موسوعة التفسير

سورةُ الأحزابِ
الآيات (12-17)

ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ

غَريبُ الكَلِماتِ:

غُرُورًا: أي: باطلًا مِن القولِ، وغَررْتُ فلانًا: أصَبْتُ غِرَّتَه، ونِلْتُ منه ما أُريدُه، والغِرَّةُ: غفلةٌ في اليقظةِ، وأصلُ (غرر): نقصانٌ [255] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/504)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/380)، ((المفردات)) للراغب (ص: 603)، ((تفسير القرطبي)) (14/147). .
عَوْرَةٌ: أي: مَكشوفةٌ ليست بحَصينةٍ، وأصلُ العَورةِ: ما ذهَبَ عنه السَّترُ والحِفظُ، وكأنَّ الرِّجالَ سَترٌ وحِفظٌ للبُيوتِ، فإذا ذَهَبوا عنها أعوَرَت البُيوتُ [256] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 348)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 337)، ((البسيط)) للواحدي (18/197)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 298). .
أَقْطَارِهَا: أي: جوانِبِها ونواحيها، واحِدُها قُطرٌ، والقُطرُ: الجانِبُ والنَّاحيةُ [257] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 349)، ((تفسير ابن جرير)) (19/45)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 74)، ((البسيط)) للواحدي (18/198). .
الْفِتْنَةَ: أي: الكُفرَ والشِّركَ، والفَتنُ: إدخالُ الذَّهَبِ النَّارَ؛ لِتظهَرَ جَودتُه مِن رداءتِه، وأصلُ (فتن): يدُلُّ على ابتِلاءٍ واختِبارٍ [258] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 76، 101)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472)، ((المفردات)) للراغب (ص: 624)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 29، 139 - 140). قال الشنقيطي: (الفتنة أُطْلِقَتْ في القرآنِ ثلاثةَ إطلاقاتٍ، وبعضُهم يقولُ: أربعةُ إطلاقاتٍ. أمَّا الإطلاقاتُ الثَّلاثُ الَّتي لم يُخالِفْ فيها أحَدٌ: فمنها إطلاقُ الفِتنةِ على «الاختبارِ»، وهو أشهَرُها في القرآنِ. ومنها إطلاقُ الفتنةِ على «الإحراقِ بالنارِ»؛ لأن العربَ تقولُ: فَتَنْتُ الذَّهبَ، إذا سَبَكْتَه في النَّارِ وأذَبْتَه، أي: لِيَتبَيَّنَ أخالِصٌ هو أم زائِفٌ. ومِن إطلاقِ الفِتنةِ على مُطْلَقِ الوضعِ في النَّارِ قولُه تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: 13] أي: يُحْرَقون بالنَّارِ -والعياذُ بالله... وكذلك تُطْلَقُ الفِتنةُ على نتيجةِ الاختبارِ إن كانت سيِّئةً خاصَّةً؛ كالمعاصي والكفرِ، فإنَّ الكفَّارَ والعُصاةَ اختَبَرَهم اللهُ بالأوامرِ والنَّواهي، فكانت نتيجةُ الاختبارِ فيهم غيرَ محمودةٍ، حيث كفَروا وعَصَوْا؛ ولذَا يُطْلَقُ اسمُ «الفتنةِ» على الكفرِ والمعاصي، ومنه قولُه تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة: 193] أي: حتَّى لا يَبقى شِرْكٌ. الرَّابعُ: إطلاقُ الفتنةِ بمعنَى «الحجَّةِ»، كما قاله بعضُ العلماءِ في قولِه...: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ [الأنعام: 23] أي: حُجَّتُهم). ((العذب النمير)) (1/325). .
تَلَبَّثُوا: أي: احْتَبَسوا، أو: أبطَؤوا، والتَّلَبُّثُ: اللُّبْثُ، أي: الاستقرارُ في المكانِ، يُقالُ: لَبِث بالمكانِ: أقامَ، وأصلُ (لبث): يدُلُّ على تَمَكُّثٍ [259] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/45)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/228)، ((تفسير السمعاني)) (4/266)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 298)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/288). .
يَعْصِمُكُمْ: أي: يَمنعُكم ويُجيرُكم، والاعتِصامُ: التَّمسُّكُ بالشَّيءِ، والامتناعُ به، وأصلُ (عصم): يدُلُّ على إمساكٍ ومَنْعٍ ومُلازَمةٍ [260] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/49)، ((ياقوتة الصراط في تفسير غريب القرآن)) لغلام ثعلب (ص: 409)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/331)، ((تفسير السمعاني)) (4/267)، ((البسيط)) للواحدي (18/204)، ((المفردات)) للراغب (ص: 570). .
وَلِيًّا: أي: يَلِيهم بالكفايةِ، أو: قريبًا يَنْفَعُهم، والوليُّ: الحَليفُ والنَّاصرُ، وكلُّ مَن وَلِيَ أمْرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه، وأصلُ (ولي): يدُلُّ على قُرْبٍ [261] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/49)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141)، ((تفسير السمعاني)) (4/267)، ((المفردات)) للراغب (ص: 885)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/294). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبَيِّنًا ما جرَى مِن المنافقينَ في غزوةِ الأحزابِ: واذكُرْ إذ يقولُ المُنافِقونَ: ما وعَدَنا اللهُ ورَسولُه إلَّا وُعودًا كاذِبةً لا حقيقةَ لها! وإذ قالت طائفةٌ مِن هؤلاءِ المُنافِقينَ: يا أهلَ يَثرِبَ لا إقامةَ لكم هنا للقِتالِ؛ فارجِعوا إلى بُيوتِكم. ويَستأذِنُ فَريقٌ منهم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للانصرافِ إلى منازِلِهم، يقولونَ مُعتَذِرينَ: إنَّ بُيوتَنا مَكشوفةٌ للعَدُوِّ، فنَخشى أن يَهجُمَ عليها العَدُوُّ!
وليست بيوتُ هؤلاءِ المُنافِقينَ مَكشوفةً للعَدُوِّ، ولكِنَّهم يُريدونَ الفِرارَ مِن الجِهادِ، ولو دَخَل الأحزابُ المدينةَ مِن نواحيها على هؤلاءِ الَّذين يقولونَ إنَّ بُيوتَنا مَكشوفةٌ، ثمَّ سَألوهم الرُّجوعَ مِن الإيمانِ إلى الكفرِ لأجابوهم فيما طُلِبَ منهم، وما تَرَدَّدوا عن إجابتِهم إلَّا زَمَنًا قَليلًا، ولقد عاهَدَ هؤلاءِ المُنافِقونَ اللهَ مِن قَبْلِ هذه الغَزوةِ ألَّا يَفِرُّوا، فأخلَفوا العَهدَ، وكان عهدُ اللهِ مَسؤولًا عنه.
قُلْ -يا محمَّدُ- لأولئك الَّذين يَستأذِنونَك في الانصرافِ عن الجِهادِ: لن يَنفَعَكم الفِرارُ إن فرَرتُم مِن الموتِ أو القَتلِ؛ فلن يَزيدَ ذلك في أعمارِكم شَيئًا، وإنَّما ستُمَتَّعونَ في الدُّنيا قليلًا، ثمَّ تُرجَعونَ إلى اللهِ تعالى.
قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهم: مَن هذا الَّذي يمنَعُكم مِن اللهِ إن أراد بكم سُوءًا أو أراد بكم رَحمةً؟! ولا يجِدُ أولئك المنافِقونَ مِن دونِ اللهِ وَليًّا يَتولَّى أمورَهم، ولا نصيرًا يَدفَعُ عنهم عذابَ الله!

تَفسيرُ الآياتِ:

وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها عَطفٌ على وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ [الأحزاب: 10] ؛ فإنَّ ذلك كُلَّه ممَّا أَلحقَ بالمُسلِمينَ ابتلاءً، فبَعضُه مِن حالِ الحَربِ، وبَعضُه مِن أذى المنافِقينَ؛ لِيَحذَروا المنافِقينَ فيما يَحدُثُ مِن بَعْدُ، ولئلَّا يَخشَوا كَيْدَهم؛ فإنَّ اللهَ يَصرِفُه كما صرَفَ أشَدَّه يومَ الأحزابِ [262] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/283). .
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12).
أي: واذكُرْ إذْ [263] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/219)، ((تفسير الرسعني)) (6/114). يقولُ المنافِقونَ وضِعافُ الإيمانِ الَّذين في قُلوبِهم شَكٌّ وشُبهةٌ: ما وعَدَنا اللهُ ورَسولُه مِنَ النَّصرِ والتَّمكينِ إلَّا وُعودًا كاذِبةً باطِلةً لا وَفاءَ لها [264] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/38)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/219)، ((تفسير القرطبي)) (14/147)، ((تفسير ابن كثير)) (6/388، 389)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/304، 305)، ((تفسير القاسمي)) (8/55). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالمرضِ: الشَّكُّ وضَعفُ الاعتِقادِ: البيضاويُّ، والخازن، والعُلَيمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/226)، ((تفسير الخازن)) (3/416)، ((تفسير العليمي)) (5/346)، ((تفسير الشوكاني)) (4/306). وقيل: المرضُ: الشُّبهةُ. وممَّن اختاره: ابنُ كثير، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/388)، ((تفسير القاسمي)) (8/55). وقال أبو حيَّان: (الَّذين في قُلوبِهم مرَضٌ: هم ضُعفاءُ الإيمانِ، الَّذين لم يَتمكَّنِ الإيمانُ مِن قُلوبِهم، فهم على حَرفٍ). ((تفسير أبي حيان)) (8/459). !
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما هو الأصلُ في نِفاقِ المنافِقينَ، وهو التَّكذيبُ؛ أتْبَعَه ما تفرَّع عليه [265] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/306). .
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا.
أي: وإذ قالت طائفةٌ مِنَ المنافِقينَ: يا أهلَ يَثرِبَ لا إقامةَ لكم هنا للرِّباطِ والقِتالِ؛ فارجِعوا إلى بُيوتِكم هارِبينَ، واترُكوا الرَّسولَ وأصحابَه [266] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/42، 43)، ((تفسير القرطبي)) (14/144، 148)، ((تفسير البيضاوي)) (4/227)، ((تفسير ابن كثير)) (6/389)، ((تفسير السعدي)) (ص: 660). .
وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ.
أي: ويَطلُبُ فَريقٌ مِنَ المنافِقينَ الإذْنَ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالانصرافِ إلى منازِلِهم، يَقولونَ مُعتَذِرينَ: إنَّ بُيوتَنا ليست بحَصينةٍ، فنَخشَى أن يَهجُمَ عليها العدُوُّ، فنُريدُ الانصِرافَ لحِراستِها [267] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/43)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 860)، ((تفسير القرطبي)) (14/148)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/451، 452)، ((تفسير ابن كثير)) (6/389)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/307)، ((تفسير السعدي)) (ص: 660)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 116، 117). .
وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا.
أي: وليست بُيوتُ هؤلاء المنافِقينَ مَكشوفةً للعَدُوِّ كما يدَّعونَ، ولكِنَّهم يُريدونَ بهذا الفِرارَ مِنَ الجِهادِ [268] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/43)، ((تفسير القرطبي)) (14/149)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/452)، ((تفسير ابن كثير)) (6/389)، ((تفسير السعدي)) (ص: 660). .
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14).
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: لَآَتَوْهَا قِراءتان:
1- لَأَتَوْهَا مقصورةٌ بغيرِ مَدٍّ؛ أي: لَجَاؤُوها [269] قرأ بها نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو جعفرٍ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/348)، ((إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر)) للبناء (ص: 453). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 289)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/280)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 574). .
2- لَآَتَوْهَا بالمدِّ، أي: لَأَعْطَوْها مِن أنفُسِهم، وأجابوا إليها [270] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/348). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 289)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/280)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 574). قال السمين: (المعنى: ولو دُخِلَتِ البُيوتُ أو المدينةُ مِن جميعِ نواحيها، ثمَّ سُئِل أهلُها الفِتنةَ لم يَمتنِعوا مِن إعطائها. وقراءةُ المَدِّ تَستلزِمُ قِراءةَ القَصرِ مِن غيرِ عكسٍ بهذا المعنى الخاصِّ). ((الدر المصون)) (9/102). .
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا.
أي: ولو دخَلَ الكُفَّارُ المتحَزِّبونَ المدينةَ مِن نواحيها على هؤلاء الَّذين يَقولونَ: إنَّ بُيوتَنا عَورةٌ، ثمَّ سألوهم الرُّجوعَ مِن الإيمانِ إلى الكفرِ [271] قال الواحدي: (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا يعني: الشِّركَ، في قَولِ الجميعِ). ((الوسيط)) (3/462). وممَّن قال بأنَّ الفِتنةَ هنا هي الكُفرُ أو الشِّركُ: الفَرَّاءُ، وابنُ جرير، والواحدي، والسمعاني، وابن الجوزي، وابن تيميَّة، وابن كثير، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/337)، ((تفسير ابن جرير)) (19/45)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 860)، ((تفسير السمعاني)) (4/266)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/453)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/452)، ((تفسير ابن كثير)) (6/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 660)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 124). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الحسَنُ، ومجاهِدٌ، وقَتادةُ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/45)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/580). وقيل: الفتنةُ: القتالُ في العصَبيَّةِ. قاله الضَّحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/150). وقيل: الفِتنةُ هي الخُروجُ مِنَ المدينةِ فارِّينَ. قاله البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (15/308). وقال ابنُ عاشور: (والفتنةُ هي أن يَفْتِنوا المسلمينَ، أي: الكَيْدُ لهم، وإلقاءُ التَّخاذُلِ في جيشِ المسلمينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (21/288). قال ابنُ عثيمين: («أتى» بمعنى جاء، و«آتى» بمعنى أعطى، وتفسيرُ القِراءتَينِ أو مجموعُ التَّفسيرِ يدُلُّ على أنَّهم يُعطُون ما سُئِلوا، ويَأتونَ إليه بانقيادٍ... فهؤلاء قومٌ يُعطُون ما سُئِلوا عن اختيارٍ؛ ولهذا في القِراءةِ الثَّانيةِ: لَأَتَوْهَا أي: لَجاؤُوها). ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 124) بتصرف. ، لَفَعَلوا ما طُلِبَ منهم [272] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/337)، ((تفسير ابن جرير)) (19/45، 46)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/452)، ((تفسير ابن كثير)) (6/389، 390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 660). !
وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا.
أي: ولَأَسرعَ المُنافِقونَ إلى إعطائِهم ما سألوهم مِنَ الفِتنةِ، ولم يَترَدَّدوا عن إجابتِهم إلَّا زمَنًا قَليلًا [273] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/45)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 860)، ((تفسير القرطبي)) (14/150)، ((تفسير ابن كثير)) (6/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 660). قيل: المرادُ: أسرَعوا إلى الإجابةِ إلى الشِّركِ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، والواحدي، وابن كثير، والسعدي، ونسبه القرطبيُّ إلى أكثرِ المفسِّرينَ. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/45). وذهب الفرَّاءُ والقرطبيُّ إلى أنَّ المعنى: ولم يلبَثِ المنافِقونَ بالمدينةِ بعدَ كُفرِهم إلَّا قليلًا حتَّى يَهلِكوا. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/337)، ((تفسير القرطبي)) (14/150). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (3/528). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الحسَنُ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/621). وقيل: المعنى: لو سَأَل الجَيشُ الدَّاخِلُ الفريقَ المُستأذِنينَ أن يُلْقُوا الفِتنةَ في المُسلِمينَ بالتَّفريقِ والتَّخذيلِ، لخرَجوا لذلك القَصدِ مُسرِعينَ، ولم يُثبِّطْهم الخَوفُ على بُيوتِهم أن يَدخُلَها اللُّصوصُ أو يَنهَبَها الجيشُ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/288). !
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15).
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ.
أي: ولقد كان هؤلاءِ المُنافِقونَ المُنصَرِفونَ عن الجِهادِ مع رَسولِ اللهِ، القائلونَ: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ عاهَدوا اللهَ مِن قَبلِ هذه الغَزوةِ وحالةِ الخَوفِ الَّتي أصابَتْهم: ألَّا يَفِرُّوا، فأخلَفوا اللهَ ما وَعَدوه [274] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/46)، ((تفسير القرطبي)) (14/150)، ((تفسير ابن كثير)) (6/390)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/310)، ((تفسير السعدي)) (ص: 660). قال القرطبي: (قولُه تعالَى: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي: مِن قبْلِ غزوةِ الخندقِ وبعدَ بَدْرٍ. قال قَتادةُ: وذلك أنَّهم غابوا عن بدرٍ ورَأَوْا ما أعطَى اللهُ أهلَ بدرٍ مِن الكرامةِ والنَّصرِ، فقالوا: لَئِنْ أشْهَدنا اللهُ قتالًا لَنُقاتِلَنَّ. وقال يَزيدُ بنُ رُومانَ: هم بنو حارِثةَ، هَمُّوا يومَ أُحُدٍ أنْ يَفْشَلوا مع بَني سَلِمةَ، فلَمَّا نَزَل فيهم ما نَزَل عاهَدوا اللهَ ألَّا يَعودوا لمِثْلِها، فذَكَر اللهُ لهم الَّذي أعْطَوْه مِن أنفسِهم). ((تفسير القرطبي)) (14/150). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/46). .
وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا.
أي: وكان عَهدُ اللهِ مَسؤولًا عنه؛ فسيَسألُهم اللهُ يومَ القيامةِ، ويُحاسِبُهم عن العَهدِ الَّذي نَقَضوه [275] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/46)، ((تفسير القرطبي)) (14/150)، ((تفسير ابن كثير)) (6/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 660)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/289). .
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16).
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لأولئك الَّذين يَستأذِنونَك في الانصِرافِ عن الجِهادِ: لن يَنفَعَكم الهرَبُ -الَّذي ما كان استِئذانُكم إلَّا بسَبَبِه- إنْ هرَبتُم مِنَ الموتِ أو القَتلِ؛ فهو لا يُؤخِّرُ آجالَكم، فمَن حَضَر أجَلُه فلا بُدَّ مِن وُقوعِ ما كتَبَه اللهُ عليه بلا تأخيرٍ [276] يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/707)، ((تفسير ابن جرير)) (19/47)، ((تفسير القرطبي)) (14/151)، ((تفسير ابن كثير)) (6/390)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/311)، ((تفسير السعدي)) (ص: 660)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/291). .
كما قال تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران: 154] .
وقال سُبحانَه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 77، 78].
وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا.
أي: وإذا فَرَرتُم مِنَ الموتِ أو القَتلِ فلن يَزيدَ ذلك في أعمارِكم شَيئًا، وإنَّما ستُمَتَّعونَ في الدُّنيا قليلًا إلى الوَقتِ الَّذي تنقَضي فيه أعمارُكم المكتوبةُ عندَ اللهِ تعالى [277] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/47)، ((تفسير القرطبي)) (14/151)، ((تفسير ابن كثير)) (6/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 660)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/291). .
كما قال سُبحانَه: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء: 205 - 207].
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17).
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لهؤلاء الَّذين يَنصَرِفونَ عن الجِهادِ هَرَبًا مِنَ القَتلِ: مَنِ الَّذي يمنَعُكم مِن اللهِ إن أراد بكم سُوءًا في أنفُسِكم، كقَتلٍ أو بلاءٍ؛ أو أراد بكم رَحمةً، كعافيةٍ وسَلامةٍ ونَصرٍ؟ فاللهُ تعالى وَحْدَه هو المعطي المانِعُ، الَّذي لا يأتي بالخَيرِ إلَّا هو، ولا يدفَعُ الشَّرَّ إلَّا هو؛ فلا الفِرارُ مانعٌ مِنَ السُّوءِ إن أراد اللهُ تعالى وُقوعَه بكم، ولا البَقاءُ جالبٌ للرَّحمةِ [278] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/49)، ((تفسير القرطبي)) (14/151)، ((تفسير ابن كثير)) (6/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 660). .
وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا.
أي: ولا يجِدُ أولئك المنافِقونَ وَليًّا يَتولَّى أمورَهم وينفَعُهم، ولا يجِدونَ نَصيرًا يَدفَعُ عنهم عذابَ اللهِ حينَ يَنزِلُ بهم [279] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/49)، ((تفسير القرطبي)) (14/151)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/313)، ((تفسير السعدي)) (ص: 660)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/293)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 138). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- إنَّ المُنافِقينَ أصحابُ غَدرٍ وخِيانةٍ؛ لِقَولِه تعالى عنهم: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ، وهم هنا يُحاوِلونَ الإدبارَ، لكِنَّهم يُمَوِّهون بسُؤالِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم واستِئذانِه، ويتفَرَّع على ذلك أنَّه إذا كان الغَدرُ مِن صِفاتِ المنافِقينَ فالواجِبُ على المؤمِنِ البُعدُ عنه، ولو لم يكُنْ مِن الغَدرِ إلَّا أنَّه مِن صِفاتِ المنافِقينَ لَكان ذلك كافيًا في وُجوبِ البُعدِ والحَذَرِ منه [280] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 126). .
2- قَولُ الله تعالى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ فيه إشارةٌ إلى أنَّ الأمورَ مُقَدَّرةٌ، لا يمكِنُ الفِرارُ مِمَّا وقع عليه القَرارُ، وما قدَّرَه اللهِ كائِنٌ؛ فمَن أُمِرَ بشَيءٍ، إذا خالفَه يبقَى في وَرْطةِ العِقابِ آجِلًا، ولا ينتَفِعُ بالمخالَفةِ عاجِلًا [281] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (??/???، 162). .
3- قَولُ الله تعالى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا المقصودُ مِن الآيةِ تخليقُ المُسلِمينَ بخُلُقِ استِضعافِ الحياةِ الدُّنيا، وصَرْفُ هِمَمِهم إلى السَّعيِ نحوَ الكَمالِ الَّذي به السَّعادةُ الأبَديَّةُ؛ سَيْرًا وراءَ تعاليمِ الدِّينِ الَّتي تقودُ النُّفوسَ إلى أوْجِ المَلَكيَّةِ [282] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/291). .
4- قَولُ الله تعالى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا يُبَيِّنُ أنَّ الأسبابَ كُلَّها لا تُغْني عن العَبدِ شَيئًا إذا أراده اللهُ بسُوءٍ [283] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 660). .
5- في قَولِه تعالى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً حَثٌّ على تَعَلُّقِ الإنسانِ باللهِ سُبحانَه وتعالى دونَ غَيرِه، فإذا كان الأمرُ كلُّه بيدِ اللهِ تعالى، فإنَّ الإنسانَ يتعلَّقُ برَبِّه دونَ غَيرِه [284] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 140). .
6- قال تعالى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً فأخبَرَ سُبحانَه أنَّ العبدَ لا يَعصِمُه أحدٌ مِنَ اللهِ إن أراد به سوءًا غيرَ الموتِ الَّذي فَرَّ منه؛ فإنَّه فرَّ مِن الموتِ لَمَّا كان يَسوؤُه، فأخبر اللهُ سُبحانَه أنَّه لو أراد به سوءًا غَيرَه لم يعصِمْه أحدٌ مِن الله، وأنَّه قد يَفِرُّ ممَّا يَسوؤُه مِن القَتلِ فى سبيلِ الله، فيَقعُ فيما يسوؤُه ممَّا هو أعظَمُ منه، وإذا كان هذا فى مُصيبةِ النَّفسِ، فالأمرُ هكذا فى مُصيبةِ المالِ والعِرضِ والبَدَنِ؛ فإنَّ مَن بَخِل بمالِه أن يُنفِقَه فى سَبيلِ اللهِ تعالى وإعلاءِ كَلمتِه، سلَبَه اللهُ إيَّاه، أو قيَّض له إنفاقَه فيما لا ينفَعُه دُنيا ولا أخرى، بل فيما يعودُ عليه بمضَرَّتِه عاجِلًا وآجِلًا، وإنْ حَبَسَه وادَّخَره مَنَعَه التمَتُّعَ به، ونَقَله إلى غيرِه؛ فيكونُ له مَهنَؤُه وعلى مُخلِّفِه وِزرُه! وكذلك مَن رَفَّه بدَنَه وعِرضَه، وآثَرَ راحتَه على التَّعَبِ لله وفى سَبيلِه، أتعَبَه الله سُبحانَه أضعافَ ذلك فى غيرِ سَبيلِه ومَرضاتِه، وهذا أمرٌ يَعرِفُه النَّاسُ بالتَّجارِبِ [285] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/194). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا هذه عادةُ المنافِقِ عندَ الشِّدَّةِ والمِحنةِ: لا يَثبُتُ إيمانُه، ويَنظُرُ بعَقلِه القاصِرِ إلى الحالةِ القاصِرةِ، ويُصدِّقُ ظَنَّه [286] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 660). .
2- في قَولِه تعالى: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا بيانُ إِرْجَافِ المنافقينَ بالمؤمنينَ، والإرْجافُ: هو أنْ يُذْكَرَ للإنسانِ ما يكونُ به الخوفُ والقلقُ، فهؤلاء مُرْجِفُونَ، ويقولونَ: ليس هنا مُقَامٌ لكم؛ لأنَّه خطرٌ عليكم! ولهذا قالوا: فَارْجِعُوا، فيُستفادُ منه أنَّ المنافقينَ مِن شأنِهم الإرجافُ بالمؤمنينَ [287] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 119). .
3- في قَولِه تعالى: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا أنَّ كلَّ مَن دعا إلى الرُّجوعِ عن الحقِّ ففيه شَبَهٌ بالمنافِقينَ [288] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 121). .
4- قَولُ الله تعالى: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ عَدَلوا عن الاسمِ الذي وسَمَها به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم -من المدينةِ وطَيبةَ، مع حُسنِه- إلى الاسمِ الَّذي كانت تُدعَى به قديمًا، مع احتمالِ قُبحِه؛ باشتِقاقِه مِن (الثَّرْبِ) الذي هو اللَّومُ والتَّعنيفُ؛ إظهارًا للعُدولِ عن الإسلامِ [289] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/306). وفي الحديثِ: ((يقولونَ يَثْرِبُ، وهي المدينةُ)) أخرجه البخاري (1871) ومسلم (1382)، قال النووي: (قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم «يقولونَ: يثربُ، وهي المدينةُ» يعني أنَّ بعضَ النَّاسِ مِن المنافقينَ وغيرِهم يُسمُّونها «يثربَ»، وإنَّما اسمُها «المدينةُ وطابةُ وطيبةُ»، ففي هذا كراهةُ تسميتِها «يثربَ»... وأمَّا تسميتُها في القرآنِ «يثربَ» فإنَّما هو حكايةٌ عن قولِ المنافقينَ والذين في قلوبِهم مرضٌ). ((شرح النووي على مسلم)) (9/154). .
5- أنَّ الاعتزازَ بالوطنِ حَمِيَّةً للوَطَنِ: مِن صِفاتِ المنافِقينَ؛ لِقَولِه سُبحانَه وتعالى: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، وقصْدُهم بذلك إحماءُ حَمِيَّتِهم الوَطنيَّةِ، وأمَّا الحديثُ الَّذي يُروى: (حُبُّ الوطنِ مِن الإيمانِ) فإنَّه كَذِبٌ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وليس بصَحيحٍ. أمَّا الاعتزازُ بالوطَنِ؛ لِكَونِه إسلاميًّا: فهذا لا بأسَ به [290] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 120). ، فالآيةُ فيها إشارةٌ إلى أنَّ الدِّينَ والأُخُوَّةَ الإيمانيَّةَ ليس له في قُلوبِهم قَدرٌ [291] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 660). .
6- في قَولِه تعالى: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ دَليلٌ على تمويهِ المنافِقِ، وإظهارِ حالِه بحالِ المؤمِنِ المُنقادِ الَّذي لا يَنصرِفُ إلَّا بعدَ الاستئذانِ [292] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 121). !
7- في قَولِه تعالى: يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ مشروعيَّةُ إبطالِ قولِ النَّاطقِ بالباطلِ [293] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 122). .
8- في قَولِه تعالى -عن المنافقين-: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ أنَّ كلَّ مَن نَقَضَ العهدَ ففيه شَبَهٌ مِن المنافقين؛ ولهذا جاء الحديثُ عن النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((أربَعٌ مَن كُنَّ فيه كان مُنافِقًا خالصًا ))، ومنها: ((إذا عَاهَدَ غَدَر)) [294] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 126). والحديث أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58) من حديث عبد الله بن عَمرٍو رضي الله عنهما. .
9- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ تحريمُ توليةِ الأدبارِ عندَ ملاقاةِ العدوِّ؛ وجهُ ذلك: أنَّ اللهَ تعالى ذَكَر هذا عن المنافقينَ تحذيرًا منه [295] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 127). .
10- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا دَليلٌ على أنَّ عَهدَ اللهِ يَدخُلُ فيه ما عَقَده المَرءُ على نفْسِه، وإنْ لم يكُنِ اللهُ قد أمَرَ بنَفسِ ذلك المعهودِ عليه قبْلَ العَهدِ [296] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/138). .
11- في قَولِه تعالى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً حُجَّةٌ على المُعتَزلةِ والقَدَريَّةِ شَديدةٌ مُسكِتةٌ؛ لذِكرِ «إرادةِ السُّوءِ» بلَفظِه، فإنْ قالوا: لا يُريدُ سوءًا، إنَّما مَثَّلَ فقال: إنْ أرادَ، وهو لا يُريدُ. قيل له: فما تُنكِرونَ على مَن يقولُ لكم: والرَّحمةُ أيضًا لم يُرِدْها، ولكِنَّه مَثَّلَ! وهذا وذاك جَهْلٌ؛ يريدُ اللهُ بخلْقِه السُّوءَ بعَدلِه، لا مُعَقِّبَ لحكمِه، ويُريدُ بهم الرَّحمةَ بفَضلِه [297] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/647). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا
- قولُه: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ ... فيه التَّعبيرُ بصِيغةِ المُضارِعِ (يَقُولُ)؛ للدَّلالةِ على استِمرارِ القولِ، واستحضارِ صُورتِه [298] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/94). .
- قولُه: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ... الْمُنَافِقُونَ همُ المُظهِرون الإيمانَ، المُبطِنون الكفْرَ. و(الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) همْ ضُعفاءُ الإيمانِ الَّذين لمْ يَتمكَّنِ الإيمانُ مِن قُلوبِهم -على قَولٍ-، فهُمْ على حَرْفٍ، والعطْفُ دالٌّ على التَّغايُرِ؛ نَبَّه عليهم على جِهَةِ الذَّمِّ [299] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/459). .
- وقولُ المُنافقينَ: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا يَحتمِلُ أنْ يَكونوا قالوهُ عَلنًا بيْنَ المسلمينَ، قَصَدوا به إدخالَ الشَّكِّ في قُلوبِ المؤمنينَ؛ لعلَّهم يَرُدُّونَهم عن دِينِهم، فأوْهَموا بقولِهم: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ... إلخ، أنَّهم ممَّن يُؤمِنُ باللهِ ورسولِه؛ فنِسبةُ الغُرورِ إلى اللهِ ورسولِه إمَّا على معنَى التَّشبيهِ البليغِ، وإمَّا لأنَّهم بجَهْلِهم يُجوِّزون على اللهِ أنْ يَغُرَّ عِبادَه! ويَحتمِلُ أنَّهم قالوا ذلك بيْنَ أهْلِ مِلَّتِهم، فيكونُ نِسبةُ الوعدِ إلى اللهِ ورسولِه تَهكُّمًا [300] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/284). .
2- قوله تعالى: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا
- نِداؤُهم إيَّاهم بعُنوانِ أهليَّتِهم لها يَا أَهْلَ يَثْرِبَ: تَرشيحٌ لِمَا بعْدَه مِن الأمْرِ بالرُّجوعِ إليها [301] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/94). .
- ومُرادُهم بقولِهم: فَارْجِعُوا الأمرُ بالفِرارِ، لكنَّهم عبَّروا عنه بالرُّجوعِ؛ تَرويجًا لِمَقالِهم، وإيذانًا بأنَّه ليس مِن قَبِيلِ الفِرارِ المَذمومِ [302] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/94). .
- وفي قولِه: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ جِيءَ بالفِعلِ المُضارعِ في وَيَسْتَأْذِنُ يَقُولُونَ؛ لاستِحضارِ الصُّورةِ، وللإشارةِ إلى أنَّهم يُلِحُّون في الاستئذانِ ويُكَرِّرونَه ويُجَدِّدونه، وفيه إيماءٌ إلى أنَّه لمْ يَأذَنْ لهمْ [303] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/94)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/285). .
- قولُه: يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ استِئنافٌ مَبْنيُّ على السُّؤالِ عن كيفيَّةِ الاستِئذانِ. والعَورةُ في الأصلِ: الخلَلُ؛ أُطلِقَت على المُختَلِّ مُبالَغةً، وهو أنسَبُ بمَقامِ الاعتِذارِ، كما يُفصِحُ عنه تَصديرُ مَقالِهم بحَرْفِ التَّحقيقِ (إنَّ) [304] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/94). .
- وأيضًا التَّأكيدُ بحَرْفِ (إنَّ) في قولِهم: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ: تَمويهٌ؛ لإظهارِ قولِهم: بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ في صُورةِ الصِّدقِ. ولَمَّا عَلِموا أنَّهم كاذِبونَ، وأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعلَمُ كَذِبَهم؛ جَعَلوا تَكذيبَه إيَّاهم في صُورةِ أنَّه يَشُكُّ في صِدقِهم، فأكَّدوا الخبَرَ [305] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/286). .
- وقولُه: وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ تَكذيبٌ لهم، ولمْ يُقرَنْ هذا التَّكذيبُ بمُؤكِّدٍ؛ لإظهارِ أنَّ كَذِبَهم واضحٌ غيرُ مُحتاجٍ إلى تأكيدٍ [306] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/286). .
3- قولُه تعالى: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا مَوقعُ هذه الآيةِ زِيادةُ تَقريرٍ لِمَضمونِ جُملةِ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب: 13] ؛ فإنَّها لِتَكذيبِهم في إظهارِهم التَّخوُّفَ على بُيوتِهم، ومُرادُهم خَذْلُ المسلمينَ، ومَساقُ نَظمِ الآيةِ؛ لِبَيانِ أنَّهم إذا دُعُوا إلى الحقِّ تعلَّلوا بشَيءٍ يَسيرٍ، وإنْ دُعوا إلى الباطلِ سارَعوا إليه آثِرَ ذي أثيرٍ [307] آثِرَ ذي أثيرٍ: أي: أوَّلَ كُلِّ شَيءٍ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/575). ، مِن غيرِ صارفٍ يَلْويهم، ولا عاطفٍ يَثْنِيهم [308] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/95)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/286). .
- قولُه: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا حُذِفَ الفاعلُ؛ للإِيماءِ بأنَّ دُخولَ هؤلاء المُتحزِّبينَ عليهم، ودُخولَ غيرِهم مِن العساكرِ، سِيَّانِ في اقتضاءِ الحُكمِ المُرتَّبِ عليه [309] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/227). . أو لِظُهورِ أنَّ فاعلَ الدُّخولِ قَومٌ غُزاةٌ [310] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/95)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/287). .
- وإضافةُ (أقطار) -وهو جمْعٌ- تُفِيدُ العُمومَ، أي: مِن جميعِ جوانبِ المدينةِ، لا مِن بَعضِها دونَ بعضٍ [311] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/95)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/287). .
- وأسنَدَ الدُّخولَ إلى بُيوتِهم، وأوقَعَ عَلَيْهِمْ؛ لِمَا أنَّ المرادَ فَرْضُ دُخولِها وهمْ فيها، لا فرْضُ دُخولِها مُطلقًا، كما هو المفهومُ لو لم يُذكَرِ الجارُّ والمجرورُ، ولا فَرْضُ الدُّخولِ عليهم مُطلقًا، كما هو المفهومُ لو أُسنِدَ إلى الجارِّ والمجرورِ [312] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/95). .
- وعبَّر بأداةِ الاستعلاءِ، فقال: عَلَيْهِمْ؛ إشارةً إلى أنَّه دخولُ غَلَبةٍ [313] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/308). .
- قولُه: ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا (ثمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ، وكان مُقْتضَى الظَّاهرِ أنْ يُعطَفَ بالواوِ لا بـ (ثُم)؛ لأنَّ المذكورَ بعدَ (ثمَّ) هنا داخلٌ في فِعلِ شَرْطِ (لو)، وَواردٌ عليه جوابُها؛ فعُدِلَ عن الواوِ إلى (ثُمَّ) للتَّنبيهِ على أنَّ ما بعْدَ (ثُمَّ) أهَمُّ مِن الَّذي قبْلَها [314] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/287). .
- والاستثناءُ في قولِه: إِلَّا يَسِيرًا يَظهَرُ أنَّه تَهكُّمٌ بهمْ؛ فيكونُ المقصودُ تَأكيدَ النَّفيِ بصُورةِ الاستثناءِ. ويَحتمِلُ أنَّه على ظاهِرِه، أي: إلَّا رَيْثما يَتأمَّلون، فلا يُطِيلون التَّأمُّلَ؛ فيكونُ المَقصودُ مِن ذِكرِه تأْكيدَ قِلَّةِ التَّلبُّثِ [315] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/288). .
4- قوله تعالى: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا
- قولُه: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ تَأكيدُ الخبَرِ بلامِ القَسَمِ، وحَرفِ التَّحقيقِ (قدْ)، وفِعلِ (كان) -مع أنَّ الكلامَ مُوجَّهٌ إلى المؤمنينَ-؛ تَنزيلًا للسَّامعينَ مَنزِلةَ مَن يَتردَّدُ في أنَّهم عاهَدوا اللهَ على الثَّباتِ، وزِيادةُ مِنْ قَبْلُ؛ للإشارةِ إلى أنَّ ذلك العهدَ قَديمٌ مُستقِرٌّ [316] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/289). .
- وتَوليةُ الأدبارِ: كِنايةٌ عن الفِرارِ، فإنَّ الَّذي استَأْذَنوا لأجْلِه في غَزوةِ الخندقِ أرادوا منه الفرارَ؛ ألَا تَرى قولَه: إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب: 13] ، والفرارَ ممَّا عاهَدوا اللهَ على تَرْكِه [317] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/462)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/289). .
- وجُملةُ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا تَذييلٌ لِجُملةِ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ، والمسؤولٌ: كِنايةٌ عن المُحاسَبِ عليه؛ فهذا تَهديدٌ ووَعيدٌ [318] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/289). .
5- قوله تعالى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا
- قولُه: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ ... جوابٌ عن قولِهم: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [الأحزاب: 13] ؛ ولذلك فُصِلَت -أي: لم تُعطَفْ على ما قَبْلَها-؛ لأنَّها جرَتْ على أُسلوبِ التَّقاوُلِ والتَّجاوُبِ. وما بيْنَ الجُملتينِ مِن قولِه: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ إلى قولِه: مَسْئُولًا [الأحزاب: 14، 15]، اعتراضٌ [319] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/290). . وهو خِطابُ تَوبيخٍ، وإعلامٍ أنَّ الفِرارَ لا يُنجِّي مِن القدَرِ، وأنَّه تَنقطِعُ أعمارُهم في يَسيرٍ مِن المُدَّةِ [320] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/462). .
- قولُه: وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا جَوابٌ عن كَلامٍ مُقدَّرٍ دلَّ عليه المذكورُ، أي: إنْ خُيِّلَ إليكم أنَّ الفِرارَ نفَعَ الَّذي فَرَّ في وَقتٍ ما، فما هو إلَّا نفْعٌ زَهيدٌ؛ لأنَّه تأخيرٌ في أجَلِ الحَياةِ، وهو مَتاعٌ قليلٌ [321] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/291). .
6- قوله تعالى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا
- قولُه: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ ... الظَّاهرُ أنَّ هذه الجُملةَ واقعةٌ مَوقعَ التَّعليلِ لجُملةِ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ الآيةَ [الأحزاب: 16]، فكأنَّه قِيل: فمَن ذا الذي يَعصِمُكم مِن اللهِ؟ أي: فلا عاصمَ لكمْ مِن نُفوذِ مُرادِه فيكم. وإعادةُ فِعلِ (قُل) تَكريرٌ؛ لأجْلِ الاهتمامِ بمَضمونِ الجُملةِ [322] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/291، 292). .
- والاستِفهامُ الإنكاريُّ في قولِه: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ في مَعنى النَّفيِ لاعتِقادِهم أنَّ الحِيلةَ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَنفَعُهم، وأنَّ الفِرارَ يَعصِمُهم مِن الموتِ إنْ كان قِتالٌ [323] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/292). .
- قولُه: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً في الآيةِ اختصارٌ؛ فقد جُعِلَت الرَّحمةُ قَرينةَ السُّوءِ في العِصمةِ، ولا عِصمةَ إلَّا مِن السُّوءِ؛ وذلك لأنَّ معناهُ: أو يُصِيبُكم بسُوءٍ إنْ أراد بكمْ رحمةً، فاختُصِرَ الكلامُ، أو حُمِلَ الثَّاني على الأوَّلِ؛ لِمَا في العِصمةِ مِن مَعنى المنْعِ [324] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/529)، ((تفسير البيضاوي)) (4/227)، ((تفسير أبي حيان)) (8/462)، ((تفسير أبي السعود)) (7/96)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/292). قال أبو حيان: (أمَّا الوجهُ الأوَّلُ ففيه حذفُ جملةٍ لا ضرورةَ تدعُو إلى حذفِها، والثَّاني هو الوجهُ، لا سِيَّما إذا قُدِّر مضافٌ محذوفٌ، أي: يمنعُكم مِن مرادِ الله). ((تفسير أبي حيان)) (8/462). .
- قولُه: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً قُوبِلَ السُّوءُ بالرَّحمةِ؛ لأنَّ المُرادَ سُوءٌ خاصٌّ، وهو السُّوءُ المَجعولُ عَذابًا لهم على مَعصيةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو سُوءُ النِّقمةِ؛ فهو سُوءٌ خاصٌّ مُقدَّرٌ مِن اللهِ لأجْلِ تَعذيبِهم إنْ أرادهُ؛ فيَجْري على خِلافِ القوانينِ المُعتادةِ [325] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/292). .
- قولُه: وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا الكلامُ مُوجَّهٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وليس هو مِن قَبيلِ الالتِفاتِ، والمقصودُ لازِمُ الخبَرِ؛ وهو إعلامُ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ببُطلانِ تَحيُّلاتِهم، وأنَّهم لا يَجِدون نَصيرًا غيرَ اللهِ، وقد حرَمَهم اللهُ النَّصرَ؛ لأنَّهم لم يَعقِدوا ضَمائرَهم على نَصرِ دِينِه ورسولِه [326] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/293). .