موسوعة التفسير

سورةُ الأحزابِ
الآيات (9-11)

ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ

غَريبُ الكَلِماتِ:

زَاغَتِ : أي: مالَت وشَخَصَت، وأصلُ الزَّيغِ: المَيلُ عن الاستِقامةِ .
الْحَنَاجِرَ: جمعُ حنجرةٍ، وهي آخرُ الحَلْقِ مما يَلِي الفمَ، أو: طرَفُ المَرِيءِ ممَّا يَلي الفمَ، وترَاه ناتِئًا مِن خارِجِ الحَلْقِ .
ابْتُلِيَ: أي: اختُبِروا ومُحِّصوا، وأصلُ (بلي) هنا: يدُلُّ على الاختِبارِ .
وَزُلْزِلُوا: أي: أُزعِجوا وحُرِّكوا بالخَوفِ والمرَضِ، وأصلُ (زلزل): يدُلُّ على الاضطِرابِ .

المعنى الإجماليُّ:

 يقولُ تعالى مبيِّنًا قصَّةَ غزوةِ الأحزابِ، وفضْلَ الله تعالى على المؤمنينَ فيها: يا أيُّها الَّذين آمَنوا اذكُروا نِعمةَ اللهِ عليكم حينَ أذهَبَ الكُفَّارَ عنكم بإرسالِ ريحٍ شَديدةِ الهبوبِ عليهم، وأرسَلَ عليهم جُنودًا مِنَ الملائِكةِ لم تَرَوها، وكان اللهُ بما تَعمَلونَ -أيُّها المؤمِنونَ- بَصيرًا.
إذ جاءكم الأحزابُ مِن جِهةِ المَشرِقِ ومِن جِهةِ المغرِبِ، وإذ مالت أبصارُكم؛ مِن شِدَّةِ فَزَعِكم، وزالت قلوبُكم عن أماكِنِها فبَلَغت الحناجِرَ؛ مِن شِدَّةِ الخَوفِ والرُّعبِ! وتَظُنُّونَ باللهِ ظُنونًا كثيرةً، فعندَ تلك الشِّدَّةِ العظيمةِ ابتُلِيَ المؤمِنونَ، وأُزعِجوا إزعاجًا شَديدًا.

تَفسيرُ الآياتِ:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أكَّد سُبحانَه وُجوبَ الصَّدعِ بكُلِّ أمرِه وإن عَظُمَت مَشقَّتُه؛ اعتمادًا على تدبيرِه، وعظيمِ أمرِه في تقديرِه- ذكَّرَهم بدليلٍ شُهوديٍّ هو أعظَمُ وقائِعِهم في حُروبِهم، وأشَدُّ ما دهمَتْهم مِن كُروبِهم .
وأيضًا بعدَ أن أمَرَ سُبحانَه عبادَه بتَقْواه، وعدَمِ الخَوفِ مِن سِواه؛ ذكَرَ هنا تحقيقَ ما سلَفَ، فأبان أنَّه أنعَمَ على عبادِه المؤمِنينَ؛ إذ صرَفَ عنهم أعداءَهم وهَزَمهم حينَ تألَّبوا عليهم عامَ الخَندقِ .
وأيضًا اختِيرتْ للتَّذكيرِ بهذا اليومِ مُناسَبةُ الأمرِ بعدَمِ طاعةِ الكافِرينَ والمنافِقينَ؛ لأنَّ مِن النِّعَمِ الَّتي حفَّت بالمؤمِنينَ في يومِ الأحزابِ: أنَّ اللهَ ردَّ كَيدَ الكافِرينَ والمنافِقينَ، فذُكِّرَ المؤمنونَ بسابِقِ كَيدِ المنافِقينَ في تلك الأزمةِ؛ لِيَحذَروا مكايدَهم وأراجيفَهم في قضيَّةِ التبَنِّي، وتزوُّجِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مُطلَّقةَ مُتَبنَّاه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا اذكُروا نِعمةَ اللهِ عليكم في صَرفِه الكفَّارَ عنكم حينَ حاصَروكم .
إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا.
أي: حينَ جاءَتكم جُنودُ الكُفَّارِ، فأرسَلْنا عليهم ريحًا شَديدةَ الهُبوبِ .
عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((نُصِرْتُ بالصَّبَا، وأُهلِكَتْ عادٌ بالدَّبَورِ )) .
وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا.
أي: وأرسَلْنا عليهم جُنودًا مِنَ الملائِكةِ لم تَرَوها .
وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: تَعْمَلُونَ قراءتانِ:
1- قِراءةُ: يَعْمَلُونَ على معنى عَودِ الضَّميرِ على الجُنودِ والأحزابِ الَّذين تألَّبوا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمِنينَ معه .
2- قِراءةُ: تَعْمَلُونَ على معنى أنَّه خِطابٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَن معه مِن المؤمِنينَ .
وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا.
أي: وكان اللهُ بما تَعمَلونَ -أيُّها المؤمِنونَ- بَصيرًا بأعمالِكم الصَّالحةِ في تلك الغَزوةِ، وسيُجازيكم عليها .
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10).
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ.
أي: إذْ جاءَتْكم جنودُ الأحزابِ -أيُّها المؤمِنونَ- مِن فَوقِكم مِن جِهةِ المَشرِقِ .
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها في قَولِه تعالى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، قالت: (كان ذاك يومَ الخَندَقِ) .
وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ .
أي: وجاؤوكم مِن أسفَلَ منكم مِن جِهةِ المغرِبِ .
وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ.
أي: وإذ مالَتْ أبصارُ المُسلِمينَ عَن مقَرِّها؛ مِن شِدَّةِ الخَوفِ والفَزَعِ .
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ.
أي: وزالت القُلوبُ عن أماكنِها في الصُّدورِ؛ مِن شِدَّةِ الخَوفِ والرُّعبِ، فبلَغَت الحناجِرَ .
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا.
أي: وتَظنُّونَ باللهِ ظُنونًا شَتَّى .
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11).
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ.
أي: فعندَ تلك الشِّدَّةِ العَظيمةِ اختبَرَ اللهُ إيمانَ القَومِ ومحَّصَهم؛ لِيَتمَيَّزَ المؤمِنُ مِنَ المنافِقِ .
وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا.
أي: وحُرِّكوا وأُزعِجوا إزعاجًا شَديدًا .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا كان الأمرُ في غايةِ الشِّدَّةِ والخَوفِ، بالِغًا إلى الغايةِ، واللهُ دفَعَ القَومَ عنهم مِن غَيرِ قِتالٍ، وآمنَهم مِنَ الخَوفِ؛ فينبغي ألَّا يَخافَ العَبدُ غَيرَ رَبِّه؛ فإنَّه كافٍ أمْرَه، وألَّا يأمَنَ مَكْرَه؛ فإنَّه قادِرٌ على كُلِّ شَيءٍ، فكان قادِرًا على أن يَقهَرَ المُسلِمينَ بالكُفَّارِ، مع أنَّهم كانوا ضُعَفاءَ، كما قَهَر الكافِرينَ بالمؤمِنينَ مع قوَّتِهم وشَوكتِهم .
2- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ أنَّه ينبغي للمُذَكِّرِ أن يُفَصِّلَ فيما ذَكَّرَ به؛ ليَكونَ ذلك أبلَغَ في تَذَكُّرِ المخاطَبِ .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في خِطابِ اللهِ للمُؤمِنينَ في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مع قَولِه سُبحانَه لهم: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ الله عنهم -على ما هم عليه مِن المرتَبةِ العاليةِ- قد تعتَرِضُهم الظُّنونُ بسَبَبِ الضِّيقِ؛ فهم لشِدَّةِ الضِّيقِ قد تَعتَريهم مِثلُ هذه الوَساوِسِ، لكِنَّها في الحَقيقةِ سَحابةُ صَيفٍ؛ عندَما يَرجِعُ الإنسانُ إلى وَعْدِ اللهِ عزَّ وجلَّ يَزولُ عنه هذا كلُّه ويتبَدَّدُ .
2- قال تعالى: إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا كانت هذه الرِّيحُ مُعجِزةً للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلِمينَ كانوا قريبًا منها، لم يكُنْ بيْنَهم وبيْنَها إلَّا عَرضُ الخَندَقِ، وكانوا في عافيةٍ منها، ولا خبَرَ عِندَهم بها .
3- قال تعالى: إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا فسلَّط عليهم هواءً فَرَّق شَمْلَهم، كما كان سبَبُ اجتماعِهم مِنَ الهوى، وهم أخلاطٌ مِن قبائِلَ شتَّى؛ أحزابٌ وآراءٌ، فناسَبَ أن يُرسِلَ عليهم الهواءَ الَّذي فرَّق جماعتَهم .
4- في قَولِه تعالى: إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا رَدٌّ على مَن يقولُ: إنَّ الاسمَ إذا وَقَعَ على شَيءٍ لم يَجُزْ أن يَقَعَ على غَيرِه إلَّا أنْ يُشبِهَه بجَميعِ صِفاتِه، وهذه الملائِكةُ والمُشرِكونَ مِن الأحزابِ قد شَمِلَهما معًا اسمُ «الجُنودِ» على اختِلافِ صِفاتِهما؛ فكيفَ لا تتَّفِقُ الأسماءُ، وتختَلِفُ الصِّفاتُ ؟!
5- في قَولِه تعالى: وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ أنَّ خَوفَ الإنسانِ مِن المَخلوقِ الخَوْفَ الطَّبيعيَّ لا يُعَدُّ شِركًا؛ فإنَّ ما ذُكِر مِن شدَّةِ الخَوفِ كان خَوفًا مِن مخلوقٍ، لكنَّ الباعثَ عليه الأمرُ الطبيعيُّ، وإذا كان الأمرُ طبيعيًّا فإنَّه لا يُؤاخَذُ به الإنسانُ .
6- في قَولِه تعالى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أنَّ المخاوِفَ تُربِكُ الإنسانَ حتَّى في تصَوُّراتِه؛ فإنَّ الإنسانَ المُستقِرَّ لا تكونُ عندَه ظُنونٌ مُتبايِنةٌ مُتعارِضةٌ؛ لأنَّه مُستَقِرٌّ، لكنْ عندَما يحصُلُ الفَزَعُ، وعندَما يحصُلُ الخوفُ تأتي الظُّنونُ مِن كلِّ وَجهٍ .
7- في قَولِه تعالى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أنَّ الإنسانَ إذا غَلَبَتْهُ الحالُ حتَّى وردتَ عليه مِثلُ هذه الظُّنونِ؛ فإنَّه لا يَحُطُّ مِن مَرتبتِه، لكنْ إذا استقرَّتْ به الحالُ، وهدأَتْ هذه الظُّنونُ؛ عَرَفَ الحقَّ .
8- قال تعالى: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ فبُنِيتْ للمفعولِ، والمُبتَلِي هو اللهُ سُبحانَه وتعالى، فهو سبحانَه في مقامِ الخَيرِ يُضيفُ الشَّيءَ إلى نَفْسِه تَمَدُّحًا، وفي مَقامِ خِلافِ ذلك تأتي الأفعالُ مَبنيَّةً للمَفعولِ، فالقاعدةُ العامَّةِ؛ «أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يَذكُرُ النِّعَمَ مُضافةً إليه، ويَذكُرُ النِّقَمَ غالبًا مَبنيَّةً للمَفعولِ» .
9- قولُه: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ سمَّى اللهُ ما أصابَ المؤمنينَ ابتلاءً؛ إشارةً إلى أنَّه لم يُزَعْزِعْ إيمانَهم .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ابتِداءٌ لِغَرضٍ عظيمٍ مِن أغراضِ نُزولِ هذه السُّورةِ، والَّذي حُفَّ بآياتٍ وعِبَرٍ مِن ابتدائِه ومِن عَواقبِه؛ تَعليمًا للمؤمنينَ وتَذكيرًا؛ لِيَزِيدَهم يَقينًا وتَبصيرًا، فافتُتِحَ الكلامُ بتَوجيهِ الخِطابِ إلى المؤمنينَ؛ لأنَّهم أهلُه وأحِقَّاءُ به، ولأنَّ فيه تَخليدَ كَرامتِهم ويَقينِهم، وعِنايةَ اللهِ بهم، ولُطْفَه لهم، وتَحقيرًا لِعَدُوِّهم ومَن يَكِيدُ لهم، وأُمِروا أنْ يَذْكُروا هذه النِّعمةَ ولا يَنْسَوها؛ لأنَّ في ذِكرِها تَجديدًا للاعتزازِ بدِينِهم، والثِّقةِ برَبِّهم، والتَّصديقِ لِنَبيِّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
- وذُكِرَ قولُه: إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ تَوطئةً لقولِه: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا ... إلخ؛ لأنَّ ذلك هو مَحلُّ المِنَّةِ .
- وفي قولِه: إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ ذُكِرَ (جُنودٌ) هنا بلَفظِ الجمْعِ، معَ أنَّ مُفردَه مُؤذِنٌ بالجماعةِ، مِثلُ قولِه تعالى: جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ [ص: 11] ؛ فجمَعَه هنا لأنَّهم كانوا مُتجمِّعينَ مِن عدَّةِ قَبائلَ، لكلِّ قَبيلةٍ جيشٌ، خَرَجوا مُتساندينَ لِغَزْوِ المسلمينَ في المدينةِ .
- وجُملةُ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا اعتِراضٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه . وقيل: إنَّها في مَوقعِ الحالِ مِن اسمِ الجلالةِ في قولِه: نِعْمَةَ اللَّهِ، وهي إيماءٌ إلى أنَّ اللهَ نصَرَهم على أعدائِهم؛ لأنَّه عَليمٌ بما لَقِيَه المسلمونَ مِن المشَقَّةِ والمُصابَرةِ في حَفْرِ الخندقِ، والخُروجِ مِن دِيارِهم إلى مَعسكرِهم خارجَ المدينةِ، وبَذْلِهم النُّفوسَ في نَصْرِ دِينِ اللهِ؛ فجازاهُمُ اللهُ بالنَّصرِ المُبينِ، كما قال: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الحج: 40] .
2- قوله تعالى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا
- قولُه: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ لَمَّا كان المُرادُ الفَوقيَّةَ مِن جِهَةِ عُلوِّ الأرضِ، أوضَحَها بقولِه: وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ دونَ أنْ يقولَ: أسْفَلكم، وأفادَ ذلك أيضًا أنَّ مَن في الأسفلِ إنَّما أحاطوا ببَعضِ جِهَةِ الرِّجالِ فقط، ولم يَقُلْ: (ومِن تَحتِكم)؛ لئلَّا يُظَنَّ أنَّه فوقَ الرُّؤوسِ وتحتَ الأرجُلِ، ولم يَقُلْ في الأوَّلِ: (مِن أعلى مِنكم)؛ لئلَّا يكونَ فيه وَصفٌ للكفَرةِ بالعُلوِّ .
- وأيضًا قولُه: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ قد يكونُ ذلك على معنى المُبالَغةِ، أي: جاؤوكم مِن جَميعِ الجِهاتِ، كأنَّه قِيل: إذ جاؤوكم مُحيطينَ بكم .
- قولُه: وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ أي: مالتْ عن سَننِها ومُستوى نَظرِها، وهو كِنايةٌ عن الحَيرةِ، والشُّخوصِ، وشِدَّةِ الرَّوعِ .
- قولُه: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ بُلوغُ القُلوبِ الحناجرَ تَمثيلٌ لِشِدَّةِ اضْطرابِ القلوبِ مِن الفزَعِ والهلَعِ -على قولٍ-، حتَّى كأنَّها لاضْطِرابِها تَتجاوَزُ مَقارَّها، وتَرتفِعُ طالبةً الخُروجَ مِن الصُّدورِ، فإذا بلَغَتِ الحناجرَ لم تَستطِعْ تَجاوُزَها مِن الضِّيقِ؛ فشُبِّهَت هيئةُ قلْبِ الهَلوعِ المَرعودِ بهَيئةِ قلْبٍ تَجاوَزَ مَوضعَه، وذهَبَ مُتصاعِدًا طالبًا الخُروجَ، فالمُشبَّهُ القلْبُ نفْسُه باعتبارِ اختلافِ الهَيئتينِ .
- قَولُه: وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ لَمَّا كانت هذه حالةً عَرَضتْ، ثمَّ كان مِن أمرِها أنَّها إمَّا زالت، أو ثبَتَت إلى انقِضاءِ الأمرِ؛ عبَّرَ عنها بالماضي لذلك، وتحقيقًا لها .
- قولُه: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا جِيءَ بالفِعلِ المُضارعِ؛ لاستِحضارِ الصُّورةِ، والدَّلالةِ على استِمرارِ تلك الظُّنونِ وتَجدُّدِها بتَجدُّدِ أسبابِها؛ كِنايةً عن طُولِ مُدَّةِ هذا البَلاءِ. وفي صِيغةِ المضارعِ وَتَظُنُّونَ معنى التَّعجُّبِ مِن ظُنونِهم؛ لإدماجِ العِتابِ بالامتِنانِ؛ فإنَّ شِدَّةَ الهلَعِ الَّذي أزاغَ الأبصارَ، وجعَلَ القلوبَ بمِثلِ حالةِ أنْ تَبلُغَ الحناجرَ؛ دلَّ على أنَّهم أشْفَقوا مِن أنْ يُهزَموا؛ لِمَا رأَوا مِن قوَّةِ الأحزابِ، وضِيقِ الحِصارِ، أو خافوا طُولَ مُدَّةِ الحربِ، وفَناءَ الأنفُسِ، أو أشْفَقوا مِن أنْ تكونَ مِن الهزيمةِ جَراءةٌ للمشركينَ على المسلمينَ، أو نحوُ ذلك مِن أنواعِ الظُّنونِ، وتَفاوُتِ دَرجاتِ أهْلِها .
- وفي قولِه: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا حُذِفَ مَفعولَا (تظنُّون) دونَ وُجودِ دَليلٍ يَدُلُّ على تَقديرِهما؛ فهو حَذْفٌ لِتَنزيلِ الفِعلِ مَنزِلةَ اللَّازمِ، والمقصودُ مِن هذا التَّنزيلِ أنْ تَذهَبَ نفْسُ السَّامعِ كلَّ مَذهَبٍ مُمكِنٍ .
- وتعريفُ: الظُّنُونَا باللَّامِ هو تَعريفُ الجِنسِ، وجَمْعُه للدَّلالةِ على أنواعٍ مِن الظَّنِّ ، يعني: أنَّ الظُّنونَ كانت تدورُ في أذهانِهم أو في أفكارِهم مختلِفةً طولًا وعَرضًا، يعني: هل سيَزولُ هؤلاء الأحزابُ؟ هل سيَقضون علينا؟ هل سننتصرُ ؟
3- قوله تعالى: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا
- قَولُ الله تعالى: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا لم يؤكِّدِ الابتِلاءَ بالشِّدَّةِ؛ لِدَلالةِ الافتِعالِ عليها .
- قولُه: وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا الزِّلزالُ: اضْطِرابُ الأرضِ، وهو مُضاعَفُ (زلَّ) تَضعيفًا يُفِيدُ المُبالَغةَ، والمرادُ به هنا اختلالُ الحالِ اختلالًا شديدًا، بحيثُ تُخَيَّلُ مُضطرِبةً اضطرابًا شديدًا كاضْطرابِ الأرضِ، وهو أشدُّ اضطرابًا؛ لِلِحاقِه أعظَمَ جِسمٍ في هذا العالَمِ .