موسوعة التفسير

سُورةُ يُونُس
الآيات (83-86)

ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ

غريب الكلمات:

ذُرِّيَّةٌ: الذُرِّيَّةُ: الأولادُ وأولادُ الأولادِ، فهي اسمٌ يَجمعُ نَسلَ الإنسانِ مِن ذَكَرٍ وأُنثَى، قيل: أصلُها مِن ذرَأ، أي: خلَق؛ لأنَّها خلقُ الله، وحُذِفت الهمزةُ منها، وقيل: أصلُها مِن الذَّرِّ، بمعنَى التَّفريقِ؛ لأنَّ اللَّه تعالى ذَرَّهم في الأرضِ [1022] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 230)، ((المفردات)) للراغب (ص: 327)، ((النهاية)) لابن الأثير (2/157، 394)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 92). .
يَفْتِنَهُمْ: أي: يَقتُلَهم ويُعَذِّبَهم، وأصلُ (فتن): يدُلُّ على ابتلاءٍ واختبارٍ [1023] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 198)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472- 473)، ((المفردات)) للراغب (ص: 624)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 156). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّه لم يُؤمِنْ لِموسى عليه السَّلامُ- مع ما أتى به مِن الحُجَج والأدِلَّةِ على صِدقِه- إلَّا عدَدٌ قليلٌ مِن شَبابِ قَومِه من بني إسرائيلَ، وهم خائفونَ مِن فرعونَ وأشرافِ قَومِهم أن يَفتِنوهم بالعذابِ، فيصدُّوهم عن دينِهم، وإنَّ فِرعونَ لَجبَّارٌ مُستكبِرٌ في الأرضِ، وإنَّه لَمِن المُتَجاوزينَ الحَدَّ في الكفرِ والفَسادِ، وقال موسى لِقَومِه- تَطمينًا لقلوبهم-: يا قَومي، إن كُنتم آمَنتُم باللهِ، فثِقوا به، وسلِّموا لأمْرِه إن كُنتم مُذعِنينَ له بالطَّاعة، فقالوا: على اللهِ وَحْدَه لا شريكَ له اعتَمَدْنا، وإليه فوَّضْنا أمْرَنا، ربَّنا لا تُظْهرْهم علينا فيَروا أنَّهم خيرٌ منا فيزدادوا طغيانًا، ويقولوا: لو كانوا على حقٍّ ما سُلِّطنا عليهم، فيُفتنوا بذلك، ويَصُدَّهم عن الإقرارِ بالحَقِّ واتِّباعِه.

تفسير الآيات:

فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا حكى سُبحانَه أنَّ موسى عليه السَّلامُ أبان ما أبان مِن بُطلانِ السِّحرِ، وكونِه إفسادًا، فثَبَت ما أتَى به لِمُخالفَتِه له؛ أخبَرَ تعالى- تسليةً للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وفَطمًا عن طلَبِ الإجابةِ للمُقتَرَحاتِ- أنَّه ما تسبَّبَ عن ذلك في أوَّلِ الأمرِ عَقِبَ إبطالِ سِحرِهم مِن غيرِ مُهلةٍ، إلَّا إيمانُ ناسٍ ضُعفاءَ، غيرِ كثيرٍ [1024] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/175). .
وأيضًا فإنَّ هذه الآيةَ تَفريعٌ على ما تقَدَّمَ مِن المحاورةِ، أي: فتفَرَّع على ذلك أنَّ فِرعونَ ومَلأَه لم يُؤمِنوا بموسى [1025] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/258). .
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ.
أي: فلم يصدِّقْ بموسى في أوَّلِ دَعوتِه، ويُقِرَّ له بالنبوَّةِ إلَّا قَليلٌ مِن أولادِ قَومِه بني إسرائيلَ [1026] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/244)، ((البسيط)) للواحدي (11/280)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/529)، ((تفسير الألوسي)) (6/157)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/258 - 260). وممَّن ذهَب إلى أنَّ المرادَ بـِ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ: أبناءُ قَومِ موسى من بني إسرائيلَ: ابنُ جريرٍ، والشوكانيُّ، وابنُ عاشورٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/247)، ((تفسير الشوكاني)) (2/529-530)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/259). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ في روايةٍ عنه، ومجاهدٌ، والأعمشُ، يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/245)، ((تفسير ابن كثير)) (4/287). وقيل المراد: شبابٌ مِن قَومِ فِرعونَ، وممن ذهَب إلى ذلك: ابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/287-288). وممَّن قال بهذا القولِ من السلفِ: ابنُ عباسٍ في الروايةِ الثانيةِ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/246)، ((تفسير ابن كثير)) (4/287). قال ابن عاشور: (المعنى: أنَّهم آمنوا عند ظهورِ مُعجزتِه، أي أعلنوا الإيمانَ به في ذلك الموطنِ؛ لأن الإيمانَ لا يُعرَف إلَّا بإظهاره، ولا فائدة منه إلا ذلك الإظهارُ، أي: من الحاضرين في ذلك المشهدِ من بني إسرائيل، فإنَّ عادةَ هذه المجامعِ أن يغشاها الشبابُ واليافعون، فعبَّرَ عنهم بالذرية، أي: الأبناء، كما يقال: الغِلمان، فيكونون قد آمنوا من تلقاءِ أنفسهم، وكلُّ هذا لا يقتضي أن بقيَّةَ قَومِه كفروا به؛ إذ يحتملُ أن يكونوا آمنوا به بعد ذلك لَمَّا بلغَتْهم دعوتُه؛ لأنَّه يكونُ قد ابتدأ بدعوةِ فِرعونَ مبادرةً لامتثالِ الأمرِ مِن الله بقولِه: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّه طَغَى [طه: 43] فيكونُ المأمورُ به ابتداءً هو دعوةُ فرعونَ، وتخليصُ بني إسرائيل من الأَسْرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (11/259-260). .
عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ.
أي: آمَنوا وهم خائفونَ مِن فِرعونَ ومِن أشرافِ قَومِهم- الذين كانوا على مِثلِ ما كان عليه فرعونُ- أن يَصرِفَهم فِرعونُ عن اتِّباعِ الحَقِّ، بمِحنةٍ وبليَّةٍ يُوقِعُها عليهم [1027] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/248، 249)، ((البسيط)) للواحدي (11/285)، ((تفسير القرطبي)) (8/370)، ((تفسير ابن كثير)) (4/288). .
ثم بيَّن أسبابَ خوفِهم منه بقولِه:
وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ.
أي: وإنَّ فِرعونَ لجبَّارٌ، متكبِّرٌ على الحَقِّ والخَلْقِ في أرضِ مِصرَ، وإنَّه لَمِنَ المجاوزينَ الحدَّ في الكُفرِ والقَتلِ والبَغيِ [1028] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/250)، ((البسيط)) للواحدي (11/285)، ((تفسير القرطبي)) (8/370)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/384)، ((تفسير السعدي)) (ص: 371)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/260، 261). .
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (84).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذكَرَ الله تعالى خَوَفهم وعُذرَهم؛ أتبَعَه ما يُوجِبُ طُمَأنينَتَهم، وهو التوكُّلُ على اللهِ الذي مَن راقَبَه تلاشى عنده كلُّ عَظيمٍ [1029] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/176). .
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ.
أي: وقال موسى لِقَومِه بني إسرائيلَ: يا قومِ، إن كُنتم آمَنتُم باللهِ حقًّا فاعتَمِدوا عليه وَحْدَه في نَصْرِكم، ودَفْعِ الضُّرِّ عنكم، وبه ثِقوا، ولأمْرِه سَلِّموا، إن كنتم مُذعِنينَ له بالطَّاعةِ [1030] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/250)، ((تفسير ابن كثير)) (4/288)، ((تفسير السعدي)) (ص: 371)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/261). .
فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85).
َقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا.
أي: فقال بنو إسرائيلَ: على اللهِ وَحْدَه اعتَمَدْنا، وإليه فوَّضْنا أمْرَنا [1031] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/250)، ((تفسير البغوي)) (2/431)، ((تفسير الرازي)) (17/290)، ((تفسير القرطبي)) (8/370).
رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
أي: قال قَومُ موسى عليه السَّلامُ: ربَّنا؛ لا تُظفِر الكافرينَ بنا، وتُسَلِّطْهم علينا، فيَعتَقِدوا أنَّ غَلَبتَهم علينا لم تقَعْ إلَّا لأنَّهم على الحَقِّ، ونحن على الباطِلِ، فيُفتَنوا بذلك، ويُعرضوا عن الإقرارِ بالحَقِّ واتِّباعِه [1032]  يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/250، 253)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 506)، ((تفسير ابن كثير)) (4/288، 289)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/263، 264). وممن اختار هذا المعنى المذكور للفتنة هنا: الزجاج، وابن جرير، والواحدي والبغوي. يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (3/30)، ((تفسير ابن جرير)) (12/253)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 506)، ((تفسير البغوي)) (2/431). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: مجاهدٌ- في إحدى الروايتين عنه- وأبو مجلزٍ، وأبو الضُّحَى. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (6/1976)، ((تفسير ابن جرير)) (12/251، 252). قال ابنُ عاشورٍ: (ووصَفوا الكفَّارَ بالظَّالمينَ لأنَّ الشِّركَ ظلمٌ، ولأنَّه يشعرُ بأنَّهم تَلبَّسوا بأنواعِ الظُّلمِ: ظلمِ أنفسِهم، وظلمِ الخلائقِ) ((تفسير ابن عاشور)) (11/264). قال ابنُ عطيةَ: (فهذا الدعاءُ على هذا التأويلِ يتضمَّنُ دفعَ فصلينِ؛ أحدُهما: القتلُ والبلاءُ الذي توقَّعه المؤمنونَ، والآخرُ: ظهورُ الشركِ باعتقادِ أهلِه أنَّهم أهلُ الحقِّ، وفي ذلك فسادُ الأرضِ). ((تفسير ابن عطية)) (3/138). .
أو: ربَّنا؛ لا تُسَلِّطْهم علينا فيَفْتنونا عن دينِنا [1033] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/96)، ((تفسير البيضاوي)) (3/122)، ((تفسير الشربيني)) (2/33)، ((تفسير القاسمي)) (6/55). وممن اختار المعنَى المذكورَ:  أبو حيانَ، والبيضاوي، والشربيني، والقاسمي، تُنظر: المصادر السابقة. وممن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ في الروايةِ الثانيةِ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (6/1976)، ((تفسير ابن جرير)) (12/252 (. قال محمد رشيد رضا: (ولفظُ (فتنة) هنا يحتملُ معنَى (الفاتن) و(المفتون)، فكأنَّهم قالوا: ربَّنا لا تُسلِّطْهم علينا فيفتنونا، ولا تفتنَّا بهم فنتولَّى عن اتباعِ نبيِّنا، أو نضعف فيه؛ فرارًا مِن شدةِ ظلمِهم لنا، ولا تفتنْهم بنا فيزدادوا كفرًا وعنادًا وظلمًا بظهورِهم علينا، ويظنُّوا أنَّهم على الحقِّ، وأنَّنا على الباطلِ). ((تفسير المنار)) (11/384). .
وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86).
أي: وخلِّصْنا- يا رَبَّنا- برَحمتِك مِن بَطشِ وسُلطانِ قَومِ فِرعونَ الكافرينَ [1034] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/254)، ((البسيط)) الواحدي (11/287، 288)، ((تفسير القرطبي)) (8/370)، ((تفسير ابن كثير)) (4/289)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/264). قال الواحدي: (وَنَجِّنَا... الآية، وذلك أنَّهم كانوا يستعبِدونَهم، ويأخذونَهم بالأعمالِ الشَّاقَّةِ، والمِهَن الخَسيسةِ). ((البسيط)) (11/287-288). .

الفوائد التربوية :

1- قَولُ الله تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ الحِكمةُ- واللهُ أعلَمُ- مِن كونِه ما آمَنَ لموسى إلَّا ذرِّيَّةٌ مِن قَومِه: أنَّ الذريَّةَ والشَّبابَ أقبَلُ للحَقِّ، وأسرَعُ له انقيادًا، بخلافِ الشُّيوخِ ونَحوِهم ممَّن تربَّى على الكُفرِ؛ فإنَّهم- بسبَبِ ما مكَثَ في قلوبِهم من العقائِدِ الفاسِدةِ- أبعَدُ مِن الحَقِّ مِن غَيرِهم [1035] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:371). .
2- قال الله تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فالتوكُّلُ على اللهِ دَلالةُ الإيمانِ ومُقتَضاه، وعُنصرُ القُوَّةِ الذي يضافُ إلى رصيدِ القِلَّةِ الضعيفةِ أمام الجَبَروتِ الطَّاغي، فإذا هي أقوى وأثبَتُ، وقد ذكَرَ لهم موسى الإيمانَ والإسلامَ، وجعل التوكُّلَ على اللهِ مُقتضى هذا وذاك؛ مُقتضَى الاعتقادِ في الله، ومُقتَضى إسلامِ النَّفسِ له خالصةً، والعملِ بما يريدُ، واستجاب المؤمنونَ لهُتافِ الإيمانِ على لسانِ نبيِّهم: فَقالُوا: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا [1036] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 255). .
3- قَولُ الله تعالى: فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ في تقديمِ التوكُّلِ على الدُّعاءِ تَنبيهٌ على أنَّ الدَّاعيَ ينبغي أن يتوكَّلَ أولًا؛ لِتُجابَ دَعوتُه [1037] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/33). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ فيه مَسْلاةٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بقِلَّةِ مَن آمَن لموسَى، ومَن استَجاب له، معَ ظهورِ ذلك المعجِزِ الباهرِ، ولم يُؤمِنْ له إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِن قومِه [1039]  يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (6/95). .
2- في قَولِه تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ بيانُ أنَّ مُسمَّى الإسلامِ غيرُ مُسمَّى الإيمانِ؛ لأنَّه لو كان مُسمَّاهما واحدًا لكان هذا تكريرًا [1040] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/378). .
3- قولُه: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فيه إثارةُ صِدْقِ إيمانِهم، وإلهابُ قُلوبِهم بِجَعلِ إيمانِهم مُعلَّقًا بالشَّرطِ مُحتمِلِ الوقوعِ، حيث تَخوَّفوا مِن فِرعَونَ أن يَفتِنَهم، فأرادوا أن يَكتُموا إيمانَهم تَقيَّةً مِن فرعونَ ومَلئِهم، وإنَّما جعَل عدَمَ اكتِراثِهم ببَطْشِ فِرعونَ علامةً على إيمانِهم؛ لأنَّ الدَّعوةَ في أوَّلِ أمرِها لا تتَقوَّمُ إلَّا بإظهارِ مُتَّبِعيها جَماعتَهم، فلا تُغتفَرُ فيها التَّقيَّةُ حينَئذٍ [1041]  يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/262).
4- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ أي: أرضِ مِصرَ، التي هي بكثرةِ ما فيها من المرافِقِ كأنَّها جميعُ الأرضِ [1042] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/176). .
5- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ إذا ضُمَّت هذه الآيةُ إلى قَولِه تعالى: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر: 43] كان قياسًا صريحًا قطعيًّا أنَّ فِرعونَ مِن أصحابِ النَّارِ؛ تكذيبًا لأهلِ الوَحدةِ في قَولِهم: إنَّه آمَنَ، لِيُهَوِّنوا المعاصيَ عند النَّاسِ، فيَحُلُّوا بذلك عقائِدَ أهلِ الدِّينِ [1043] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/176). قال ابنُ تيميةَ: (كفرُ فرعونَ، وموتُه كافرًا، وكونُه مِن أهلِ النَّارِ هو ممَّا عُلِم بالاضطرارِ مِن دينِ المسلمينَ، بل ومِن دينِ اليهودِ والنَّصارى؛ فإِنَّ أهلَ الملَلِ الثَّلاثةِ متفقونَ على أنَّه مِن أعظمِ الخلقِ كفرًا). ((جامع الرسائل لابن تيمية)) (1/203). .
6- في قوله تعالى: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وصَفوا الكفَّارَ بالظَّالمينَ؛ لأنَّ الشِّركَ ظلمٌ، ولأنَّه يشعرُ بأنَّهم تَلبَّسوا بأنواعِ الظُّلمِ: ظلمِ أنفسِهم، وظلمِ الخلائقِ [1044] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/264). .
7- قَولُ الله تعالى: وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ زيادةُ بِرَحْمَتِكَ للتبَرُّؤِ من الإدلالِ بإيمانِهم؛ لأنَّ المِنَّةَ لله عليهم [1045] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/264). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ
قولُه: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى معطوفٌ على مقدَّرٍ يَستدعيهِ المقامُ قد حُذِف، أي: فألقَى عَصاهُ فَإِذَا هِي تَلقَفُ ما يَأفِكون... إلخ، ولم يُذكَرْ؛ لِدَلالةِ المقامِ عليه، وإيثارًا للإيجازِ، وإيذانًا بأنَّ قولَه تعالى: إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ ممَّا لا يَحتَمِلُ الخُلفَ أصلًا، وعطفُه على ذلك بالفاءِ مع كونِه عَدمًا مستمرًّا مِن قَبيلِ ما في قولِه عزَّ وجلَّ: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: 97] ، وما في قولِك: وعَظْتُه فلم يتَّعِظْ، والسِّرُّ في ذلك: أنَّ الإتيانَ بالشَّيءِ بعدَ وُرودِ ما يوجِبُ الإقلاعَ عنه، وإن كان استمرارًا عليه، لكنَّه بحسَبِ العُنوانِ فِعلٌ جديدٌ، وصُنعٌ حادثٌ [1046] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4 /170). .
قولُه: عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ فيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيث جاء هنا بضميرِ الجمعِ وَمَلَئِهِمْ؛ لِعَودِه إلى الذُّريَّةِ، أو القومِ، لتَقدُّمِهما عليه [1047] وذكَر القرطبيُّ أوجهًا أخرَى، يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/369). ، بخِلافِ بقيَّةِ الآياتِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [الأعراف: 103، يونس: 75، هود: 97، المؤمنون: 46، القصص: 32، الزخرف: 46]؛ فإنَّه بضميرِ المفرَدِ؛ لعَوْدِه إلى فِرعونَ [1048] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (1/252). .
قَولُه تعالى: عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ، وحَّد الضميرَ في قوله: يَفْتِنَهُمْ ولم يجمَعْه؛ لأنَّه لَمَّا كان إنكارُ الملأِ إنَّما هو بسبَبِ فِرعونَ أن يَسلُبَهم رئاستَهم، انحصَرَ الخَوفُ في فِرعونَ، فأشارَ إلى ذلك بوَحدةِ الضَّميرِ، فقال: أَنْ يَفْتِنَهُمْ [1049] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/176). ، وأيضًا فإسنادُ الفعلِ إلى فرعونَ خاصَّةً؛ لأنه الآمِرُ بالتعذيب [1050] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/171). .
قولُه: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ جملةٌ في موضِعِ الحالِ، وهي تُفيد معنى التَّعليلِ لِخَوفِهم مِن فِرعونَ [1051] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/260). .
وتأكيدُ الخبَرِ بـ(إنَّ)؛ للاهتمامِ بتَحقيقِ بَطشِ فرعونَ [1052] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/261). .
وقَولُه: لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ أبلغُ في وصفِه بالإسرافِ مِن أن يُقالَ: وإنَّه لمسرفٌ، والتَّعريفُ في المُسرفينَ تعريفُ الجنسِ، فالإخبارُ عن فرعونَ بأنَّه مِنَ المُسرفينَ يفيدُ أنَّه واحدٌ مِنَ الفئةِ الَّتي تُعْرَفُ عندَ النَّاسِ بفئةِ المُسرفينَ، فيُفيدُ أنَّه مسرفٌ، فهو مِنْ قبيلِ الكنايةِ الَّتي هي إثباتُ الشَّيءِ بإثباتِ مَلزومِه، وهي أبلغُ مِنَ التَّصريحِ [1053]  يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/261) و: (7/263). .
2- قوله تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ
في قولِه: فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا قُدِّم المجرورُ فَعَلَيْهِ على مُتعلَّقِه تَوَكَّلُوا؛ لإفادةِ القصرِ، وهو قصرٌ إضافيٌّ [1054] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/262). ،كأنَّه عليه السَّلامُ أمَرَهم بالتوكُّلِ عليه، ونهاهم عن التوكُّلِ على الغَيرِ [1055] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/290). .
3- قوله تعالى: فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
قولُه: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فيه تقديمُ ما كان عِندَهم أهمَّ، وهو سلامةُ دينِهم لهم، فسأَلوا اللهَ تعالى ألَّا يُفتَنوا عن دينِهم، وتأخيرُ سلامةِ أنفُسِهم، فسأَلوه أن يُخلَّصوا مِن الكفَّارِ؛ إذ الاهتمامُ بمَصالِحِ الدِّينِ آكَدُ مِن الاهتمامِ بمَصالحِ الأبدانِ [1056] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/96). . وذلك على أحدِ أوجهِ التأويلِ.