موسوعة التفسير

سورةُ الأنْبياءِ
الآيات (106-112)

ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ

غريب الكلمات:

لَبَلَاغًا: أي: لكفايةً، يقال: في هذا الشيءِ بلاغٌ وبُلْغةٌ وتبلُّغٌ، أي: كفايةٌ، والبُلوغُ والبلاغُ: الانتهاءُ إلى أقصَى المقصدِ والمنتهَى، وربَّما يُعبَّرُ به عن المشارفةِ عليه، وإن لم ينتهِ إليه، وأصلُ (بلغ): هو الوصولُ إلى الشَّيءِ [1101] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/301)، ((الوسيط)) للواحدي (3/254)، ((المفردات)) للراغب (ص: 144)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 252). .
عَلَى سَوَاءٍ: أي: على استواءٍ فِي العِلمِ مِنكَ ومِنهم؛ فلَا يَدَّعِي أحدٌ منهم أنَّه لم يبلُغْه الإنذارُ، وأصلُ (سوي): يدُلُّ على استِقامةٍ واعتدالٍ بينَ شَيئينِ [1102] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 289)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/112)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 242)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/173). .
آَذَنْتُكُمْ: أي: أعلَمْتُكم وأنذَرْتُكم، وأصلُ (أذن): يدُلُّ على العِلمِ والإعلامِ [1103] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 289)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 69)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/75، 77)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 242). .
تَصِفُونَ: أي: تكذِبونَ وتقولونَ، والوصْفُ: ذِكْرُ الشَّيءِ بحِلْيتِه ونعْتِه، وأصْلُ (وصف): تحْليةُ الشَّيءِ [1104] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/444)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/115)، ((تفسير السمعاني)) (3/415)، ((المفردات)) للراغب (ص: 873)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 298). .

المعنى الإجمالي:

يَقولُ اللهُ تعالى: إنَّ في هذا القرآنِ لَكفايةً لِقَومٍ عابِدينَ اللهَ بما شَرَعه لهم ورَضِيَه منهم، يَتبلَّغونَ به في الوصولِ إلى بُغْيتَهم مِن خيرِ الدُّنيا والآخرةِ. وما أرسَلْناك -يا مُحمَّدُ- إلَّا رَحمةً لجَميعِ الخَلقِ.
 قُلْ: إنَّما يُوحَى إليَّ أنَّ إلهَكم الذي يَستَحِقُّ العِبادةَ مَعبودٌ واحِدٌ لا شَريكَ له، هو اللهُ، فهل أنتم مُستَسلِمونَ له، مُنقادونَ لِطاعتِه؟
 فإنْ أعرَضَ هؤلاء عن الإسلامِ فقُلْ لهم -يا مُحمَّدُ-: أعلَمْتُكم ببَراءَتي منكم وبراءَتِكم مِنِّي، وأنَّه لا صلحَ بينَنا، ولا سلمَ، فاستَوَينا جميعُنا في العِلمِ بذلك، ولسْتُ أدري أقريبٌ ما وعَدَكم اللهُ به من العَذابِ، أم هو بَعيدٌ. إنَّ اللهَ يَعلمُ ما تَجهَرونَ به من أقوالِكم، وما تَكتُمونَه في سَرائِرِكم، وسيُحاسِبُكم عليه، ولَسْتُ أدري لعَلَّ تأخيرَ العذابِ الذي استعْجلتُموه استدراجٌ لكم وابتِلاءٌ، فتزدادُ سَيِّئاتُكم، وتتمَتَّعونَ قَليلًا في حياتِكم إلى وَقتٍ مُعَيَّنٍ، ثمَّ يأتيكم العَذابُ.
قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ربِّ افصِلْ بيْنَنا وبيْنَ قَوْمِنا المكَذِّبينَ بالقَضاءِ الحَقّ، بأنْ تَنصُرَني عليهم وتَخذُلَهم. ورَبُّنا الرَّحمنَ نَستَعينُ به على ما تَصِفونَه -أيُّها الكُفَّارُ- مِن الشِّركِ والتَّكذيبِ، والافتِراءِ عليه وعلى رَسولِه.

تفسير الآيات:

إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان ما ذُكِرَ في هذه السُّورةِ مِن الحِكَمِ والدَّلائِلِ والقَصَصِ، واعِظًا شافِيًا حَكيمًا، ومُرشِدًا هادِيًا عَليمًا؛ قال واصِلًا بما تقَدَّمَ؛ إشارةً إلى أنَّه نتيجتُه [1105] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/508). :
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106).
أي: إنَّ في هذا القرآنِ الذي أنزَلْناه على نبيِّنا محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم [1106] ممن اختار أنَّ الإشارةَ في قولِه: إِنَّ فِي هَذَا تعودُ إلى القرآنِ الكريمِ: ابنُ جريرٍ، وابنُ كثيرٍ، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/437)، ((تفسير ابن كثير)) (5/385)، ((تفسير السعدي)) (ص: 532)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/250). وقيل: المرادُ: ما جرَى ذِكرُه في هذه السورةِ مِن الوَعظِ وغيرِه. وممن قال بذلك: القرطبي، والبيضاوي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/349)، ((تفسير البيضاوي)) (4/62). وقيل: المراد: ما ذُكِرَ في الآيةِ السَّابقةِ مِن الوَعدِ الموعودِ به في الزَّبورِ مِن أنَّ الأرضَ يَرِثُها عبادُ اللهِ الصَّالِحونَ. وممن قال بذلك: ابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/164). لَكفايةً؛ يَتبلَّغونَ به في الوصولِ إلى بُغْيتَهم مِن خيرِ الدُّنيا والآخرةِ [1107] ممن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: لَبَلَاغًا الكفايةُ، واقتَصر عليها: الرسعني، والعليمي، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير الرسعني))  (4/683)، ((تفسير العليمي)) (4/395)، ((تفسير الشوكاني)) (3/508)، ((تفسير القاسمي)) (7/226). وفسَّر الواحدي وابنُ الجوزي البلاغَ بأنَّه الكفايةُ، لكنَّهما قالا: (والمعنى: أنَّ مَن اتَّبَع القرآنَ وعمِل به، كان القرآنُ بلاغَه إِلى الجنَّةِ). يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/254)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/218). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرسعني))  (4/684). وممن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: لَبَلَاغًا أي: إلى رِضوانِ الله، أي: سببًا يبلغُهم  إلى رِضوانِه، ويتبلَّغون به في الوصولِ إلى دارِ كرامتِه، وإلى ما يرجونَ مِن الثوابِ. ممن اختار ذلك في الجملةِ: مقاتُل بنُ سليمان، وابنُ جريرٍ، والسمرقندي، والسمعاني، والبغوي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/97)، ((تفسير ابن جرير)) (16/437)، ((تفسير السمرقندي)) (2/445)، ((تفسير السمعاني)) (3/413)، ((تفسير البغوي)) (3/320)، ((تفسير السعدي)) (ص: 532). وممن جمَع بينَ القولينِ السابقينِ، فاختار في الجملةِ أنَّ المرادَ بقولِه: لَبَلَاغًا أي: أنَّ فيه الكفايةَ للعابدينَ، وما يبلغونَ به بُغيتَهم مِن خيرِ الدُّنيا والآخرةِ: الرازي، والنسفي، وأبو حيان، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/192)، ((تفسير النسفي)) (2/423)، ((تفسير أبي حيان)) (7/473)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/250). لِقَومٍ دَيدَنُهم وشَأنُهم القيامُ بعِبادةِ اللهِ بما شَرَعَ [1108] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/437)، ((تفسير الماوردي)) (3/475)، ((تفسير البيضاوي)) (4/62)، ((تفسير ابن كثير)) (5/385)، ((تفسير السعدي)) (ص: 532)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/250). .
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107).
أي: وما أرسَلْناك -يا مُحمَّدُ- إلَّا رَحمةً لِجَميعِ الخَلقِ [1109] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/439، 441)، ((تفسير الماتريدي)) (7/384)، ((تفسير الرازي)) (22/193)، ((تفسير ابن جزي)) (2/31)، ((تفسير ابن كثير)) (5/385)، ((تفسير السعدي)) (ص: 532). قال ابن جرير: (أولى القولينِ في ذلك بالصوابِ القولُ الذي رُوي عن ابنِ عباسٍ، وهو أنَّ الله أرسَل نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم رحمةً لجميعِ العالَمِ؛ مؤمنِهم ، وكافرِهم). ((تفسير ابن جرير)) (16/441). وقال مقاتلُ بنُ سليمان: (رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ يعنى: الجنَّ والإنسَ). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/97). وقال ابنُ جُزي: (المعنى...: أنَّ اللهَ رَحِمَ العالَمينَ بإرسالِ سَيدِنا محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم؛ لأنَّه جاءهم بالسَّعادةِ الكبرى، والنَّجاةِ مِن الشَّقاوة العظمى، ونالوا على يديه الخيراتِ الكثيرةَ في الآخرةِ والأولى، وعَلَّمَهم بعد الجَهالةِ، وهداهم بعد الضَّلالةِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/31). قال ابنُ عاشور: (وتفصيلُ ذلك يظهَرُ في مَظهَرينِ: الأوَّلُ: تخَلُّقُ نَفْسِه الزكيَّةِ بخُلُقِ الرَّحمةِ، والثاني: إحاطةُ الرَّحمةِ بتَصاريفِ شَريعتِه). ((تفسير ابن عاشور)) (17/166). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قيل: يا رَسولَ اللهِ، ادْعُ على المُشرِكينَ، قال: إنِّي لم أُبعَثْ لعَّانًا، وإنما بُعِثْتُ رَحمةً )) [1110] رواه مسلم (2599). .
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؛ بَيَّن سبحانَه أنَّ أصلَ تلك الرَّحمةِ هو التَّوحيدُ والبراءةُ مِن الشِّركِ [1111] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/509). .
وأيضًا بعدَ أن أورَدَ سُبحانَه الحُجَجَ والبراهينَ، لإقناعِ الكافِرينَ بأنَّ رِسالةَ الرَّسولِ حَقٌّ، حتى لم يَبْقَ فى القَوسِ مِنْزَعٌ [1112] المِنْزَعُ: السَّهمُ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (3/1289). ، وبلغ الغايةَ التي ليس بَعدَها غايةٌ، وبيَّنَ أنَّ هذا الرَّسولَ رَحمةٌ للعالَمينَ، وهدايةٌ للنَّاسِ أجمعينَ، وأنَّ مَن اتَّبَعه سَلَك سبيلَ الرَّشادِ، ومَن نأى عنه ضَلَّ وسار فى طريقِ الغَوايةِ والعِنادِ- أردَفَ ذلك ما يكونُ إعذارًا وإنذارًا فى مُجاهَدتِهم، والإقدامِ على مُناوَأتِهم، بعد أن أعيَتْه الحِيَلُ، وضاقت به السُّبُلُ، ولم تُغنِهم الآياتُ والنُّذُر، فتَمادَوا فى غَوايتِهم، ولجُّوا فى عِنادِهم، وأصبَحَ مِنَ العَسيرِ إقناعُهم وهدايتُهم [1113] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (17/79). .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى عقَّب الوَصفَ الجامِعَ لرِسالةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن حيثُ ما لها مِنَ الأثَرِ في أحوالِ البَشَرِ، بوَصفٍ جامِعٍ لأصلِ الدَّعوةِ الإسلاميَّةِ في ذاتِها، الواجِبِ على كلِّ مُتَّبِعٍ لها، وهو الإيمانُ بوحدانيَّةِ اللهِ تعالى، وإبطالُ إلهيَّةِ ما سواه؛ لِنَبذِ الشِّركِ المَبثوثِ بين الأُمَمِ يَومَئذٍ؛ وللاهتِمامِ بذلك صُدِّرَت جُملتُه بالأمرِ بأن يقولَ لهم لاستِصغاءِ أسماعِهم [1114] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/170). :
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108).
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: إنَّما يُوحي اللهُ إليَّ أنَّما مَعبودُكم مَعبودٌ واحِدٌ لا شَريكَ له في العِبادةِ، فهل أنتم مُستَسلِمونَ لِتَوحيدِ اللهِ، مُنقادونَ لِطاعتِه وعِبادتِه وَحْدَه بعدَ هذا البَيانِ [1115] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/441)، ((تفسير القرطبي)) (11/350)، ((تفسير ابن كثير)) (5/388)، ((تفسير السعدي)) (ص: 532)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/172). ؟
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109).
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ.
أي: فإنْ أعرَضَ النَّاسُ عن الإسلامِ، فقُلْ لهم -يا مُحمَّدُ: أعلَمْتُكم ببَراءتي منكم وبراءتِكم مِنِّي، وأنَّه لا صُلحَ بينَنا، ولا سِلْمَ، فاستَوَينا جميعُنا في العِلمِ بذلك [1116] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 289)، ((تفسير ابن جرير)) (16/442)، ((تفسير القرطبي)) (11/350)، ((تفسير ابن كثير)) (5/388). ممن اختار المعنى المذكورَ: ابنُ قُتَيْبةَ، وابن جرير، والبغوي، والرسعني، والقرطبي، وابن كثير، والشوكاني، والشنقيطي. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 289)، ((تفسير ابن جرير)) (16/442)، ((تفسير البغوي)) (3/321)، ((تفسير الرسعني)) (4/685)، ((تفسير القرطبي)) (11/350)، ((تفسير ابن كثير)) (5/388)، ((تفسير الشوكاني)) (3/509)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/251). وقيل: المعنى: أعلمْتُكم بما يُوحَى إليَّ؛ لتستووا في الإيمانِ به. وممن اختاره: الزجَّاج. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/408). قال ابن جزي: (أعلمتُكم بالحقِّ على استواءٍ في الإعلامِ، وتبليغٍ إلى جميعِكم، لم يختصَّ به واحدٌ دونَ آخَرَ). ((تفسير ابن جزي)) (2/31). وقال ابن عطية: (معناه: عرَّفتُكُم بنِذارتي، وأردتُ أن تُشارِكوني في معرفةِ ما عندي مِنَ الخَوفِ عليكم مِنَ الله تعالى). ((تفسير ابن عطية)) (4/103). وقال السعدي: (فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ أي: أعلمْتُكم بالعقوبةِ عَلَى سَوَاءٍ أي: علمي وعلمُكم بذلك مستوٍ، فلا تقولوا -إذا أُنزِل بكم العذابُ: ما جاءنا مِن بشيرٍ ولا نذيرٍ، بل الآنَ استوَى علمي وعلمُكم، لما أنذَرْتُكم، وحذَّرْتُكم، وأعلمتُكم بمآلِ الكفرِ، ولم أكتُمْ عنكم شيئًا). ((تفسير السعدي)) (ص: 532). .
وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ.
أي: وما أدري أقريبٌ زَمَنُ وُقوعِ ما وعَدَكم اللهُ به من العَذابِ، أم هو بَعيدٌ [1117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/442)، ((تفسير القرطبي)) (11/350)، ((تفسير ابن كثير)) (5/388)، ((تفسير السعدي)) (ص: 532)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/174). قال البقاعي: (... فقال: وَإِنْ أي: وما أَدْرِي أَقَرِيبٌ جِدًّا بحيث يكونُ قُربُه على ما تتعارَفونَه أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ مِن عذابِ اللهِ في الدُّنيا بأيدي المُسلِمينَ أو بغيرِه، أو في الآخرةِ، مع العلمِ بأنَّه كائِنٌ لا محالةَ، وأنَّه لا بدَّ أن يلحَقَ مَن أعرض عن اللهِ الذُّلُّ والصَّغارُ). ((نظم الدرر)) (12/512). وقال ابنُ عاشور: (قولُه: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ يَشمَلُ كُلَّ ما يُوعَدونَه مِن عِقابٍ في الدُّنيا والآخرةِ، إن عاشُوا أو ماتوا). ((تفسير ابن عاشور)) (17/174). ؟
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110).
أي: لكنَّ عَذابَكم واقعٌ لا مَحالةَ؛ لأنَّ اللهَ يَعلَمُ ما يَجهَرُ به عِبادُه مِن أقوالِهم، ويَعلَمُ ما تُخفونَه -أيُّها المُشرِكونَ- وسيُجازيكم على ذلك عاجِلًا أو آجِلًا [1118] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/442)، ((تفسير القرطبي)) (11/350)، ((تفسير البيضاوي)) (4/63)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/512، 513)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/252). قال البيضاوي: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ ما تجاهِرونَ به من الطَّعنِ في الإسلامِ. وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ مِنَ الإِحَنِ والأحقادِ للمُسلِمينَ، فيُجازيكم عليه). ((تفسير البيضاوي)) (4/63). .
كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [المائدة: 99] .
وقال سُبحانَه: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه: 7] .
وقال تبارك وتعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الملك: 13] .
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111).
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهم: فإنْ تأخَّرَ عذابُكم، فما أدري سَبَبَ ذلك وحِكمَتَه، لكنْ لعَلَّه [1119] ممن اختار أنَّ الهاءَ في لَعَلَّهُ ترجعُ إلى تأخيرِ العذابِ عنهم: ابنُ جرير، والبغوي، والرسعني، وابن جزي، والعليمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/442)، ((تفسير البغوي)) (3/321)، ((تفسير الرسعني)) (4/686)، ((تفسير ابن جزي)) (2/31)، ((تفسير العليمي)) (4/397). وقيل: الهاءُ ترجعُ إلى قولِه: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ يعني: إنَّ هذا الَّذي أقولُ: لعَلَّه فتنةٌ لكم. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/414). فِتنةٌ لكم، فتزدادُ سَيِّئاتُكم، وتتمَتَّعونَ قَليلًا في حياتِكم إلى وَقتٍ مُعَيَّنٍ، ثمَّ يأتيكم العَذابُ [1120] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/442)، ((تفسير ابن كثير)) (5/388)، ((تفسير السعدي)) (ص: 532)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/174، 175). .
كما قال تعالى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران: 178] .
وقال سُبحانَه: مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران: 197] .
قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112).
قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ قَالَ بالمُضِيِّ، على أنَّه خَبَرٌ مِن الله تعالى عن نبيِّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ [1121] قرأ بها حفص عن عاصم. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/325). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/173)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 471). .
2- قِراءةُ قُلْ على أنَّه أمرٌ مِن اللهِ تعالى لنبيِّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يسألَه الحُكمَ بالحَقِّ [1122] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/325).  ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/173)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 471). .
قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ.
أي: قال مُحمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ داعيًا رَبَّه: يا رَبِّ، افعَلْ ما تنصُرُ به عبادَك، وتَخذُلُ به أعداءَك. [1123] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/443)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/219)، ((تفسير القرطبي)) (11/351)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 280)، ((تفسير ابن كثير)) (5/388)، ((تفسير السعدي)) (ص: 532). قال الرازي: (رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ فِيهِ وجوهٌ: أحدُها: أي: رَبِّي اقْضِ بيْني وبيْنَ قومي بالحقِّ، أي: بالعذابِ. كأنَّه قال: اقضِ بيني وبينَ مَن كذَّبني بالعذابِ... وثانيها: افصِلْ بيني وبينَهم بما يُظهرُ الحقَّ للجميعِ، وهو أنْ تنصرَنِي عليهم). ((تفسير الرازي)) (22/195). وقال الألوسي: (والحَقُّ: العَدْلُ، أي: رَبِّ اقْضِ بَينَنا وبيْن أهلِ مَكَّةَ بالعَدلِ المُقتَضي لتَعجيلِ العذابِ والتَّشديدِ عليهم؛ فهو دعاءٌ بالتَّعجيلِ والتَّشديدِ، وإلَّا فكُلُّ قَضائِه تعالى عَدلٌ وحَقٌّ، وقد استُجيبَ ذلك؛ حيثُ عُذِّبوا ببَدرٍ أيَّ تعذيبٍ). ((تفسير الألوسي)) (9/102). وقال السَّعدي: (فاستجاب اللهُ هذا الدُّعاءَ، وحكَمَ بينهم في الدُّنيا قبْلَ الآخرةِ بما عاقَبَ اللهُ به الكافرينَ مِن وَقعةِ «بَدرٍ» وغَيرِها). ((تفسير السعدي)) (ص: 532). .
كما حكى اللهُ تعالى عن شُعَيبٍ عليه السَّلامُ قَولَه: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف: 89] .
وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ.
أي: وربُّنا المتَّصِفُ بالرَّحمةِ الواسِعةِ هو وَحْدَه الذي نَطلُبُ منه العَونَ عليكم -أيُّها المُشرِكونَ- على ما تَفتَرونَه عليه وعلى رَسولِه مِن الوَصفِ الباطِلِ [1124] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/445)، ((تفسير القرطبي)) (11/351)، ((تفسير ابن كثير)) (5/388)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/176، 177)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/252). ومِن افتِرائِهم ووَصْفِهم الباطِلِ قَولُهم في حَقِّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الأنبياء: 3] ، وقَولُهم: بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ [الأنبياء: 5] ، وقولُهم على اللهِ جَلَّ ثناؤُه: اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا [مريم: 88] إلى غيرِ ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/445). .
كما قال تعالى حكايةً عن يَعقوبَ عليه السَّلامُ: وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف: 18] .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ فليس للعابِدينَ الذين هم أشرَفُ الخَلقِ وراءه غايةٌ؛ لأنَّه الكَفيلُ بمَعرفةِ رَبِّهم بأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه، وبالإخبارِ بالغُيوبِ الصَّادِقةِ، وبالدَّعوةِ لحقائِقِ الإيمانِ، وشواهِدِ الإيقانِ؛ المُبَيِّنُ للمأموراتِ كُلِّها، والمَنهيَّاتِ جميعًا، المُعَرِّفُ بعُيوبِ النَّفسِ والعملِ، والطُّرُقِ التي ينبغي سلوكُها في دقيقِ الدِّينِ وجَليلِه، والتَّحذيرِ مِن طُرُقِ الشَّيطانِ، وبيانِ مَداخِلِه على الإنسانِ، فمَن لم يُغْنِه القرآنُ فلا أغناه اللهُ، ومَن لا يَكفيه فلا كفاه الله [1125] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 532). !
2- على الإنسانِ أن يكونَ مَقصودُه نَفعَ الخَلقِ، والإحسانَ إليهم مُطلَقًا، وهذا هو الرَّحمةُ التي بُعِثَ بها محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قَولِه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، والرَّحمةُ يحصُلُ بها نَفعُ العِبادِ؛ فعلى العَبدِ أن يَقصِدَ الرَّحمةَ والإحسانَ والنَّفعَ، لكِنْ للاحتياجِ إلى دَفعِ الظُّلمِ شُرِعَت العُقوباتُ، وعلى المُقيمِ لها أن يَقصِدَ بها النَّفعَ والإحسانَ، كما يَقصِدُ الوالِدُ بعُقوبةِ وَلَدِه، والطَّبيبُ بدواءِ المَريضِ، والمقصودُ بهذه النُّكتةِ أنَّ الدِّينَ والشَّرعَ لم يأمُرْ إلَّا بما هو نَفعٌ وإحسانٌ ورَحمةٌ للعبادِ، وأنَّ المُؤمِنَ عليه أن يَقصِدَ ذلك ويُريدَه، فيكونَ مَقصودُه الإحسانَ إلى الخَلقِ ونَفْعَهم، وإذا لم يَحصُلْ ذلك إلَّا بالإضرارِ ببَعضِهم، فعَلَه على نيَّةِ أن يدفَعَ به ما هو شَرٌّ منه، أو يحصُلَ به ما هو أنفَعُ مِن عَدَمِه [1126] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (6/37، 38). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ هذا الاستِفهامُ يتضَمَّنُ الأمرَ بإخلاصِ التَّوحيدِ والانقيادِ إلى اللهِ تعالى [1127] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/473). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ المقصودُ منه الأمرُ بالإخلاصِ، وتَركُ النِّفاقِ؛ لأنَّه تعالى إذا كان عالِمًا بالضَّمائرِ، وجَبَ على العاقِلِ أن يُبالِغَ في الإخلاصِ [1128] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/195). .
5- قال الله تعالى: قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ في هذه الآيةِ أعظَمُ حَثٍّ على لُزومِ الإنسانِ بالحَقِّ؛ ليتأهَّلَ لهذه الدَّعوةِ [1129] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/514). ، فالمرادُ بقولِه تعالى: قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ أي: كُنْ أنت أيُّها القائلُ على الحقِّ؛ لِيُمْكِنَكَ أنْ تقول: احكمْ بالحقِّ، لأنَّ المُبْطِلَ لا يمكنُه أنْ يقولَ: احْكُمْ بالحق [1130] الفائدةُ لابنِ هبيرةَ، نقَلها عنه ابنُ الجوزي في ((المقتبس)). يُنظر: ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب الحنبلي (2/145). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- مِمَّا يدُلُّ على أنَّ نبيَّ اللهِ مُحمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم آخِرُ الرُّسُلِ والأنبياءِ؛ قَولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وقَولُه: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف: 158] ، وما أشبَهَ ذلك مِنَ الآياتِ الدَّالَّةِ على أنَّه رَسولٌ إلى يَومِ القيامةِ، وهذا يدُلُّ على أنَّ النَّاسَ لا يَحتاجونَ بَعدَه إلى نبيٍّ ولا رَسولٍ؛ لأنَّ شَريعَتَه ستَبقَى [1131] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (14/419). .
2- قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ حِكمةُ تَمييزِ شَريعةِ الإسلامِ بهذه المَزِيَّةِ أنَّ أحوالَ النُّفوسِ البَشَريَّةِ مَضَت عليها عُصورٌ وأطوارٌ تهَيَّأتْ بتَطوُّراتِها لِأنْ تُساسَ بالرَّحمةِ، وأن تُدفَعَ عنها المشَقَّةُ، إلَّا بمقاديرَ ضَروريَّةٍ لا تُقامُ المصالِحُ بدُونِها، فما في الشَّرائِعِ السَّالِفةِ مِن اختِلاطِ الرَّحمةِ بالشِّدَّةِ وما في شَريعةِ الإسلامِ مِن تمَحُّضِ الرَّحمةِ لم يجْرِ في زَمَنٍ مِن الأزمانِ إلَّا على مُقتضى الحِكمةِ، ولكِنَّ اللهَ أسعد هذه الشَّريعةَ والذي جاء بها والأمَّةَ المُتَّبِعةَ لها بمُصادَفتِها للزَّمَنِ والطَّورِ الذي اقتضَت حِكمةُ اللهِ في سياسةِ البَشَرِ أن يكونَ التَّشريعُ لهم تَشريعَ رَحمةٍ إلى انقِضاءِ العالَمِ، فأُقيمَت شَريعةُ الإسلامِ على دعائِمِ الرَّحمةِ والرِّفقِ واليُسرِ؛ قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] ، وقال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] ، وما يُتخَيَّلُ مِن شِدَّةٍ في نحوِ القِصاصِ والحُدودِ فإنَّما هو لِمُراعاةِ تعارُضِ الرَّحمةِ والمشَقَّةِ، كما أشار إليه قَولُه تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179] ؛ فالقِصاصُ والحُدودُ شِدَّةٌ على الجُناةِ، ورَحمةٌ ببَقيَّةِ النَّاسِ [1132] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/168، 169). .
3- قد يُعارَضُ قولُه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ بأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يكُنْ رَحمةً للكافرينَ، بلْ نِقْمةٌ؛ إذْ لولا إرسالُه إليهم ما عُذِّبوا بكُفْرِهمِ؛ لقولِه تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ؟
والجوابُ عن ذلك: أنَّه رَحمةٌ للكافرينَ مِن حيثُ إنَّ عذابَ الاستئصالِ أُخِّرَ عنهم بسبَبِه، أو كان رَحمةً عامَّةً، من حيثُ إنَّه جاء بما يُسْعِدُهم إنِ اتَّبَعوه، ومَن لم يَتَّبِعْه فهو المُقصِّرُ، أو المُرادُ بالرَّحمةِ الرَّحيمُ، وهو صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان رَحيمًا للكُفَّارِ أيضًا [1133] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/139)، ((تفسير البيضاوي)) (4/62)، ((تفسير أبي حيان)) (7/473)، ((تفسير أبي السعود)) (6/89)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 380). .
4- قال اللهُ تعالى: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ حَصرُ الوَحيِ في تَوحيدِ الأُلوهيَّةِ حَصرٌ له في أصلِه الأعظَمِ الذي يَرجِعُ إليه جميعُ الفُروعِ؛ لأنَّ شرائِعَ كُلِّ الأنبياءِ داخِلةٌ في ضِمنِ لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ لأنَّ مَعناها خَلعُ كُلِّ الأندادِ سِوى اللهِ في جميعِ أنواعِ العباداتِ، وإفرادُ اللهِ بجَميعِ أنواعِ العباداتِ، فيَدخُلُ في ذلك جميعُ الأوامِرِ والنَّواهي القَوليَّةِ والفِعليَّةِ والاعتقاديَّةِ [1134] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 157). ، فالجُملةُ صِيغَت في صيغةِ حَصرِ الوَحيِ إليه في مَضمونِها؛ لأنَّ مَضمونَها هو أصلُ الشَّريعةِ الأعظَمُ، وكُلُّ ما تَشتَمِلُ عليه الشَّريعةُ مُتفَرِّعٌ عليه؛ فالدَّعوة إليه هي مَقادةُ الاجتِلابِ إلى الشَّريعةِ كُلِّها؛ إذ كان أصلُ الخِلافِ يَومَئذٍ بينَ الرَّسولِ ومُعانِديه هو قَضيَّةَ الوحدانيَّةِ؛ ولذلك قالوا: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص: 5] ، وما كان إنكارُهم البَعثَ إلَّا لأنَّهم لم يَجِدوه في دِينِ شِرْكِهم؛ إذ كان الذين وَضَعوا لهم الشِّركَ لا يُحَدِّثونَهم إلَّا عن حالِهم في الدُّنيا، فما كان تصَلُّبُهم في إنكارِ البَعثِ إلَّا شُعبةً مِن شُعَبِ الشِّركِ؛ فلا جرَمَ كان الاهتِمامُ بتَقريرِ الوَحدانيَّةِ تَضييقًا لِشُقَّةِ الخلافِ بينَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبينَ المُشرِكينَ المُعرِضينَ [1135]  يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/170). .
5- في قَولِه تعالى: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ دَلالةٌ على أنَّ مَبنى الإسلامِ على توحيدِ اللهِ عزَّ وجَلَّ [1136] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (4/221). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ نَبَّه اللهُ تعالى على الجَهرِ؛ لأنَّ مِن أحوالِ الجَهرِ أن تَرتَفِعَ الأصواتُ جِدًّا بحيث تختَلِطُ ولا يُمَيَّزُ بينها، ولا يَعرِفُ كَثيرٌ مِن حاضِريها ما قاله أكثَرُ القائلينَ، فأَعلَمَ سُبحانَه أنَّه لا يَشغَلُه صَوتٌ عن آخَرَ، ولا يَفوتُه شَيءٌ عن ذلك، ولو كَثُرَ [1137] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/512). ويُنظر: ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (2/144، 145). .
7- الحُكمُ نَوعانِ: حُكمٌ كَونيٌّ، وحُكمٌ دِينيٌّ، ومِنَ الحُكمِ الكَونيِّ قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ، ومعنى الآيةِ هنا: افعلْ ما تَنْصُرُ به عبادَك، وتخذُلُ به أعداءَك، وأمَّا الحُكْمُ الدِّينيُّ فكَقولِه سُبحانَه: ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ [1138] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 280). [الممتحنة: 10] .
8- ختم اللهُ هذه السُّورةَ بقَولِه تعالى: قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ على إحدى القراءتَينِ؛ لأنَّه عليه السَّلامُ كان قد بَلَغ في البيانِ الغايةَ لهم، وبَلَغوا النِّهايةَ في أذيَّتِه وتكذيبِه؛ فكان قُصارى أمرِه تعالى بذلك تسليةً له، وتعريفًا أنَّ المقصودَ مَصلحتُهم، فإذا أبَوْا إلَّا التماديَ في كُفرِهم فعليك بالانقِطاعِ إلى رَبِّك؛ لِيَحكُمَ بينك وبينهم بالحَقِّ؛ إمَّا بتعجيلِ العِقابِ بالجِهادِ أو بغَيرِه، وإمَّا بتأخيرِ ذلك؛ فإنَّ أمْرَهم وإن تأخَّرَ فما هو كائِنٌ قَريبٌ [1139]  يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/196). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ تَذييلٌ للوعْدِ، وإعلانٌ بأنْ قد آنَ أوانُه، وجاء إبَّانُه [1140] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/163). .
2- قولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ صِيغَتْ هذه الآيةُ بأبلَغِ نَظْمٍ؛ إذ اشتملَتْ -بوَجازةِ ألْفاظِها- على مَدْحِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ومَدْحِ مُرْسِلِه تعالى، ومَدْحِ رِسالتِه بأنْ كانت مَظهَرَ رَحمةِ اللهِ تعالى للنَّاسِ كافَّةً، وبأنَّها رَحمةُ اللهِ تعالى بخَلْقِه، فهي تَشتمِلُ على أربعةٍ وعِشْرينَ حَرْفًا بدُونِ حَرْفِ العطْفِ الَّذي عُطِفَت به، ذُكِرَ فيه الرَّسولُ، ومُرْسِلُه، والمُرْسَلُ إليهم، والرِّسالةُ، وأوصافُ هؤلاء الأربعةِ، مع إفادةِ عُمومِ الأحوالِ، واسْتِغراقِ المُرسَلِ إليهم، وخُصوصيَّةِ الحَصْرِ. وتَنكيرُ رَحْمَةً للتَّعظيمِ؛ إذ لا مُقْتضَى لإيثارِ التَّنكيرِ في هذا المَقامِ غيرُ إرادةِ التَّعظيمِ، وإلَّا لقِيلَ: إلَّا لِنَرْحَمَ العالمينَ، أو إلَّا أنَّك الرَّحمةُ للعالمينَ؛ فهذه اثْنا عشَرَ معنًى خُصوصيًّا [1141] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/165، 166). .
- وانتصابُ رَحْمَةً في قولِه: رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ على أنَّه حالٌ من ضَميرِ المُخاطَبِ يَجعَلُه وَصْفًا مِن أوصافِه؛ فإذا انضَمَّ إلى ذلك انحصارُ الموصوفِ في هذه الصِّفَةِ، صار مِن قَصْرِ الموصوفِ على الصِّفَةِ؛ ففيه إيماءٌ لَطيفٌ إلى أنَّ الرَّسولَ اتَّحَدَ بالرَّحمةِ، وانحصَرَ فيها، ومِن المعلومِ أنَّ عُنوانَ الرَّسوليَّةِ مُلازِمٌ له في سائرِ أحوالِه، فصار وُجودُه رَحمةً، وسائرُ أكوانِه رَحمةً. ووُقوعُ الوصْفِ مَصدرًا يُفِيدُ المُبالَغةَ في هذا الاتِّحادِ بحيث تكونُ الرَّحمةُ صِفَةً مُتمكِّنةً مِن إرسالِه؛ ولهذا خَصَّ اللهُ محمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في هذه السُّورةِ بوَصْفِ الرَّحمةِ، ولم يَصِفْ به غيرَه مِن الأنبياءِ، وكذلك في القُرآنِ كلِّه [1142] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/166، 167). .
- والتَّعريفُ في لِلْعَالَمِينَ لاستغراقِ كلِّ ما يَصدُقُ عليه اسمُ العالَمِ، فإنْ أُرِيدَ بـ (العالمينَ) أصنافُ ذَوي العِلْمِ؛ فمعنى كونِ الشَّريعةِ المُحمَّديَّةِ مُنحصِرةً في الرَّحمةِ: أنَّها أوسَعُ الشَّرائعِ رَحمةً بالنَّاسِ. وإنْ أُرِيدَ بـ (العالَمينَ) النَّوعُ من أنواعِ المَخلوقاتِ ذاتِ الحياةِ؛ فإنَّ الشَّريعةَ تَتعلَّقُ بأحوالِ الحيوانِ في مُعامَلةِ الإنسانِ إيَّاهُ، وانتفاعِهِ به [1143] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/167 - 169). .
3- قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
- صُدِّرَت جُملةُ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ بالأمْرِ؛ للاهتمامِ بذلك [1144] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/170). .
- قولُه: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ (إنَّما) لقَصْرِ الحُكْمِ على شَيءٍ، أو لقَصْرِ الشَّيءِ على حُكْمٍ، كما يقالُ: إنَّما زيدٌ قائمٌ، وإنَّما يقومُ زيدٌ. وقدِ اجتمَعَ المِثالانِ في هذه الآيةِ؛ لأنَّ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ مع فاعِلِه بمَنزِلةِ: إنَّما يقومُ زيدٌ، وأَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ بمَنزِلةِ: إنَّما زيدٌ قائمٌ. وفائدةُ اجتماعِهما: الدَّلالةُ على أنَّ الوحْيَ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَقصورٌ على استئثارِ اللهِ بالوَحدانيَّةِ، وفي قولِه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: أنَّ الوحْيَ الوارِدَ على هذا السَّننِ مُوجِبٌ أنْ تُخْلِصوا التَّوحيدَ للهِ، وأنْ تَخْلَعوا الأندادَ؛ ففي الآيةِ قَصرانِ: الأوَّلُ: قَصْرُ الصِّفَةِ على الموصوفِ، وذلك في قَصْرِ الوحْيِ على الوَحدانيَّةِ، والمعنى: لا يُوحَى إليَّ إلَّا اختصاصُ الإلهِ بالوَحدانيَّةِ، لا لأنَّه لم يُوحَ إليه بشَيءٍ غيرِها، ولكنَّها الأصلُ الرَّئيسُ في كلِّ عِبادةٍ وعمَلٍ، وهي المطلوبةُ أوَّلًا وقبْلَ كلِّ شَيءٍ، حتَّى كأنَّ ما عداها غيرُ مَنظورٍ إليهِ، أو غيرُ جَديرٍ بالذِّكْرِ. والقَصْرُ الثَّاني: قَصْرُ الموصوفِ على الصِّفَةِ، وذلك في قَصْرِ اللهِ تعالى على الوَحدانيَّةِ، وهو ظاهِرٌ في قولِه: أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [1145] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/139)، ((تفسير البيضاوي)) (4/62)، ((تفسير أبي حيان)) (7/473)، ((تفسير أبي السعود)) (6/89)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/170، 171)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/374). .
- قولُه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ الفاءُ للدَّلالةِ على أنَّ ما قبْلَها مُوجِبٌ لِمَا بعْدَها [1146] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/89)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/172). ، والاستفهامُ حَقيقيٌّ، أي: فهلْ تُسلِمونَ بعْدَ هذا البَيانِ؟ وهو مُستعمَلٌ أيضًا في معنًى كِنائيٍّ، وهو التَّحريضُ على نَبْذِ الإشراكِ، وعلى الدُّخولِ في دَعوةِ الإسلامِ [1147] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/473)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/172). .
- وصِيغَ قولُه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ في الجُملةِ الاسميَّةِ الدَّالَّةِ على الثَّباتِ دونَ أنْ يُقالَ: (فهلْ تُسلِمون)؛ لإفادةِ أنَّ المطلوبَ منهم إسلامٌ ثابتٌ، وكأنَّ فيه تَعريضًا بهم بأنَّهم في رَيبٍ يَتردَّدونَ [1148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/172). .
4- قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ
- قولُه: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ فيه إيجازُ قَصْرٍ [1149] الإيجازُ: هو الاختصارُ والجمعُ للمعاني الكثيرةِ بالألفاظِ القليلةِ، وأداءُ المقصودِ مِن الكلامِ بأقلَّ مِن عبارات مُتعارَفِ الأوساطِ. ويكونُ الإيجازُ محمودًا إذا لم يُخِلَّ بالمقصودِ. وقيل: الإيجازُ حذْفُ الفُضولِ، وتقريبُ البعيدِ. وقيل عن البلاغة كُلِّها: هي إصابةُ المعنى، وحُسنُ الإيجازِ.  والإيجازُ نوعان؛ الأول: إيجازُ القصرِ (ويُسمَّى إيجازَ البَلاغةِ)، وهو ما ليس بحَذْف؛ كقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179]؛ فإنَّه لا حذْفَ فيه مع أنَّ معناه كثيرٌ يَزيدُ على لفْظِه؛ لأنَّ المرادَ به أنَّ الإنسانَ إذا علِم أنه متَى قَتَل قُتِل، كان ذلك داعيًا له قويًّا إلى ألَّا يُقدِمَ على القِتال؛ فارتفع بالقتْلِ -الذي هو قصاصٌ- كثيرٌ مِن قتْلِ الناسِ بعضِهم لبعضٍ؛ فكان ارتفاعُ القتلِ حياةً لهم. الثاني: إيجاز الحَذْف، والحذف لُغةً: هو الإسقاطُ. والإيجازُ بالحذف: هو حذفُ ما يُعلمُ ويُفهم من سِياق الكلام بشرط وجودُ مُقدَّرٍ يدلُّ عليه؛ فقد يكون الإيجازُ بالحذف وغيره. والفرقُ بينَ الحذفِ والإيجازِ أن يكون في الحذفِ مقدَّرٌ، بخِلافِ الإيجازِ؛ فإنَّه عبارةٌ عن اللفظِ القليلِ الجامعِ للمعاني الجمَّةِ بنفْسِه. يُنظر: ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/99)، ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رَشِيق (1/242)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/181 وما بعدها)، ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 277)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/102)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 198). ؛ لأنَّه تَحدَّثَ بثَلاثِ كَلماتٍ، وهي (آذنْتُكم، على، سَواء) عن كَلامٍ طَويلٍ، أي: إنْ تَولَّوا بعْدَ هذه الآياتِ والشَّواهدِ، وأعْرَضوا، فقُلْ لهم: لقد أعْلَمْناكم على بَيانٍ، أنَّا وإيَّاكم في حَرْبٍ لا مُهادَنةَ فيها، ولا صُلْحَ بيننا، ولكنَّني لا أدري متى يأْذَنُ اللهُ [1150] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/374، 375). .
- وآَذَنْتُكُمْ تَتضمَّنُ معنى التَّحذيرِ والنِّذارةِ، وهذا الإيذانُ هو إعلامٌ بما يَحِلُّ بمَن تَولَّى مِن العِقابِ وغَلبةِ الإسلامِ [1151] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/473، 474). .
- قولُه: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ تأخَّرَ المُستفهَمُ عنه لِمُراعاةِ الفاصلةِ؛ إذ لو كان التَّركيبُ: (أقريبٌ ما تُوعَدون أمْ بعيدٌ) لم تكُنْ فاصِلةٌ [1152] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/474). .
5- قوله تعالى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ
- قولُه: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ جُملةٌ مُعترِضةٌ بينَ الجُمَلِ المُتعاطفةِ، والمقصودُ مِن الجُملةِ: تَعليلُ الإنذارِ بتَحقيقِ حُلولِ الوعيدِ بهم، وتَعليلُ عدَمِ العلمِ بقُرْبِه أو بُعْدِه، علَّلَ ذلك بأنَّ اللهَ تعالى يعلمُ جهرَهم وسِرَّهم [1153] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/174). .
6- قوله تعالى: قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ
- قولُه: قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ استِئنافٌ ابتدائيٌّ، قُصِدَ مِن هذا الاستئنافِ التَّلويحُ إلى عاقبةِ أمْرِ هذا الدِّينِ المَرجُوَّةِ المُستقبَلةِ؛ لِتَكونَ قِصَّةُ هذا الدِّينِ وصاحبِه مُستوفاةَ المَبدأِ والعاقبةِ، على وِزانِ ما ذُكِرَ قبْلَها مِن قَصصِ الرُّسلِ السَّابقينَ [1154] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/175). .
- وحُذِفَ المُتعلِّقُ الثَّاني لفِعْلِ احْكُمْ؛ لتَنبيهِهم إلى أنَّ النَّبيَّ على الحقِّ؛ فإنَّه ما سأَلَ الحُكْمَ بالحقِّ إلَّا لأنَّه يُرِيدُه، أي: احْكُم لَنَا، أو فِيهِم، أو بَيْنَنا [1155] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/176). .
- قولُه: قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ قولُه: بِالْحَقِّ تأْكيدٌ؛ لِمَا في التَّصريحِ بالصِّفةِ مِن المُبالَغةِ، وإنْ كانتْ لازِمَةً للفعلِ؛ لأنَّ اللهَ لا يَحكُمُ إلَّا بالحقِّ، ونَظيرُه في عَكْسِه مِن صِفَةِ الذَّمِّ قولُه تعالى: وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران: 112]؛ فقد جاء هذا القيدُ على سَبيلِ التَّشنيعِ لِقَتْلِهم والتَّقبيحِ [1156] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 380). . وقيل: الصفةُ هنا أُقيمَتْ مُقامَ الموصوفِ، والتقديرُ: ربِّ احكُمْ بحكمِك الحقِّ [1157]  يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/509). . وقيل: الحقُّ هاهنا بمعنى العذابِ، كأنَّه استعجَل العذابَ لقومِه، فعُذِّبوا يومَ بدرٍ [1158]  يُنظر: (( تفسير البغوي)) (3/321). .
- وجُملةُ: وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ اعتراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَه. وإضافةُ الرَّبِّ في قوله: رَبِّ احْكُمْ إلى ضَميرِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خاصَّةً؛ لِمَا أنَّ الدُّعاءَ مِن الوظائفِ الخاصَّةِ به صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كما أنَّ إضافتَه هاهنا إلى ضَميرِ الجَمْعِ المُنتظِمِ للمُؤمِنينَ أيضًا؛ لِمَا أنَّ الاستعانةَ مِنَ الوظائفِ العامَّةِ لهم [1159] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/90). .
- وتَعريفُ المُسنَدِ إليه وَرَبُّنَا بالإضافةِ؛ لِتَضمُّنِها تَعظيمًا لشأْنِ المُسلِمينَ بالاعتزازِ بأنَّ اللهَ ربُّهم. وفيه تَعريضٌ بالمُشرِكينَ بأنَّهم لَيسوا مِن مَربوبيَّةِ اللهِ في شَيءٍ حسَبَ إعراضِهم عن عِبادتِه إلى عِبادةِ الأصنامِ [1160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/176). .
- والتَّعريفُ في الْمُسْتَعَانُ فيه إفادةُ القَصْرِ، أي: لا أستعينُ بغَيرِه على ما تَصِفون [1161] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/176). .
- وفي قولِه: عَلَى مَا تَصِفُونَ إيجازٌ بالحَذْفِ؛ حيث حُذِف مُضافٌ هو مَجرورُ (على)، والتَّقديرُ: على إبطالِ ما تَصِفون بإظهارِ بُطلانِكم للنَّاسِ؛ حتَّى يُؤمِنوا ولا يَتَّبِعوكم، أو على إبطالِ ما يَترتَّبُ عليه مِن أذاهُم له وللمُؤمِنينَ [1162] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/177). .