موسوعة التفسير

سورةُ الأحزابِ
الآيات (25-27)

ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ

غَريبُ الكَلِماتِ:

ظَاهَرُوهُمْ: أي: أعانوهم وساعَدوهم، وأصلُ (ظهر): يدُلُّ على قُوَّةٍ وبُروزٍ .
صَيَاصِيهِمْ: أي: حُصونِهم الَّتي تحَصَّنوا بها، وكُلُّ ما يُتحَصَّنُ به يقالُ له: صِيصِيَةٌ .
لَمْ تَطَئُوهَا: أي: لم تَملِكوها، ولم تَدُوسوها بعْدُ بأقدامِكم، وأصلُ (وطأ): يدُلُّ على تمهيدِ شَيءٍ وتَسهيلِه .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبَيِّنًا خَيبةَ الكافرينَ، وما انتهَى إليه أمرُهم: وردَّ اللهُ الأحزابَ الكافرينَ إلى بلادِهم بغَيْظِهم خائبينَ؛ لم يَنالوا خيرًا، بل رَجَعوا خاسِرينَ، وكفى اللهُ المؤمِنينَ قِتالَ الكُفَّارِ، ودَفَعَهم عنهم، وكان اللهُ تعالى قويًّا عزيزًا.
 ثمَّ يُبيِّنُ ما حلَّ ببني قُرَيْظةَ، فيقولُ: وأنزَل اللهُ يهودَ بني قُرَيْظةَ الَّذين ناصَروا الأحزابَ على حَربِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُسلِمينَ؛ أنزَلَهم مِن حُصونِهم، وألقَى في قُلوبِهم الخَوفَ الشَّديدَ مِن المُسلِمينَ؛ تَقتُلونَ -أيُّها المُسلِمونَ- جماعةً منهم، وتأسِرونَ جماعةً أُخرى، وملَّكَكم اللهُ -أيُّها المُسلِمونَ- أرضَهم ومساكِنَهم وأموالَهم، وأرضًا أُخرى لم تَملِكوها حتَّى الآنَ، وستَملِكونَها فيما بعدُ، وكان اللهُ على كُلِّ شَيءٍ قَديرًا.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَّرَهم سُبحانَه نِعمَتَه بما أرسَلَ على أعدائِهم مِن جُنودِه، وبيَّن أحوالَ المنافِقينَ والصَّادِقينَ، وما له في ذلك مِنَ الأسرارِ، وختَمَ بهاتين الصِّفَتينِ غَفُورًا رَحِيمًا- ذكَّرَ بأثَرِهما فيما خَرَقه مِن العادةِ بصَرفِ الأعداءِ على كَثرتِهم وقُوَّتِهم، على حالةٍ لا يَرضاها لِنَفْسِه عاقِلٌ .
وقيل: إنَّها عَطفٌ على جُملةِ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا [الأحزاب: 9] ، أي: أرسَلَ اللهُ عليهم ريحًا وردَّهم؛ أو حالٌ مِن ضميرِ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا [الأحزاب: 20] ، أي: يَحسَبونَ الأحزابَ لم يَذهَبوا، وقد ردَّ اللهُ الأحزابَ، فذَهَبوا .
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ.
أي: وردَّ اللهُ جُنودَ الأحزابِ إلى بِلادِهم بغَيْظِهم خائِبينَ لم يَشْفِ صُدورَهم، مع تكَلُّفِهم الإعدادَ والإنفاقَ، والسَّفَرَ وطُولَ المُكثِ حَوْلَ المدينةِ، مع حُصولِ التَّعَبِ والعَناءِ بلا جَدوى !
لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا.
أي: لم يَنالوا أيَّ خيرٍ كان في حِسْبانِهم؛ كالنَّصرِ، أو أخْذِ أموالٍ، أو أسْرِ أحدٍ مِنَ المُسلِمينَ، بل رجَعوا خاسِرينَ !
وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ.
أي: وأراح اللهُ المؤمِنينَ مِن قِتالِ الكُفَّارِ، وأغناهم عن مُحارَبتِهم ودَفْعِهم يَومَئذٍ .
عن عبدِ اللهِ بنِ أبي أَوفى رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((دعا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ الأحزابِ على المُشرِكينَ، فقال: اللَّهُمَّ مُنزِلَ الكِتابِ، سَريعَ الحِسابِ، اللَّهُمَّ اهزِمِ الأحزابَ، اللَّهُمَّ اهزِمْهم وزَلْزِلْهم )) .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا قَفَل مِن غَزوٍ أو حَجٍّ أو عُمرةٍ يُكَبِّرُ على كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأرضِ ثلاثَ تَكبيراتٍ، ثمَّ يَقولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شَريكَ له، له المُلكُ وله الحَمدُ وهو على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، آيِبون تائِبونَ عابِدون، لِرَبِّنا حامِدونَ، صدَقَ اللهُ وَعْدَه، ونصَرَ عَبْدَه، وهزَمَ الأحزابَ وَحْدَه )) .
وفي حديثِ حجَّةِ الوداعِ قال جابرٌ رَضِيَ اللهُ عنه: ((... فلمَّا دنا مِن الصَّفا قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة: 158] ، أبدأُ بما بدَأ اللهُ به. فبدَأ بالصَّفا، فرَقِيَ عليه، حتَّى رأى البَيتَ فاستقبَل القِبْلةَ، فوحَّد اللهَ، وكبَّرَه، وقال: لا إلهَ إلَّا اللهُ وحْدَه لا شريكَ له، له المُلكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شَيءٍ قديرٌ، لا إلهَ إلَّا اللهُ وحْدَه، أنجَز وعْدَه، ونصَر عبْدَه، وهزَم الأحزابَ وحْدَه. ثمَّ دعا بيْنَ ذلك، قال مِثلَ هذا ثلاثَ مرَّاتٍ ...)) .
وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا.
أي: إنَّ اللهَ تعالى هو المتَّصِفُ أزَلًا وأبدًا بالقُوَّةِ على فِعلِ ما يَشاءُ؛ فيَنصُرُ مَن يشاءُ مِن عبادِه، ويَخذُلُ مَن يَشاءُ منهم، وهو المتَّصِفُ بالعِزَّةِ؛ فقَدْرُه عَظيمٌ، يمتَنِعُ عليه سُبحانَه كُلُّ عَيبٍ ونَقصٍ، وهو يَغلِبُ ولا يُغلَبُ، ويَنصُرُ أولياءَه، ويَقهَرُ أعداءَه، ولا يُعجِزُه شَيءٌ أرادَه .
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أتَمَّ أمرَ الأحزابِ؛ أتْبَعَه حالَ الَّذين ألَّبوهم، وكانوا سَبَبًا في إتيانِهم، والَّذين مالَؤُوهم على ذلك، ونَقَضوا ما كان لهم مِن عَهدٍ .
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ.
أي: وأنزل اللهُ يَهودَ بَني قُرَيظةَ الَّذين ناصَروا وأعانوا الأحزابَ على حَربِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُسلِمينَ معه؛ أنزَلَهم مِن حُصونِهم العاليةِ .
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.
أي: وألقَى اللهُ في قُلوبِهم الخَوفَ الشَّديدَ مِنَ المُسلِمينَ؛ فلم يَقْوَوْا على قِتالِهم، واستَسْلَموا لهم، ونَزَلوا على حُكمِهم .
فَرِيقًا تَقْتُلُونَ.
أي: تَقتُلونَ -أيُّها المُسلِمونَ- جماعةً منهم، وهم الرِّجالُ البالِغونَ .
وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا.
أي: وتأسِرونَ جَماعةً منهم، وهم النِّساءُ والذُّرِّيَّةُ .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((أُصيبَ سَعدٌ يومَ الخَندقِ؛ رماهُ رجُلٌ مِن قُرَيشٍ -يُقالُ لهُ: ابنُ العَرِقَةِ- رماهُ في الأَكْحَلِ ، فضرَبَ عليه رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَيمةً في المسجِدِ؛ يَعودُه مِن قَريبٍ، فلمَّا رجَعَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الخَندَقِ وضَعَ السِّلاحَ، فاغتَسَلَ، فأتاهُ جِبريلُ وهو يَنفُضُ رأسَه مِنَ الغُبارِ، فقال: وضَعْتَ السِّلاحَ؟ واللهِ ما وضَعْناهُ! اخرُجْ إليهم. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فأينَ؟ فأشار إلى بَني قُرَيْظةَ. فقاتَلَهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فنَزَلوا على حُكمِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فردَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الحُكمَ فيهم إلى سَعدٍ، قال: فإنِّي أحكُمُ فيهم أن تُقتَلَ المُقاتِلةُ، وأن تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ والنِّساءُ، وتُقْسَمَ أموالُهم )).
وفي روايةٍ: ((لقد حَكَمْتَ فيهم بحُكمِ اللهِ عزَّ وجلَّ)) .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((نزَل أهلُ قُرَيْظةَ على حُكمِ سَعدِ بنِ مُعاذٍ، فأرسَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إلى سَعدٍ، فأتاهُ على حِمارٍ، فلمَّا دنا قَريبًا مِن المسجِدِ، قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ للأنصارِ: قُوموا إلى سيِّدِكم، أو خَيرِكم، ثمَّ قال: إنَّ هؤلاءِ نزَلوا على حُكمِك. قال: تَقتُلُ مُقاتِلَتَهم، وتَسْبي ذُرِّيَّتَهم. قال: فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: قَضَيتَ بحُكمِ اللهِ، ورُبَّما قال: قَضَيتَ بحُكمِ المَلِكِ)) .
وعن عَطيَّةَ القُرَظيِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((عُرِضْتُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ قُرَيظةَ، فشَكُّوا فيَّ، فأمَرَ بيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَنظُروا إلَيَّ: هل أنبَتُّ بَعْدُ؟ فنَظَروا فلم يَجِدوني أنبَتُّ، فخَلَّى عنِّي، وألحَقَني بالسَّبْيِ)) .
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27).
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ.
أي: وملَّككم اللهُ -أيُّها المُسلِمونَ- أرضَهم ومَساكِنَهم وجميعَ أموالِهم ممَّا غَنِمتُموه منهم .
وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا.
أي: وأورَثَكم اللهُ أرضًا أخرى غيرَ أرضِ بني قُرَيظةَ ما وَطِئتُموها حتَّى الآنَ، ولكِنَّكم ستَملِكونَها .
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا.
أي: إنَّ اللهَ متَّصِفٌ أزَلًا وأبَدًا بكَمالِ القُدرةِ؛ فلا يُعجِزُه شَيءٌ، ومِن ذلك قُدرتُه على توريثِ المؤمِنينَ أرضَ الكافِرينَ، ونَصْرِهم عليهم .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا حُجَّةٌ على المُعتَزلةِ في بابِ الأعمالِ الَّتي يُضيفُها اللهُ عزَّ وجلَّ تارةً إلى نفْسِه، وتارةً إلى عبادِه، ولا يكونُ أحدُهما مؤثِّرًا في صاحبِه بزَعمِهم؛ ألَا تراه يقولُ: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ، وقال: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ، ثمَّ قال: فَرِيقًا تَقْتُلُونَ، وقد قال في (سورةِ الأنفالِ): فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال: 17] ؛ ففيه أنَّ الفِعلَ وإنْ كان مُضافًا إلى فاعلِه مِن الخَلْقِ، فغَيرُ مانِعِه أنْ يكونَ عامِلَه بتيسيرِ خالِقِه له جَلَّ جَلالُه .
2- في قَولِه تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ بيانُ قُدرةِ اللهِ سُبحانه وتعالى؛ حيث رَدَّ هذه الأحزابَ الكثيرةَ العَظيمةَ مع ما في قُلوبِهم مِن الغَيظِ الشَّديدِ على رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابِه؛ رَدَّهم اللهُ سُبحانَه وتعالى بغَيظِهم ما اشتَفَوا، ولا نالوا مُرادَهم؛ ولهذا أثنى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على ربِّه بهزيمةِ الأحزابِ، فقال: ((لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه، أنجزَ وعْدَه، ونصَرَ عَبْدَه، وهزَمَ الأحزابَ وَحْدَه )) .
3- في قَولِه: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ إشارةٌ إلى وَضعِ الحَربِ بيْنَهم وبينَ قُرَيشٍ، وهكذا وقَعَ بَعْدَها؛ لم يَغزُهم المُشرِكونَ، بل غزاهم المُسلِمونَ في بلادِهم . عن سُلَيمانَ بنِ صُرَدٍ رضي الله عنه، قال: سمِعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ حينَ أَجْلى الأحزابَ عنه: ((الآنَ نَغْزُوهم ولا يَغْزُونَنا، نحنُ نَسِيرُ إليهم )) .
4- في قَولِه تعالى: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُدافِعُ عن المؤمِنينَ؛ يُؤخَذُ مِن الآيةِ: أنَّه خَصَّه بالمؤمِنينَ، فدَلَّ هذا على أنَّه كفَاهم القِتالَ لإيمانِهم؛ فالمؤمِنونَ يَكفيهم اللهُ سُبحانَه وتعالى ما أهمَّهم، فيُدافعُ عنهم لإيمانِهم؛ كما قال تعالى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر: 61] .
5- قال تعالى: وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا مِن تَعلُّقاتِ قوَّتِه وعزَّتِه سُبحانَه أنْ صرَف ذلك الجَيشَ العظيمَ خائبينَ مُفتضَحينَ، وألْقى بيْنَه وبيْنَ أحلافِه مِن قُرَيْظةَ الشَّكَّ، وأرسَل عليهم الرِّيحَ والقُرَّ، وهَدى نُعَيمَ بنَ مَسعودٍ الغَطَفانيَّ إلى الإسلامِ دُونَ أن يَشعُرَ قَومُه، فاستطاع النُّصحَ لِلمُسلمينَ بالكَيدِ للمشركين. ذلك كلُّه معجزة للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
6- قَولُ الله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ فيه إشعارٌ أنَّه انتقَل إليهم ذلك بعدَ موتِ أولئك المقتولينَ، وأنَّ مِلكَهم إيَّاه مِلكٌ قويٌّ، ليس بعقدٍ يَقبَلُ الفسْخَ أو الإقالةَ ، وأنَّ المؤمنينَ إذا فَتَحوا بلدًا مَلَكوا الأرضَ .
7- في قَولِه تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ حِلُّ أموالِ الكُفَّارِ للمُسلِمينَ؛ فإنَّ الغنائِمَ تَحِلُّ للمُسلِمينَ، وهي مِن خصائصِ هذه الأُمَّةِ؛ قال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((وأُعطيتُ خمسًا لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ مِن الأنبياءِ قَبْلي: نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شَهرٍ، وجُعِلَت لي الأرضُ مَسجِدًا وطَهورًا وأيُّما رجُلٍ مِن أُمَّتي أدرَكَتْه الصَّلاةُ فلْيُصَلِّ، وأُحِلَّت لي الغنائِمُ ولم تَحِلَّ لأحدٍ قَبْلي، وكان النَّبيُّ يُبعَثُ إلى قَومِه خاصَّةً وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ كافَّةً، وأُعطيتُ الشَّفاع ةَ)) .
8- قولُه تعالى: وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا بِشارةٌ ووعدٌ صادقٌ في فتْحِ البِلادِ .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا هذا رُجوعٌ إلى حِكايةِ بقيَّةِ القِصَّةِ، وتَفصيلُ تَتمَّةِ النِّعمةِ المُشارِ إليها إجمالًا بقولِه تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا. وهو مَعطوفٌ إمَّا على المُضمَرِ المُقدَّرِ قبْلَ قولِه تعالى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ، كأنَّه قِيلَ: إثرَ حِكايةِ الأمورِ المَذكورةِ وقَعَ ما وقَعَ مِن الحوادثِ وَرَدَّ اللَّهُ ... إلخ، وإمَّا على (أَرْسَلْنَا)، وقد وُسِّطَ بيْنَهما بَيانُ كَونِ ما نَزَل بهم واقعةً طامَّةً تَحيَّرتْ بها العُقولُ والأفهامُ، ودَاهيةً تامَّةً تحاكَّتْ منها الرُّكَبُ، وزلَّتِ الأقدامُ. وتَفصيلُ ما صدَرَ عن فَريقَيْ أهلِ الإيمانِ وأهلِ الكُفرِ والنِّفاقِ مِن الأحوالِ والأقوالِ؛ لإظهارِ عِظَمِ النِّعمةِ، وإبانةِ خَطَرِها الجَليلِ، ببَيانِ وُصولِها إليهم عندَ غايةِ احتياجِهم إليها، أي: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا، ورَدَدْنا بذلك الَّذين كَفَروا .
- قولُه: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ فيه التِفاتٌ إلى الاسمِ الجليلِ؛ لِتَربيةِ المَهابةِ، وإدخالِ الرَّوعةِ، وللتَّنبيهِ على عِظَمِ شأْنِ هذا الرَّدِّ العجيبِ .
- وعبَّرَ عن الأحزابِ بـ الَّذِينَ كَفَرُوا؛ للإيماءِ إلى أنَّ كُفْرَهم هو سَببُ خَيبتِهم العَجيبةِ الشَّأنِ .
- وجُملةُ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لِبَيانِ مُوجِبِ غَيظِهم .
- وفي قولِه: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ إيجازٌ بالحذْفِ، أي: كُلفةَ القِتالِ، أو أرزاءَ القِتالِ. وإظهارُ اسمِ الجلالةِ؛ للتَّنبيهِ على عِظَمِ شأْنِ هذا الكفايةِ العجيبةِ .
- وجُملةُ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا تَذييلٌ لِجُملةِ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ إلى آخِرِها، وذِكرُ فِعلِ (كان)؛ للدَّلالةِ على أنَّ العِزَّةَ والقوَّةَ وَصْفانِ ثابتانِ للهِ تعالى .
- وفي قولِه: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا مُناسَبةٌ حَسَنةٌ في المعاني؛ لأنَّ الكلامَ لو اقتُصِرَ فيه على دُونِ الفاصلةِ، لَأوهَمَ ذلك بعضَ الضُّعفاءِ أنَّ هذا الإخبارَ مُوافقٌ لاعتِقادِ الكفَّارِ في أنَّ الرِّيحَ الَّتي حدَثَتْ كانتْ سببًا في رُجوعِهم خائبينَ، وكَفَى المؤمنينَ قِتالَهم، والرِّيحُ إنَّما حدَثَت اتِّفاقًا كما تَحدُثُ في بَعضِ وَقائعِهم، وقِتالِ بَعضِهم لِبَعضٍ، وظنُّوا أنَّ ذلك لم يكُنْ مِن عندِ اللهِ؛ فوقَعَ الاحتراسُ بمَجِيءِ الفاصلةِ الَّتي أخبَرَ فيها سُبحانه أنَّه قويٌّ عزيزٌ ، قادرٌ بقُوَّتِه على كلِّ شَيءٍ، وأنَّ حِزبَه هو الغالبُ، وأنَّه لِقُدرتِه يَجعَلُ النَّصرَ للمؤمنينَ أفانينَ مُتنوِّعةً؛ لِيَزيدَهم إيمانًا وتَثبيتًا، فهو يَنصُرُهم مرَّةً بالقِتالِ؛ كيَومِ بَدْرٍ، وتارةً بالرِّيحِ؛ كيَومِ الأحزابِ، وطَورًا بالرُّعبِ؛ كبَنِي النَّضيرِ، وأحيانًا يَنصُرُ عليهم أوَّلًا، ويَجعَلُ العاقبةَ لهم أخيرًا؛ كيَومِ أُحدٍ، وحِينًا يُرِيهم أنَّ العِبرةَ في المعركةِ ليسَتْ بالكَثرةِ، وأنَّه كمْ مِن فِئةٍ قليلةٍ غلَبَت فئةً كثيرةً؛ لِيَتحقَّقوا بأنَّ النَّصرَ إنَّما هو مِن عندِ اللهِ؛ كيَومِ حُنينٍ، وهذا مِن أروَعِ ما يَتزيَّنُ به الكلامُ .
2- قوله تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا
- قولُه: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ قذْفُ الرُّعبِ سببٌ لإنزالِهم، ولكنَّه قدَّمَ المُسبَّبَ، لَمَّا كان السُّرورُ بإنزالِهم أكثرَ، والإخبارُ به أهَمَّ .
- والخِطابُ في قولِه: فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا إلى آخِرِه، للمُؤمنينَ؛ تَكمِلةً للنِّعمةِ الَّتي أنبَأَ عنها قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا [الأحزاب: 9] الآيةَ .
- وتَقديمُ المفعولِ في فَرِيقًا تَقْتُلُونَ؛ للاهتِمامِ بذِكْرِه؛ لأنَّ ذلك الفريقَ همْ رِجالُ القَبيلةِ الَّذين بقَتْلِهم يَتِمُّ الاستيلاءُ على الأرضِ والأموالِ والأسْرى؛ ولذلك لم يُقدِّمْ مَفعولَ (تَأْسِرُونَ)؛ إذ لا داعِيَ إلى تَقديمِه، فهو على أصْلِه .
- أو لعلَّ تأخيرَ المفعولِ في الجُملةِ الثَّانيةِ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا -مع أنَّ مَساقَ الكلامِ لِتَفصيلِه وتَقسيمِه-؛ لِمُراعاةِ الفواصلِ . وقيل: لعلَّه أُخِّرَ الفَريقُ هنا؛ لِيُفيدَ التَّخييرَ في أمْرِهم، وقُدِّمَ في الرِّجالِ؛ لِتَحتُّمِ القَتْلِ فيهم .
3- قوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا
- قَولُه: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، قُدِّمتْ أَرْضَهُمْ؛ لكَثرةِ المنفعةِ بها مِن النَّخلِ والزَّرعِ، ولأنَّهم باستيلائِهم عليها ملَكوها أوَّلًا، وَدِيَارَهُمْ لضَرورةِ الحاجةِ إلى سُكْناها، ولأنَّها هي المستوْلَى عليها ثانيًا، وَأَمْوَالَهُمْ ليُستعانَ بها في قوَّةِ المسلمينَ للجهادِ، ولأنَّها كانت في بيوتِهم، فوقَع الاستيلاءُ عليها ثالثًا .
- وفي التَّذييلِ بقولِه: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا إيماءٌ إلى البِشارةِ بفَتْحٍ عظيمٍ يأْتي مِن بعْدِه . وختَم تعالى هذه الآيةَ بقُدرتِه على كلِّ شيءٍ؛ لأنَّه لَمَّا كان فتْحُ البُلدانِ وغلَبةُ المسلِمينَ عليها أمرًا باهرًا سهَّلَه بقوله: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا، أي: شامِلَ القُدرةِ .