موسوعة التفسير

سورةُ الأحزابِ
الآيات (9-11)

ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ

غَريبُ الكَلِماتِ:

زَاغَتِ : أي: مالَت وشَخَصَت، وأصلُ الزَّيغِ: المَيلُ عن الاستِقامةِ [205] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 348)، ((تفسير ابن جرير)) (19/35)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 251)، ((المفردات)) للراغب (ص: 387)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 339). .
الْحَنَاجِرَ: جمعُ حنجرةٍ، وهي آخرُ الحَلْقِ مما يَلِي الفمَ، أو: طرَفُ المَرِيءِ ممَّا يَلي الفمَ، وترَاه ناتِئًا مِن خارِجِ الحَلْقِ [206] يُنظر: ((التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)) لابن عبد البَر (23/325)، ((مطالع الأنوار على صحاح الآثار)) لابن قرقول (2/315)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 260)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/449). .
ابْتُلِيَ: أي: اختُبِروا ومُحِّصوا، وأصلُ (بلي) هنا: يدُلُّ على الاختِبارِ [207] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/37)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/292)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 298)، ((تفسير القرطبي)) (14/146). .
وَزُلْزِلُوا: أي: أُزعِجوا وحُرِّكوا بالخَوفِ والمرَضِ، وأصلُ (زلزل): يدُلُّ على الاضطِرابِ [208] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 348)، ((المفردات)) للراغب (ص: 382)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 298)، ((تفسير القرطبي)) (14/146)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 493). .

المعنى الإجماليُّ:

 يقولُ تعالى مبيِّنًا قصَّةَ غزوةِ الأحزابِ، وفضْلَ الله تعالى على المؤمنينَ فيها: يا أيُّها الَّذين آمَنوا اذكُروا نِعمةَ اللهِ عليكم حينَ أذهَبَ الكُفَّارَ عنكم بإرسالِ ريحٍ شَديدةِ الهبوبِ عليهم، وأرسَلَ عليهم جُنودًا مِنَ الملائِكةِ لم تَرَوها، وكان اللهُ بما تَعمَلونَ -أيُّها المؤمِنونَ- بَصيرًا.
إذ جاءكم الأحزابُ مِن جِهةِ المَشرِقِ ومِن جِهةِ المغرِبِ، وإذ مالت أبصارُكم؛ مِن شِدَّةِ فَزَعِكم، وزالت قلوبُكم عن أماكِنِها فبَلَغت الحناجِرَ؛ مِن شِدَّةِ الخَوفِ والرُّعبِ! وتَظُنُّونَ باللهِ ظُنونًا كثيرةً، فعندَ تلك الشِّدَّةِ العظيمةِ ابتُلِيَ المؤمِنونَ، وأُزعِجوا إزعاجًا شَديدًا.

تَفسيرُ الآياتِ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أكَّد سُبحانَه وُجوبَ الصَّدعِ بكُلِّ أمرِه وإن عَظُمَت مَشقَّتُه؛ اعتمادًا على تدبيرِه، وعظيمِ أمرِه في تقديرِه- ذكَّرَهم بدليلٍ شُهوديٍّ هو أعظَمُ وقائِعِهم في حُروبِهم، وأشَدُّ ما دهمَتْهم مِن كُروبِهم [209] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/295، 296). .
وأيضًا بعدَ أن أمَرَ سُبحانَه عبادَه بتَقْواه، وعدَمِ الخَوفِ مِن سِواه؛ ذكَرَ هنا تحقيقَ ما سلَفَ، فأبان أنَّه أنعَمَ على عبادِه المؤمِنينَ؛ إذ صرَفَ عنهم أعداءَهم وهَزَمهم حينَ تألَّبوا عليهم عامَ الخَندقِ [210] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (21/136). .
وأيضًا اختِيرتْ للتَّذكيرِ بهذا اليومِ مُناسَبةُ الأمرِ بعدَمِ طاعةِ الكافِرينَ والمنافِقينَ؛ لأنَّ مِن النِّعَمِ الَّتي حفَّت بالمؤمِنينَ في يومِ الأحزابِ: أنَّ اللهَ ردَّ كَيدَ الكافِرينَ والمنافِقينَ، فذُكِّرَ المؤمنونَ بسابِقِ كَيدِ المنافِقينَ في تلك الأزمةِ؛ لِيَحذَروا مكايدَهم وأراجيفَهم في قضيَّةِ التبَنِّي، وتزوُّجِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مُطلَّقةَ مُتَبنَّاه [211] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/277). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا اذكُروا نِعمةَ اللهِ عليكم في صَرفِه الكفَّارَ عنكم حينَ حاصَروكم [212] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/25)، ((تفسير ابن كثير)) (6/383)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/295، 296)، ((تفسير السعدي)) (ص: 659). قال ابنُ كثير: (وذلك عامَ الخَندقِ، وذلك في شوَّالٍ سنةَ خمسٍ مِن الهجرةِ على الصَّحيحِ). ((تفسير ابن كثير)) (6/383). .
إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا.
أي: حينَ جاءَتكم جُنودُ الكُفَّارِ، فأرسَلْنا عليهم ريحًا شَديدةَ الهُبوبِ [213] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/25)، ((تفسير ابن كثير)) (6/384)، ((تفسير الشوكاني)) (4/304). قال ابنُ تيميَّةَ: (تحزَّب عليهم عامَّةُ المشركين الَّذين حوْلَهم، وجاؤوا بجُموعِهم إلى المدينةِ؛ لِيَستأصِلوا المؤمنينَ، فاجتمعَتْ قُرَيشٌ وحُلفاؤها مِن بني أسدٍ، وأشجَعَ، وفَزارةَ، وغَيرِهم مِن قبائِلِ نَجْدٍ، واجتمعتْ أيضًا اليهودُ مِن قُرَيْظةَ والنَّضيرِ). ((مجموع الفتاوى)) (28/443). وقال ابنُ عاشور: (الرِّيحُ المذكورةُ هنا هي رِيحُ الصَّبا، وكانت باردةً، وقلَعت الأوتادَ والأطنابَ، وسفَّت التُّرابَ في عُيونِهم، وماجَتِ الخَيلُ بَعضُها في بعضٍ، وهلَك كثيرٌ مِن خَيلِهم وإبِلِهم وشائِهم، وفيها قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «نُصِرتُ بالصَّبا، وأُهلِكَت عادٌ بالدَّبورِ»). ((تفسير ابن عاشور)) (21/279). .
عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((نُصِرْتُ بالصَّبَا، وأُهلِكَتْ عادٌ بالدَّبَورِ )) [214] أخرجه البخاري (1035)، ومسلم (900). قال ابن حجر: (قولُه: «نُصِرْتُ بالصَّبَا» ... هي الرِّيحُ الشَّرقيَّةُ. والدَّبورُ ... مُقابِلُها. يُشيرُ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى قولِه تعالَى في قصَّةِ الأحزابِ: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا). ((فتح الباري)) (6/301). .
وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا.
أي: وأرسَلْنا عليهم جُنودًا مِنَ الملائِكةِ لم تَرَوها [215] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/336)، ((البسيط)) للواحدي (18/185)، ((تفسير العز بن عبد السلام)) (2/562)، ((تفسير ابن كثير)) (6/385)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/279). وممَّن قال بأنَّ الجنودَ هنا هم الملائكةُ: الواحدي، وابن كثير، وابن عاشور. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (18/185)، ((تفسير ابن كثير)) (6/385)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/279). وممَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ، وقَتادةُ، ويَزيدُ بنُ رُومانَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/28، 29). وقيل: هم الملائكةُ وغيرُهم مِنَ البشَرِ؛ كنُعَيمِ بنِ مسعودٍ الغَطَفانيِّ الَّذي أوهَنَ الأحزابَ بكَيدِه وتخذيلِه لهم. وممَّن قال بهذا المعنى: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (15/298). .
وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: تَعْمَلُونَ قراءتانِ:
1- قِراءةُ: يَعْمَلُونَ على معنى عَودِ الضَّميرِ على الجُنودِ والأحزابِ الَّذين تألَّبوا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمِنينَ معه [216] قرأ بها: أبو عمرو. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/347). ويُنظَرُ لمعنى هذه القراءةِ: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 570)، ((تفسير ابن عطية)) (4/372)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/300). .
2- قِراءةُ: تَعْمَلُونَ على معنى أنَّه خِطابٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَن معه مِن المؤمِنينَ [217] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/347). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 570)، ((تفسير ابن عطية)) (4/372)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/300). .
وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا.
أي: وكان اللهُ بما تَعمَلونَ -أيُّها المؤمِنونَ- بَصيرًا بأعمالِكم الصَّالحةِ في تلك الغَزوةِ، وسيُجازيكم عليها [218] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/29)، ((تفسير السمرقندي)) (3/49)، ((تفسير الرازي)) (25/160)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/300)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 96). قال البقاعي في قولِه بِمَا تَعْمَلُونَ أي: (مِن حَفْرِ الخَندقِ وغيرِه مِنَ الصِّدقِ في الإيمانِ وغيرِه). ((نظم الدرر)) (15/300). .
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10).
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ.
أي: إذْ [219] قيل: إِذْ متعلقةٌ بما قبْلَها. أي: وكان اللهُ بما تعملون بصيرًا إذ جاءَتْكم جنودُ الأحزاب مِن فوقِكم ومِن أسفَلَ منكم. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/29). وقيل: إِذْ في موضعِ نَصبٍ، بمعنى: واذكُرْ. وممَّن قال بهذا: القرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/144). قال الواحدي: (وقوله: إِذْ جَاءُوكُمْ إِذْ بدَلٌ مِن قَولِه: إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ، وإِذْ ظرفٌ لإنعامِ الله عليهم، كأنَّه قيل: اذكُروا إنعامَ الله عليكم بالكفايةِ حينَ جاءَتْكم جُنودٌ، حينَ جاؤُوكم مِنْ فَوْقِكُمْ). ((البسيط)) (18/185). جاءَتْكم جنودُ الأحزابِ -أيُّها المؤمِنونَ- مِن فَوقِكم مِن جِهةِ المَشرِقِ [220] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/29)، ((تفسير القرطبي)) (14/144)، ((تفسير البيضاوي)) (4/226). .
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها في قَولِه تعالى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، قالت: (كان ذاك يومَ الخَندَقِ) [221] رواه البخاري (4103) واللفظ له، ومسلم (3020). .
وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ .
أي: وجاؤوكم مِن أسفَلَ منكم مِن جِهةِ المغرِبِ [222] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/29)، ((تفسير القرطبي)) (14/144)، ((تفسير البيضاوي)) (4/226). .
وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ.
أي: وإذ مالَتْ أبصارُ المُسلِمينَ عَن مقَرِّها؛ مِن شِدَّةِ الخَوفِ والفَزَعِ [223] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/34)، ((البسيط)) للواحدي (18/187)، ((تفسير القرطبي)) (14/144، 145)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/301)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/280). قيل: المرادُ بقَولِه تعالى: (زَاغَتِ الْأَبْصَارُ): شخصَتِ الأبصارُ مِن الخَوفِ، ومالَتْ عن مستوى نظَرِها حَيْرةً، وعدَلَت عن مقَرِّها. وممَّن قال بذلك في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقندي، ومكِّي، والسمعاني، والقرطبي، والبيضاوي، وابن جُزَي، والخازن، والعُلَيمي، والألوسي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/476)، ((تفسير ابن جرير)) (19/34، 35)، ((تفسير السمرقندي)) (3/50)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5804)، ((تفسير السمعاني)) (4/263)، ((تفسير القرطبي)) (14/144)، ((تفسير البيضاوي)) (4/226)، ((تفسير ابن جزي)) (2/147)، ((تفسير الخازن)) (3/416)، ((تفسير العليمي)) (5/345)، ((تفسير الألوسي)) (11/154). وقيل: المرادُ: زاغت عن كُلِّ شَيءٍ فلم تلتَفِت إلَّا إلى عَدُوِّها مُقبِلًا مِن كلِّ جانبٍ. وممَّن قال بهذا المعنى: الفَرَّاءُ، وابنُ الجوزي، وجلال الدين المحلي، والشوكاني. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/336)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/451)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 550)، ((تفسير الشوكاني)) (4/305). قال ابن عاشور: (الزَّيغُ: المَيلُ عن الاستواءِ إلى الانحرافِ، فزَيغُ البَصَرِ ألَّا يرى ما يتوجَّهُ إليه، أو أن يريدَ التَّوجُّهَ إلى صَوبٍ فيَقَعَ إلى صَوبٍ آخَرَ؛ مِن شِدَّةِ الرُّعبِ والانذِعارِ). ((تفسير ابن عاشور)) (21/280). .
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ.
أي: وزالت القُلوبُ عن أماكنِها في الصُّدورِ؛ مِن شِدَّةِ الخَوفِ والرُّعبِ، فبلَغَت الحناجِرَ [224] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/35)، ((تفسير القرطبي)) (14/145)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 101). واختلَف المفسِّرون في معنى بُلوغِ القلوبِ الحناجِرَ؛ فقيل: إنَّه مَثَلٌ مَضروبٌ لشِدَّةِ اضْطِرابِ القُلوبِ وخَفَقانِها مِنَ الفَزَعِ والهَلَعِ؛ فكأنَّها لذلك تَتجاوَزُ مَقارَّها حتَّى تبلُغَ الحَنجرةَ. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: القرطبيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/145)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/280، 281). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عِكْرِمةُ. يُنظر: ((مصنَّف ابن أبي شيبة)) (7/216). وقيل: المعنى على حقيقتِه، فإذا اشتَدَّ خَوفُ الإنسانِ انتفَخَت رئتُه، فإذا انتفَخَت دفَعَت القَلبَ إلى الحَنجرةِ؛ ولهذا يقال للجَبَانِ: انتفَخَ سَحْرُه، أي: رِئتُه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الواحدي، والبيضاوي، وأبو السعود، والبقاعي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/461)، ((تفسير البيضاوي)) (4/226)، ((تفسير أبي السعود)) (7/93)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/301، 302). ويُنظر أيضًا: ((معاني القرآن)) للفراء (2/336)، ((البسيط)) للواحدي (18/188). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/576). .
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا.
أي: وتَظنُّونَ باللهِ ظُنونًا شَتَّى [225] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/35)، ((تفسير السعدي)) (ص: 660)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/281). قال البقاعي: (الظُّنُونَا أي: أنواعَ الظَّنِّ؛ أمَّا بالنِّسبةِ إلى الأشخاصِ فواضِحٌ، وذلك بحسَبِ قوَّةِ الإيمانِ وضَعفِه، وأمَّا بالنِّسبةِ إلى الشَّخصِ الواحِدِ فحَسَبَ تغيُّرِ الأحوالِ؛ فتارةً يَظُنُّ الهلاكَ للضَّعفِ، وتارةً النَّجاةَ؛ لأنَّ اللهَ قادِرٌ على ذلك، ويظُنُّ المنافِقونَ ومَن قاربَهم مِن ضُعَفاءِ القُلوبِ ما حكى اللهُ عنهم). ((نظم الدرر)) (15/302). .
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11).
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ.
أي: فعندَ تلك الشِّدَّةِ العَظيمةِ اختبَرَ اللهُ إيمانَ القَومِ ومحَّصَهم؛ لِيَتمَيَّزَ المؤمِنُ مِنَ المنافِقِ [226] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/37)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/219)، ((تفسير القرطبي)) (14/146)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/282). .
وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا.
أي: وحُرِّكوا وأُزعِجوا إزعاجًا شَديدًا [227] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/38)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/219)، ((تفسير القرطبي)) (14/146)، ((تفسير السعدي)) (ص: 660)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/283). قال الماوَرْدي: (وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا فيه أربعةُ أوجُهٍ؛ أحَدُها: حُرِّكوا بالخَوفِ تحريكًا شديدًا. قاله يحيى بنُ سلام. الثَّاني: أنَّه اضْطِرابُهم عمَّا كانوا عليه؛ فمنهم مَنِ اضْطَرَب في نفْسِه، ومنهم مَن اضطرَبَ في دِينِه. الثَّالث: أنَّه حرَّكهم الأمرُ بالثَّباتِ والصَّبرِ. وهو محتَمِلٌ. الرَّابع: هو إزاحتُهم عن أماكِنِهم حتَّى لم يكُنْ لهم إلَّا مَوضِعُ الخَندقِ. قاله الضَّحَّاكُ). ((تفسير الماوردي)) (4/380). وقال ابنُ عثيمينَ: (النُّفوسُ تزلزلَتْ وحصَل عليها شَيءٌ عظيمٌ؛ لأنَّه اجتمَع في هذه الغزوةِ اجتِماعُ الأحزابِ مع العربِ، ونَقضُ بني قُرَيظةَ، والجوعُ والتَّعَبُ والإعياءُ والبَردُ). ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 105). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا كان الأمرُ في غايةِ الشِّدَّةِ والخَوفِ، بالِغًا إلى الغايةِ، واللهُ دفَعَ القَومَ عنهم مِن غَيرِ قِتالٍ، وآمنَهم مِنَ الخَوفِ؛ فينبغي ألَّا يَخافَ العَبدُ غَيرَ رَبِّه؛ فإنَّه كافٍ أمْرَه، وألَّا يأمَنَ مَكْرَه؛ فإنَّه قادِرٌ على كُلِّ شَيءٍ، فكان قادِرًا على أن يَقهَرَ المُسلِمينَ بالكُفَّارِ، مع أنَّهم كانوا ضُعَفاءَ، كما قَهَر الكافِرينَ بالمؤمِنينَ مع قوَّتِهم وشَوكتِهم [228] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (??/???). .
2- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ أنَّه ينبغي للمُذَكِّرِ أن يُفَصِّلَ فيما ذَكَّرَ به؛ ليَكونَ ذلك أبلَغَ في تَذَكُّرِ المخاطَبِ [229] يُنظر: ((تفسير  ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 101). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في خِطابِ اللهِ للمُؤمِنينَ في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مع قَولِه سُبحانَه لهم: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ الله عنهم -على ما هم عليه مِن المرتَبةِ العاليةِ- قد تعتَرِضُهم الظُّنونُ بسَبَبِ الضِّيقِ؛ فهم لشِدَّةِ الضِّيقِ قد تَعتَريهم مِثلُ هذه الوَساوِسِ، لكِنَّها في الحَقيقةِ سَحابةُ صَيفٍ؛ عندَما يَرجِعُ الإنسانُ إلى وَعْدِ اللهِ عزَّ وجلَّ يَزولُ عنه هذا كلُّه ويتبَدَّدُ [230] يُنظر: ((تفسير  ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 103). .
2- قال تعالى: إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا كانت هذه الرِّيحُ مُعجِزةً للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلِمينَ كانوا قريبًا منها، لم يكُنْ بيْنَهم وبيْنَها إلَّا عَرضُ الخَندَقِ، وكانوا في عافيةٍ منها، ولا خبَرَ عِندَهم بها [231] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/144). .
3- قال تعالى: إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا فسلَّط عليهم هواءً فَرَّق شَمْلَهم، كما كان سبَبُ اجتماعِهم مِنَ الهوى، وهم أخلاطٌ مِن قبائِلَ شتَّى؛ أحزابٌ وآراءٌ، فناسَبَ أن يُرسِلَ عليهم الهواءَ الَّذي فرَّق جماعتَهم [232] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/395). .
4- في قَولِه تعالى: إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا رَدٌّ على مَن يقولُ: إنَّ الاسمَ إذا وَقَعَ على شَيءٍ لم يَجُزْ أن يَقَعَ على غَيرِه إلَّا أنْ يُشبِهَه بجَميعِ صِفاتِه، وهذه الملائِكةُ والمُشرِكونَ مِن الأحزابِ قد شَمِلَهما معًا اسمُ «الجُنودِ» على اختِلافِ صِفاتِهما؛ فكيفَ لا تتَّفِقُ الأسماءُ، وتختَلِفُ الصِّفاتُ [233] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/646). ؟!
5- في قَولِه تعالى: وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ أنَّ خَوفَ الإنسانِ مِن المَخلوقِ الخَوْفَ الطَّبيعيَّ لا يُعَدُّ شِركًا؛ فإنَّ ما ذُكِر مِن شدَّةِ الخَوفِ كان خَوفًا مِن مخلوقٍ، لكنَّ الباعثَ عليه الأمرُ الطبيعيُّ، وإذا كان الأمرُ طبيعيًّا فإنَّه لا يُؤاخَذُ به الإنسانُ [234] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 103). .
6- في قَولِه تعالى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أنَّ المخاوِفَ تُربِكُ الإنسانَ حتَّى في تصَوُّراتِه؛ فإنَّ الإنسانَ المُستقِرَّ لا تكونُ عندَه ظُنونٌ مُتبايِنةٌ مُتعارِضةٌ؛ لأنَّه مُستَقِرٌّ، لكنْ عندَما يحصُلُ الفَزَعُ، وعندَما يحصُلُ الخوفُ تأتي الظُّنونُ مِن كلِّ وَجهٍ [235] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 103). .
7- في قَولِه تعالى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أنَّ الإنسانَ إذا غَلَبَتْهُ الحالُ حتَّى وردتَ عليه مِثلُ هذه الظُّنونِ؛ فإنَّه لا يَحُطُّ مِن مَرتبتِه، لكنْ إذا استقرَّتْ به الحالُ، وهدأَتْ هذه الظُّنونُ؛ عَرَفَ الحقَّ [236] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 104). .
8- قال تعالى: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ فبُنِيتْ للمفعولِ، والمُبتَلِي هو اللهُ سُبحانَه وتعالى، فهو سبحانَه في مقامِ الخَيرِ يُضيفُ الشَّيءَ إلى نَفْسِه تَمَدُّحًا، وفي مَقامِ خِلافِ ذلك تأتي الأفعالُ مَبنيَّةً للمَفعولِ، فالقاعدةُ العامَّةِ؛ «أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يَذكُرُ النِّعَمَ مُضافةً إليه، ويَذكُرُ النِّقَمَ غالبًا مَبنيَّةً للمَفعولِ» [237] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 107). .
9- قولُه: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ سمَّى اللهُ ما أصابَ المؤمنينَ ابتلاءً؛ إشارةً إلى أنَّه لم يُزَعْزِعْ إيمانَهم [238] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/283). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ابتِداءٌ لِغَرضٍ عظيمٍ مِن أغراضِ نُزولِ هذه السُّورةِ، والَّذي حُفَّ بآياتٍ وعِبَرٍ مِن ابتدائِه ومِن عَواقبِه؛ تَعليمًا للمؤمنينَ وتَذكيرًا؛ لِيَزِيدَهم يَقينًا وتَبصيرًا، فافتُتِحَ الكلامُ بتَوجيهِ الخِطابِ إلى المؤمنينَ؛ لأنَّهم أهلُه وأحِقَّاءُ به، ولأنَّ فيه تَخليدَ كَرامتِهم ويَقينِهم، وعِنايةَ اللهِ بهم، ولُطْفَه لهم، وتَحقيرًا لِعَدُوِّهم ومَن يَكِيدُ لهم، وأُمِروا أنْ يَذْكُروا هذه النِّعمةَ ولا يَنْسَوها؛ لأنَّ في ذِكرِها تَجديدًا للاعتزازِ بدِينِهم، والثِّقةِ برَبِّهم، والتَّصديقِ لِنَبيِّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [239] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/276، 277). .
- وذُكِرَ قولُه: إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ تَوطئةً لقولِه: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا ... إلخ؛ لأنَّ ذلك هو مَحلُّ المِنَّةِ [240] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/279). .
- وفي قولِه: إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ ذُكِرَ (جُنودٌ) هنا بلَفظِ الجمْعِ، معَ أنَّ مُفردَه مُؤذِنٌ بالجماعةِ، مِثلُ قولِه تعالى: جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ [ص: 11] ؛ فجمَعَه هنا لأنَّهم كانوا مُتجمِّعينَ مِن عدَّةِ قَبائلَ، لكلِّ قَبيلةٍ جيشٌ، خَرَجوا مُتساندينَ لِغَزْوِ المسلمينَ في المدينةِ [241] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/279، 280). .
- وجُملةُ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا اعتِراضٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه [242] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/93). . وقيل: إنَّها في مَوقعِ الحالِ مِن اسمِ الجلالةِ في قولِه: نِعْمَةَ اللَّهِ، وهي إيماءٌ إلى أنَّ اللهَ نصَرَهم على أعدائِهم؛ لأنَّه عَليمٌ بما لَقِيَه المسلمونَ مِن المشَقَّةِ والمُصابَرةِ في حَفْرِ الخندقِ، والخُروجِ مِن دِيارِهم إلى مَعسكرِهم خارجَ المدينةِ، وبَذْلِهم النُّفوسَ في نَصْرِ دِينِ اللهِ؛ فجازاهُمُ اللهُ بالنَّصرِ المُبينِ، كما قال: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [243] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/279). [الحج: 40] .
2- قوله تعالى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا
- قولُه: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ لَمَّا كان المُرادُ الفَوقيَّةَ مِن جِهَةِ عُلوِّ الأرضِ، أوضَحَها بقولِه: وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ دونَ أنْ يقولَ: أسْفَلكم، وأفادَ ذلك أيضًا أنَّ مَن في الأسفلِ إنَّما أحاطوا ببَعضِ جِهَةِ الرِّجالِ فقط، ولم يَقُلْ: (ومِن تَحتِكم)؛ لئلَّا يُظَنَّ أنَّه فوقَ الرُّؤوسِ وتحتَ الأرجُلِ، ولم يَقُلْ في الأوَّلِ: (مِن أعلى مِنكم)؛ لئلَّا يكونَ فيه وَصفٌ للكفَرةِ بالعُلوِّ [244] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/301). .
- وأيضًا قولُه: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ قد يكونُ ذلك على معنى المُبالَغةِ، أي: جاؤوكم مِن جَميعِ الجِهاتِ، كأنَّه قِيل: إذ جاؤوكم مُحيطينَ بكم [245] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/458). .
- قولُه: وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ أي: مالتْ عن سَننِها ومُستوى نَظرِها، وهو كِنايةٌ عن الحَيرةِ، والشُّخوصِ، وشِدَّةِ الرَّوعِ [246] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/526)، ((تفسير البيضاوي)) (4/226)، ((تفسير أبي السعود)) (7/93)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/280). .
- قولُه: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ بُلوغُ القُلوبِ الحناجرَ تَمثيلٌ لِشِدَّةِ اضْطرابِ القلوبِ مِن الفزَعِ والهلَعِ -على قولٍ-، حتَّى كأنَّها لاضْطِرابِها تَتجاوَزُ مَقارَّها، وتَرتفِعُ طالبةً الخُروجَ مِن الصُّدورِ، فإذا بلَغَتِ الحناجرَ لم تَستطِعْ تَجاوُزَها مِن الضِّيقِ؛ فشُبِّهَت هيئةُ قلْبِ الهَلوعِ المَرعودِ بهَيئةِ قلْبٍ تَجاوَزَ مَوضعَه، وذهَبَ مُتصاعِدًا طالبًا الخُروجَ، فالمُشبَّهُ القلْبُ نفْسُه باعتبارِ اختلافِ الهَيئتينِ [247] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/526)، ((تفسير أبي حيان)) (8/458)، ((تفسير أبي السعود)) (7/93)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/280). .
- قَولُه: وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ لَمَّا كانت هذه حالةً عَرَضتْ، ثمَّ كان مِن أمرِها أنَّها إمَّا زالت، أو ثبَتَت إلى انقِضاءِ الأمرِ؛ عبَّرَ عنها بالماضي لذلك، وتحقيقًا لها [248] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/302). .
- قولُه: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا جِيءَ بالفِعلِ المُضارعِ؛ لاستِحضارِ الصُّورةِ، والدَّلالةِ على استِمرارِ تلك الظُّنونِ وتَجدُّدِها بتَجدُّدِ أسبابِها؛ كِنايةً عن طُولِ مُدَّةِ هذا البَلاءِ. وفي صِيغةِ المضارعِ وَتَظُنُّونَ معنى التَّعجُّبِ مِن ظُنونِهم؛ لإدماجِ العِتابِ بالامتِنانِ؛ فإنَّ شِدَّةَ الهلَعِ الَّذي أزاغَ الأبصارَ، وجعَلَ القلوبَ بمِثلِ حالةِ أنْ تَبلُغَ الحناجرَ؛ دلَّ على أنَّهم أشْفَقوا مِن أنْ يُهزَموا؛ لِمَا رأَوا مِن قوَّةِ الأحزابِ، وضِيقِ الحِصارِ، أو خافوا طُولَ مُدَّةِ الحربِ، وفَناءَ الأنفُسِ، أو أشْفَقوا مِن أنْ تكونَ مِن الهزيمةِ جَراءةٌ للمشركينَ على المسلمينَ، أو نحوُ ذلك مِن أنواعِ الظُّنونِ، وتَفاوُتِ دَرجاتِ أهْلِها [249] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/94)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/281). .
- وفي قولِه: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا حُذِفَ مَفعولَا (تظنُّون) دونَ وُجودِ دَليلٍ يَدُلُّ على تَقديرِهما؛ فهو حَذْفٌ لِتَنزيلِ الفِعلِ مَنزِلةَ اللَّازمِ، والمقصودُ مِن هذا التَّنزيلِ أنْ تَذهَبَ نفْسُ السَّامعِ كلَّ مَذهَبٍ مُمكِنٍ [250] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/281). .
- وتعريفُ: الظُّنُونَا باللَّامِ هو تَعريفُ الجِنسِ، وجَمْعُه للدَّلالةِ على أنواعٍ مِن الظَّنِّ [251] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/282). ، يعني: أنَّ الظُّنونَ كانت تدورُ في أذهانِهم أو في أفكارِهم مختلِفةً طولًا وعَرضًا، يعني: هل سيَزولُ هؤلاء الأحزابُ؟ هل سيَقضون علينا؟ هل سننتصرُ [252] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 101). ؟
3- قوله تعالى: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا
- قَولُ الله تعالى: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا لم يؤكِّدِ الابتِلاءَ بالشِّدَّةِ؛ لِدَلالةِ الافتِعالِ عليها [253] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/303). .
- قولُه: وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا الزِّلزالُ: اضْطِرابُ الأرضِ، وهو مُضاعَفُ (زلَّ) تَضعيفًا يُفِيدُ المُبالَغةَ، والمرادُ به هنا اختلالُ الحالِ اختلالًا شديدًا، بحيثُ تُخَيَّلُ مُضطرِبةً اضطرابًا شديدًا كاضْطرابِ الأرضِ، وهو أشدُّ اضطرابًا؛ لِلِحاقِه أعظَمَ جِسمٍ في هذا العالَمِ [254] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/283). .