكفْرِ، وذلك هو ما ألحَّ الكفَّارُ في طَلَبِه لمَّا جاءت بَعضُ المؤمناتِ مُهاجِراتٍ. والثَّانيةُ: أنْ تَرجِعَ إلى زَوجِها في بلادِ الإسلامِ؛ بأنْ يُخلَّى بيْنها وبيْن زَوجِها الكافرِ يُقيمُ معها في بِلادِ الإسلامِ إذا جاء يَطلُبُها ومُنِعَ مِن تَسلُّمِها.
وكِلْتا الصُّورتينِ غيرُ حلالٍ للمرأةِ المسلمةِ، فلا يُجيزُها وُلاةُ الأمورِ، وقد عُبِّرَ عن الصُّورةِ الأُولى بجُملةِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ؛ إذ جُعِلَ فيها وصْفُ حِلٌّ خبَرًا عن ضَميرِ النِّساءِ، وأُدخِلَت اللَّامُ على ضَميرِ الرِّجالِ، وهي لامُ تَعديةِ الحِلِّ، وأصْلُها لامُ المِلْكِ، فأفاد ألَّا يَملِكَ الرِّجالُ الكفَّارُ عِصمةَ أزواجِهم المؤمناتِ، وذلك يَستلزِمُ أنَّ بَقاءَ النِّساءِ المؤمناتِ في عِصمةِ أزواجِهنَّ الكافرينَ غيرُ حَلالٍ، أي: لم يُحْلِلْهنَّ الإسلامُ لهم. وقدَّم لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ؛ لأنَّه راجعٌ إلى الصُّورةِ الأكثرِ أهمِّيَّةً عندَ المشركينَ؛ إذ كانوا يَسألون إرجاعَ النِّساءِ إليهم، ويُرسِلونَ الوسائطَ في ذلك بقَصْدِ الرَّدِّ عليهم بهذا. وجِيءَ في الجُملةِ الأُولَى بالصِّفةِ المُشبَّهةِ -وهي حِلٌّ- المُفيدةِ لثُبوتِ الوصْفِ؛ إذ كان الرِّجالُ الكافِرونَ يظُنُّونَ أنَّ العِصمةَ الَّتي لهم على أزواجِهم المؤمناتِ مُثبِتةٌ أنَّهم حِلٌّ لهم. وعُبِّرَ عن الثَّانيةِ بجُملةِ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، فعُكِسَ الإخبارُ بالحلِّ؛ إذ جُعِل خبَرًا عن ضَميرِ الرِّجالِ، وعُدِّيَ الفعلُ إلى المُحلَّلِ باللَّامِ داخلةً على ضَميرِ النِّساءِ، فأفاد أنَّهم لا يحِلُّ لهنَّ أزواجُهنَّ الكافِرون ولو بقِيَ الزَّوجُ في بلادِ الإسلامِ؛ ولهذا ذُكِرَت الجُملةُ الثَّانيةُ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ كالتَّتِمَّةِ لحكْمِ الجُملةِ الأُولى، وجِيءَ في الجُملةِ الثَّانيةِ بالمُسنَدِ فِعلًا مُضارعًا لدَلالتِه على التَّجدُّدِ؛ لإفادةِ نفْيِ الطَّماعيةِ في التَّحليلِ، ولو بتَجدُّدِه في الحالِ بعقْدٍ جديدٍ أو اتِّفاقٍ جديدٍ على البقاءِ في دارِ الإسلامِ [289] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/157، 158). .
ويَجوزُ في الآيةِ وجْهٌ آخَرُ؛ وهو أنْ يكونَ المرادُ تأْكيدَ نفْيِ الحالِ؛ فبَعْدَ أنْ قال: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ -وهو الأصلُ- أكَّدَ بجُملةِ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، أي: إنَّ انتفاءَ الحلِّ حاصلٌ مِن كلِّ جِهةٍ، كما يُقالُ: لَسْتُ منك ولستَ منِّي، ونظيرُه قولُه تَعالى: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ في سُورةِ البقرةِ [187]؛ تأْكيدًا لشِدَّةِ التَّلبُّسِ والاتِّصالِ مِن كلِّ جِهةٍ [290] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/206)، ((تفسير أبي حيان)) (10/158)، ((تفسير أبي السعود)) (8/239)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/158). .
وقيل: جاء قولُه: وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ على سَبيلِ التَّأكيدِ وتَشديدِ الحُرمةِ؛ لأنَّه إذا لم تَحِلَّ المؤمنةُ للكافرِ، عُلِمَ أنَّه لا حِلَّ بيْنَهما ألبتَّةَ. وقِيل: أفاد قولُه: وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ استمرارَ الحُكمِ بيْنَهم فيما يُستقبَلُ، كما هو في الحالِ ما داموا على الإشراكِ وهنَّ على الإيمانِ. أو لأنَّ الأوَّلَ لبَيانِ زوالِ النِّكاحِ الأوَّلِ، والثَّانيَ لبَيانِ امتِناعِ النِّكاحِ الجديدِ [291] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/206)، ((تفسير أبي حيان)) (10/158)، ((تفسير أبي السعود)) (8/239). .
- والمرادُ بـ مَا أَنْفَقُوا ما أعْطَوه مِن المُهوِر، والعُدولُ عن إطلاقِ اسمِ المُهورِ والأجورِ على ما دَفَعَه المشرِكون لنِسائِهم اللَّائي أسْلَمْنَ مِن لَطائفِ القرآنِ؛ لأنَّ أولئك النِّساءَ أصبَحْنَ غيرَ زَوجاتٍ، فأُلغِيَ إطلاقُ اسمِ المهورِ على ما يُدفَعُ لهم، وقد سمَّى اللهُ بعْدَ ذلك ما يُعطِيه المسلمون لهنَّ أُجورًا بقولِه تَعالى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [292] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/158، 159). .
- قولُه: وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا عطْفٌ على قولِه: وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا، وهو تتْميمٌ لحُكْمِه، أي: كما تُعْطونَهم مُهورَ أزواجِهم اللَّائي فرَرْنَ منهم مُسلِماتٍ، فكذلك إذا فرَّتْ إليهم امرأةُ مسلمٍ كافرةً ولا قُدْرةَ لكم على إرجاعِها إليكم؛ تَسْألون المشركين إرجاعَ مَهْرِها إلى زَوجِها المسلمِ الَّذي فرَّت منه، وهذا إنصافٌ بيْن الفريقَينِ [293] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/160). .
- وقولُه: وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا تَكملةٌ لقولِه: وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ؛ لإفادةِ أنَّ معْنى واوِ العَطْفِ هنا على المَعيَّةِ بالقرينةِ؛ لأنَّ قولَه: وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا لو أُرِيدَ حُكْمُه بمُفرَدِه لَكان مُغْنِيًا عنه قولُه: وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا، فلمَّا كُرِّرَ عَقِبَ قولِه: وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ عَلِمْنا أنَّ المرادَ جمْعُ مَضمونِ الجُملتينِ، أي: إذا أعْطَوا ما عليهم أَعْطُوهم ما عليكم، وإلَّا فلا؛ فالواوُ مُفيدةٌ معْنى المعيَّةِ هنا بالقرينةِ [294] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/160). . وقيل: أعاده توكيدًا؛ لئلَّا يُتهاوَنَ به مِن حيث إنَّهم مُشركون؛ ولذلك أمَرَهم بالسُّؤالِ؛ فإنَّه حقٌّ مِن حُقوقِهم [295] يُنظر: ((تفسير الكوراني)) (ص: 149). .
- وقولُه: يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ كلامٌ مُستأنَفٌ، أو حالٌ مِن لفْظِ الجلالةِ، أو حالٌ مِن حُكْمُ اللَّهِ على حذْفِ الضَّميرِ، أي: يَحكُمُه اللهُ، أو جُعِلَ الحكْمُ حاكمًا على المُبالَغةِ [296] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/518، 519)، ((تفسير البيضاوي)) (5/206)، ((تفسير أبي السعود)) (8/240)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/161). .
- وقولُه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذييلٌ يُشيرُ إلى أنَّ هذا حُكْمٌ يَقتضيهِ عِلمُ اللهِ بحاجاتِ عِبادِه، وتَقتضيهِ حِكمتُه؛ إذْ أعْطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه [297] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/161). .
2- قولُه تعالَى: وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ
- فائدةُ إيقاعِ شَيْءٌ في هذا الموضعِ التَّحقيرُ، والمُبالَغةُ في التَّعميمِ، أي: لا يُغادَرُ شَيءٌ مِن هذا الجنسِ، وإنْ قلَّ وحقُرَ، غيرُ مُعوَّضٍ منه؛ تَغليظًا في هذا الحُكمِ، وتَشديدًا فيه [298] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/519)، ((تفسير البيضاوي)) (5/206)، ((تفسير أبي حيان)) (10/159)، ((تفسير أبي السعود)) (8/240). . وقيل: لفظُ شَيْءٌ هنا مُرادٌ به: بعضٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بيانٌ لـ شَيْءٌ، وأُريدَ بـ شَيْءٌ تحقيرُ الزَّوْجاتِ اللَّائي أبَيْنَ الإسلامَ؛ فإنَّ المرادَ قد فاتتْ ذاتُها عن زَوجِها، فلا انتِفاعَ له بها [299] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/162). .
- والكلامُ إيجازُ حذْفٍ شَديدٍ دلَّ عليه مَجموعُ الألْفاظِ ومَوضِعُ الكلامِ عَقِبَ قولِه تعالى: وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ، والمعْنى: إنْ فرَّتْ بَعضُ أزواجِكم، ولَحِقَت بالكُفَّارِ، وحصَلَ التَّعاقُبُ بيْنَكم وبيْنَ الكُفَّارِ، فعقَّبْتُم على أزواجِ الكُفَّارِ، وعقَّبَ الكُفَّارُ على أزواجِكم -وذلك على قولٍ-، وأبى الكُفَّارُ مِن دفْعِ مُهورِ بَعضِ النِّساءِ اللَّائي ذَهَبْنَ إليهم؛ فادْفَعوا أنتُم لِمَن حَرَمَه الكُفَّارُ مَهْرَ امرأتِه -أي: ما هو حقُّه- واحْجُزوا ذلك عن الكُفَّارِ [300] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/162). .
- وقولُه: فَعَاقَبْتُمْ، أي: جاءت عُقْبَتُكم، أي: نَوبتُكم مِن أداءِ المَهرِ، شبَّهَ الحُكْمَ بأداءِ هؤلاء مُهورَ نِساءِ أولئك تارةً، وأداءِ أولئك مُهورَ نِساءِ هؤلاء أُخرى؛ بأمْرٍ يَتعاقَبون فيه كما يُتعاقَبُ في الرُّكوبِ وغيرِه [301] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/519)، ((تفسير البيضاوي)) (5/206)، ((تفسير أبي حيان)) (10/159)، ((تفسير أبي السعود)) (8/240)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/163). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- والتَّذييلُ بقولِه: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ تَحريضٌ للمُسلِمينَ على الوفاءِ بما أمَرَهم اللهُ، وألَّا يَصُدَّهم عن الوفاءِ ببَعضِه مُعامَلةُ المشركين لهم بالجَورِ وقِلَّةِ الإنصافِ، فأمَرَ بأنْ يُؤدِّيَ المسلِمونَ لإخوانِهم مُهورَ النِّساءِ اللَّائي فارَقُوهنَّ ولم يَرْضَ المُشركونَ بإعطائِهم مُهورَهنَّ؛ ولذلك أُتبِعَ اسمُ الجلالةِ بوصْفِ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ؛ لأنَّ الإيمانَ يَبعَثُ على التَّقوى، والمشركون لَمَّا لم يُؤمِنوا بما أمَرَ اللهُ انْتَفى منهم وازِعُ الإنصافِ، أي: فلا تَكونوا مِثلَهم، والجُملةُ الاسميَّةُ في الصِّلةِ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ للدَّلالةِ على ثَباتِ إيمانِهم [302] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/164). .