موسوعة التفسير

سورةُ التَّوبةِ
الآيتان (7 - 8)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ

غريب الكلمات:

يَرْقُبُوا: أي: يَحفَظُوا ويُراعُوا، وأصلُ (رقب): يدلُّ على انتصابٍ لِمُراعاةِ شَيءٍ [111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/354)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/427)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 135)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 975). .
إِلًّا: الإلُّ: الحِلْفُ والقَرابةُ والعهد والعقد، ويأتي أيضًا بمعنى الله، وأصلُ (ألل) هنا يدلُّ على السَّبَبِ يُحافَظُ عليه [112] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/355)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 105)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس  (1/21)، ((المفردات)) للراغب (ص: 81)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 175). .
ذِمَّةً: الذِّمَّةُ: العَهدُ والمِيثاقُ، وما يجِبُ أن يُحفَظَ ويُحمى، وأصلُ (ذمم): خلافُ الحَمدِ، وسُمِّي العَهْدُ ذِمامًا؛ لأنَّ الإنسانَ يُذَمُّ على إضاعتِه منه [113] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/355- 356)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 231)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس  (2/345)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 135)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 175). .

المعنى الإجمالي:

يقول الله تعالى: كيف يكونُ للمُشرِكينَ عهدُ أمانٍ عندَ اللهِ وعندَ رَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم؟ هذا أمرٌ مُستبعَدٌ، إلَّا الذينَ عاهَدْتُم- أيُّها المُؤمِنونَ- عند المسجِدِ الحرامِ يومَ الحُدَيبيَة، فما دامُوا مُستقيمينَ لكم على ما تعاهَدْتُم عليه، فاستَقِيموا لهم كذلك، إلى انتهاءِ مُدَّةِ العَهدِ، ولا تَبدَؤُوهم بنَقضِه؛ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المتَّقينَ.
كيف يكونُ للمُشرِكينَ عَهدُ أمانٍ، وهم إن يغلِبُوكم- أيُّها المُؤمِنونَ- لا يَرحَموكم، ولا يُراعُوا فيكم الله ولا قَرابةً ولا عَهدًا؟ يقولونَ لكم بألسِنَتِهم كلامًا طيِّبًا يُرضِيكم، ولكِنَّ قُلوبَهم تَمتنِعُ أن تُوافِقَ ما يتكَلَّمونَ به، وأكثَرُهم فاسِقونَ.

تفسير الآيتين:

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا قال تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وقال: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فلعلَّ بعضَ قبائِلِ العَرَبِ مِنَ المشركينَ يتعجَّبُ مِن هذه البراءةِ، ويسألُ عن سَبَبِها، وكيف أُنهِيَت العُهودُ، وأُعلِنَتِ الحَربُ؟! فكان المقامُ مقامَ بيانِ سَبَبِ ذلك، والحِكمةِ المُوجِبةِ لِأن يتبَرَّأَ اللهُ ورَسولُه مِن المُشرِكينَ، وأنَّه حُكمٌ واقِعٌ في مَحلِّه، وأنَّ نَبْذَ العُهودِ إلى المُشرِكينَ أمرٌ في غايةِ الإحكامِ والصَّوابِ [114] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/285)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/121)، ((تفسير السعدي)) (ص: 329). .
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ.
أي: كيف يكونُ للمُشرِكينَ بِرَبِّهم عهدُ أمانٍ عندَ اللهِ وعندَ رَسولِه مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؟! هذا أمرٌ مُستبعَدٌ؛ فهؤلاءِ قَومٌ يُضمِرونَ الغَدرَ، والواجِبُ على المؤمِنينَ قَتلُهم أينَما وَجَدُوهم؛ لِكُفرِهم باللهِ ورسولِه، ومُحارَبتِهم أولياءَه [115] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/349، 350)، ((تفسير القرطبي)) (8/78)، ((تفسير ابن كثير)) (4/114)، ((تفسير السعدي)) (ص: 329)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/285). وقال الشنقيطي: (المعنى: أنَّ نَبذَ عُهودِهم إليهم حُكمٌ في غايةِ الصَّوابِ، واقِعٌ في موقِعِه، موضوعٌ في موضِعِه؛ لأنَّهم أهلُ خُبث، وأهلُ عَداوةٍ ومكْرٍ للإسلامِ، يستحِقُّونَ نَبذَ عُهودِهم إليهم، وأن يكونوا حَربًا، إلَّا الطَّائفةَ الذين ثَبَتوا. وهذا معنى قَولِه: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ يأمنونَ به على أنفُسِهم وأموالِهم عِنْدَ اللَّهِ يأمُرُ نَبِيَّه بالوفاء به وَعِنْدَ رَسُولِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يعمَلُ لهم بمُقتضاه). ((العذب النمير)) (5/285). .
إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
أي: لا ينبغي أن يكونَ للمُشرِكينَ عَهدٌ يأمَنونَ به عَدا الذينَ عاهَدْتُموهم [116] قال ابنُ إسحاق: (هي قبائِلُ بني بكرٍ، الذين كانوا دخَلُوا في عقدِ قُريشٍ وعَهدِهم يومَ الحُدَيبيَة إلى المدَّةِ التي كانت بين رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبين قُريش، فلم يكن نَقَضَها إلا هذا الحيُّ من قريشٍ وبنو الديل من بكر، فأُمِرَ بإتمامِ العهد لِمَن لم يكن نقَضَ عَهْدَه من بني بكرٍ إلى مُدَّتِه). رواه ابن جرير (11/351). يُنظر: ((سيرة ابن هشام)) (2/544)، ((تفسير ابن جرير)) (11/353، 354)، ((البسيط)) للواحدي (10/301 - 303). وقال الشنقيطي: (أربعُ قبائِلَ مِن كِنانةَ بنِ مُدرِكةَ كانوا أهلَ عَهدٍ مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع قريشٍ، ثم نقض العهدَ منهم بنو الدِّيلِ بنِ بكرِ بنِ عبدِ مَناةَ بن ِكِنانةَ، بأن عَدَوْا على خُزاعةَ، ونقَضَ معهم قريشٌ؛ حيث أعانوهم على الخُزاعيِّينَ، وبَقِيَ بنو ضَمْرةَ، وبنو جُذَيمةَ بنِ عامرٍ، وبنو مُدلجٍ على عهدِهم، لم ينقُضوا، وهم الذين استَثْناهم اللهُ، وهذه المُعاهدةُ وقع عهدُها في الحُدَيبيَةِ كما عليه جَميعُ المؤرِّخينَ. والله جلَّ وعلا ذكَرَ أنَّها في المسجِدِ الحرام، والتَّحقيقُ أنَّ الحُدَيبيَةَ بعضُها في الحِلِّ وبعضُها في الحرمِ. وهذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ مُعاهَدةَ الحُدَيبيَةِ وقعت في الطَّرَف منها الذي هو مِن الحَرَمِ؛ لأنَّه جرت العادةُ أنَّ الله ربما أطلق المسجِدَ الحَرامَ وأراد به جميعَ الحَرَمِ، فالمرادُ به هنا: إلَّا الذين عاهَدْتم في حَرَمِ اللهِ عند الحُدَيبِيَةِ). ((العذب النمير)) (5/286). - أيُّها المُؤمِنونَ- يومَ الحُدَيبيَةِ عند المسجِدِ الحرامِ، وهم مُوفُونَ بعَهدِهم، مُستقيمونَ عليه [117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/350)، ((تفسير ابن كثير)) (4/114)، ((تفسير السعدي)) (ص: 329)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/285، 286). قال ابنُ القيم: (هؤلاءِ- والله أعلم- هم المُستَثنَونَ في تلك الآية، وهم الذين لهم عَهدٌ إلى مُدَّةٍ؛ فإنَّ هؤلاء لو كان عَهدُهم مُطلقًا لَنُبِذَ إليهم، كما نُبِذَ إلى غيرهم، وإن كانوا مُستقيمين كافِّينَ عن قتاله، فإنَّه نُبِذَ إلى جميعِ المشركين؛ لأنه لم يكن لهم عَهدٌ مُؤجَّلٌ يستحِقُّونَ به الوفاءَ، وإنَّما كانت عهودُهم مُطلقةً غيرَ لازمةٍ، كالمُشاركة، والوَكالة، وكان عهدُهم لأجل المصلحة، فلمَّا فَتَحَ اللهُ مكَّةَ، وأعزَّ الإسلامَ، وأذلَّ أهلَ الكُفرِ، لم يبقَ في الإمساكِ عن جِهادِهم مصلحةٌ، فأمَرَ اللهُ به، ولم يأمُرْ به حتى نَبَذَ إليهم على سواءٍ؛ لِئَلَّا يكون قتالُهم قبل إعلامِهم غَدرًا). ((أحكام أهل الذمة)) (2/884). وقال أيضًا: (النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أرسل أبا بكرٍ، وأردَفَه بعليٍّ رَضِيَ الله عنهما يؤذِّنُ بسورةِ «براءة»، فنبذ العهودَ إلى جميعِ المُشرِكينَ مُطلقًا، لم ينبِذْها إلى مَن نقَضَ دونَ مَن لم ينقُضْ. وأيضًا فالقرآنُ نبَذَها إلى المشركين، وإنَّما استثنى مَن كان له مُدَّةٌ ووفاءٌ، فمن كان فيه هذانِ الشَّرطانِ لم يُنبَذْ إليه. وأيضًا فإنَّه سُبحانه قال: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التوبة: 7] فجعل نَفسَ الشِّركِ مانعًا مِن العَهدِ إلَّا الذين لهم عَهدٌ مُؤقَّتٌ، وهم به مُوفونَ). ((أحكام أهل الذمة)) (2/887). وقال ابنُ عاشور: (ليس المرادُ كُلَّ مَن عاهد عند المَسجِدِ الحرامِ كما قد يتوهَّمُه المتوَهِّمُ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يكُنْ مأذونًا بأنْ يُعاهِدَ فريقًا آخَرَ منهم). ((تفسير ابن عاشور)) (10/122). .
فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ.
أي: فما دامَ المُشرِكونَ مُستَقيمينَ لكم- أيُّها المُؤمِنونَ- على ما تعاهَدْتُم عليه، متمسِّكينَ  بما عاقَدْتُموهم عليه، فاستَقِيموا لهم كذلك إلى انتهاءِ مُدَّةِ العَهدِ، وأوْفُوا لهم بعهدِهم، ولا تَبدَؤُوهم بنَقضِه [118] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/350، 352)، ((تفسير ابن كثير)) (4/114)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/287). .
إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.
أي: إنَّ اللهَ يُحِبُّ الذين يتَّقونَ اللهَ، فيَمتَثِلونَ أوامِرَه، ويجتَنِبونَ نَواهِيَه، ومن ذلك أنَّهم يُوفُونَ بالعُهودِ، ولا يَغدِرونَ [119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/354)، ((البسيط)) للواحدي (10/303)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/288). .
كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا أنكَرَ سُبحانَه أن يكونَ للمُشرِكينَ غَيرِ المُستَثنَينَ عَهدٌ؛ بيَّن السَّبَبَ المُوجِبَ للإنكارِ [120] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/384). ، فقال تعالى:
كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً.
أي: كيفَ يكونُ للمُشرِكينَ عَهدُ أمانٍ، والحالُ أنَّهم إن يغلِبُوكم- أيُّها المُؤمِنونَ- لا يَرحَموكم، ولا يُراعُوا فيكم اللهَ، ولا قَرابةً، ولا عَهدًا [121] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/354، 358)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/140)، ((تفسير ابن كثير)) (4/115)، ((تفسير السعدي)) (ص: 330)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/124)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/288-289). وممَّن ذهب إلى أنَّ الإلَّ هنا بمعنى القَرابةِ، والذِّمَّةَ بمعنى العَهدِ: الواحدي، وابنُ تيمية، وابنُ كثيرٍ. يُنظر: ((الوسيط)) (2/479)، ((مجموع الفتاوى)) (29/140)، ((تفسير ابن كثير)) (4/115). وممَّن قال مِن السَّلَفِ بأنَّ الإلَّ  هي القرابةُ: ابنُ عبَّاسٍ، والضحَّاك، والسُّدِّي، ومقاتل. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (6/1758)، ((تفسير ابن جرير)) (11/355، 356)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/238). وممَّن قال مِن السَّلَفِ بأنَّ الذِّمَّةَ هي العَهدُ: ابنُ عبَّاسٍ، والضحَّاك في أحدِ قَولَيه، وسعيدُ بن جُبير، وقتادة، ومجاهدٌ في إحدى الرِّوايات عنه. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (6/1758)، ((تفسير ابن جرير)) (11/355، 356)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/239). وقال ابنُ جريرٍ: (والإلُّ: اسمٌ يشتَمِلُ على معانٍ ثلاثةٍ: وهي العَهدُ والعَقدُ، والحِلْفُ، والقَرابةُ، وهو أيضًا بمعنى (الله). فإذ كانت الكَلِمةُ تَشمَلُ هذه المعانيَ الثَّلاثةَ، ولم يكُنِ اللهُ خَصَّ من ذلك معنًى دونَ معنًى، فالصَّوابُ أن يَعُمَّ ذلك، كما عَمَّ بها جَلَّ ثَناؤُه معانيَها الثَّلاثةَ، فيُقال: لا يَرقُبونَ في مؤمِنٍ اللهَ، ولا قرابةً، ولا عهدًا ولا ميثاقًا). ((تفسير ابن جرير)) (11/358). وقال الشِّنقيطي عن اختيارِ ابنِ جَريرٍ: (وهذا الذي ذهَبَ إليه هو مِن حَملِ المُشتَرَكِ على مَعانيه، وحَملُ المُشتَرَكِ على مَعنَيَيه أو مَعانيه، ممَّا اختلفَ فيه علماءُ الأصولِ، والذي حرَّرَه المُحَقِّقونَ مِن أصوليِّي أصحابِ المذاهِبِ الأربعةِ: هو جوازُ حَملِ المُشتَرَكِ على مَعنَيَيه أو معانيه). ((العذب النمير)) (5/293). ؟!
يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ سُبحانَه حالَهم مع المُؤمِنينَ إن ظَهَروا عليهم، ذَكَرَ حالَهم معهم إذا كانوا غيرَ ظاهِرينَ، فقال تعالى [122] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/378). :
يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ.
أي: يَقولُ لكم المُشرِكونَ بألسِنَتِهم كلامًا طَيِّبًا يُرضيكم- أيُّها المُؤمِنونَ- لكِنَّ قُلوبَهم تمتَنِعُ أن تُوافِقَ ما يَنطِقونَ به؛ فهي مُنطَوِيةٌ على بُغضِكم وعَداوَتِكم، والامتناعِ عَن محبَّتِكم، والدُّخولِ في دِينِكم [123] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/359)، ((تفسير الرازي)) (15/532)، ((تفسير أبي حيان)) (5/378)، ((تفسير الشوكاني)) (2/388)، ((تفسير السعدي)) (ص: 330)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/294). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران: 118-120].
وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ.
أي: وأكثَرُ أولئك القَومِ خارِجونَ عَن طاعةِ اللهِ، ناقِضونَ للعُهودِ، لا ديانةَ لهم، ولا مُروءةَ [124] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/359)، ((تفسير الرازي)) (15/533)، ((تفسير القرطبي)) (8/80)، ((تفسير السعدي)) (ص: 330)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/295، 296). .

الفوائد التربوية :

الوفاءُ بالعَهدِ مِن أخلاقِ المُتَّقينَ؛ يُرشِدُ إلى ذلك قَولُ الله تعالى: فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [125] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/376). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ. في وَصفِهم بالمُشرِكينَ إيماءٌ إلى عِلَّةِ الإنكارِ على دوامِ العَهدِ مَعَهم [126] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/121). .
2- دلَّ قولُه تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً على أنَّ مَن كانت حالُه أنَّه إذا ظهَرَ لم يَرقُبْ ما بيننا وبينه مِن العَهدِ- لم يكُنْ له عَهدٌ؛ لأنَّ مَن جاهَرَنا بالطَّعنِ في ديننا، كان ذلك دليلًا على أنَّه لو ظهر لم يَرقُبِ العَهدَ الذي بيننا وبينه؛ فإنَّه إذا كان مع وُجودِ العَهدِ والذِّلَّةِ يفعلُ هذا، فكيف يكونُ مع العِزَّةِ والقُدرةِ؟! خلافًا لِمَن لم يُظهِر لنا مثلَ هذا الكَلامِ؛ فإنَّه يجوزُ أنْ يَفيَ لنا بالعَهدِ لو ظَهَرَ [127] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 13). .
3- قال تعالى: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ. إن قيلَ: إنَّ الموصوفينَ بهذه الصِّفةِ كُفَّارٌ، والكُفرُ أقبَحُ وأخبَثُ مِن الفِسقِ، فكيف يَحسُنُ وَصفُهم بالفِسقِ في مَعرِضِ المبالغةِ في الذَّمِّ، وأيضًا الكُفَّارُ كلُّهم فاسِقونَ، فلا يبقى لِقَولِه: وَأَكْثَرُهُمْ فائدةٌ؟ فالجَوابُ: أنَّ الكافِرَ قد يكونُ عَدلًا في دِينِه، له حفظٌ لمراعاةِ الحالِ الحسنةِ مِن التعفُّفِ عمَّا يثلمُ العِرضَ، فلا ينقُضُ العَهدَ، وقد يكونُ فاسِقًا خبيثَ النَّفسِ في دينِه، لا مروءةَ تردعُه، ولا طباعَ مرضيةٌ تزَعُه، فينقُضُه، فالمرادُ بالفِسقِ هنا نَقضُ العَهدِ، وكان في المُشرِكينَ مَن وَفَى بِعَهدِه؛ فلهذا قال: وَأَكْثَرُهُمْ، أي: إنَّ هَؤلاءِ الكُفَّارَ- الذين مِن عادَتِهم نَقضُ العَهدِ- أكثَرُهم فاسِقونَ في دِينِهم وعند أقوامِهم، وذلك يُوجِبُ المُبالغةَ في الذَّمِّ [128] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/533)، ((تفسير أبي حيان)) (5/378)، ((تفسير الشربيني)) (1/591). ، وقيل: التعبيرُ بقولِه: وَأَكْثَرُهُمْ لأنَّ منهم مَن قضَى الله له بالإيمانِ [129] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/378). ، وقيل: المرادُ بالأكثريةِ: الكلُّ، فمعنَى وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ: وكلُّهم فاسقونَ [130] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/10)، ((تفسير أبي حيان)) (5/378). .

بلاغة الآيتين:

1- قَولُه تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
- قولُه تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ استئنافٌ بيانيٌّ، نَشأ عن قولِه: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ عن قُولِهِ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وعن قولِه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، التي كانتْ تَدرُّجًا في إبطالِ ما بينهم وبين المسلمينَ من عُهودٍ سابقةٍ؛ لأنَّ ذلك يُثيرُ سؤالًا في نُفوسِ السَّامعينَ من المسلِمينَ الذين لم يَطَّلِعوا على دَخيلةِ الأَمْرِ؛ فلعلَّ بعضَ قَبائل العربِ من المشركين يَتعجَّب من هذه البَراءةِ، ويسألُ عن سببِها؛ فكان المقامُ مَقامَ بيانِ سَببِ ذلك، وأنَّه أمران: بُعدُ ما بين العقائدِ، وسَبْقُ الغَدْرِ [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/120-121). .
- قولُهُ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ اسْتِفهامٌ بمَعْنى الإنكارِ، والاسْتِبعادِ لِأنْ يكونَ لهم عَهْدٌ ولا يَنْكُثوه مع ضِغنِ صُدورِهم وعَداوتِها، وتوقُّدِها من الغيظِ، أو لأنْ يَفيَ اللهُ تعالى ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالعَهْدِ، وهم نَكَثوه [132] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/249)، ((تفسير البيضاوي)) (3/72). .
- وفي قولِهِ: كَيْفَ يَكُونُ تَوجيهُ الإنكارِ إلى كيفيَّةِ ثُبوتِ العَهْدِ، وفيه من المُبالَغةِ ما ليس في تَوجيهِهِ إلى ثُبوتِهِ؛ لأنَّ كلَّ موجودٍ يَجِبُ أنْ يكونَ وجودُهُ على حالٍ من الأحوالِ قَطْعًا [133] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/45). .
- قَولُ اللهِ تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ المقصودُ مِن تَخصيصِهم بالذِّكرِ؛ التَّنويهُ بخَصلةِ وَفائِهم بما عاهَدُوا عليه [134] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/121). .
2- قَولُه تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ
- قولُه: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ... كَيْفَ هذه مُؤكِّدةٌ لـكَيْفَ التي في الآيةِ قَبْلها، وفي إعادةِ الاسْتِفهامِ إشعارٌ بأنَّ جُملةَ الحالِ لها مزيدُ تَعلُّقٍ بتوجُّه الإنكارِ على دَوامِ العهدِ للمُشركينَ، حتَّى كأنَّها مُستَقِلَّةٌ بالإنكارِ، لا مجرَّدُ قيدٍ للأَمْرِ الذي تَوجَّه إليه الإنكارُ ابتداءً؛ فهي تَكرارٌ لاسْتِبعادِ ثَباتِهم على العَهْدِ، أو بقاءِ حُكْمه، مع التَّنبيهِ على العِلَّةِ [135] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/249)، ((تفسير البيضاوي)) (3/72)، ((تفسير أبي السعود)) (4/45)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/123). .
- وفي قوله: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ أيضًا استأنَفَ هذا الكلامَ، أي: حالُهم في الظَّاهرِ يُخالِفُ باطِنَهم، وهذا كلُّه تَقريرٌ واسْتِبعادٌ لثَباتِ قلوبِهم على العَهْد [136] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/378). .
- ونِسبةُ الإرضاءِ إلى الأفواهِ في قولِهِ: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ؛ للإيذانِ بأنَّ كلامَهم مُجرَّدُ ألفاظٍ يَتفوَّهون بها، مِن غيرِ أنْ يكونَ لها مِصداقٌ في قلوبِهم [137] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/46). .