موسوعة التفسير

سورةُ الأحزابِ
الآيات (25-27)

ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ

غَريبُ الكَلِماتِ:

ظَاهَرُوهُمْ: أي: أعانوهم وساعَدوهم، وأصلُ (ظهر): يدُلُّ على قُوَّةٍ وبُروزٍ [446] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 57)، ((تفسير ابن جرير)) (17/478)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 134)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/471)، ((المفردات)) للراغب (ص: 540)، ((تفسير القرطبي)) (14/161)، ((تفسير ابن كثير)) (6/398)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 97). .
صَيَاصِيهِمْ: أي: حُصونِهم الَّتي تحَصَّنوا بها، وكُلُّ ما يُتحَصَّنُ به يقالُ له: صِيصِيَةٌ [447] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 349)، ((تفسير ابن جرير)) (19/71)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 301)، ((المفردات)) للراغب (ص: 500)، ((تفسير القرطبي)) (14/161). .
لَمْ تَطَئُوهَا: أي: لم تَملِكوها، ولم تَدُوسوها بعْدُ بأقدامِكم، وأصلُ (وطأ): يدُلُّ على تمهيدِ شَيءٍ وتَسهيلِه [448] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (18/224)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/120). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبَيِّنًا خَيبةَ الكافرينَ، وما انتهَى إليه أمرُهم: وردَّ اللهُ الأحزابَ الكافرينَ إلى بلادِهم بغَيْظِهم خائبينَ؛ لم يَنالوا خيرًا، بل رَجَعوا خاسِرينَ، وكفى اللهُ المؤمِنينَ قِتالَ الكُفَّارِ، ودَفَعَهم عنهم، وكان اللهُ تعالى قويًّا عزيزًا.
 ثمَّ يُبيِّنُ ما حلَّ ببني قُرَيْظةَ، فيقولُ: وأنزَل اللهُ يهودَ بني قُرَيْظةَ الَّذين ناصَروا الأحزابَ على حَربِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُسلِمينَ؛ أنزَلَهم مِن حُصونِهم، وألقَى في قُلوبِهم الخَوفَ الشَّديدَ مِن المُسلِمينَ؛ تَقتُلونَ -أيُّها المُسلِمونَ- جماعةً منهم، وتأسِرونَ جماعةً أُخرى، وملَّكَكم اللهُ -أيُّها المُسلِمونَ- أرضَهم ومساكِنَهم وأموالَهم، وأرضًا أُخرى لم تَملِكوها حتَّى الآنَ، وستَملِكونَها فيما بعدُ، وكان اللهُ على كُلِّ شَيءٍ قَديرًا.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَّرَهم سُبحانَه نِعمَتَه بما أرسَلَ على أعدائِهم مِن جُنودِه، وبيَّن أحوالَ المنافِقينَ والصَّادِقينَ، وما له في ذلك مِنَ الأسرارِ، وختَمَ بهاتين الصِّفَتينِ غَفُورًا رَحِيمًا- ذكَّرَ بأثَرِهما فيما خَرَقه مِن العادةِ بصَرفِ الأعداءِ على كَثرتِهم وقُوَّتِهم، على حالةٍ لا يَرضاها لِنَفْسِه عاقِلٌ [449] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/331). .
وقيل: إنَّها عَطفٌ على جُملةِ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا [الأحزاب: 9] ، أي: أرسَلَ اللهُ عليهم ريحًا وردَّهم؛ أو حالٌ مِن ضميرِ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا [الأحزاب: 20] ، أي: يَحسَبونَ الأحزابَ لم يَذهَبوا، وقد ردَّ اللهُ الأحزابَ، فذَهَبوا [450] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/309). .
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ.
أي: وردَّ اللهُ جُنودَ الأحزابِ إلى بِلادِهم بغَيْظِهم خائِبينَ لم يَشْفِ صُدورَهم، مع تكَلُّفِهم الإعدادَ والإنفاقَ، والسَّفَرَ وطُولَ المُكثِ حَوْلَ المدينةِ، مع حُصولِ التَّعَبِ والعَناءِ بلا جَدوى [451] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/69)، ((تفسير ابن كثير)) (6/395، 396)، ((تفسير الشوكاني)) (4/314)، ((تفسير السعدي)) (ص: 662)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/310)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 188). !
لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا.
أي: لم يَنالوا أيَّ خيرٍ كان في حِسْبانِهم؛ كالنَّصرِ، أو أخْذِ أموالٍ، أو أسْرِ أحدٍ مِنَ المُسلِمينَ، بل رجَعوا خاسِرينَ [452] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/69)، ((تفسير ابن كثير)) (6/396)، ((تفسير الشوكاني)) (4/314). !
وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ.
أي: وأراح اللهُ المؤمِنينَ مِن قِتالِ الكُفَّارِ، وأغناهم عن مُحارَبتِهم ودَفْعِهم يَومَئذٍ [453] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/69)، ((تفسير القرطبي)) (14/160)، ((تفسير ابن كثير)) (6/396)، ((تفسير السعدي)) (ص: 662)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/310). .
عن عبدِ اللهِ بنِ أبي أَوفى رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((دعا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ الأحزابِ على المُشرِكينَ، فقال: اللَّهُمَّ مُنزِلَ الكِتابِ، سَريعَ الحِسابِ، اللَّهُمَّ اهزِمِ الأحزابَ، اللَّهُمَّ اهزِمْهم وزَلْزِلْهم )) [454] رواه البخاري (2933) واللفظ له، ومسلم (1742). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا قَفَل [455] قَفَل: أي: رجَعَ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (3/277). مِن غَزوٍ أو حَجٍّ أو عُمرةٍ يُكَبِّرُ على كُلِّ شَرَفٍ [456] شَرَفٍ: أي: مكانٍ عالٍ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (3/277). مِنَ الأرضِ ثلاثَ تَكبيراتٍ، ثمَّ يَقولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شَريكَ له، له المُلكُ وله الحَمدُ وهو على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، آيِبون تائِبونَ عابِدون، لِرَبِّنا حامِدونَ، صدَقَ اللهُ وَعْدَه، ونصَرَ عَبْدَه، وهزَمَ الأحزابَ وَحْدَه )) [457] رواه البخاري (6385) واللفظ له، ومسلم (1344). .
وفي حديثِ حجَّةِ الوداعِ قال جابرٌ رَضِيَ اللهُ عنه: ((... فلمَّا دنا مِن الصَّفا قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة: 158] ، أبدأُ بما بدَأ اللهُ به. فبدَأ بالصَّفا، فرَقِيَ عليه، حتَّى رأى البَيتَ فاستقبَل القِبْلةَ، فوحَّد اللهَ، وكبَّرَه، وقال: لا إلهَ إلَّا اللهُ وحْدَه لا شريكَ له، له المُلكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شَيءٍ قديرٌ، لا إلهَ إلَّا اللهُ وحْدَه، أنجَز وعْدَه، ونصَر عبْدَه، وهزَم الأحزابَ وحْدَه. ثمَّ دعا بيْنَ ذلك، قال مِثلَ هذا ثلاثَ مرَّاتٍ ...)) [458] أخرجه مسلم (1218). .
وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا.
أي: إنَّ اللهَ تعالى هو المتَّصِفُ أزَلًا وأبدًا بالقُوَّةِ على فِعلِ ما يَشاءُ؛ فيَنصُرُ مَن يشاءُ مِن عبادِه، ويَخذُلُ مَن يَشاءُ منهم، وهو المتَّصِفُ بالعِزَّةِ؛ فقَدْرُه عَظيمٌ، يمتَنِعُ عليه سُبحانَه كُلُّ عَيبٍ ونَقصٍ، وهو يَغلِبُ ولا يُغلَبُ، ويَنصُرُ أولياءَه، ويَقهَرُ أعداءَه، ولا يُعجِزُه شَيءٌ أرادَه [459] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/70)، ((تفسير ابن كثير)) (6/396)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/332)، ((تفسير السعدي)) (ص: 662)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/311)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 190، 191). .
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أتَمَّ أمرَ الأحزابِ؛ أتْبَعَه حالَ الَّذين ألَّبوهم، وكانوا سَبَبًا في إتيانِهم، والَّذين مالَؤُوهم على ذلك، ونَقَضوا ما كان لهم مِن عَهدٍ [460] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/332، 333). .
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ.
أي: وأنزل اللهُ يَهودَ بَني قُرَيظةَ الَّذين ناصَروا وأعانوا الأحزابَ على حَربِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُسلِمينَ معه؛ أنزَلَهم مِن حُصونِهم العاليةِ [461] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/71)، ((تفسير القرطبي)) (14/161)، ((تفسير ابن كثير)) (6/398)، ((تفسير السعدي)) (ص: 662)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/312). قال ابنُ عطية: (قَولُه تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ يريدُ بني قُرَيْظةَ بإجماعٍ مِنَ المفَسِّرينَ). ((تفسير ابن عطية)) (4/379). وقال البقاعي: (هم بنو قُرَيظةَ ومَن دخَلَ معهم في حِصْنِهم مِن بني النَّضيرِ، كحُيَيٍّ، وكان ذلك بعدَ إخراجِ بني قَيْنُقاعٍ وبني النَّضيرِ). ((نظم الدرر)) (15/333). .
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.
أي: وألقَى اللهُ في قُلوبِهم الخَوفَ الشَّديدَ مِنَ المُسلِمينَ؛ فلم يَقْوَوْا على قِتالِهم، واستَسْلَموا لهم، ونَزَلوا على حُكمِهم [462] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/81)، ((تفسير ابن كثير)) (6/398)، ((تفسير أبي السعود)) (7/100)، ((تفسير السعدي)) (ص: 662)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/312). .
فَرِيقًا تَقْتُلُونَ.
أي: تَقتُلونَ -أيُّها المُسلِمونَ- جماعةً منهم، وهم الرِّجالُ البالِغونَ [463] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/81)، ((تفسير القرطبي)) (14/161)، ((تفسير ابن كثير)) (6/399)، ((تفسير السعدي)) (ص: 662)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/312)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 195، 196). .
وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا.
أي: وتأسِرونَ جَماعةً منهم، وهم النِّساءُ والذُّرِّيَّةُ [464] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/81)، ((تفسير القرطبي)) (14/161)، ((تفسير ابن كثير)) (6/399)، ((تفسير السعدي)) (ص: 662)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/312). .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((أُصيبَ سَعدٌ يومَ الخَندقِ؛ رماهُ رجُلٌ مِن قُرَيشٍ -يُقالُ لهُ: ابنُ العَرِقَةِ- رماهُ في الأَكْحَلِ [465] الأكحَل: عِرقٌ في اليدِ إذا قُطِعَ لم يَرَقأِ الدَّمُ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (12/94). ، فضرَبَ عليه رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَيمةً في المسجِدِ؛ يَعودُه مِن قَريبٍ، فلمَّا رجَعَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الخَندَقِ وضَعَ السِّلاحَ، فاغتَسَلَ، فأتاهُ جِبريلُ وهو يَنفُضُ رأسَه مِنَ الغُبارِ، فقال: وضَعْتَ السِّلاحَ؟ واللهِ ما وضَعْناهُ! اخرُجْ إليهم. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فأينَ؟ فأشار إلى بَني قُرَيْظةَ. فقاتَلَهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فنَزَلوا على حُكمِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فردَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الحُكمَ فيهم إلى سَعدٍ، قال: فإنِّي أحكُمُ فيهم أن تُقتَلَ المُقاتِلةُ، وأن تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ والنِّساءُ، وتُقْسَمَ أموالُهم )).
وفي روايةٍ: ((لقد حَكَمْتَ فيهم بحُكمِ اللهِ عزَّ وجلَّ)) [466] أخرجه البخاري (4122)، ومسلم (1769) واللفظ له. .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((نزَل أهلُ قُرَيْظةَ على حُكمِ سَعدِ بنِ مُعاذٍ، فأرسَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إلى سَعدٍ، فأتاهُ على حِمارٍ، فلمَّا دنا قَريبًا مِن المسجِدِ، قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ للأنصارِ: قُوموا إلى سيِّدِكم، أو خَيرِكم، ثمَّ قال: إنَّ هؤلاءِ نزَلوا على حُكمِك. قال: تَقتُلُ مُقاتِلَتَهم، وتَسْبي ذُرِّيَّتَهم. قال: فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: قَضَيتَ بحُكمِ اللهِ، ورُبَّما قال: قَضَيتَ بحُكمِ المَلِكِ)) [467] أخرجه البخاري (3043)، ومسلم (1768) واللفظ له. .
وعن عَطيَّةَ القُرَظيِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((عُرِضْتُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ قُرَيظةَ، فشَكُّوا فيَّ، فأمَرَ بيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَنظُروا إلَيَّ: هل أنبَتُّ بَعْدُ؟ فنَظَروا فلم يَجِدوني أنبَتُّ، فخَلَّى عنِّي، وألحَقَني بالسَّبْيِ)) [468] أخرجه أبو داود (4405)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8620)، وأحمد (19421) واللفظُ له، وابن حبان في صحيحه (4780). صحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4405)، وقال ابنُ حجر في ((التلخيص الحبير)) (3/1008): هو على شرطِ الصَّحيحِ. وصحَّح إسنادَه شعيبٌ الأرناؤوط في تحقيق ((صحيح ابن حبان)) (4780) .
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27).
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ.
أي: وملَّككم اللهُ -أيُّها المُسلِمونَ- أرضَهم ومَساكِنَهم وجميعَ أموالِهم ممَّا غَنِمتُموه منهم [469] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/82)، ((البسيط)) للواحدي (18/224)، ((تفسير ابن كثير)) (6/399)، ((تفسير السعدي)) (ص: 662). قال الألوسي: (والمرادُ بـ أَرْضَهُمْ: مزارعُهم... وَدِيَارَهُمْ أي: حُصونَهم، وَأَمْوَالَهُمْ: نقودَهم ومواشيَهم وأثاثَهم الَّتي اشتَمَلتْ عليها أرضُهم وديارُهم). ((تفسير الألوسي)) (11/176). .
وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا.
أي: وأورَثَكم اللهُ أرضًا أخرى غيرَ أرضِ بني قُرَيظةَ ما وَطِئتُموها حتَّى الآنَ، ولكِنَّكم ستَملِكونَها [470] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/467)، ((تفسير القرطبي)) (14/161)، ((تفسير ابن كثير)) (6/399)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/335)، ((تفسير السعدي)) (ص: 662)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 199). قيل: هي أرضُ خَيبرَ. وممَّن قال بذلك: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، ويحيى بن سلام، والسمرقندي، والواحدي، والسمعاني، وجلال الدين المحلي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/485)، ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/712)، ((تفسير السمرقندي)) (3/57)، ((الوسيط)) للواحدي (3/467)، ((تفسير السمعاني)) (4/274)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 553)، ((تفسير القاسمي)) (8/65). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: يَزيدُ بنُ رُومانَ، وابنُ زَيدٍ، وابنُ السَّائبِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/83)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/459). وقيل: هي خَيبرُ وغَيرُها مِن بلاد الكُفَّارِ. وممَّن قال بهذا: البِقاعي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/335)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 201). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: الحسنُ، وعِكْرِمةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/82)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/3126). قال البِقاعي: (هي أرضُ خَيبرَ أوَّلًا، ثمَّ أرضُ مكَّةَ ثانيًا، ثمَّ أرضُ فارسَ والرُّومِ وغَيرِهما ممَّا فتحه اللهُ بعدَ ذلك، وكان قد حكَمَ به في هذه الغزوةِ حينَ أبرقَ تلك البرقاتِ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حَفرِ الخَندقِ، فأراه في الأولى اليَمَنَ، وفي الأُخرَى فارسَ، وفي الأخرَى الرُّومَ). ((نظم الدرر)) (15/335). وقيل: المرادُ بها: أرضُ بني النَّضيرِ، وأنَّ معنى لَمْ تَطَئُوهَا لم تفتَحوها عَنْوةً. وممَّن قال بذلك: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/313). وذهب ابنُ جريرٍ إلى عدمِ التَّعيينِ، فقال: (الصَّوابُ مِن القَولِ في ذلك أن يقالَ: إنَّ اللهَ -تعالى ذِكْرُه- أخبَرَ أنَّه أورثَ المؤمنينَ مِن أصحابِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أرضَ بَني قُرَيظةَ وديارَهم وأموالَهم، وأرضًا لم يَطؤوها يومَئذٍ، ولم تكُنْ مكَّةُ ولا خَيبرُ ولا أرضُ فارسَ والرُّومِ ولا اليَمَنِ: ممَّا كان وَطِئوه يومَئذٍ، ثمَّ وَطِئوه ذلك بعْدُ، وأورَثَهُمُوه اللهُ، وذلك كلُّه داخِلٌ في قَولِه وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا؛ لأنَّه -تعالى ذِكرُه- لم يَخْصُصْ مِن ذلك بعضًا دونَ بَعضٍ). ((تفسير ابن جرير)) (19/83). .
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا.
أي: إنَّ اللهَ متَّصِفٌ أزَلًا وأبَدًا بكَمالِ القُدرةِ؛ فلا يُعجِزُه شَيءٌ، ومِن ذلك قُدرتُه على توريثِ المؤمِنينَ أرضَ الكافِرينَ، ونَصْرِهم عليهم [471] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/83)، ((الوسيط)) للواحدي (3/467)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/335)، ((تفسير السعدي)) (ص: 662). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا حُجَّةٌ على المُعتَزلةِ في بابِ الأعمالِ الَّتي يُضيفُها اللهُ عزَّ وجلَّ تارةً إلى نفْسِه، وتارةً إلى عبادِه، ولا يكونُ أحدُهما مؤثِّرًا في صاحبِه بزَعمِهم؛ ألَا تراه يقولُ: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ، وقال: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ، ثمَّ قال: فَرِيقًا تَقْتُلُونَ، وقد قال في (سورةِ الأنفالِ): فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال: 17] ؛ ففيه أنَّ الفِعلَ وإنْ كان مُضافًا إلى فاعلِه مِن الخَلْقِ، فغَيرُ مانِعِه أنْ يكونَ عامِلَه بتيسيرِ خالِقِه له جَلَّ جَلالُه [472] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/648). .
2- في قَولِه تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ بيانُ قُدرةِ اللهِ سُبحانه وتعالى؛ حيث رَدَّ هذه الأحزابَ الكثيرةَ العَظيمةَ مع ما في قُلوبِهم مِن الغَيظِ الشَّديدِ على رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابِه؛ رَدَّهم اللهُ سُبحانَه وتعالى بغَيظِهم ما اشتَفَوا، ولا نالوا مُرادَهم؛ ولهذا أثنى النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على ربِّه بهزيمةِ الأحزابِ، فقال: ((لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه، أنجزَ وعْدَه، ونصَرَ عَبْدَه، وهزَمَ الأحزابَ وَحْدَه )) [473] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 191). أخرجه مسلم (1218) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما .
3- في قَولِه: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ إشارةٌ إلى وَضعِ الحَربِ بيْنَهم وبينَ قُرَيشٍ، وهكذا وقَعَ بَعْدَها؛ لم يَغزُهم المُشرِكونَ، بل غزاهم المُسلِمونَ في بلادِهم [474] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/396)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 192). . عن سُلَيمانَ بنِ صُرَدٍ رضي الله عنه، قال: سمِعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ حينَ أَجْلى الأحزابَ عنه: ((الآنَ نَغْزُوهم ولا يَغْزُونَنا، نحنُ نَسِيرُ إليهم )) [475] أخرجه البخاري (4110). .
4- في قَولِه تعالى: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُدافِعُ عن المؤمِنينَ؛ يُؤخَذُ مِن الآيةِ: أنَّه خَصَّه بالمؤمِنينَ، فدَلَّ هذا على أنَّه كفَاهم القِتالَ لإيمانِهم؛ فالمؤمِنونَ يَكفيهم اللهُ سُبحانَه وتعالى ما أهمَّهم، فيُدافعُ عنهم لإيمانِهم؛ كما قال تعالى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [476] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 192). [الزمر: 61] .
5- قال تعالى: وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا مِن تَعلُّقاتِ قوَّتِه وعزَّتِه سُبحانَه أنْ صرَف ذلك الجَيشَ العظيمَ خائبينَ مُفتضَحينَ، وألْقى بيْنَه وبيْنَ أحلافِه مِن قُرَيْظةَ الشَّكَّ، وأرسَل عليهم الرِّيحَ والقُرَّ، وهَدى نُعَيمَ بنَ مَسعودٍ الغَطَفانيَّ إلى الإسلامِ دُونَ أن يَشعُرَ قَومُه، فاستطاع النُّصحَ لِلمُسلمينَ بالكَيدِ للمشركين. ذلك كلُّه معجزة للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [477] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/311). .
6- قَولُ الله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ فيه إشعارٌ أنَّه انتقَل إليهم ذلك بعدَ موتِ أولئك المقتولينَ، وأنَّ مِلكَهم إيَّاه مِلكٌ قويٌّ، ليس بعقدٍ يَقبَلُ الفسْخَ أو الإقالةَ [478] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/470)، ((تفسير الألوسي)) (11/176). ، وأنَّ المؤمنينَ إذا فَتَحوا بلدًا مَلَكوا الأرضَ [479] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 200). .
7- في قَولِه تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ حِلُّ أموالِ الكُفَّارِ للمُسلِمينَ؛ فإنَّ الغنائِمَ تَحِلُّ للمُسلِمينَ، وهي مِن خصائصِ هذه الأُمَّةِ؛ قال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((وأُعطيتُ خمسًا لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ مِن الأنبياءِ قَبْلي: نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شَهرٍ، وجُعِلَت لي الأرضُ مَسجِدًا وطَهورًا وأيُّما رجُلٍ مِن أُمَّتي أدرَكَتْه الصَّلاةُ فلْيُصَلِّ، وأُحِلَّت لي الغنائِمُ ولم تَحِلَّ لأحدٍ قَبْلي، وكان النَّبيُّ يُبعَثُ إلى قَومِه خاصَّةً وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ كافَّةً، وأُعطيتُ الشَّفاع ةَ)) [480] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 200). والحديث أخرجه البخاري (438) واللفظ له، ومسلم (521) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. .
8- قولُه تعالى: وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا بِشارةٌ ووعدٌ صادقٌ في فتْحِ البِلادِ [481] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/470)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/335)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/313). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا هذا رُجوعٌ إلى حِكايةِ بقيَّةِ القِصَّةِ، وتَفصيلُ تَتمَّةِ النِّعمةِ المُشارِ إليها إجمالًا بقولِه تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا. وهو مَعطوفٌ إمَّا على المُضمَرِ المُقدَّرِ قبْلَ قولِه تعالى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ، كأنَّه قِيلَ: إثرَ حِكايةِ الأمورِ المَذكورةِ وقَعَ ما وقَعَ مِن الحوادثِ وَرَدَّ اللَّهُ ... إلخ، وإمَّا على (أَرْسَلْنَا)، وقد وُسِّطَ بيْنَهما بَيانُ كَونِ ما نَزَل بهم واقعةً طامَّةً تَحيَّرتْ بها العُقولُ والأفهامُ، ودَاهيةً تامَّةً تحاكَّتْ منها الرُّكَبُ، وزلَّتِ الأقدامُ. وتَفصيلُ ما صدَرَ عن فَريقَيْ أهلِ الإيمانِ وأهلِ الكُفرِ والنِّفاقِ مِن الأحوالِ والأقوالِ؛ لإظهارِ عِظَمِ النِّعمةِ، وإبانةِ خَطَرِها الجَليلِ، ببَيانِ وُصولِها إليهم عندَ غايةِ احتياجِهم إليها، أي: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا، ورَدَدْنا بذلك الَّذين كَفَروا [482] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/99). .
- قولُه: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ فيه التِفاتٌ إلى الاسمِ الجليلِ؛ لِتَربيةِ المَهابةِ، وإدخالِ الرَّوعةِ، وللتَّنبيهِ على عِظَمِ شأْنِ هذا الرَّدِّ العجيبِ [483] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/99)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/310). .
- وعبَّرَ عن الأحزابِ بـ الَّذِينَ كَفَرُوا؛ للإيماءِ إلى أنَّ كُفْرَهم هو سَببُ خَيبتِهم العَجيبةِ الشَّأنِ [484] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/310). .
- وجُملةُ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لِبَيانِ مُوجِبِ غَيظِهم [485] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/310). .
- وفي قولِه: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ إيجازٌ بالحذْفِ، أي: كُلفةَ القِتالِ، أو أرزاءَ القِتالِ. وإظهارُ اسمِ الجلالةِ؛ للتَّنبيهِ على عِظَمِ شأْنِ هذا الكفايةِ العجيبةِ [486] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/310). .
- وجُملةُ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا تَذييلٌ لِجُملةِ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ إلى آخِرِها، وذِكرُ فِعلِ (كان)؛ للدَّلالةِ على أنَّ العِزَّةَ والقوَّةَ وَصْفانِ ثابتانِ للهِ تعالى [487] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/311). .
- وفي قولِه: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا مُناسَبةٌ حَسَنةٌ في المعاني؛ لأنَّ الكلامَ لو اقتُصِرَ فيه على دُونِ الفاصلةِ، لَأوهَمَ ذلك بعضَ الضُّعفاءِ أنَّ هذا الإخبارَ مُوافقٌ لاعتِقادِ الكفَّارِ في أنَّ الرِّيحَ الَّتي حدَثَتْ كانتْ سببًا في رُجوعِهم خائبينَ، وكَفَى المؤمنينَ قِتالَهم، والرِّيحُ إنَّما حدَثَت اتِّفاقًا كما تَحدُثُ في بَعضِ وَقائعِهم، وقِتالِ بَعضِهم لِبَعضٍ، وظنُّوا أنَّ ذلك لم يكُنْ مِن عندِ اللهِ؛ فوقَعَ الاحتراسُ بمَجِيءِ الفاصلةِ الَّتي أخبَرَ فيها سُبحانه أنَّه قويٌّ عزيزٌ [488] وهو ما يُعرفُ بـ «ائتلاف الفاصلة»، ويُسَمِّيه بعضُهم بالتَّمكينِ، وهو: أن يُمَهَّدَ قبْلَ الفاصلةِ تمهيدٌ تأتي به الفاصِلةُ مُمَكَّنةً في مكانِها، مُستقِرَّةً في قَرارِها، مُطمئنَّةً في مَوضِعها، غيرَ نافرةٍ ولا قَلِقةٍ، مُتعلِّقًا معناها بمعنى الكلامِ كلِّه تعلُّقًا تامًّا، بحيث لو طُرِحَتْ لاختلَّ المعنى، واضْطَرَبَ الفَهمُ، ومنه قولُه تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا؛ فإنَّه لو انتهَتِ الآيةُ عندَ قولِه: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ لَرُبَّما ظُنَّ أنَّ الرِّيحَ الَّتي عصفَتْ بالكفَّارِ والأحزابِ في غزوةِ الأحزابِ أو الخَندقِ هي سببُ رُجوعِهم خائبينَ، وأنَّ ذلك أمرٌ قد حدَث مُصادَفةً، وأنَّه ليس مِن عندِ الله! بَيْدَ أنَّ فاصِلةَ الآيةِ: وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا قد أزالَتْ هذا التَّوهُّمَ المُفترَضَ، وأبرزَتْ للمؤمنينَ وغيرِهم أنَّ تلك الرِّيحَ إنَّما هبَّتْ بأمرِه سُبحانَه، وأنَّها كانت أداةً مِن أدواتِ نصْرِه الَّذي وعَدَ به المؤمنينَ، وجُندًا مِن جُنودِه سُبحانَه. يُنظر: ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/18، 19). ، قادرٌ بقُوَّتِه على كلِّ شَيءٍ، وأنَّ حِزبَه هو الغالبُ، وأنَّه لِقُدرتِه يَجعَلُ النَّصرَ للمؤمنينَ أفانينَ مُتنوِّعةً؛ لِيَزيدَهم إيمانًا وتَثبيتًا، فهو يَنصُرُهم مرَّةً بالقِتالِ؛ كيَومِ بَدْرٍ، وتارةً بالرِّيحِ؛ كيَومِ الأحزابِ، وطَورًا بالرُّعبِ؛ كبَنِي النَّضيرِ، وأحيانًا يَنصُرُ عليهم أوَّلًا، ويَجعَلُ العاقبةَ لهم أخيرًا؛ كيَومِ أُحدٍ، وحِينًا يُرِيهم أنَّ العِبرةَ في المعركةِ ليسَتْ بالكَثرةِ، وأنَّه كمْ مِن فِئةٍ قليلةٍ غلَبَت فئةً كثيرةً؛ لِيَتحقَّقوا بأنَّ النَّصرَ إنَّما هو مِن عندِ اللهِ؛ كيَومِ حُنينٍ، وهذا مِن أروَعِ ما يَتزيَّنُ به الكلامُ [489] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/628، 629). .
2- قوله تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا
- قولُه: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ قذْفُ الرُّعبِ سببٌ لإنزالِهم، ولكنَّه قدَّمَ المُسبَّبَ، لَمَّا كان السُّرورُ بإنزالِهم أكثرَ، والإخبارُ به أهَمَّ [490] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/469)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/333). .
- والخِطابُ في قولِه: فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا إلى آخِرِه، للمُؤمنينَ؛ تَكمِلةً للنِّعمةِ الَّتي أنبَأَ عنها قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا [الأحزاب: 9] الآيةَ [491] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/312). .
- وتَقديمُ المفعولِ في فَرِيقًا تَقْتُلُونَ؛ للاهتِمامِ بذِكْرِه؛ لأنَّ ذلك الفريقَ همْ رِجالُ القَبيلةِ الَّذين بقَتْلِهم يَتِمُّ الاستيلاءُ على الأرضِ والأموالِ والأسْرى؛ ولذلك لم يُقدِّمْ مَفعولَ (تَأْسِرُونَ)؛ إذ لا داعِيَ إلى تَقديمِه، فهو على أصْلِه [492] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/313). .
- أو لعلَّ تأخيرَ المفعولِ في الجُملةِ الثَّانيةِ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا -مع أنَّ مَساقَ الكلامِ لِتَفصيلِه وتَقسيمِه-؛ لِمُراعاةِ الفواصلِ [493] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/100). . وقيل: لعلَّه أُخِّرَ الفَريقُ هنا؛ لِيُفيدَ التَّخييرَ في أمْرِهم، وقُدِّمَ في الرِّجالِ؛ لِتَحتُّمِ القَتْلِ فيهم [494] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/334)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 197). .
3- قوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا
- قَولُه: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، قُدِّمتْ أَرْضَهُمْ؛ لكَثرةِ المنفعةِ بها مِن النَّخلِ والزَّرعِ، ولأنَّهم باستيلائِهم عليها ملَكوها أوَّلًا، وَدِيَارَهُمْ لضَرورةِ الحاجةِ إلى سُكْناها، ولأنَّها هي المستوْلَى عليها ثانيًا، وَأَمْوَالَهُمْ ليُستعانَ بها في قوَّةِ المسلمينَ للجهادِ، ولأنَّها كانت في بيوتِهم، فوقَع الاستيلاءُ عليها ثالثًا [495] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/470). .
- وفي التَّذييلِ بقولِه: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا إيماءٌ إلى البِشارةِ بفَتْحٍ عظيمٍ يأْتي مِن بعْدِه [496] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/313). . وختَم تعالى هذه الآيةَ بقُدرتِه على كلِّ شيءٍ؛ لأنَّه لَمَّا كان فتْحُ البُلدانِ وغلَبةُ المسلِمينَ عليها أمرًا باهرًا سهَّلَه بقوله: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا، أي: شامِلَ القُدرةِ [497] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/335). .